إعادة إنتاج الهياكل والنُّظُم الاجتماعية في لبنان، من الماضي إلى الحاضر: أزمةٌ دائمة

السيرة: 

كارن طالبة دكتوراه في قسم الدراسات السياسية العالمية في جامعة مالمو، حيث تجري أبحاثًا حول التحديات التي تواجهها النقابات العمالية والحركات الاجتماعية، ومختلف محاولات تنظيم العمالة المهاجرة وغير الرسمية في السياق النيوليبرالي. لديها خلفية أكاديمية في الأنثروبولوجيا (بكالوريوس ، جامعة كوبنهاغن) ودراسات الشرق الأوسط (ماجستير ، الجامعة الأمريكية في بيروت) ، كما أنها عملت في مجال التدريس والعمل الاستشاري، وميدان مناصرة حقوق المهاجرين واللاجئين. نشطت كارن لعدة سنوات في مضمار القضايا النسوية والعمالية وتلك المتعلقة بالمهاجرين واللاجئين. في رسالة الماجستير الخاصة بها، درست كارين مسألة تنظيم إعادة الإنتاج الاجتماعي في لبنان من منظور مادي نسوي تاريخي. تستلهم في أبحاثها من النظرية الماركسية والماركسية النسوية ونظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي ودراسات الهجرة النقدية.

اقتباس: 
كارن رافن. "إعادة إنتاج الهياكل والنُّظُم الاجتماعية في لبنان، من الماضي إلى الحاضر: أزمةٌ دائمة". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 7 عدد 2 (09 نوفمبر 2021): ص. 4-4. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 12 نوفمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/321.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
ترجمة: 

درست أمل الأدب الروسي ومارست عمل الترجمة لأكثر من 20 عامًا غطت خلالها طيفًا واسعًا من الموضوعات بما في ذلك الرياضة وأفلام الكرتون للأطفال والأفلام الوثائقية التاريخية والمسلسلات الدرامية والبحوث الإجتماعية والانثرويبولوجية وأما أبرز أعمالها فكانت في ترجمة البرامج السياسية التلفزيونية.

 

haneen_nazzal_9

حنين نزّال

لماذا غالباً ما تبدو الحياة اليومية في أُسرنا وضمن مجتمعاتنا مُستنزفة، وكيف نتصور المهام اليومية مثل غسل ملابسنا والتنظيف والطهي والاعتناء ببعضنا الآخر، في عالم تتجاهل فيه الإحصاءات الرسمية للاقتصادات مثل هذا النوع من الجهد والعمل الشاق؟"  اكتسبت نظرية إعادة إنتاج الهياكل والنُظُم الاجتماعية1 (social reproduction theory SRT)، التي تُعتبر النسخة الماركسية النسوية للمادية التاريخية، اهتماماً متزايداً كإطار منهجيّ ونظريّ لفهم العملية اليومية من العناية وإعادة إنتاج الحياة، والبشر (الإنجاب) والمجتمعات وقوة العمل في كل مجتمع- كذلك يُطلق عليها اسم "نطاق إعادة الإنتاج الاجتماعي". كإطار عمل تسعى نظرية إعادة إنتاج الهياكل والنظم الاجتماعية، إلى إعادة مركزة هذا النطاق ضمن الصيغة الأوسع للانتاج وإعادة الإنتاج والتكاثر الاجتماعي والترتيبات التي يتشكل منها الاقتصاد السياسي لمجتمعٍ ما. أي وبالتحديد ترمي هذه النظرية إلى كشف الارتباط المُلغز ما بين العمليات الاقتصادية "الرسمية" مثل إنتاج السلع وتكاثر البشر، وما يعنيه من علاقةٍ مع قوة العمل (بكونها الحجر الأساس للرأسمالية) والمجتمعات بشكل عام.

لطالما كان تنظيم إعادة الإنتاج الاجتماعي المُتغلغل في الأنشطة اليومية المنزلية والمجتمعية، ولفترة طويلة تحدياً في الحياة اليومية لجزء كبير من السكان في لبنان. لا سيما في أعقاب السياق الكارثي للسنوات القليلة الماضية من الانهيارات المالية والاقتصادية الشديدة التي أدّت إلى تضخّم سريع ونقص طارئ في الكهرباء والغذاء والماء والوقود، ووباء COVID-19، والميناء المدمَّر عقب تفجير 4 آب/ أغسطس 2020 في بيروت. يتبيّن أن مجال إعادة الإنتاج الاجتماعي في لبنان الآن يُكابد ظروفاً قاسية وغير ملائمة للعيش على نحو غير مسبوق.  ينطبق هذا الأمر على الغالبية الساحقة من الطبقات العاملة، بالأخص على النساء والأقليات والمجتمعات الكويرية واللاجئين والعمّال المهاجرين المُعتبرين غير مواطنين.

على الرغم من حدّة الأزمة المالية والاجتماعية والاقتصادية الحالية، وبالتحديد أزمة إعادة الإنتاج الاجتماعي في شكلها القائم في لبنان، إلا أن المقاربة المادية التاريخية النسوية تستطيع تقديم قراءة في الهياكل الأكثر ديمومة لأزمة إعادة الإنتاج الاجتماعي الحالية. من خلال تتبع بعض الجذور التاريخية المعاصرة لعملية تنظيم إعادة الإنتاج الاجتماعي في لبنان، تسعى هذه المقالة إلى الكشف عن مثل تلك الهيكليات. وبشكل أكثر تحديداً، تسعى إلى تصوير الصلة الوثيقة، ما بين أزمة إعادة الإنتاج الاجتماعي2 على المستوى اليومي والبنيوي، عبر التشكيلات الجندرية والعرقية من جهة، ونمط إعادة الإنتاج الرأسمالي في لبنان على يد النخبة السياسية التي تُمركز المصالح المالية لأجل تراكم رأس المال غير المحدود من جهة أخرى. مما لا شك فيه أن التناقض المتأصل بين التراكم غير المحدود لرأس المال وإعادة الإنتاج الاجتماعي في لبنان، كما في أي مكان آخر، يؤدي إلى حدوث أزمات (فريزر 2016). لا يُعدُّ ذاك التناقض السبب الوحيد لتلك الأزمات، فعمليات تراكم رأس المال في حدّ ذاتها تتطلّب وتعتمد على النتاج القيّم لإعادة الإنتاج الاجتماعي: ألا وهو قوة العمل. إن تقويض الظروف الخاصة بإعادة الإنتاج/التكاثر الاجتماعي التي لا غنى عنها لكُلٍ من رأس المال والإنسان والحياة، يجعل من مشهد خروج الناس إلى الشوارع في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وانتفاضهم طوال أشهر ضد النُخبة السياسية والنظام الاقتصادي القائم، أمراً بديهياً. الانهيارات والأزمات والكوارث التي عصفت بلبنان أثناء وفي أعقاب حركة الاحتجاج الشعبي، لم تؤكّد سوى الغضب تجاه نظام يرتكز في هيكليته على الأزمات، لكنها تعني أيضاً تدهوراً حاداً في ظروف التعبئة الشعبية والاحتجاج وإعادة الإنتاج الاجتماعي.

 

I. إعادة الإنتاج الاجتماعي في ظل الرأسمالية: بناءٌ جنسانيٌّ تأنيثيّ بتراكيب عرقية وواقعٍ مدفوعٍ نحو اللامرئية.... إنها تركيبةٌ حتميةٌ لا مفرّ منها.

"إلى حين أن نفهم العمل المنزلي، سنفهم الاقتصاد." – كلاوديا فون فيرلهوف (توبين 2018)

العمالة المنزلية والأعمال المنزلية والعمل الإنجابي- بينما تستمر هذه المفاهيم المختلفة وما شاكلها في الانتشار، فإنها في الغالب تُشير إلى مجال العمليات ذاته،  إلى عمليات العمل المتنوعة اللازمة لإعادة الإنتاج اليومي والمتكرر للإنسان وسبل عيش العمال، مثل الطهي والتنظيف ورعاية الأطفال وكبار السن والمرضى والمجتمع، والإنجاب البيولوجي (انظر: بوبيك 1995، فوغيل  2000، فيدريتشي 2012). لطالما دعمت أنشطة عمل إعادة إنتاج الهياكل  والنظم الاجتماعية في جميع تكويناتها المختلفة، حالة متناقضة ومعقدة - سواء في الأعمال اليومية المعيشية للأسر والعائلات، أم في المناظرات السياسية والفكرية حول مساهمتها في الاقتصاد السياسي وإعادة إنتاجها العامة للمُجتمع والحياة في ظل الرأسمالية.

كان هذا الارتباط القائم ولكن المغيّب، بين العمل المنزلي والعمل الإنجابي من جهة والأطر الاقتصادية الرسمية من جهة أخرى، دافعاً رئيسياً لمجموعة من الحركات النسوية والباحثين الساعين للكشف عن الدور الحاسم الذي تلعبه الأعمال الإنجابية والعمل المنزلي، المنسوب تاريخياً إلى النساء، والذي غالبًا ما يكون غير مدفوع الأجر ومُطبّعاً معه، يلعب دوراً في (إعادة) الإنتاج الكليّة للحياة والعمل ورأس المال والمجتمعات في بنيتها الشاملة. على سبيل المثال، سيلفيا فيديريتشي التي طالما انتقدت بشدة النظريات الماركسية الخاصة بالاقتصاد السياسي، لتجاهلها مثل هذه العمليات في إطار العمل العام للرأسمالية، على الرغم من أن تلك العمليات هي حجر الأساس في إعادة إنتاج ركيزة الرأسمالية، ألا وهي: قوة العمل. من بين آخرين، بيّنت فيديريتشي كيف أنه يتمخض عن هذا التجاهل/ الجهل أيضاً إغفال لطبيعة التقسيمات الرأسمالية للعمل، من بين البنى الأخرى شديدة الارتكاز على التمييز الجندري، وبالتالي فهي عامل حاسم إن لم يكن محدداً لاضطهاد النساء في ظل الرأسمالية العالمية القائمة على العلاقة الثنائية الجندرية المسلّم بها.

