في غياهب الترجمة
imafge_50355457.jpg
لا أعرف كيف أستهلّ هذه المقالة، فلم يسبق أن سُئلت كمترجمة عن التفكّر في فعل الترجمة التي امتهنتها صُدفةً لدواعٍ حياتية ومادّية بحتة. لطالما كان التفكير بماهية الترجمة بالنسبة لي على هامش حياتي العملية واليومية، لم أعرفه سوى خاطرة عابرة في المزاح والدعابات الحياتية المعتادة. لم أرتد صرحاً جامعياً سُئلت فيه عن الولوج في تاريخ الفعل المعيشي الذي أقوم به اليوم (الترجمة)، أو أن أسبر أغوار من سبقني إليها. وحتى إن فعلت لما كان لتلك السرديات تأثير مزلزل على حياتي، فتاريخ الترجمة المؤرشَف لا يعرف سوى سيَر النخب الفلسفية التي ترحّلت بين أرجاء المعمورة وسلاطينها لتنبش لفظة أو معادلة أو نصّاً ملحمياً غيَّر شكل العالم باسم كُتّابه (الذكوريين والذكوريات منهم في الغالب). أمّا أنا، فامرأة عربية ابنة مجتمع لاجئ مقصيّ، لا يعرف من الترحال إلّا حدود الأنظمة الشرطيّة العسكرية والمهانة في تكوينات جمل العسس الذين يرسمون معالمها ببساطيرهم وأفواه بنادقهم. هذه هي اللغة بالنسبة لي، أنا المترجمة ارتزاقاً، إنها حدود تأسر المعرفة حيناً وتحاول تحريرها أحياناً أخرى ضمن دوّامة لا تقودها مدارك حيواتنا اليومية، بل حركة أموال يتربّع على عرشها من يُسألون عادة عن رأيهم في "جودة" النص اللغوي، و"جدارة" منتجه الخفيّ (المترجم أو الطالب أو غيرهما من المأجورين المُستغَلّين – عمال الحقول المعرفية). ربما هنا تكمن أهمية ما طُلب منّي، ربما سؤالي عن ماهية عملي من موقعي الخفيّ هو تمرّدٌ، وإن مجتزأ، على حركة رأس المال والمتربّعين على عرشها. عليه، أبدأ كما يبدأ كلّ مَن يكتب للمرّة الأولى، باقتباس.
هذا اقتباس من مقال نور المزيدي المعنوَن "Queer spatial recognition in Kuwait" أو كما تُرجم في مجلّة "كحل" "الاعتراف المكانيّ بالكويريات والكويريين في الكويت". أمّا الاقتباس في النص العربي المترجَم:
سمح لي انتمائي لمجموعة كويرية في مثل هذا الفضاء، التفكير بمخاوفنا المشتركة حول ما تعنيه الكتابة كنسوية كويرية في سياقات تفرض عواقب لهذا الفعل. وجدت نفسي أستدرك الطرق المختلفة التي كنت أطمس فيها ذاتي وروايتي ... استدركتُ عملي الدائم على إخفاء الكويرية وراء المصطلحات الأكاديمية، وتبلورت مشاعري المتخبّطة حيال المسائل المتعلّقة بفعل التأليف. (المزيدي 2020، ص. 405)1
بالفعل، قريبة جدًا هي الأسئلة التي نأتي نحن المترجمون على سؤالها تحت وطأة نصّ أصليّ، وسياسة تحريرية قد لا نُعَدّ نحن سوى بيادق فيها. حالة استدراك دائمة لحاجة التماثل تُقابلها لهفة للاجتهاد. فالكاتبة متواطئة مع الغموض خلف مصطلحاتها ومناهج التأليف، فهل يُحكم على فعل الترجمة أن يكون خادماً مطواعاً يعمل بأمانة خالصة لا يشوبها فعل تشكيك أو رفض، فيبيّن إخفاقات المؤلّف/ة وعيوبه/ها. هل لانتماء المترجمة إلى فضاءات مختلفة وهل لتفكّراتها بمخاوفها ومخاوف سياقاتها الاجتماعية حيال ما نقرأ، أي قولٍ في عملية النقل اللغوية الفكرية هذه؟
