هي الأُخرى: عن بنات الأمّهات المسيئات، والصمت حيال الصدمة المتناقَلة عبر الأجيال في العائلات الهندية

السيرة: 

شهرزاد سيوبان هي أخصائية نفسية حائزة على جوائز، كاتبة، ومحفزة مجتمعية، وقد قامت بتأسيس وإدارة The Talking Compass (مجال الكلام)، وهي مساحة علاجية مخصصة لتقديم خدمات الإرشاد النفسي وإزالة الاستعمار من الرعاية في مجال الصحة العقلية. تُنشر أعمالها في مجلة "ميديوم"، "كوينت"، "فايس"، "هوفبوست"، "فيمينيستينغ"، "جوبيلات"، و"مجلة لندن" وغيرها. مؤلّفة كتب "لسان من عظام" (كتب كتالوج الفكر، 2015)، "الأب ، الزوج" (سالوبريس، 2016) و "كالي الأشد زرقة " (ليثيك برس، 2018). يمكنكم/ن متابعتها على تويتر عبر @zaharaesque. أو إرسال الشوكولا والجراء إلىها عبر nihilistwaffles@gmail.com، أو التغريد لها عبر @zaharaesque.

 
اقتباس: 
شهرزاد سيوبان. "هي الأُخرى: عن بنات الأمّهات المسيئات، والصمت حيال الصدمة المتناقَلة عبر الأجيال في العائلات الهندية ". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 6 عدد 2 (23 نوفمبر 2020): ص. 248-255. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 24 أبريل 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/255.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (402.68 كيلوبايت)
ترجمة: 

درست أمل الأدب الروسي ومارست عمل الترجمة لأكثر من 20 عامًا غطت خلالها طيفًا واسعًا من الموضوعات بما في ذلك الرياضة وأفلام الكرتون للأطفال والأفلام الوثائقية التاريخية والمسلسلات الدرامية والبحوث الإجتماعية والانثرويبولوجية وأما أبرز أعمالها فكانت في ترجمة البرامج السياسية التلفزيونية.

 

The Other her.jpg

The Other Her

Aude Nasr

تعرّفتُ مؤخرًا على التعبير الكوري "هان"، خلال نقاش مع صديقة آسيوية أميركية حول طفولتنا المتخبّطة في الخصام مع أهالينا. لأنّي معالجة نفسية، أُدرك أنّ تعرّض الطفل المُبكر للسعي إلى إحقاق توازن صعب في علاقة حبّ مشروط ينتج لديه/ا ارتباطًا عاطفيًا مشوّشًا في العلاقات الحميمة. أنا وصديقتي عانينا للحفاظ على علاقات صحيّة، ونجونا من عنف الشريك. كان علينا التعامل مع غياب الأب ومع أمّهات "صعبات" جمعتنا وإيّاهن علاقات مضطربة. كلتانا مُعالجتان نفسيّتان، وبهذا فإننا مُعالجتان جريحتان. في أحاديثنا اتفقنا كذلك على أن اللغة الإنجليزية التي نعتمدها في العلاج العيادي، عاجزة بل حتى مؤذية أحيانًا. لكن، لا يمكن تجنّب ذلك، خاصةً عندما نتكلّم عن الصدمات العائلية، بصفتنا طفلات من غير البيض أو من إثنيات مُختلطة. بإمكاننا التفكير في تكهّنات لا تحصى، لكن احتشاد الخسائر الجسدية والنفسية المجهّلة والمموّهة والمتدلّية منّا كأشلاء شبح، يهدّد بإغراق حدود التماسك في ذواتنا.

بينما كنا نستعيد حكايات علاقاتنا العاطفية السابقة، محقّقات بذلك النبوءة الدولوزية عن التكرار والقمع، تمتمتْ كلمة "هان" بشكل تلقائي. كلمة أحادية المقطع تشغل تفكيرها في الفترة الأخيرة، كخيط منسوج من معالم عاطفية لهويّتها نصف الكورية. "هان" كما تفسّرها تمثّل بطرق مختلفة ومجتمعة الألم والمرارة. إنها تتناوب مع نوعٍ خاصٍ جدًا من الأمل الذي لا يطفو بل يترسّب – يتزهّد أيضًا. قد تعني الحداد والتفريج. لكن أيضًا العجز وانعدام الرضا. حذّرتني أن هذه الكلمة غير قابلة للترجمة، مثل كلمة "saudade"، التي يستحيل اختصار معناها بمفردة واحدة.