تشتهر فيديريتشي على وجه الخصوص بإعادة تفسيرها لمفهوم ماركس عن العمليات العنيفة المناطة بـ "التراكم البدائي/ الأولي" في المراحل اليافعة للرأسمالية وما بعدها، وتوسيع المفهوم ليشمل ليس فقط استعمار ومصادرة أراضي العمال ووسائل إعادة الإنتاج والاستدامة ولكن أيضاً مصادرة أجساد النساء التي حُوّلت وظيفتها في العمل والإنجاب إلى "آلة لإنتاج عمّال جدد" (وبالتالي لقوة العمل)، فيما اصُطلح عليه مفاهيمياً بأنه "النطاق المنزلي الخاص ما دون السوق السلعية". بالنسبة لفيديريتشي، تمخض هذا عن انحسار الموقع الهيكلي للمرأة وتكريس تبعيتها للرجل ضمن التقسيمات الاجتماعية للعمل في ظل الرأسمالية (فيديريتشي 2004، 12). إلى جانب الحركات النسوية والباحثين، جسّد تحليل فيديريتشي ونقدها إلى ما عُرف لاحقاً بـ"جدال حول العمالة المنزلية " خلال السبعينيات والثمانينيات، كما ألهم حركات نسوية عالمية مثل "الحملة الدولية للأجور مقابل العمل المنزلي" (توبين 2018). على هذا النحو، فإن إعادة إنتاج الهياكل والنُظُم الاجتماعية  (SRT) كنهج سياسي وتحليلي ونظري، ينبع من نقد الحركة النسوية للماركسية3. ناضلت العديد من الحركات النسوية من أجل الاعتراف بالعمل الإنجابي، بينما سعى منظّرون إلى رسم الترابط الوثيق بين التقسيم المزعوم الكائن ما بين نطاقين: "الإنتاجي" من جهة و"الإنجابي" من جهةٍ أُخرى. لقد بينّت الأدبيات نفسها أيضاً كيف أن أنظمة الاضطهاد المختلفة - الجندرية والعرقية والجنسانية والمواطنية والجسمانية - يتم إنتاجها بشكل مشترك مع إنتاج العلاقات الاجتماعية المنوطة بالإنتاج والإنجاب ضمن نسق كُليّ (باتاشاريا 2017، 3-14).

 

ما بين النظرية والممارسة: التسليع والجدال المعاصِر

عندما يتعلق الأمر بالتشكيلات التاريخية الفعلية للعلاقات الاجتماعية المنوطة بالعمل الإنجابي والعمل المنزلي، يشير النُقّاد إلى حدود نطاق العمل الإنجابي على أنه مُجندَر وغير مدفوع الأجر. توجّه هذه الانتقادات على كون إطار العمل هذا لا يُطبّق في الغالب سوى على واقع نساء الطبقة المتوسطة من البيض، حيث أنه يفشل بشكل خاص في النظر إلى "الواقع العملي للنساء السود والنساء المهاجرات والنساء الفقيرات، اللواتي طالما كُنّ مُنخرطات في عمل السوق المأجور لعقود عديدة وبأعداد ضخمة" ليس أقلّها ضمن قطاع العمالة المنزلية المأجورة (دافي 2007،314).

أدت إعادة التنظيم النيوليبرالية للاقتصاد العالمي في العقود الماضية إلى تكثيف تلك التشكيلات4، وذلك من خلال جُملة عمليات ومنها، الأمْوَلة وتدابير التقشّف وسحب الاستثمار في الرعاية الاجتماعية، وزيادة تسليع إعادة الإنتاج الاجتماعي. وقد أدت هذه التطورات بشكل خاص إلى زيادة ملحوظة في الهجرة الدولية لليد العاملة وتوسيع الاحتياطي العالمي من اليد العاملة، وذلك بدخول العمال المهاجرين إلى صفوف القوى العاملة الرسمية عبر الولوج في مختلف مجالات العمالة المنزلية والعِنائية المُسلّعة، والتي غالباً ما تكون غير رسمية، في القطاعين العام والخاص (فيرغوسون وماكانلي 2015). تؤكد هذه الهيكليات، تاريخياً وحالياً، كيف يتمّ تنظيم العمالة المنزلية والعنائية على أُسس تفرقة - توزيع جندري وعرقي. تُجادل نانسي فريزر بأن الحقبة المعاصرة للرأسمالية النيوليبرالية وعملية تخريج5 مهمة العمل العنائي بإحالته إلى العوائل والمجتمعات، تمخّض عن " تنظيم جديد مزدوج لإعادة الإنتاج الاجتماعي، مُسلَّع لمن يستطيع دفع ثمنه ومُخصخص  لمن لا يستطيع " (132). وبشكل أعمّ، تُشير فريزر أيضاً إلى أن نشوء الأزمات يُعدُّ نزعةً متأصلةً ضمن الرأسمالية، لا سيما فيما يتعلق بتجاوز قيمة عمليات إعادة الإنتاج المنزلي والرعائي الاجتماعي، حيث تقول: "لا يُمكن لأي مجتمع يقوّض بنحو مُمنهج عمليات إعادة الإنتاج الاجتماعي أن يستمر لفترة طويلة" (99)- وهو طرحٌ أثبت سياق لبنان الحاضر كما سنرى، صحته.

 

تقويض إعادة إنتاج الهياكل والنظم الاجتماعية: حالة العاملات المنزليات المهاجرات في لبنان

حظي جانب واحد من جوانب إعادة الإنتاج الاجتماعي على وجه الخصوص في لبنان في السنوات الأخيرة باهتمام متزايد لدى الدارسين والناشطين في هذا الشأن، ألا وهو: تنظيم الأعمال المنزلية والعمالة المنزلية والعنائية داخل الوحدة المنزلية اللبنانية. أُطلق عليه "اقتصاد الخدمة المنزلية". العمالة المنزلية في لبنان الحديث لها تاريخ مستمرّ إلى حدّ ما من الوجود الملحوظ لخدم المنازل المقيمين في أسر الطبقة المتوسطة والعليا، والتي يعود تاريخها إلى عام 1905 على الأقل (جريديني 2009). قام عالم الاجتماع راي جريديني بتحليل تطور اقتصاد الخدمة المنزلية المنتشر على نطاق واسع في لبنان، باعتباره منظّماً على أساس مُجندَر وضمن مسارات تضمن عملية الاستغلال. ومن بين ما تتضمنه تلك المسارات، عمالة الأطفال (الفتيات) والهجرة من الريف إلى الحضَر أو بين الأقاليم في بداية القرن العشرين، وصولاً إلى التغييرات خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) حيث جرى تدويل القوى العاملة بموازاة تطورات مُشابهة في الاقتصاد العالمي، ناهيك عن اقتصادات دول الخليج (74-101). تأتي اليوم أكثر من 250 ألف عاملة منزلية إلى لبنان، من بلدان مختلفة في جنوب شرق آسيا وأفريقيا، وتشكّلن جزءًا من مجموعة استثنائية من ملايين العمال المهاجرين في لبنان، الذين يعملون في ظل ظروف عمل محفوفة بالمخاطر. العاملات المنزليات المهاجرات شأنهنّ شأن غيرهنّ من العمّال/ العاملات المهاجرين، يخضعن بالغالب لـ"نظام الكفالة" سيء السمعة، وهو نظام يفضح التسليع الصلف ليس فقط لعلاقات العمل المعنية، بل أيضاً للعاملات والعمّال أنفسهنّ/م. علاوة على ذلك، تُستبعد صراحةً عاملات المنازل من قانون العمل اللبناني لعام 1946 في مادته 7. يُجادل بعض الدارسين أنّ "العمل المنزلي مُستبعدٌ بشكل صريح لأنه مُصنّف بكونه علاقة "شخصية"، وليس بكونه علاقة عمل" (روميرو وآخرون 2016، 96). لا يزال هذا الإقصاء سارياً حتى اليوم، ويعني هذا الاستبعاد من الناحية العملية أن عاملات المنازل ممنوعات من الانضمام إلى النقابات ومحرومات من حقوق العمل الأساسية والحدّ الأدنى للأجور وفقاً للقانون اللبناني، ولا يتمتعن بإمكانية الوصول إلى سبل الانتصاف القانونية المناسبة لحل النزاعات العمالية. ليس من المستغرب أن عواقب تنظيم العمالة المنزلية على أنها أنشطة "خارجة عن قواعد تعاملات السوق"، يترتب عليها ظروفاً شديدة الخطورة على العمال المعنيين، إضافةً إلى عدد لا يحصى من الإساءات ومردّها العنف المُرتكز على التمييز العنصري والجنسي، وعلى المستويين الجسدي والعاطفي.

قد أكّدت الأزمة المالية والاقتصادية الاجتماعية الحالية، على الوضع مفرط الخطورة الذي تُكابده تلك العاملات المنزليات من الإناث في لبنان، حيث أن العديد من الموظِفين/ات الذين فقدوا مدّخراتهم ودخلهم قد تخلّوا عن العاملات المنزليات وألقوا بهنّ في الشوارع، بالتالي أصبحن بلا مأوى وبلا وظيفة دون أي شبكة أمان اجتماعية يلجأن إليها. يُبيّن الوضع مثالاً صارخاً على كيف أن الحطّ من قيمة العمالة المنزلية والعنائية وتسليعها/ خصخصتها وجندرتها والتعامل معها على أسس عرقية، يولّد تبعات خطيرة على العاملات/ العمّال الذين يقومون بأنشطة عمل لا غنى عنها.

