اللا-مستقبلية الكويرية: ملاحظاتٌ في النظرية والممارسة
seed_website_ar.png

سارة السرّاج - بذور
نحن لا نكتب فُرادى. فالوجود خارج العزلة ليس حالةً عاطفية طارئة، بل شرطٌ وجودي يتشكّل عند تقاطع الزمان بالمكان. بين الجماعة، يظهر ما يتجاوز الجسد، وإن كان أوّل ما نختبره فيه شعورًا حسّيًا خالصًا، سابقًا للّغة والتأويل. حتى في أكثر أشكال التباعد حداثةً – الاجتماعات الافتراضية، الأرشيفات غير الملموسة، ومحاولات تخيّل ما لم يتجسّد بعد – نظلّ نكتب من داخل حضورٍ جمعي، تُعيد خلاله العلاقة مع الآخرين تشكيل الفكر والمعنى. ثمّة سرديّات تاريخية تحرس وجودنا، وأخرى لم تولد بعد، نُستدعى نحن لاستحضارها إلى حيّز القول. لهذا، لا تُكتب النصوص في حضرة الحاضر، ولا تتكوّن في زمنٍ صافٍ يُدعى "الآن". فالكتابة، في جوهرها، فعلٌ مؤجَّل: تتغذّى من الماضي، وتُخاطب مستقبلًا لم يصل بعد، ونادرًا ما تستقرّ في قلب اللحظة التي تدّعي الانتماء إليها.
لا أكتب منفرد.ة.
أنا في حوارٍ دائم، لا نهائي، مع "الأشباح" – بحارٌ من الأصوات والتفاعلات التي تسكن النصّ قبل أن يُكتب.1 أسلافي الذين نجوا من إبادةٍ تنتمي إلى زمنٍ سابق، والذين قاوموا بأجسادهم رأسمالية مجندرة للدولة القومية ما بعد الاستعمار؛ أولئك الذين تخيّلوا مستقبلًا كويرياً مناهضاً للاستعمار، مستقبلًا قد لا يتجلّى أبدًا. ودوائر الرفاقية البائدة، التي نجد أنفسنا اليوم في قلبها، والتي تمنحنا شيئًا من المعنى، ومن صفاء الذهن، ومن القدرة على التركيز، ليست هامشًا في هذا النصّ، بل مركزه النابض. فأنتم، أيها القارئون، الذين وجدتم في هذه المجلّة حيّزًا للانكشاف السياسي، أنتم الجماعة التي أحاورها.
والأهمّ من ذلك كلّه، أنّ هذه الكلمة الافتتاحية، وما سيليها من كتابة، تنبع من ثلاث سنواتٍ من التفكّر المُضني في اللا-مستقبلية الكويرية،2 عند منتهى التاريخ. تَفكّرٌ جرى داخل دوائر نقاشٍ متعاظمة شاركت فيها "عصبة متآمرة" من رفاقٍ يكتب بعضهم في هذا العدد، إلى جانب رفاقنا الفلسطينيين، وفريق تحريرٍ حميم صمَد، ودفَع بالعمل قدُمًا، رغم عاصفة الفظائع، ومن دون وهم القدرة على تجاوزها.
الشبح: أحبّكم، يا رفاقي ويا أهلي،
يا من لا خيار لكم
إلّا أن تنتزعوا قصائدكم
من رحم المستقبل
بدأ هذا العدد من "كحل" كحلقة كتابة عُقدت في أوائل عام 2023، فيما كنّا نسمّيه آنذاك "نضالٌ كويري نحو عوالمَ جديدة". كان عددنا كبيرًا جدًا – لا يقلّ عن أربعين قلم! – حتى اضطررنا إلى تقسيم الحلقة مجموعتين؛ كلّ واحدة اجتمعت مرّتين في الشهر على مدى ثلاثة أشهر تقريبًا، على أمل تحويل كِلا الفضاءين إلى منشورٍ ملموس قبل نهاية ذلك العام نفسه. اتّبعنا المنهجية ذاتها التي استخدمناها سابقًا، في بيروت عام 2019 لعدد "النسوية الكويرية"،3 ثم عبر الإنترنت، خلال الإغلاقات المتكرّرة بسبب جائحة "كوفيد"، للعدد الخاص بـ"الأرشيف المضادّ".4 كنّا نجلس في دائرة، ونترك النقاش يزعزع مساحات أماننا المزعومة. لا نرسم معالم النقاش بل يرسمنا هو بقوّة دفعٍ جماعية. بالتالي، لا يقتصر المشروع الكتابي الشخصي على كونه "جزءًا" من العدد، بل هو خلاصةٌ لحوارٍ مباشر مع نصوصٍ أو مشاريع نصوص أخرى، كما لو كانت كلّها مكوّنات عضوية في منتظمٍ حيّ نابض. وفي النهاية، تُلهم جولات المجموعة محاور تمارين الكتابة الجماعية. تظهر أحيانًا شذراتٌ من الكتابات الجماعية التي جمعناها في الدوائر في مقدّمة العدد هذه بوصفها "أشباحًا".