تمامًا كتلك العلاقة التي تجمعنا بوالدتينا.

لا أعلم تمامًا إن كان لكلمة "هان" مثيلًا في لغة الأوردو أو الهندية – اللغات التي يتواصل من خلالها عقلي ولساني اجتماعيًا – بعيداً عن اللغة الإنجليزية. ذكّرني وصفها ببيت شعر دينيس ليفرتوف الخالد، في قصيدة "كلمات الافتتاح":

كن، محبوبًا، العالم بخطر

العالم الذي حاولتُ أن "أكون" فيه مع أمّي كان مُحبوبًا ولكن مُهدّدًا. هذا التناقض على الأرجح نتج من اضطراب تمثّل أمّي جوهره. على مرّ السنين، حاولتُ فهم تعقيدات وجودها في حياتي، دورها في كوني شُخّصت بالاكتئاب في بداية سنين مُراهقتي وما تبعها، المسار الطويل والوعر لعلاقة الأم بابنتها في الأسرة الهندية. حاولتُ أيضًا، بين وقت وآخر، قطع حبل الصرّة تمامًا فقط لأصبح مخلصتها الدائمة.

أخشى الكلام بصيغة الـ"نحن". يخيفني التجرّؤ على التعميم حتى عندما تكون نيّتي الكشف عن طبقات من العلاقات المستبيحة التي لا تعرف الجدود الشخصية والأذى والاضطهاد الذي تتشاركه كثيرات من النساء الجنوب آسيويات مثلي. ولكنّي أخشى أيضًا أن يكون مصطلح "الجنوب آسيويات" محدودًا ولا يعكس اتساع مظلة التقاطعات والهرميات المفروضة عليّ والتي شكّلتني. حتى أنّي لست واثقةً من أنّه بإمكاني نظم امتداد هويتي الاجتماعية كـ"جنوب آسيوية"، علماً أن كُل ما أعرفه عن أمّي يستبعد بعنايةٍ كلّ أصولي الرومية – النصف المنسيّ من سلسلة هويتي.

أخاف لأنّي لا أتحدّث عن هويات مصنّفة بدقّة. فأنا نصف رومية ونصف هندية. أنا المُقيمة في الهوامش ضمن الهوامش. أنا الذي يعّرفني الهروب؛ طوّرت في داخلي نظمًا للهروب لأضمن البقاء على قيد الحياة.

لطرفَي شجرة عائلتي تاريخ قهر لا يرحم. أعرف الآن أن الرعب يتجمد في المادة الجينية لوجودنا المطلق. أتحدّث بلغة مستعمري. مثل ضوء الغسق الأخير الذي ينحرف عبر أجنحة الطائر الطنّان هي توليفة طيفي، لا تُرى إلا عند منعطفات محدّدة وحتى حينها، لا بدّ أن يكون ما تبقّى منّي محجوبًا لأكشف ماضيًا ضبابيًا.

يرافق صوت الكاتبة الفلسطينية الأميركية سُهير حمد ليالي الألم العنيد – "العطب نسيج" (2008).

أمّي تحبّ الحياكة. كانت أسعد فترات طفولتي معها عندما نقوم بنشاط: الحياكة أو فنّ قصّ وتشكيل الورق أو تحليق الطائرات الورقية. طالما أنّنا كنّا بعيدتَين عن حالة السكون، كُنّا متوائمتين وفي أمان. أمّا القلق فكان جليس الظلام المُتجمّد لغرفتنا الصغيرة في منزل جديّ، وكان في أيّام أُخرى دمعة تلو دمعة تلو الأخرى.. تنهمر على وسادتينا ونحن نصف نائمات. في ليالي أُخرى، كان غضبها بعدًا وهي مُستلقية تمامًا بقربي. كبرتُ معتقدةً أنّ التغيير وعدم الاستقرار أبقياني آمنةً ومحبوبة، وآمنتُ بحاجتي للانشغال الدائم، العمل الدائم.. الهروب الدائم. فالهروب كان ملجأي.