 

II. الاقتصاد السياسي اللبناني: الأسواق المالية في المركز - إعادة إنتاج الهياكل والنُظُم الاجتماعية في الأطراف

 

انعدام المساواة الصارخ وتطور الاقتصاد السياسي اللبناني الحديث

يُعدُّ شكل تنظيم الأعمال المنزلية في لبنان أحد أعراض تكوينات إعادة إنتاج الهياكل والنُظُم الاجتماعية عبر التاريخ في ظل الرأسمالية، في حين أن له مظاهر محلية محددة. يتفق معظم المؤرخون والدارسون بكون التاريخ الحديث للاقتصاد السياسي في لبنان يستحق في المقام الأول وقبل كل شيء بأن يُفهم من خلال تأثير القوى الخارجية المسيطرة6. حتى تأسيس لبنان الكبير في ظل الانتداب الفرنسي في عام 1920، كانت المنطقة المكافئة - مثل حال باقي المنطقة العربية - تحكمها الإمبراطورية العثمانية، باستثناء منطقة جبل لبنان التي كان يحكمها المارونيون، والتي حصلت على حكم ذاتي من خلال تدخلات القوى الأجنبية الأوروبية منذ عام 1860 (طرابلسي 2007، 42-43). في هذه الفترة وقبل الاستقلال، لعبت المؤسسات الدينية والتبشيرية ورجال الدين ووكالات الإغاثة الأجنبية دوراً رئيسياً في تقديم خدمات الرعاية. وهو نظام رعائي كان له آثار على مرّ العصور التاريخية اللاحقة والتي تجلّت في خلق فوارق اجتماعية بين السكان، حيث لم يكن لدى المجتمعات الدينية وسائل متساوية لتطوير المؤسسات الاجتماعية (كاميت 2014، 39-40).

كان تدخّل فرنسا وإنجلترا بارزاً، بعد أن نشأ اهتمام القوى الأوروبية المتزايد بمنطقة لبنان خاصة بسبب الموقع الجغرافي الاستراتيجي لبيروت باعتبارها "رأس جسر"7 للسيطرة والوصول إلى الأسواق في المنطقة. يكتب فواز طرابلسي عن "كون محور بيروت- دمشق قد أصبح الطريق الرئيسي للتجارة الدولية في شرق البحر الأبيض المتوسط" (طرابلسي 2007، 52). ترافقت عملية إنشاء طُرق جديدة للتجارة الدولية عبر بيروت بدعم من القوى الاستعمارية الأوروبية مع الزوال التدريجي للنفوذ الإمبراطورية العثمانية خلال نهاية القرن التاسع عشر وهزيمتها بعد الحرب العالمية الأولى، ويرجع ذلك جزئيًا إلى زيادة التبعية الاستعمارية وتغلغل رأس المال الأوروبي (52-54). وقوع دولة لبنان الكبير مباشرة تحت الاحتلال الفرنسي (إلى جانب سوريا)، جمع سبعة عشر جماعة دينية كانت منقسمة فيما بينها إلى طوائف مختلفة. أقام الانتداب الفرنسي تحالفات وثيقة مع البرجوازية المسيحية/ المارونية، التي حصلت بدورها على مناصب متميزة في الهياكل التجارية وداخل المؤسسة السياسية الجديدة، القائمة استراتيجياً على أنماط طائفية للحكم (ضاهر 2016، 9-11). عزز الانتداب الفرنسي، تماشياً مع مصلحة الرأسمالية الأوروبية، دور بيروت كمركز إقليمي للاستيراد الدولي والتجارة الخارجية وبوابة للأسواق السورية، وأعطى دوراً مركزياً لقطاع الخدمات المالية والمصرفية والسياحة والخدمات (غيتس، 1989، 16-17). نتيجة لذلك، شهدت بيروت تطوراً حضرياً سريعاً مع تزايد عدد السكان، لأسباب ليس أقلّها الأعداد الكبيرة من المهاجرين الريفيين الداخليين الباحثين عن خيارات عمل، واللاجئين من الحروب الأهلية والأزمات في المنطقة المجاورة (طرابلسي 2007، 55-57). يربط طرابلسي أيضًا النفوذ المتزايد لبيروت بـ "البرجوازية الأصلية/ المحلية"، ويجادل بأن الكثير من "دور المدينة في الاقتصاد الاستعماري وفرص الثروة والأرباح التي توفرها، قد تم استغلالها من قبل طبقة التجّار" (58).

في السنوات التي سبقت الاستقلال، شهدت المنطقة المعروفة بلبنان اليوم احتجاجات شعبية وإضرابات ضد حكم الانتداب الفرنسي، بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كابدتها الطبقات العاملة. بالاقتران مع تنامي المعارضة لحكم فرنسا الاستعماري، أضعفت الحرب العالمية الثانية موقفها أكثر، وأصبحت شروط استقلال لبنان أكثر ليناً. ومع ذلك، لم يرتقِ الانتقال إلى الاستقلال نحو تلبية مطالب الغالبية السكانية، بل آثر الاستقلال عوضاً عن ذلك المصالح المالية للأوليغارشية التجارية/ المالية المحلية الضيّقة. هذه الأوليغارشية، بينما كانت لا تزال مرتبطة ارتباطاً وثيقاً برأس المال الغربي، جاءت لتتمسك بالسلطة السياسية وسلطة الدولة على أسس طائفية، إضافة إلى سيطرتها على معظم أجزاء القطاعات الاقتصادية في البلاد، واشتملت على دور ضئيل للدولة (ضاهر 2016، 13-14). بسبب استمرار دور لبنان كوسيط في التجارة، سيطر قطاع الخدمات (لا سيما الخدمات المصرفية) على الاقتصاد المحلي، بينما نادراً ما استثمرت الحكومات الأولى ما بعد الاستقلال في القطاعات الاجتماعية والصحية، وعلى هذا النحو، لم تفعل سوى القليل لتصحيح الطائفية/ الاختلالات المناطقية. وبالمثل، أصبحت القطاعات الأخرى مثل الإنتاج الصناعي مُهملة. في القطاع الزراعي، تم تفضيل كبار ملاك الأراضي (الذين يُعدّون في الغالب جُزءاً من النخبة الحضرية) على المزارعين التقليديين8، مما أدى إلى تشريد هؤلاء العمال وحرمانهم من وسائل إعادة الإنتاج الخاصة بهم، وتنامي الهجرة من المناطق الريفية إلى الحضرية على نطاق واسع، وتنامي توزيع الطبقة العاملة الحضرية المتزايدة وغير المستقرة، التي تعمل بشكل خاص في قطاع الخدمات المزدهر (14-15، غاسبارد 2004، 90). أدّت مثل هذه الترتيبات للاقتصاد، بجانب التضخم المستمر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلى تعميق مستويات الفقر وعدم المساواة والبطالة.

بينما استمر ترسيخ واقع التفاوتات الاجتماعية والإقليمية والطائفية خلال العقود التالية بعد الاستقلال، شهد لبنان بعض المحاولات للحدّ من هذه التفاوتات خلال الستينيات، لا سيما في ظل رئاسة فؤاد شهاب (1958-1964). خلال فترة رئاسته، سعت عدة إصلاحات إلى تحسين ظروف المعيشة من خلال تطوير البنى التحتية الاجتماعية والاقتصادية، والاستثمار في المستشفيات والتعليم، وإنشاء الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في عام 1963 كتعديل تكميلي لقانون العمل اللبناني لعام 1946، والذي لا يزال اليوم يخضع لانتقادات مختلفة9. ومع ذلك، وعلى الرغم من الحركات العمالية الشعبية وبرامج شهاب الإصلاحية، فقد ظلت الترتيبات الأولية التي تعطي الأولوية للتمويل والخدمات والتجارة قائمة، واستمرت الحركات الاجتماعية في التطور، حيث نُظّمت الاحتجاجات والإضرابات التي استهدفت الأوليغارشية المالية المهيمنة من خلال نظام تقاسم السلطة الطائفي، وارتفاع تكاليف المعيشة وانخفاض الأجور ودعوات إلى حرية النقابات العمالية.

 