اضطررت إلى خوض غمار الترجمة بشكل عام لأسباب عدّة أوّلها سياسي، كوني زوجة لاجئ فلسطيني في لبنان مُنعت من العمل، وبما أن دراستي كانت في إطار التربية وتعليم اللغات تحديداً، اخترت الترجمة التي أُتيحت لي ممارستها. بالطبع ترجمتُ مواضيع في مجالات شتّى ومختلفة، بعضها أثار اهتمامي وأبهجني، وبعضها الآخر أثار مللي وانزعاجي الشديد أحيانا كثيرة، ولكنني في كلتا الحالتين كنت أرى فيها في كلّ مرّة تحدّياً، وأتعامل مع النص أو الفيلم أو ألخ... كحالة مخاض ومن ثمّ ولادة. أي أنني وعند انتهائي من ترجمةٍ ما، كُنت أشعر أنني وضعت على الورقة أو على الشاشة جزءاً من نفسي، ولا ألبث أسعد بها فأكون مضطرّة إلى بيعها بصمت وبدون اسم أو رأي لأكسب قوت يوم عائلتي. إنها سُنّة الرأسمالية – في معمل كانت أم بين حقول الزراعة أم على أريكة منزل خلف شاشة كومبيوتر على تخوم مخيم للّاجئين. وبالرغم من أن البدايات كانت ركيكة، كُنت أتحسس من أي نقد واحتجت إلى وقت من الزمن لأدرّب نفسي على تقبّله وعلى تطوير قُدرتي على الترجمة بالشكل الذي يرغب به أرباب العمل رجالاً ونساءً. من هُنا أرى أن عملية الترجمة وموضوعاتها المختلفة ليست مجرّد نقلٍ ميكانيكي من لغةٍ إلى أُخرى، بل هي انصهار وتفاعل المُترجم/ة مع منظومةٍ لغويةٍ وثقافيةٍ معيّنة يعمل/ تعمل على نقلها إلى منظومةٍ أُخرى متشابهة ومتباينة في آن. أي أن جزءاً من كينونة المُترجمة ومنطقها الفكري وواقعها الاجتماعي يتلازم مع تلك العملية. كنت أشعر بالالتزام عندما أترجم أموراً تثير اهتمامي وتعالج مسائل تعنيني أكثر من غيرها. وما أثار اهتمامي على نحو مميّز كان تجربتي الفريدة في الترجمة لمجلّةٍ أكاديمية الطابع، من حيث المواضيع المطروحة فيها والتزامها خطّاً فكرياً واضحاً. خلتُ بدايةً أنه يمثّل جزءاً من معاناتي كامرأة تنتمي إلى مجتمع لجوء، بيد أنني وكلّما أوغلت في ترجمة مقالاتٍ مختلفة شعرت بمعالجات متباينة للمدرسة الفكرية عينها أي "النسوية اليسارية" كما يدّعي الكتّاب. برأيي، كانت لغة بعض المقالات معقّدةً دون تبرير واضح، بل أسفر تعقيدها عن تغييب الفكرة المحقّة التي أشعر بالتماهي وإياها، إضافةً إلى تحويرها أحياناً والتقليل من شأن قوّتها الكامنة في بساطة اللغة. ساورتني كلّ هذه المشاعر والاستنتاجات على خلفية كوني مترجمة انطلقت من الممارسة وليس من الدراسة النظرية المؤسسية. وإن دلّ كُل ذلك على شيء فهو يدلّ على أن الأيديولوجيات الثورية لا تزال ترزح تحت وطأة أقلام نخبةٍ تتوه في غياهب اللغة فتغفل عن إيصال الفكرة من وإلى البسطاء من الناس.