أحياناً عندما ينسكب الماضي عبر ثقب انتكاسةٍ ما، أفكّر بأيّام كانت تختفي خلالها في بلدةٍ قريبةٍ للسيّاح مع زوجها الذي كانت تواعده حينها. كنتُ أرفض مغادرة فيء شجرة الحنّاء المتدلّية فوق رواقنا. كان جدّي وجدّتي يَعدانني بأنّها ستعود عندما أستيقظ في الصباح. في كلّ مرّة كانت تذهب فيها من دون أن تخبرني، كان قلبي يهوي عميقًا في أبشع كابوس خوف قد يعيشه طفل – إنّها لن تعود. أحد والديّ سيختفي للأبد. مرساة النجاة الوحيدة ستغرق دون أيّ أثر.

كانت تعود. أحياناً مع هدايا – قبّعة طفل صغيرة، أو تلك العصبات التي يضعها عازفو الفرق الموسيقيّة أو بعض أقلام خشب الصندل البرّاقة. أحيانًا، كنت أغضب وأهرب منها خلال نشاطات النهار، كحلقات الدخان البعيدة المتصاعدة من عود البخور. كان وجودها بأسره علامة استفهام متجمّدة في الزمن. كنت أخرج ملدوعةً بالصقيع في كلّ مرّةٍ حاولت أن أحلّ فيها ألغاز مزاجها المُتقلّب. كانت ألغازًا تتخطى مستوى وعيي كطفلةٍ في السابعة. بالرغم من سنّي الصغيرة، كُنت قد بدأت أُدرك النسيج الممزّق لأُصولنا العرقية والطبقية والجنسية.

x

الخزائن

وأخيرًا أتت "سين"، بعد أن تخلّصت من هوس تفتيش كلّ خزانة في منزلها عدّة مرّات قبل أن تنام. نسجّل عادةً عدد الأيام منذ "الانتكاسة" الأخيرة. جاءت لتلقّي العلاج لأنها كانت متأكّدة أنّ هناك مَن يتجسس عليها في الشقّة المجاورة. وبعد فترة وجيزة، اقتنعتْ أن الجميع في المبنى يتجسس عليها. حاولنا عبر عدّة جلسات تحديد عمق مخاوفها. أربكني ذلك لأنّي ظننت حينها وكأنّها أرادت لأحد أن يتجسس عليها فقط لتكون "مرئية". كنت شاهدة متعاطفة. أمّا هي، فكانت مرتابة بشكل خاص من الخزائن. أجرينا تقييمًا عياديًا وتشخيصات عدّة لنعرف إذا كانت تعاني من الفصام، لكن لم يكن الأمر كذلك باستثناء قلق حادّ وعلامات اضطراب ما بعد الصدمة. بعدما عبرت بسلام من تلك الانتكاسة، جلست متوتّرة ترتجف في صمت شبه تام، بينما كانت تروي عن طفولتها المثقلة بإساءة والدتها، التي شُخِّصت لاحقًا بمرض الفصام الارتيابيّ. تذكّرت فترات العنف الجسديّ التي تخلّلها صنع وتناول الحلوى المفضّلة لديها؛ تأرجحٌ مضطربٌ بين الألم والاهتمام. لم يرد أبوها الهنديّ المتحدّر من الطبقة العليا إشهار "جنون" أمّها، كي لا يعرف أحد من خارج العائلة ما يجري داخل تلك الجدران الأربعة. بينما اعتبر جدّيها أن عملية ولادتها كانت السبب في "تلبّسها". لم تكن وحوش "سين" تحت السرير لأنها غالبًا ما كانت تختبئ هناك، هربًا ممّا قد تفعله بها أمّها في وضح النهار. أحيانًا كانت تختبئ في الخزائن لتُسحَب من هناك من شعرها. لم تعد "سين" طفلة. إنها مربّية ذكية شابّة. ليست لديها علامات الفصام، بيد أن احتمال انتقاله إليها عبر جيناتها لا يزال يؤرّقنا. لقد استغرقنا عدة سنوات من العلاج لجعلها تتصالح مع الحقائق المتناقضة، وهي أنّه بمقدار ما كانت أمّها ضحية لظروفها، كانت أيضًا عنيفة ضد طفلة عاجزة. استغرق الأمر بضع اكتشافات للتوصل إلى حقيقة بأن صدمتها ليست شخصية وحسب، بل إنها أيضًا عابرة بين الأجيال، وأن أمّها كانت عاجزة بقدر ما كانت مؤذية، وأنه لا بأس أن تشتاق وحتى تتوق إلى تلك اللمحات من الذاكرة، التي تظهر فيها أمّها كراقصة رشيقة، أو والدة محبّة تقوم بتزييت شعرها في عطلات نهاية الأسبوع، ولا بأس في أن تكون هذه الصورة لأمها بشعة أحيانًا، لكن هذا لا يخليها من المسؤولية تمامًا.