ترسيخ السياسات الطائفية والنيوليبرالية، من الحرب الأهلية وما بعدها

تجلّى الاستياء الشعبي الواسع تجاه الوضع الاقتصادي السياسي وتعمّق انعدام المساواة الاجتماعية في لبنان، على شكل المراحل الأولى من الحرب الأهلية التي اندلعت في عام 1975 واستمرت حتى عام 1990. بالنسبة إلى الكثيرين، بدى وعلى نحو سريع بأن الحرب الأهلية اللبنانية تُمثّل صراعاً طائفياً عوضاً عن كونها معركة طبقية بامتياز. وقد عزى الدارسون حدوث ذلك إلى التمثيل المفرط المستمر للمسيحيين في نخبة الأعمال المحلية، على النقيض من المسلمين (ولا سيما الشيعة) الذين كانت أغلبيتهم حينها من الفقراء والطبقة العاملة. من بين العوامل الأخرى التي تجري الإشارة إليها هي وجود مُعالجة قومية عربية لقضايا الإصلاح، وضعف خيارات التنظيم العمّالي لا سيما في القطاع غير الرسمي، ما أستتبع صعوبة الانتظام العابر للتقاسيم الطائفية (فرنجية 2012، 72-469، ضاهر 2016، 22-23). في المناظرات الفكرية حول الحرب الأهلية، يُشير النُقّاد إلى كُلٍ من الدروس النظرية والتاريخية في معارضة القراءة الطائفية للحرب، على غرار أعمال المثقّف الماركسي مهدي عامل. لقد حذّر عامل كونه كان عضواً في "الحزب الشيوعي اللبناني" الذي لعب دوراً فعّالاً في الحرب الأهلية، حذّر من القراءة الطائفية المُماثلة مُجادلاً - وكما حدث بالفعل - بأن "البرجوازية ستحاول إضفاء الطابع الطائفي (طائفي، أحمر) على الصراع الطبقي، بهدف الحفاظ على موقعها المُهيمن"، فارضة بالتالي "نفسها بكونها مُمثلةً للطبقات الخاضعة، جاعلةً الأخيرة مُعتمدةً على البرجوازية في تمثيلها السياسي والمذهبي" (ضاهر 2016، 22-23). من منظور موقع لبنان ومحيطه العربي، سعى عامل عموماً إلى القول بأنه يمثّل "نمط إنتاج استعماري" (CMOP)، والذي يفسره سامر فرنجية كمفهوم، استناداً إلى نظرية التبعية، "يمثل تشكيلاً استعمارياً، أو تشكيل رأسمالي تحكم تطوره علاقات التبعية البنيوية مع المركز الإمبريالي" (فرنجية 2012، 69-468). بناءً على هذا الإطار الهيكلي، قدّم عامل (مع منظّرين آخرين) الطائفية - كما تشكلت في السياق اللبناني - كتكوين اجتماعي استعماري محدّد، تستخدمه البرجوازية المحلية كأداة هيمنة للبقاء في السلطة وفقاً لهياكل التبعية الرأسمالية المعاصرة.

آخذين مثل تلك الأفكار بعين الاعتبار، يبدو أن حصيلة الحرب الأهلية كانت هزيمة لنضال غالبية الطبقة العاملة. الانعطافة نحو السياسات الطائفية - ليس أقلّها ما تبع الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 والهزائم المتتالية لائتلاف/ جبهة "الحركة الوطنية اللبنانية" - رسّختها بنحو أكبر الميليشيات الطائفية المختلفة – التي أنشأ العديد منها أحزاباً سياسية – وعززت سيطرتها المتزايدة على الموارد والتوزيع والتجارة (بايلوني 2010، 62-63).  على الرغم من سهولة سيطرة الميليشيات في سياق الحرب بسبب الدور البسيط والمركزي للدولة وأحكامها (كاميت 2014، 44-49)، غير أنها سرعان ما تحولت إلى مؤسسات تجارية كبيرة. على هذا النحو، شهد لبنان عودة ظهور الجماعات الطائفية التي طوّرت برامج الرعاية الاجتماعية والمدارس والجامعات الخاصة بها في المناطق التي تُسيطر عليها، جنباً إلى جنب مع الدور المتزايد لـ"المنظمات غير الحكومية" الدولية والمحلية التي تقدم الخدمات الاجتماعية، في مُقابل انهيارٍ كبير للخدمات الاجتماعية المحدودة أصلاً التي قدمتها الدولة إبّان الحرب (45-48). تسبَّب ذلك أيضاً في ارتفاع كبير لعملية توظيف العاملات المنزليات المُهاجرات من الخارج ضمن منازل أولئك الذين بإمكانهم تحمّل العبء المادي لذلك، بعبارةٍ أُخرى، أدّت إجراءات الخصخصة المتزايدة في إطار إعادة الإنتاج الاجتماعي إلى عمليات تسليع متزامنة. فاقمت برامج رعاية الميليشيات غير الحكومية من التفاوتات المناطقية في عملية الوصول إلى الخدمات الاجتماعية (بايلوني 2010، 62-63). كما أدت الحرب إلى طرد الفائض البشري بأشكال مختلفة. تشير التقديرات إلى أن قُرابة ثلث السكان قد غادروا البلاد خلال الحرب، بينما أسفرت الحرب عن مذابح مختلفة في المخيمات الفلسطينية، وعن (ما يعتقد أنه) أكثر من 70 ألف قتيل (بعضها يشير إلى مئات الآلاف)، وإلى ما يقارب الـ100 ألف جريح. إضافة إلى اختفاء 20 ألف شخص خلال الحرب الأهلية (طرابلسي 2007 ، 238 ، الغصين 2020). 

أدّت اتفاقية الطائف لعام 1989 - "اتفاق المصالحة الوطنية" الذي وضعته مبادرة جامعة الدول العربية وبدعم من الولايات المتحدة (في دورها كقوة إمبريالية عالمية حالياً) - إلى إنهاء الصراع المسلّح والمزيد من الترسيخ للنظام السياسي الطائفي، بينما بالتزامن عززت الوضع السياسي للنخب السنية والشيعية10. تبع ذلك استمرار عام لترتيبات ما قبل الحرب للاقتصاد السياسي اللبناني، حتى أنه مال أكثر لصالح أنشطة قطاع الخدمات والأنشطة الريعية "على حساب القطاعات الإنتاجية، التي عانت بمعظمها من الدمار بسبب الحرب" ( طرابلسي 2007 ، 238). علاوة على ذلك، وجهت اتفاقية الطائف اقتصاد البلاد نحو مسار الاقتصاد النيوليبرالي وما يتخلله من إجراءات اللبرلة والخصخصة، حيث عقّب ضاهر "عن اتْباعها في أماكن أخرى من الشرق الأوسط منذ الثمانينيات، مع التركيز على زيادة الاندماج في الاقتصاد العالمي ونمو القطاع الخاص "(ضاهر 2016، 37)، وعلى هذا النحو نجد كيف أن هذا النموذج يتماشى مع الاتجاهات العالمية المماثلة في عصر الليبرالية الجديدة منذ السبعينيات. بدأت الدولة اللبنانية أيضًا في تقديم الدعم المالي لمقّدمي الرعاية الاجتماعية غير الحكوميين، مع حد أدنى من الإشراف على أنشطتهم (كاميت 2014، 50).

على هذا النحو سعى اتفاق الطائف إلى إعادة ترسيخ الوضع المالي للبنان في المنطقة، من خلال زيادة الانفتاح على تدفقات الاستثمار الأجنبي للقطاعات المصرفية والمالية والعقارية وإعادة الإعمار الحضري. كانت النتيجة بنحو غير مفاجئ، تنامي الدين العام وفشل الحكومات المتعاقبة المختلفة في معالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المستمرة مثل الفقر ومستويات عدم المساواة المرتفعة، والأجور المنخفضة والبطالة وسوء نوعية الخدمات الاجتماعية (بارودي في ضاهر 2016). نذكر دعم الجهات السياسية المحلية لعمليات الإصلاح النيوليبرالية التي أعقبت الحرب الأهلية، إضافة إلى دعم المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي11 والمستثمرين الإقليميين لا سيما دول الخليج (70). أصبحت مثل هذه السياسات طاغية في السنوات التالية، بالإضافة إلى زيادة عدم الاستقرار السياسي جزئياً بسبب تأثير الصراعات الإقليمية12.

 

العمالة الأجنبية - خفض تكاليف العمالة وإعادة إنتاج الهياكل والنُظُم الاجتماعية

أصبح تشابك النزاعات والتطورات السياسية الإقليمية في لبنان مؤخراً مرئياً، بالنظر إلى الانتفاضة السورية في عام 2011. منذ أواخر عام 2012، شهد لبنان تدفقاً هائلاً للاجئين السوريين، ما ضاعف الأعداد الكبيرة أصلاً من العمال الأجانب واللاجئين ذوي الوضع المؤقت في التركيبة السكانية والقوى العاملة اللبنانية (لونغنيز وطبر 2014، 6). بشكل عام، تنعكس العواقب الاجتماعية والاقتصادية للاقتصاد السياسي اللبناني على وضع أكثر من مليون عامل أجنبي مؤقت شغلوا بشكل متزايد منذ الحرب الأهلية قطاعات مختلفة من الوظائف ذات الأجور المنخفضة والوظائف غير المنظمة - لا سيما في البناء والزراعة، الصناعة والخدمة - حرماناً من أية حماية اجتماعية (6-7). توفر العمالة الأجنبية الرخيصة/ غير الرسمية خيارات لأصحاب العمل لتقليل تكاليف الإنتاج والعمالة في السوق غير المنظم والتنافسي الساعي للربح، وهو ما يتضح بشكل أكبر من خلال عدم وجود سياسات حكومية لحماية الإنتاج المحلي أو القوى العاملة (16-17). تندرج ظروف العمال الأجانب في لبنان، التي تُعرَّف بشكل خاص من خلال الهشاشة الشديدة والزمنية، على غرار الهياكل المعاصرة للاقتصاد العالمي الذي شهد توسعاً هائلاً في احتياطي العمل العالمي خلال العقود الماضية نتيجة تسارع عمليات التقشف والتسليع  ونزع المُلكية والتراكم البدائي/ الأولي (فيرغسون وماكنالي 2015 ، 9-10). أدى إدخال نظام الكفالة في لبنان خلال الحرب الأهلية، والذي لا يزال ساري المفعول، باعتباره النظام التنظيمي الفعلي للعمالة الأجنبية/ المهاجرين في لبنان (وكذلك في بلدان أخرى في المنطقة)، إلى ظهور طرق سهلة لأصحاب العمل للوصول إلى العمالة الرخيصة وغير الرسمية بطرق قابلة للاستغلال ومنظمة على أساس التبعية، حيث يلتزم العمال بصاحب العمل للحصول على تصريح الإقامة والعمل (الشهابي 2019). سهّلت الصناعة الضخمة والعالمية الربحية لشركات التوظيف الخاصة في البلدان المرسلة والمستقبلة، عملية هجرة العمالة والتوظيف نيابة عن أرباب العمل، مقابل رسوم، وذلك فيما يتعلق بالعمال المهاجرين من دول جنوب شرق آسيا وأفريقيا في المقام الأول. غالباً ما تمت مقارنة ظروف معيشة وعمل العمال المهاجرين بظروف أشبه بالعبودية، ويبذل المجتمع المدني ومجموعات الناشطين وسعهم للمساعدة في سياق لا يحظى إلا بالقليل من الاهتمام إن لم يكن معدوماً للحكومات المختلفة في لبنان. (انظر: هيومن رايتس ووتش 2008 ، حركة مناهضة العنصرية 2019 ، منظمة العمل الدولية 2016).