من خلال الكمّ المتواضع لترجمتي مع المجلة، وجدت في سلاسة وبساطة بعض المقالات أفكاراً رائعةً تُلامس وتعبّر بوضوح عن مُعاناة النساء والمهاجرين من أقطار العالم المختلفة، والتي يمكن القياس عليها في أقطار أُخرى من العالم لا تقتصر على عالم الجنوب، بل تمتدّ لتصل إلى جُغرافيات أُخرى تخوض مخاض الانتقال من شكل رأسمالي لآخر. كما في مقال "هي الأُخرى: عن بنات الأمّهات المُسيئات والصمت حيال الصدمة المُتناقلة عبر الأجيال في العائلات الهندية"،2 كذلك في "مَن هو المُهاجر في انتحار المُهاجرين".3 بينما وفي مقالات أُخرى، وجدتُ صعوبةً في تتبّع التسلسل الزمني والمنطقي، اللذين يغوصان في التراكيب اللغوية والمفاهيمية حيناً، فتُضيّع معهما الكاتب/ةُ القوّة في بساطة المعاناة وتداعياتها. بالتالي، أجد نفسي أمام معضلة تتراوح ما بين الامتثال إلى الأسلوب اللغوي المعقّد في مخاض عملية الترجمة من جهة، أو تفكيك الأفكار وراءه والتعبير عنها بصورة أكثر بساطة وأقرب إلى قارئ اللغة العربية من جهةٍ أُخرى. نظرياً، أجد أن الخيار التفكيكي الثاني هو الأمثل، لكن الفترة الزمنية المُتاحة للمُترجم تعرقل هذه العملية أحياناً، ناهيك عن المنهجية العلمية التي يستخدمها الكاتب والتي قد يجهلها المُترجم غير المتمرّس أكاديمياً.
من هنا أجد أنه لا بُدّ لعملية الترجمة أن تكون مُكمّلة لعملية الكتابة وليست نقلاً لها فحسب. فنحن، أبناء هذه الدول التي تعيش في حالة لا استقرار دائمة – نحن أبناء الطبقات المشتغلة بالحرف لكسب قوت يومنا – قليلة هي فرصنا للتعبير عن موقفنا من كلّ ما يعصف بنا من إنتاج معرفي يتكلّم في الغالب عنّا أو عن جزئية من عوالمنا. لذا فالترجمة هي فرصتنا الوحيدة لتحدي أحكام المهيمن التي تحتل فضاء نقل المعرفة والإعلان عن موقفٍ منها. ولأجل تحقيق ذلك يجب صبّ الاهتمام على عملية اختيار النصّ الأصلي المطلوب ترجمته، من حيث الأفكار والمضامين التي تُعبّر عن هموم قرّائنا وتُلامس مشاعرهم ومعاناتهم (قرّاء أصحاب المنابر ومديريها) المُلتزمين بقضايانا، بلغةٍ تُحاكي وترتقي وتُطوّر تلك القضايا في آن. غير أن هذه المهمة لا توكَل إلينا كمُترجمين، حيث يُطلب منّا النقل وحسب دون تركنا نتفاعل مع النص أو نمتزج به لنُخرج وليدٍاً جديداً نصبو إلى رؤيته يتفاعل مع ما حوله وينمو ليغدو فكرةً أكثر تطوراً ونُضجا، عوضاً عن أن يكون مادة سلعية أخرى للذّة المثقف، الذي تسنّت له كلّ فرص التقرّب من إرث الانتاج المعرفي ومتعرّجاته، إلى حدّ امتهان المعرفة بحدّ ذاتها.