x

اعتبرت مارشا .م. لينيهان (1993)، الطبيبة النفسية الأميركية التي ابتكرت العلاج السلوكيّ الجدليّ – والذي يُعتبر الشكل الأكثر فعالية للتدخّل العلاجيّ لمرض اضطراب الشخصية الحدّية – أن هناك خمسة توجيهات تشكّل أجزاء المنحنى العلاجي، كنت أرى أمّي تصارع غالبًا توجيه "تحمّل الإحساس بالضيق"، فقد كان مقدار تحمّلها وإدارتها للضيق مشوّشًا.

الضيق كلمة ثقيلة عندما تكون في الحادية والعشرين من عمرك، ومن طبقة متخلّفة وأمّ عازبة في الهند ومنبوذة داخليًا وخارجيًا. هذا كان عمر أمّي عندما حملتني في أحشائها.

الضيق هو رد الفعل على الإهمال وتلطيخ السمعة وتحطيم أقصى طموحاتك لأنك لوحدك تمامًا.. الأجنبي الذي تزوّجْتِه وتركَكِ من دون أثر يدلّ على عودته.. التخلّي عنك أثناء حملك الأول ودخول المستشفى وحدك عندما تخرج ماء الرأس. خلال البحث عن تاريخ كلمة الضيق، وجدتُ لها جذورًا متعددة: الفرنسية القديمة destrecier (الكبح، التقييد، أن تكون في ضائقة، بلاء) – الفرنسية الحديثة détresse – اللاتينية في العصور الوسطى districtiare / distringere (الانسحاب الى الأسفل، التمدّد).

فالكلمة مركّبة من dis ("بعيدًا") + stringere ("أن يشدّ، يضغط").

أي رسم خطوط حول الشخص، وعبره، وعبر شخصيته. تعجّ الميثولوجيا الهندية برسوم لخطوط حول النساء لحمايتهن، ولكن في الحقيقة وبعد التدقيق هذه مجرّد أدوات تآمريّة لأسرهنّ، وتحوير الأمر لشكل من أشكال الفتح الذكوري. في بحثه الرائع "ملاحظات حول الصنعة" (2017) يسجّل الروائي آنوش إيراني كيف أنّ حركة الحكاية يجب أن تُدار نحو الشفاء وليس الخلاص. لكن الشفاء ليس مألوفًا في هذه الحالة، فالنساء الملوّنات عليهن تحمل أعباء خلاص الجميع.

شخص أمّي كان دائمًا فريسة للتجريد من الإنسانية. كات رياضية متفانية لكنها لم تتمكّن من الظهور في جولة الاختيار للألعاب الوطنية، لأنها لم تحصل على شهادة الطبقة الاجتماعية (التي انتمت إليها) في الوقت المحدّد، ولأن والدها عارض مشاركتها. لم يكن محافظًا، إنّما أراد حماية ابنته من الإذلال المرتقب على يد مسؤولي اختيار الرياضات والمنتمين للطبقة العليا. كان جمال أمّي جمالًا خالصًا، فباتت تعادل ملكيةً يحاول رجال الطبقة العليا اقتناءها. وفي النهاية، أذعنت لتلك المحاولات، لتعاني فيما بعد من العنف من قِبل زوجها – رجل من الطبقة الاجتماعية العُليا، اقتلع طفولتي ثم دفنها في مكبّ الصدمة الجسدية والعاطفية. المكبّ الذي تكدّست فيه أيضًا صدمات أمّي، التي تصرّفت وكأنها تعاني من متلازمة ستوكهولم، فتقبّلت واستسلمت لوحشيّته. أمّي التي كانت بوصلة ترشدني وسَوطًا يجلدني طوال طفولتي ومراهقتي.