أما بالنسبة للطبقات الشعبية والعاملة الأوسع في لبنان بشكل عام، فإن مستويات المعيشة آخذة في التدهور منذ سنوات13. في حين أن العمال الأجانب يواجهون ظروف معيشية وعمل قاسية جداً، فإن مثل هذه الظروف - على الرغم من الاختلافات الواضحة - مشتركة بين شريحة أكبر بكثير من الطبقات الشعبية الإجمالية في لبنان، مما يكشف عن المستويات العالية من عدم المساواة والضعف الذي يمتد إلى الظروف الهيكلية لعملية إعادة الإنتاج الاجتماعي اليومية للعمال والأسر والمجتمعات. في العامين الماضيين فقط، تفشت مستويات الفقر وعدم المساواة في لبنان بسبب الأزمة المالية والاجتماعية والاقتصادية الهائلة القائمة. كما هو مبين، فإن الأزمة الحالية لم تخرج من فراغ، بل خرجت من الهياكل التي مزقتها الأزمة في النظام السياسي وفي الاقتصاد، مع التركيز بشكل أساسي على دور لبنان كمركز مالي للمنطقة على حساب المجال الذي لا غنى عنه من إعادة لإنتاج الهياكل والنُظُم الاجتماعية.

 

III. التعتيم على مسألة إعادة الإنتاج الاجتماعي

 

الرفاهية الطائفية: الخصخصة للكثيرين، والتسليع للقلة

فالطائفية، باعتبارها الهيكل الدستوري المكمّل لهيكل الدولة القائم على اقتصاد السوق الحرّ، تؤثر على مكانة المواطنين اللبنانيين من حيث الطائفة/ "المجتمع" التي/الذي ينتمون إليها/إليه، بدلاً من التعامل معهم على أنهم "مواطنين". لهذا التنظيم المُتعلق بالسكان من المواطنين تأثيرات واسعة على الحياة الاجتماعية للناس وعلى عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي، لا سيما وأن الحقوق السياسية والاجتماعية تتحقق من خلال الانتماء المجتمعي للفرد (ماجد 2017). في الممارسة العملية، تتشكل الطائفية في لبنان من خلال سياق قانوني محدد لقانون الأحوال الشخصية، الذي يقر أي شيء من التشريعات المتعلقة بالزواج والطلاق وحضانة الأطفال والميراث والولادة والوفاة، وذلك نسبةً لقوانين كُلٍ من محاكم الديانات الخمسة عشر العائدة لكلّ طائفة/ مجتمع. إضافة إلى كون هذه البنية القانونية الطائفية تمثّل القناة للوصول إلى التمثيل السياسي.

كما هو موضح أعلاه، اتسمت الرعاية الاجتماعية والخدمات الاجتماعية في لبنان بتاريخ طويل من الخصخصة، بحيث يُمكن الوصول إليها من خلال مصادر بديلة عن برامج الدولة. يجادل العديد من العلماء بأن المواطنين الذين يظهرون ولاءهم للمنظمات الطائفية، يتوقعون ويتمتعون بأسبقية تلقي المنافع الاجتماعية، وبالتالي خلق نظام محسوبية فئوية14/ زبائنية15. كتب هانيس بومان، "الاقتصاد السياسي للطائفية هو الاقتصاد الذي تستحوذ فيه نخبة صغيرة مرتبطة سياسياً على الجزء الأكبر من الفائض الاقتصادي، وتعيد توزيعه من خلال الزبائنية الفئوية" (باومان في ماجد 2017). تشرح ريما ماجد كذلك أنه وفي لبنان، تكمن أشكال الطائفية هذه فعلياً في نظام الرفاه والأمن غير الحكومي (الدولة الموازية)، والمعروف باسم الزبائنية "التي تخلق نظاماً من التبعية حيث،" بينما تستخدم الطبقة الحاكمة العليا الطائفيةَ كأداة للسيطرة والحفاظ على موقعها، تلتزم الطبقات العاملة بالقواعد الطائفية للعبة من أجل الحصول على الرفاهية والحماية أو لتجنب العقوبات." (المرجع نفسه). تتفق ماجد كذلك مع طرح عامل، بحجة أن الطائفية فعّالة، من خلال إعادة إنتاج نفسها باستمرار بهذه الطريقة، الأمر الذي يُمكنها من "احتواء معظم محاولات التنظيم وفقاً للمصالح الطبقية من أسفل" (المرجع نفسه).

على الرغم من الاختلافات في مستوى مشاركة الدولة، ظل نظام الرعاية الاجتماعية وتقديم الخدمات الاجتماعية مجالًا مخصخصًا بدرجة كبيرة داخل الاقتصاد السياسي في لبنان الحديث، ما أدى إلى عمليات التسليع (للقلة القادرة على تحمل تكاليفها)، وبالموازاة انتشار مقدّمي الرعاية الاجتماعية غير الحكوميين في شكل أحزاب طائفية ومنظمات غير حكومية/ موازية، للمجتمعات الفقيرة وعمال أجانب مؤقتين بدون حماية اجتماعية. غالباً ما يعتمد المدى والجودة والوصول إلى الرعاية الاجتماعية على الوضع الاجتماعي للناس، لا سيما فيما يتعلق بالطبقة والمواطنة، وفي بعض الحالات، الارتباط أو الانتماء الطائفي. على هذا النحو، في تشكيل الاقتصاد السياسي اللبناني، دفع تمركز المصالح التجارية والمالية بشكل فعال المخاوف العامة المتعلقة بإعادة الإنتاج الاجتماعي والرفاهية إلى الأطراف/ الهامش، مما جعله مجالًا للنزاع ووسيلة لكسب الدعم السياسي الذي له تداعيات واسعة على تنظيم إعادة الإنتاج الاجتماعي، وتباعاً على تنظيم العمل المنزلي والرعائي بكونه "خاص" و "غير اجتماعي".

 

العدالة الإنجابية، مسألةٌ ثانوية

الاقتصاد السياسي والنظام السياسي اللبنانيين، تكونا ضمن صيغةٍ استعماريةٍ مُحددة. ارتكزت هذه الصيغة على موقع لبنان الجغرافي وعلى علاقته التبعية مع المركز- الرأسمالي العالمي. تمتد هذه الصيغة التكوينية إلى تنظيم الظروف والحقوق الاجتماعية- الإنجابية، لا سيما فيما يتعلق بالعلاقات الأسرية والقوانين. لطالما انتقدت المنظمات المحلية والدولية وكذلك الحركات النسوية قانون الأحوال الشخصية اللبناني الذي تحكمه المحاكم الدينية، باعتباره نظام قانون الأسرة الفعلي في لبنان، واعتبرت هذه الهياكل القانونية تمييزية بين الجنسين. وقد سعت الانتقادات إلى فضح القوانين التي تُديرها وتمارسها 15 محكمة دينية مختلفة، بعيداً عن أي إطار قانوني لبناني مركزي. تمحور جوهر الانتقادات لكون تلك القوانين تعامل المواطنين اللبنانيين بشكل مختلف في جوانب أساسية من حياتهم. أشارت الانتقادات بشكل خاص إلى أن نظام المحاكم تمييزي بين الجنسين، مما يشير إلى استمرار عدم المساواة في النتائج بالنسبة للنساء والأشخاص المثليين، وحتى لجهة حقوق الأطفال التي تخضع لسلطة ومصالح واحتياجات الزوج ضمن مؤسسة الزواج التقليدي (أي غيري الجنس) (ليبانون سابورت 2017). في تقرير لها، تؤكد هيومن رايتس ووتش (2015)، الانتقادات التي قامت بها منظمات محلية مختلفة تستهدف على وجه التحديد حقوق المرأة الأقل من حقوق الرجل في الحصول على الطلاق، وفرص عالية لفقدان حقوق حضانة الأم لأطفالها في حال إنهاء الزواج، والرسوم المرتفعة أثناء الإجراءات القانونية، وعدم وجود استجابة قانونية للعنف المنزلي/ العنف والاغتصاب الزوجي – وهي غير كافية بنفس القدر في القانون المدني/ الجنائي اللبناني، والتمييز ضد المرأة فيما يتعلق بتوزيع ممتلكات الزوجية بعد الطلاق وأثناء الزواج، مع عدم الإخذ بالحسبان الجهة المُساهمة في عملية إعادة الإنتاج اليومي للأسرة/الوحدة المنزلية (6).

بالإضافة إلى تخصيص الإجراءات العائلية القانونية للمحاكم الدينية"الموازية"/ غير الحكومية، استهدفت الانتقادات أيضاً أجزاء أخرى من التشريعات اللبنانية باعتبارها تمييزية بين الجنسين. على سبيل المثال، تتمتع قوانين الجنسية اللبنانية - بالإضافة إلى تسهيل أنظمة "المحسوبية/ الفئوية الاجتماعية" والظروف غير المستقرة/ المؤقتة لـ "غير المواطنين" - بتأثير واسع على وصول الفئات المُجتمعية المهمشة عرقيًا واقتصاديًا إلى العدالة الإنجابية. تُقدّم قضايا الصحة الإنجابية في سياقها الأوسع مُقاربةً مفادها وبعبارات الناشطة في مجال الصحة للنساء السود لوريتا روس، مفادها أن "قضايا الصحة الإنجابية هي جزء من السياق الأوسع لرفاه وصحة النساء والعائلات والمجتمعات" (روس 2006). تستهدف العدالة الإنجابية إلى ما يسمّيه البعض بالقمع الإنجابي. ويُعنى بالقمع الإنجابي "تأثير قضايا الصحة الإنجابية على الناس بشكل غير متناسب، وفقًا للتكوينات الاجتماعية والتسلسل الهرمي للطبقة والعرق والجنس" (المرجع نفسه). كما كتبت روس في هذا السياق، أن العدالة الإنجابية تستهدف "التحكم واستغلال النساء والفتيات والأفراد، من خلال أجسادنا وجنسانيتنا وقوة عملنا وإنجابنا"(2).