لا أجد في حاضر أفكاري وضجّة حياتنا اليومية المظلمه، كامرأة وعاملة عالقة في معترك دوّامة لامتناهية من إعادة الانتاج الاجتماعي وإعادة الانتاج المعرفي، الذين تحتّمهما برجوازيات متفاوتة الأحجام والأشكال والهويات الثقافية والسياسية…لا أجد في حاضر أفكاري ما أضيف أوأسترسل به، لأن إرادة القول التي في داخلي وتحت وزر عمليات إعادة الإنتاج هذه ومنطق الزمن الرأسمالي المهلِك، تبقى "أحاسيس" أو "مشاعر" مغرَّبة عن المُشرعن والمُعترف به من معالم الواقع ومعاني الحقيقة "الممنهجة" والمهذبة. وإن حالفني الحظ في الكلام عن القليل من الخواطر هنا واليوم، يبقى ذلك استثناءًا ويبقى ابن سوق العرض والطلب المعرفي. هنا قد تفلح كارين رافن من على مقعدها في مكتبات جامعة مالمو السويدية، أن تصف ما أعنيه وأن تعطي لإشكاليتي المعاشة ما يكفي من مراجع لإثبات قيمتها في مقالها "إعادة إنتاج الهياكل والنُّظُم الاجتماعية في لبنان، من الماضي إلى الحاضر: أزمةٌ دائمة"،4 الذي استطعتُ ترجمته بفعلٍ تشاركيّ جمعني مع متطرفات شيوعيات وبالطبع جامعيات أو أقلّه عاشرن برجوازية الجامعات المُطّلعة. ولكن، على أيّ آذان ستقع خواطري وترجماتي؟ وأي عامل/ة وحيدٍ/ة ستنقذ؟ ببساطة، لا أعرف.
هذا هو بالتحديد ما أشعر به أثناء العمل في الترجمة، مخاض ولادةٍ عسير – مجهول العواقب. حيث أنه مرتبطٌ بالحاجة إلى تأمين مستوى معيشي لائق في بلدٍ تداعت فيه على نحو متسارع وكارثي أسباب العيش الكريم. عملٌ مجرَّد من روح العامل فيه. ذلك إضافة إلى معضلة المسؤولية التي لا بُدّ أن تكون مغروسةً في طيّات أي عمل فكري أو فنيّ مماثل في مرحلةٍ ترخي بظلالها القاتمة على العالم بأسره، على عالم أصبح يئنّ تحت نير رأسماليةٍ مأزومة ومُحتارة في كيفية فرض سيطرتها وقيودها على عامّة الناس.
نعود إلى الفكرة التي استهلّينا بها المقالة، نعود لنعترف بأننا نُحاول الهروب من أشياء كثيرة، بيد أننا نبقى أسرى، ليس لأننا عاجزون أو قاصرون أو أغبياء... إنها اللغة بالنسبة إليهم – العاملين على رأس مؤسسات الانتاج المعرفي (الكُتّاب) – وإنها اللغة مقرونة في نحوها وتراكيبها بالحاجة لقوت اليوم بالنسبة إلينا – نحن العاملين بين أروقة تلك المؤسسات المعتمة دوماً في حال توفّرت الكهرباء أو انقطعت – نحن الشاغلين في الترجمة حرفةً لا احترافًا.
- 1. نور المزيدي (2020). "الاعتراف المكانيّ بالكويريين/ات في الكويت". ترجمة مايا زبداوي. كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 6، عدد 3، ص. 398-420. https://kohljournal.press/ar/node/272
- 2. شهرزاد سيوبان (2020). "هي الأُخرى: عن بنات الأمّهات المسيئات، والصمت حيال الصدمة المتناقَلة عبر الأجيال في العائلات الهندية". ترجمة أمل شاهين. كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر، مجلّد 6، عدد 2، ص. 248-255. https://kohljournal.press/ar/node/255
- 3. إميلي يو (2021). "من هو المهاجر في "انتحار المهاجرين؟". ترجمة أمل شاهين. كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر، مجلّد 7، عدد 1، ص. 73-80. https://kohljournal.press/ar/node/298
- 4. كارن رافن (2021). "إعادة إنتاج الهياكل والنُّظُم الاجتماعية في لبنان، من الماضي إلى الحاضر: أزمةٌ دائمة". ترجمة أمل شاهين. كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر، مجلّد 7، عدد 2. https://kohljournal.press/ar/node/321