عندما أنظر إليها الآن، أستطيع حشد كل التعاطف نتيجة العمل الذي كسر ظهرها وجعل وجودها فتيلًا اشتعل وذوى. ومع ذلك، أثناء معاناتي من معايير التشخيص والتكهّنات الرديئة ولعبة الأخذ والرد العنيفة مدى الحياة مع اكتئابي واضطراب المناعة الذاتية، لم يسعني إلا أن أصبّ جام غضبي على عدم قدرتها على حمايتي أو حماية نفسها.

تعيش أمّي مع مرضٍ غير مُشخَّص يظهر بشكل اضطراب الشخصية الحدّية، ويترافق مع علامات الاضطراب ثنائيّ القطب. مرضها غير مشخَّص لمجرّد غياب الورقة الرسمية التي تثبت ذلك. أعمل يوميًا في مجال إعادة التأهيل العلاجيّ وأنا مدرَّبة على اكتشاف موجات المدّ والجزر في السلوك البشري. تنسجم حالتها مع التصنيفات النفسية العيادية، ولكن عندما أفكر في ذلك لا أعرف ما قد يعنيه بالنسبه إليها أو إذا كانت توافق عليه أصلًا.

نتحدث كثيرًا عن الضيق والاضطراب العاطفي عندما نفكّر في طيف "اضطرابات المزاج" التي تشمل الاضطراب ثنائي القطب الأول والثاني. إن كلمة اضطراب في حدّ ذاتها هي نقطة خلاف بالنسبة لي، لأنها فشلت في دمج الأطراف المختلفة للسببية بشكل كامل، واكتفت بمعالجة كلّ منها على نحو فردي بشكل كبير. تتراكم عملية محو الوقائع الاجتماعية الثقافية. يمكننا علاجها كما عولجتُ أنا في السابق لكن هل سيكون هذا كافياً لها في أن تدرك السُمّية التي وجهتها نحوي خلال حياتي بهدف نفي وإثبات وجودي؟ هل سيكون هذا كافيًا لأغفر لها؟

كانت أثناء النقاشات المحتدمة، عندما تغلب نوبات غضبها الخفي عدوانيتها السلبية، تنفجر ألمًا وتعترف بالضرر الذي ألحقته بي، وبأنه لم يجدر بها أن تطلب منّي الصمت حيال تعرّضي للاعتداء من قِبل زوجها. أتأرجح معها أثناء صعودها وهبوطها إلى الأعماق السحيقة لشخص الضحية الذي فيها ولحاجتها العارمة للتأكيد بأنها كانت تعنّفني. أشكّ في أنها تمقتني لكوني أذكّرها بوالدي. الرجل الذي لم يُغفَر له فعليًا. تصرخ غضبًا لتخبر عن أكثر الفترات المروّعة في حياتها حين قاست من أجل البقاء على قيد الحياة، عندما كانت تتخلّى عن لذّتها الحقيقية، فنجان شايها الوحيد من أجل حصّة الحليب المخصص لي كطفلة. تلومني على كلّ شيء وفجأة يرن الهاتف لتردّ بصوت عادي جدًا، وكأن هذه النوبة التي سبقت رنين الهاتف كانت ضربًا من الخيال.