في مقالة نُشرت عام 2018 حول العدالة الإنجابية في لبنان، تُجادل كلٌّ من رلى ياسمين وبتول سُكر من المنظمة النسوية المحلية "مشروع أ"16 ، بأنه " أخفق القانون اللبناني في حماية وإثبات الحقوق الإنسانية الأساسية للنساء واللاجئين والمهاجرين والكويريين والمتحولين والطبقة العاملة والسجناء وذوي الاحتياجات الخاصة والمصابين بفايروس فقدان المناعة المُكتسب والعاملين في الجنس" (ياسمين وسُكر 2018). تحديداً فيما يتعلق بالتأثير التمييزي بين الجنسين لقوانين الجنسية اللبنانية، تذكر ياسمين وسكر كيف أنه في لبنان، تنتقل الجنسية عبر سُلالة الأبوين، جاعلة من المُستحيل على النساء اللبنانيات نقل جنسياتهنّ إلى زوج غير مواطن وبالتالي لأبنائهنّ، الأمر الذي بإمكان الرجال اللبنانيين وحدهم نقله – ما يجعل أطفالهنّ يواجهون مضايقات الدولة فيما يتعلق بالحصول على الرعاية الصحية والإقامة القانونية والتوظيف وما إلى ذلك. على هذا النحو، تسهل قوانين الجنسية - إلى جانب قوانين الأسرة - علاقات التبعية بين الجنسين داخل العلاقات الأسرية التي تقيد بشكل فعال استقلالية المرأة الجسدية/ الإنجابية، وتعطي الأولوية لوجود الزوج اللبناني. ويتجلى واقع هذه القوانين أيضًا في تقييد الوصول إلى الإجهاض الذي لا يمكن تبريره إلا إذا كانت حياة المرأة الحامل في خطر، وبالتالي خلق قنوات غير قانونية وخطيرة على صحة النساء في عملية الإجهاض (المرجع نفسه).

ينبع الاضطهاد الإنجابي للطبقة العاملة والمجتمعات العرقية في لبنان، على هذا النحو، من تشكيل الاقتصاد السياسي ونظام الحكم الطائفي الذي أوجد تنظيماً لإعادة الإنتاج الاجتماعي كمجال هامشي ومخصخص. تُسهل هذه البُنية قيام أنظمة التبعية الجنسانية من خلال تقييد الاستقلالية الإنجابية للمرأة والأفراد الآخرين، وتمتد إلى العلاقات الأسرية والقرابة، وعلاوة على ذلك فهي تشوه بشدة سُمعة أولئك الذين يعتبرون غير مواطنين ويعانون من قيود شديدة على الرعاية الاجتماعية والصحة الإنجابية/ والسيادة الإنجابية. في المقابل، أدت هذه الترتيبات إلى خفض تكاليف العمالة وإعادة/ الإنتاج الأُسري، وبالتالي خفض تكاليف (إعادة) إنتاج القِوى العاملة، أي تأخير دائم للعدالة والسيادة الإنجابية لصالح جني مزيد من الأرباح وتراكم رأس المال.

 

IV. احتجاجات 2019: ضد الأمْوَلَة وأزمة إعادة إنتاج الهياكل والنُظُم الاجتماعية

عندما اندلعت أكبر حركة احتجاج شعبية مُنذ عقود في أرجاء لبنان في الـ17 من أكتوبر عام 2019، انضمت إلى جُملةٍ من الانتفاضات التي حدثت بالفعل أو على وشك الحدوث في نفس العام في جميع أنحاء العالم، وخاصة في أنحاء عالم الجنوب عند الأطراف. على الرغم من اختلاف مطالبهم وانتقاداتهم المحددة، إلا أن معظم الاهتمام العام العالمي حلل الحركات كرد فعل على المشاكل المتزايدة للنُظُم الاجتماعية، ومعدلات عدم المساواة العالية، والفساد والظروف المناهضة للديمقراطية، وتدهور الظروف البيئية، والتدابير النيوليبرالية المستمرة التي غالباً ما تيسرها الجهات الفاعلة/ المؤسسات الدولية، وتفرضها الحكومات الاستبدادية المحلية17. علاوة على ذلك، وبالتأكيد في حالة لبنان، أشار العلماء إلى أمولة الاقتصاد العالمي والاقتصادات المحلية خلال العقود الماضية كعامل حاسم لفهم الأزمات الاقتصادية (المرتبطة غالبًا بالدين العام المرتفع)، التي حفزت الاحتجاجات في عالم الجنوب (سلطي 2019). نتج عن الأمولة حالات "الأمْولة ذات البُنى التبعية18" للعديد من بلدان عالم الجنوب مثل لبنان، حيث أدى ربط العملات المحلية بالدولار الأمريكي بهدف دخول الأسواق العالمية، إلى تدمير الاقتصادات المحلية ورأس المال الصناعي من خلال تعزيز المصالح المالية والمؤسسية - ما يؤدي إلى زيادة الدين العام (غالبًا ما يتم تسهيل ذلك عبر فرض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لبرامج التكيف الهيكلي، من خلال شروط القروض للبلدان المتعثرة في جنوب الكرة الأرضية (لابافيتساس 2020).

في لبنان تمخّض تمركز الموارد المالية والقطاع المصرفي والتجارة الدولية في الاقتصاد السياسي المعاصر، عن صناعات محلية منتجة مُقوضة النمو (مثل القطاع الصناعي والزراعي)، إلى جانب قطاع غير رسمي رئيسي من العمالة منخفضة الأجر، وتجزئة متزامنة للعمل المنظم، إضافة إلى ارتفاع تكاليف المعيشة ومعدلات البطالة وبُنى تحتية متضررة وتنظيم هامشي لإعادة الإنتاج الاجتماعي على أسس مُجندرةٍ وعرقيةٍ ومخصخصةٍ/ مُسلّعة. علاوة على ذلك، استمرت المبادرات التي اتخذتها الحكومة اللبنانية للتعامل مع ديونها المتزايدة - المقدرة بما يعادل أكثر من 175٪ من الناتج المحلي الإجمالي في أيار 2020 (هينريشسين 2020) - في اتباع خطوط تدابير التقشف، على سبيل المثال من خلال زيادة الضرائب على السلع الأساسية. كما هو الحال في العديد من البلدان الأخرى (مثل تشيلي والإكوادور وإيران والعراق)، أدت عمليات تطبيق الضرائب الجديدة (جنبًا إلى جنب مع علامات الأزمة الأخرى) في نهاية المطاف إلى حشد الطبقات الشعبية في لبنان ضد الأزمة الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة. حشدت حركة الاحتجاج ملايين الأشخاص بنحو عابر طبقياً وطائفياً ومناطقياً إلى الشوارع، وقامت بتنفيذ إضرابات ملحوظة وقطع للطرق في أرجاء مُختلفة من لبنان، وإغلاق للمدارس والجامعات والبنوك، وأنشأت عددًا لا يحصى من المنظمات الجديدة والجماعات الناشطة الناشئة، التي حاولت حشد ورفع مطالب نحو تغيير مُمنهج (خنيصر 2019). على الفور غرقت البلاد في أزمة أكثر عمقاً.

فقدت العملة اللبنانية الليرة، بسرعة ما يصل إلى 90٪ من قيمتها مقابل الدولار الأمريكي، ما أدى إلى قيام البنوك المحلية النافذة بإجراءات ضبط رأس المال (capital control) وذلك بفرض قيود و/ أو الحجز على مدخرات المودعين، مما أدى إلى انخفاض كبير في قيمة الأجور واكبه في الوقت عينه ارتفاع صارخ في أسعار المنتجات الأساسية مثل الغذاء والدواء - حيث يتم استيراد قُرابة 80٪ من جميع السلع بالدولار الأمريكي. وطال ذلك أيضاً النقص الهائل في الوقود، وبالتالي في الكهرباء للمنازل والمستشفيات والبنى التحتية العامة في جميع أنحاء البلاد. أدت الآثار طويلة المدى للاقتصاد السياسي في تكوينته المُأمولة (التابعة) في لبنان، إلى تكثيف الميول المتأصلة نحو الأزمات ما تجلى في أزمةٍ كارثيةٍ شاملة في خلال السنوات القليلة الماضية. هكذا تُرك مجال إعادة الإنتاج الاجتماعي الذي لا غنى عنه، عبارة عن مشقةٍ يومية على مدار الساعة.

من هذا المنظور، يمكن إعادة صياغة الأزمة الحالية المتصاعدة في لبنان والتي يتفاعل إزاءها الناس على أنها تفاقم للأزمة الدائمة لإعادة إنتاج النُظم والهياكل الاجتماعية في ظل الرأسمالية، والتي تُهدد على نحو مُستمر الاحتياجات الأساسية والوسائل اليومية (لإعادة) إنتاج أنفسهم. إن الأعداد المرتفعة بالفعل من الأشخاص والأسر التي تعيش تحت خط الفقر، تتزايد جنبًا إلى جنب مع العواقب الكارثية لانفجار ميناء بيروت (الذي فضح وبأفظع الطرق كارثيةً، الجهل العميق للنخبة السياسية إزاء غالبية السكان)، والتي تتخلل زيادة التضخم ونقص الموارد الأساسية وزيادة البطالة. بعبارة أخرى، تؤكد أزمة إعادة الإنتاج الاجتماعي الحالية في لبنان تشابكها مع الأزمة المالية والبُنيوية، وتكشف على هذا النحو الميول المتأصلة للأزمة والتناقضات بين إعادة الإنتاج الاجتماعي والأمْوَلة/ تراكم رأس المال. في السياق الحالي للبنان، يبدو أن من الملائم أكثر من أي وقت مضى إعادة فكرة الجيش الاحتياطي لليد العاملة، لأنه ووفقاً للأدبيات الماركسية الكلاسيكية، يُشير هذا الاصطلاح إلى وجود "فائض سكاني"، مما يعني أنه في لحظات الأزمات، فإن سمة العامل تكمن في قُدرة صاحب العمل على استبداله بسهولة وإدخاله في صفوف العاطلين عن العمل بهدف التقليل من تكاليف العمالة و(إعادة) الإنتاج. كما يفضح هذا المُصطلح كيف أن تكاليف العمل بمثابة حجر الزاوية لتنظيم تراكم رأس المال على حساب الحياة الإنجابية والاجتماعية والسياسية لمعظم الناس، خاصة بالنسبة "لعمال الصفوف الأمامية" الذين يقومون بالأعمال المُتعلقة بعملية إعادة الإنتاج الاجتماعي بشكلها المُباشر. وعادةً ما تكون الفئة العمالية تلك مُجندرة ومفروزة عرقياً ويجري التقليل من قيمة قوة عملها بنحو كبير. من بين من تتضمنهم تلك الفئة العمالية مليون عامل/عاملة مهاجر/ أجنبي يعيشون عمومًا في ظروف لا تكاد تلبي احتياجاتهم الأساسية الخاصة بالإنجاب وإعادة الإنتاج الاجتماعي للأسباب المذكورة آنفاً. بعبارة أخرى، يبدو أن الوضع الحالي في لبنان يشير إلى أن (إعادة) إنتاج قوة العمل، ومجال إعادة الإنتاج الاجتماعي بأكمله، يتم وفقًا و "داخل" نمط الإنتاج/ إعادة الإنتاج الرأسمالي – وما يتخلله من نزعات متأصلة نحو الأزمات ولاسيما تلك المتزايدة حاليًا. خلاصة القول، يجب أن تصبح مثل هذه النزعات المتأصلة نحو الأزمات، جزءًا من عملية نقدٍ شاملةٍ وبنيويةٍ يستدعيها سكان لبنان وغيرهم من سكان العالم ضمن مقاربات متجدّدة ومتأصّلة، يتبلور من خلالها كُنه النضال على أنه نضال لأجل قيمة الحياة 19.


                  • 1. .تهدف هذه النظرية إلى شرح العلاقة العضوية الكائنة ما بين عملية إنتاج السلع والخدمات وبين عملية إنتاج وإعادة إنتاج الحياة اليومية وما تتضمنه من بُنى للعلاقات الاجتماعية. إن هذه القراءة التكاملية تُساعد على تفكيك الاضطهاد العنصري والجندري والجنساني بشكل منهجي وشامل عبر تبيان العناصر الرأسمالية المُنتجة له (مُديرة الترجمة).
                  • 2. . اخترت ترجمة كلمة reproductive كإعادة إنتاج اجتماعي لما تتضمنه من دلالة على إعادة إنتاج البُنى الاجتماعية على نحو عام، ومنظومة الإنجاب والتكاثر على نحو خاص (المُترجمة).
                  • 3. يجدر بنا التنويه مرجعيًا إلى أن سؤال العمل الإنجابي والمنزلي بعلاقته مع أطوار الرأسمالية وصولا إلى الرأسمالية المأمولة وعمليات طمس قيمته بإبعاده عن فلك "القيمة" كما يعترف بها السوق الرأسمالي ومجال دراسات الإقتصاد قد جرى بالفعل التطرق إليها من قبل كتاب ومنظرين ماركسيين (مديرة الترجمة).
                  • 4. التشكيلات يُعنى بها تلك الاجتماعية الرأسمالية المذكورة آنفا (المترجمة)
                  • 5. ويُقصد بها أن تكون ترجمة للمصطلح externalization كما ورد في "تناقضات رأس المال والرعاية" للكاتبة نانسي فريزير. والتخريج هنا يعني عملية قيام مؤسسات الدولة النيوليبرالية بإخراج مهمة العمل العنائي من سلطة مؤسساتها وفق منطق الدولة التدخلية، وإزاحتها نحو التشكيلات الاجتماعية مثل الأُسرة- وغيرها من الوحدات الاجتماعية التي تتبلور ضمن منطق العلاقات التي تفرضها الدولة النيوليبرالية المُعاصرة (مُديرة الترجمة).
                  • 6. أنظر على سبيل المثال: طرابلسي 2007، 2014، ضاهر 2016، غيتس 1989، غاسبارد 2004، مقدسي 2000
                  • 7. وهو مصطلح عسكري يعني موطئ قدم الجيوش الاستعمارية التوسعية في خضم عمليات غزوها. ارتأينا الإبقاء على الترجمة المُباشرة لهذا المُصطلح العسكري نظراً لدقّته في وصف السياق التطوري للنظرة الاستعمارية الجيوسياسية التي تحاول الكاتبة وضعنا في سياقها ساعية إلى فهم خلفية تطور مفهوم السوق ووظيفة الدولة في لبنان على وجه الخصوص، والمناطق المُستعمرة جنوباً بوجه عام (المترجمة ومديرة الترجمة).
                  • 8. وهُم المُزارعون الذين كانوا يعتاشون من زراعة الأرض أي مصدر رزقهم، والتي يستأجرونها من مُلّاك الأراضي الذين يتقاسمون وإياهم المحاصيل الناتجة عن عملهم وفقاً لاتفاق مُعين مع مالك الأرض. قد تختلف طبيعة الإتفاق بين نمط مُزارعةٍ إلى أُخرى ومن بلد-حقبةٍ زمنية وأُخرى. أما في التاريخ المُعاصر لبلاد الشام فيُصطلح على هذه العملية "تضمين الأرض" (المترجمة ومديرة الترجمة).
                  • 9. انتقادات على سبيل المثال: التنظيم الصارم للقانون بشأن حرية النقابات العمالية، وفشله في معالجة البطالة والعديد من الحقوق الأساسية للعمال، والتمييز التعسفي بين العاملين في القطاع العام مُقابل الخاص، وكذلك ما بين العاملات الإناث مُقابل العُمّال الذكور في العديد من التشريعات. استهدفت الانتقادات كذلك استبعاد القانون الصريح لمجموعات من العمال من تشريعاته، ومن بين تلك المجموعات إلى جانب العاملات المنزليات نجد العمال الزراعيين. والشركات التي يعمل فيها أفراد الأسرة الواحدة فقط، والموظفون الحكوميون، والعمال النهاريون والمؤقتون، فضلاً عن التشريعات الخاصة بغير اللبنانيين/ العمال الأجانب الذين يستثنونهم من لوائح القانون، ويتعين عليهم بدلاً من ذلك الحصول على تصاريح عمل قصيرة الأجل قابلة للتجديد (الكاتبة). المصدر : قانون العمل اللبناني الصادر في 1946 في مادته الـ 7 من الأحكام العامة (مديرة الترجمة).
                  • 10. يُفسّر المؤرخون ذلك بحقيقة أن أجزاء صغيرة من هذه المجتمعات، التي كانت تدعم الغالبية العظمى من الفقراء - لا سيما الشيعة - قد غيرت موقعها الطبقي البنيوي للانضمام إلى صفوف البرجوازية.
                  • 11. لعب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بشكل خاص دوراً خلال مؤتمرات باريس واحد واثنان وثلاثة (2001،2002،2007) سعياً وراء الدعم الخارجي للتقليل من عواقب الدين العام المتزايد وتنشيط الاقتصاد،
                  • 12. على سبيل المثال، أصبح الاستقرار السياسي للنخب في السلطة مهدداً بعد اغتيال رئيس الوزراء السني رفيق الحريري في عام 2005 (الذي خلفه في النهاية نجله سعد الحريري)، ما أدى إلى احتجاجات تطالب بإزالة القوات السورية من البلاد. تسبب الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 2006 بدمار شديد وخسائر في الأرواح والبنية التحتية في جنوب بيروت بشكل رئيسي، كما كانت له تداعيات سياسية أخرى لا سيما بتعزيز القاعدة الشعبية المتزايدة لحزب الله، والحزب العسكري التابع للشيعة والذي يتمتع بنفوذ متزايد، واحتكار تمثيل المقاومة المسلحة ضد اسرائيل كحُكم أمرٍ واقع.
                  • 13. . في مقالته (2019)، يُلّخص جوزيف ضاهر بعضاً من إحصاءات عدم المساواة الشاملة الصارخة مُبيناً وجودها السابق للأزمة المالية والاجتماعية والاقتصادية الراهنة. على سبيل المثال ، يعرض لنا ضاهر أنه بين عامي 2010 و 2016 ، "كان فقط ثلث السكان ممن هُم في سن العمل يعملون"، وأن ما بين "40 إلى 50 بالمائة من السكان اللبنانيين يفتقرون إلى المساعدة الاجتماعية"، "العمال الأجانب المؤقتون، الذين يقدر عددهم بـ مليون شخص، حُرموا من جميع أشكال الحماية الاجتماعية "، بينما كان" نصف العمال وأكثر من ثلث المزارعين في البلاد تحت خط الفقر ". فيما يتعلق بالطرف الآخر من المقياس، كتب ضاهر أنه على سبيل المثال ، بين 2005-2014 "حصل 10 في المائة ممن هُم الأكثر ثراءً، في المتوسط، على 56 في المائة من الدخل القومي". (ضاهر 2019)
                  • 14. دأبنا على استخدام لفظة فئوية كترجمة لكلمة communal الواردة في النص الأصلي، وذلك للتأكيد على البُعد الهوياتي السياسي الكامن في فهم بُنية السياسة الزبائنية وما تحمله من تقاطعيات طبقيةٍ ثقافيةٍ دينية وجندرية، تغيرت مع تطور أشكال البُنية الزبائنية للدولة النيوليبرالية اللبنانية على مرّ العقود (مديرة الترجمة والمترجمة).
                  • 15. أُنظر على سبيل المثال: كاميت وإيسار 2010، 381-421، ماجد 2017، طرابلسي 2014، 241، كاميت 2014، 35-134).
                  • 16. أُنظر: https://www.theaproject.org/
                  • 17. . أنظر مثلاً: منظمة العفو الدولية 2019، البي بي سي 2019
                  • 18. أو يُمكن ترجمتها على أنها أمْولة الجنوب العالمي أو أمْولة اقتصادات الأطراف، إلا أن كُل هذه الترجمات مُستمدة من أدبيات نظرية المنظومات العالمية التي تعتمدها كاتبة هذا النص في مُعظم تحليلاتها (مُديرة الترجمة).
                  • 19. ترجمة تحريرية (مديرة الترجمة)
                  ملحوظات: 
                  المراجع: 