x

القطط

التقيتُ و"بي" ضمن مجموعة لقراءة الشعر. لاحقًا، أسرّت لي أنها كانت شاعرة نمت موهبتها بشكل متأخّر، ولكن كتاباتها اقتصرت على حساب "تمبلر" مغلق. كانت قد بدأت علاجًا قبل بضعة أشهر من ذلك اللقاء، لأنها كانت تقارع ضغط فصلٍ مرهقٍ في مدرسة الطب. لطالما أذهلني وضوحها بشأن دوراتها الاكتئابية. كانت رزينةً ولكن ليست من دون مشاعر، على الرغم من أن ذوبان الجليد تجاه الإفصاح الكامل استغرق عدة أشهر. في أحلك أحوالها، روت كيف كانت متفوّقةً في امتحاناتها في الصف الخامس ابتدائي، وكيف قدّمت شهادتها لأمّها، وكيف صدمها رد فعل أمّها الأول – "أهذه ضربة حظ؟ أواثقة أنّك لم تغشّي؟"، تلك كانت صفعة الشكّ القاسية عوضًا عن الاحتفال والتقبّل. ترعرعت "بي" في منزل لعائلةٍ ليبرالية مُسلمة في الهند وكانت محكومةً بمشيئة أمّها. تألّقت "بي" من خلال انتصاراتها الأكاديمية، لتجد لاحقًا أنّ كل إنجاز يتحول إلى هدف متحرّك، ولم تكن أمّها راضية عن إنجازاتها. عانت "بي" من القدرة على رؤية الجدوى في الأمور المعتادة والمألوفة من عناصر حياتها الأساسية التي لا تركّز على توقّعات أمّها. تبنّي ورعاية القطط كان العمل الأول الذي لم تقيّم الوجود فيه بمقياس "الانتاجية". تدّعي أن القطط علّمتها كيف تعثر على شطّ الأمان، دون النضال لأجل العثور على أي قيمة. "بي" الآن في أواسط عشرينياتها، وبينما تترك بلدًا يربط هويتها الاجتماعية بالعنف الطائفي، إلى آخر يترتب عليها فيه أن تكون غريبةً وأن تتقدّم نحو تحقيق أهدافها المهنية، مازالت "بي" تعاني من أجل فهم ما الذي شكّل ميل أمّها الديكتاتوري. إنها تعزف عن نَسب ذلك إلى التأثيرات الواضحة للدين أو التقسيم الطبقي الاجتماعي، على الرغم من أنها تعترف بوجودها. لقد اختارت للآن ترك تلك العقدة في إطارها الذي بدا متحجّرًا. لا أضغط عليها من أجل تغيير ذلك. حتى الآن.

في كتابها "الصدمة والتعافي" (1992)، تشير جوديث هيرمان بوضوح: "لا بُدّ أن تكون الناجية هي المؤلّفة والحكم على شفائها الخاص".

x

هذه بعض الحقائق المدعّمة بالأبحاث حول النساء عامّة، والنساء الهنديّات على وجه التحديد وانتشار حالات أمراض الصحة العقلية بينهنّ.

  1. واحدة من بين سبع نساء في الهند أُصيبت باضطرابات نفسية بحدّيةٍ مُتفاوتة في عام 2017. تضاعفت نسبة الاضطرابات العقلية مقابل إجمالي الأمراض في الهند منذ عام 1990 تقريبًا. (فاكرام وآخرون. 2006)
  2. لوحظ إصابة النساء أكثر باضطرابات الاكتئاب: وذلك بالنسبة للإصابات الحالية (إناث 3.0٪، ذكور 2.4٪) وإصابات مدى الحياة (إناث 5.7٪ ، ذكور 4.8٪) للاضطرابات العصبية والمتعلقة بالتوتّر. (المرجع نفسه).
  3. تصل نسبة الاضطرابات الاكتئابية إلى قُرابة الـ 41% من الإعاقة بسبب الاضطرابات العصبية والنفسية لدى النساء، بالمُقارنة مع 29.3% لدى الرجال في الهند. (مالهوترا، المرجع السابق. 2015).
  4. يتراوح معدل انتشار العنف ضد المرأة مدى الحياة من 16% إلى 50%. (المرجع السابق)
  5.  خمس نساء على الأقلّ يُعانين من الاغتصاب أو محاولة الاغتصاب في حياتهنّ. (مراكز الوقاية والحد من الأمراض CDC، 2010)

أمّي أكثر من مجرّد إحصائيات. أنا أكثر من مجرّد إحصائيات. مرضاي أكثر من مجرّد إحصائيات. ولكن غالبًا ضمن نظام الرعاية الصحية العقلية في هذا البلد، فإننا لسنا حتى أرقاماً، ولسنا حتى تلك النقطة التي بلا وجه أو اسم على الرسم البياني. نعيش في فراغ ونموت في فراغ أيضًا.