                  AlShehabi, Omar Hesham. “Policing Labour in Empire: The Modern Origins of the Kafala Sponsorship System in the Gulf Arab States.” British Journal of Middle Eastern Studies, no. Journal Article (2019): 1–20. https://doi.org/10.1080/13530194.2019.1580183.

                  Amnesty International. “Protests around the World Explained. Why Is Everyone Protesting?,” Amnesty International, October 25, 2019. https://www.amnesty.org/en/latest/news/2019/10/protests-around-the-world-explained/.

                  Anti-Racism Movement. “‘Migrant Domestic Workers’ Community Organizing Within the Lebanese Socio-Legal Context: A Feminist Participatory Action Research Project.” Anti-Racism Movement, 2019. https://www.armlebanon.org/content/research-report-migrant-domestic-workers-community-organizing-lebanon.

                  Baylouny, Anne Marie. Privatizing Welfare in the Middle East: Kin Mutual Aid Associations in Jordan and Lebanon. Bloomington: Indiana University Press, 2010.

                  BBC News. “Why Protesters Are on the Streets Worldwide.” BBC News, November 11, 2019. https://www.bbc.com/news/world-50123743(link is external).

                  Bhattacharya, Tithi, ed. Social Reproduction Theory: Remapping Class, Recentering Oppression. London: Pluto Press, 2017.

                  Bubeck, Diemut Elisabet. “The Domestic Labour Debate.” Care, Gender, and Justice. Oxford University Press, 1995. https://doi.org/10.1093/acprof:oso/9780198279907.001.0001(link is external).

                  Cammett, Melani Claire. Compassionate Communalism: Welfare and Sectarianism in Lebanon. Ithaca, New York: Cornell University Press, 2014.

                  Cammett,
                  Melani, and Sukriti Issar. “Bricks and Mortar Clientelism: Sectarianism
                  and the Logics of Welfare Allocation in Lebanon.” World Politics 62, no. 3 (2010): 381-421.

                  Daher, Joseph. Hezbollah: The Political Economy of Lebanon’s Party of God. London: Pluto Press, 2016.

                  Daher, Joseph. “The People Want the Fall of the Regime.” Jacobin, October 24, 2019. https://jacobinmag.com/2019/10/lebanon-protest-movement-inequality-austerity(link is external).

                  Duffy, Mignon. “Doing the Dirty Work: Gender, Race, and Reproductive Labor in Historical Perspective.” Gender and Society 21, no. 3 (2007): 313–36.

                  Elghossain, Anthony. “Finding Lebanon: Hope, Dignity, and the Right to Know.” Middle East Institute, June 29, 2020. https://www.mei.edu/publications/finding-lebanon-hope-dignity-and-right-know.

                  Federici, Silvia. Caliban and the Witch: Women, the Body and Primitive Accumulation. 1st ed. New York: Autonomedia, 2004.

                  Federici, Silvia. Revolution at Point Zero: Housework, Reproduction, and Feminist Struggle. Book, Whole. Oakland, CA: PM Press, 2012.

                  Ferguson, Susan, and David McNally. “Precarious Migrants: Gender, Race and the Social Reproduction of a Global Working Class.” Socialist Register 51 (2015): 1–23.

                  Frangie, Samer. “Theorizing from the Periphery: The Intellectual Project of Mahdi ’Amil.” International Journal of Middle East Studies 44, no. 3 (2012): 465-82.

                  Fraser, Nancy. “Contradictions of Capital and Care.” New Left Review, II, no. 100 (2016): 99-117.

                  Gaspard, Toufic K. A Political Economy of Lebanon, 1948-2002: The Limits of Laissez-Faire. Leiden; Boston: Brill, 2004.

                  Gates, Carolyn. The Historical Role of Political Economy in the Development of Modern Lebanon. Oxford: Centre for Lebanese Studies, 1989.

                  Hinrichsen, Simon. “Lebanon’s Spectacular Economic Collapse.” Jacobin, May 20, 2020. https://jacobinmag.com/2020/05/lebanon-sovereign-debt-default-borrowing-crisis.

                  Human Rights Watch. “Lebanon: Migrant Domestic Workers Dying Every Week.” Human Rights Watch, 2008. https://www.hrw.org/news/2008/08/26/lebanon-migrant-domestic-workers-dying-every-week.

                  Human Rights Watch. “Unequal and Unprotected: Women’s Rights under Lebanese Personal Status Law.” Human Rights Watch, January 19, 2015. https://www.hrw.org/report/2015/01/19/unequal-and-unprotected/womens-rights-under-lebanese-personal-status-laws.

                  ILO (International Labor Organization). “A Study of the Working and Living Conditions of MDWs in Lebanon: Intertwined: The Workers’ Side.” International Labour Organization, 2016. https://www.ilo.org/wcmsp5/groups/public/---arabstates/---ro-beirut/documents/publication/wcms_524143.pdf.

                  Jureidini, Ray. “In the Shadows of Family Life: Toward a History of Domestic Service in Lebanon.” Journal of Middle East Women’s Studies 5, no. 3 (2009): 74-101.

                  Khneisser, Mona. “Lebanon’s Protest Movement Is Just Getting Started.” Jacobin, November 7, 2019. https://jacobinmag.com/2019/11/lebanon-protest-movement-saad-hariri-arab-spring.

                  Lapavitsas, Costas. “Lebanon is a severe case of subordinate financialization that must avoid the IMF. Interview by Jude Kadri.” Monthly Review, March 6, 2020. https://mronline.org/2020/03/06/lebanon-is-a-severe-case-of-subordinate-financialization-that-must-avoid-the-imf/.

                  Lebanon Support, and Lebanese Women Democratic Gathering (RDFL). “A Historical Overview of Women’s Achievements in Lebanon.” Lebanon Support, May 3, 2017. https://www.rdflwomen.org/eng/a-historical-overview-of-womens-achievements-in-lebanon/.

                  Longuenesse, Elisabeth, and Paul Tabar. “Migrant Workers and Class Structure in Lebanon: Class, Race, Nationality and Gender.” HAL, June 2014, 21.

                  Majed, Rima. “The Political (or Social) Economy of Sectarianism in Lebanon.” Middle East Institute, November 7, 2017. https://www.mei.edu/publications/political-or-social-economy-sectarianism-lebanon.

                  Makdisi, Ussama Samir. The Culture of Sectarianism: Community, History, and Violence in Nineteenth-Century Ottoman Lebanon. Berkeley, CA: University of California Press, 2000.

                  Romero, Mary, Valerie Preston, and Wenona Giles, eds. When Care Work Goes Global: Locating the Social Relations of Domestic Work. London: Routledge, 2016.

                  Ross, Loretta J. “Understanding Reproductive Justice.” SisterSong Women of Color Reproductive Health, May 2006. https://d3n8a8pro7vhmx.cloudfront.net/rrfp/pages/33/attachments/original/1456425809/Understanding_RJ_Sistersong.pdf?1456425809.

                  Salti, Nisreen. “No Country for Poor Men: How Lebanon’s Debt Has Exacerbated Inequality.” The Carnegie Middle East Center, September 17, 2019. https://carnegie-mec.org/2019/09/17/no-country-for-poor-men-how-lebanon-s-debt-has-exacerbated-inequality-pub-79852.

                  Toupin, Louise. “The History of the Wages for Housework Campaign.” Pluto Press (blog), September 2018. https://www.plutobooks.com/blog/wages-housework-campaign-history/.

                  Traboulsi, Fawwaz. A History of Modern Lebanon. London: Pluto Press, 2007.

                  Traboulsi, Fawwaz. “Social Classes and Political Power in Lebanon.” Heinrich Boell Foundation - Middle East, 2014. https://lb.boell.org/en/2014/05/04/social-classes-and-political-power-lebanon.

                  Vogel, Lise. “Domestic Labor Revisited.” Science & Society 2, no. 64 (2000): 151-70.

                  Yasmine, Rola, and Batoul Sukkar. “In the Pursuit of Reproductive Justice in Lebanon.” Kohl: A Journal for Body and Gender Research, 4, no. 2 (2018): 151-172. https://kohljournal.press/pursuit-rj-lebanon