هذا الإفراط في تبسيط نظام الصحّة العقلية يخذلنا، نحن اللواتي نحمل صدمة أن نكون بنات أمّهاتنا، لأنه نظام يتجاهل عمق الأبعاد الاجتماعية الثقافية لمعاناتنا. لستُ امتداداً لأمّي ولكنها مطبوعةٌ في كلّ مكان من عالمي، بطريقةٍ لا تقبل الجدل ومن خلال بصمة دائمة. الكثيرات من النساء اللواتي تعرّضن لسوء معاملة الأم، يعانين في فهم أنماط سلوكهنّ بالمقارنة مع سلوك أمهاتهنّ. لهذا الألم إيقاع مستمر. تفشل تصنيفات معيّنة في إطار الطب النفسي، خاصة الاضطرابات الشخصية، في مراعاة المفردات الثقافية للعزلة. هذا ما أشعر به عندما أنظر إلى تاريخي المشترك مع أمّي – سلسلة من الرسومات الوحيدة المرسومة على صفحات متتابعة من دفتر ملاحظات. رسومات تتحرك عندما يبدأ أحدهم بقلب الصفحات بسرعة، كلّما أمعنتَ النظر، دبّت فيها الحياة أكثر. كما عبّرت إحدى مريضاتي بشكل مختصر قائلة – "أريدُ أن أتواجد في مكان خارج قنّ الدجاج المليء باللوم والغضب حيث أمّي وأنا". يُنظر إلى حالاتنا على أنّها مظاهر إخفاقات شخصيّة، بينما في الحقيقة نحمل عبء الكثير من الأجيال على كاهلنا، والتي تبدو للآخرين كأطياف في أحسن الأحوال أو كأشباح في أسوأها. ما نحتاجه هو التفريج عن تجاربنا المشتركة، بحيث ندرك أننا لسنا محتجَزات في وجع قلب طفولتنا. ما نريده هو أن نعلم بأن الغفران فعل ناقص، الأفعال هي تلك التي يمكننا إعادة بنائها في خضمّ تمكّننا من لغة التعبير عن وتقييم الألم والأذى، وهي لغة غير متجذّرة دائمًا في علم الأمراض.

 

ملحوظات: 
المراجع: 

India State-Level Disease Burden Initiative Mental Disorders Collaborators. “The burden of mental disorders across the states of India: the Global Burden of Disease Study 1990–2017.” The Lancet, February 2020. https://www.thelancet.com/journals/lanpsy/article/PIIS2215-0366(19)30475-4/fulltext

Irani, Anosh. “Notes on Craft.” Granta. December 2017.

Levertov, Denise. “Opening Words.” The Collected Poems of Denise Levertov. New Directions, 2013.

Linehan, Marsha M. Cognitive-Behavioral Treatment of Borderline Personality Disorder. New York: Guilford Press, 1993.

Hammad, Suheir. “(wind) break (her).” breaking poems. Cypher Books, 2008.

Herman, Judith. Trauma and Recovery. Basic Books, 1992.

Malhotra, Savita, and Shah, Ruchita. “Women and mental health in India: An overview.” Indian Journal of Psychiatry, 57(2): 205-211. 2015. https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC4539863/

National Center for Injury Prevention and Control, and Divison of Violence Prevention. “National intimate partner and sexual violence survey.” Centers for Disease Control and Prevention (CDC), 2010. https://www.cdc.gov/violenceprevention/pdf/NISVS_Report2010-a.pdf

Patel, Vikram; Kirkwood, Betty; Pednekar, Sulochana; Weiss, Helen; and Mabey, Helen. “Risk factors for common mental disorders in women: Population based longitudinal study.” British Journal of Psychiatry, 2006. http://www.sangath.in/wp-content/uploads/2015/08/risk_factors_for_common_mental_disorders.pdf