الشبح: لم يعد في داخلي من قوّة لأحلم بالمستقبل.
اشتدّت الإبادة في غزّة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023. وبدلًا من المضيّ نحو إصدارٍ للنشر، عدنا إلى اللقاء في دوائر، مطلع عام 2024، إذ بدا أنّ أيّ تصوّرٍ للمستقبل – مهما كان كويريًا أو راديكاليًا – قد أصبح، في تلك اللحظة، غير محتمل. لم نعد نعرف ما الذي يمكن فعله بعددٍ يحمل عنوان "نضال كويري نحو عوالم جديدة" ويطلب إرسال تصوّرات مستقبلية كويرية، في زمنٍ غدا فيه الزمن المستقبلي بذاته غير قابلٍ للتخيّل. بل إنّ مجرّد الحديث عن مستقبلٍ ما، أيّ مستقبل، بينما كان الفلسطينيون يُبادون، بدا فعلًا جارحًا ومتواطئًا، كأنّه ينسجم، عن غير قصد، مع المنطق القسري للكيان الاستعماري الإبادي ورؤيته المفروضة للمستقبل.
عليه، وضَعنا العدد بأكمله على الرفّ.
الشبح: ثمّة رعبٌ عميق، واختناقٌ مكتوم، يلازمان كلّ محاولة للتفكير في المستقبل. كيف يمكن تخيّل تشييد مستقبلٍ ما، فيما غدا الحاضر ذاته غير محتمل، ولا نرجو منه سوى أن يتوقّف، أو أن يمنحنا فسحةً لالتقاط الأنفاس؟ إنّ العجز عن استيعاب الحاضر الذي نرزح تحت نيره ليس أمرًا عارضًا، بل هو محصّلةُ استحالةِ المستقبل بوصفه فكرةً تمرحلية صيغت عمدًا، وخُطِّط لها على أيدي مضطهِدين متعطّشين للدم والمال. تكشف اللاتمرحلية الكويرية كيف جرى اختزال الزمن إلى أداةٍ للهيمنة. وأنت تعرف، وتتذكّر، أنّك حاولت – كما حاول من سبقوك – مجابهة تلك المخطّطات الزمانية. وربما لهذا السبب تحديدًا، وبهذه الكيفية الهشّة والعنيدة في آنٍ معًا، ما زلتَ هنا على قيد الحياة.
ثمّة قدْرٌ من السذاجة في مفهوم المستقبل اللاتمرحلي الكويري5. فنحن، بوصفنا كويريين مناهضين للاستعمار والرأسمالية، كثيرًا ما تحدّثنا عن المستقبل كما لو أنّه ملكٌ لنا، وكأنّنا قادرون على إحالته إلى واقعٍ ممكن، متناسين أحيانًا حجم ووتيرة الأزمنة الإبادية القادمة والمتسارعة. لم يكن المستقبل يومًا مشروعنا؛ كان مشروعهم منذ البداية. وعلى الرغم من قرونٍ من المقاومة، ما زال هذا المشروع يغزو الحاضر، هنا والآن. الآلية نفسها تدور في حلقاتٍ متكرّرة لا تنتهي، تغدو أحيانًا فاضحةً إلى حدٍّ يستحيل تجاهله. وفي تلك اللحظات، ندرك أنّ الزمان بتصوّره الخطّي لا يعبّر عن جوهر الزمن، وأنّه يمتصّ ما تبقّى لنا من موارد محدودة ويقوّض قدرتنا على الفعل.
الشبح: المستقبل يستمرّ في التدحرج نحونا، يدوس على كلّ هذه الانقطاعات، على لحظات الصراخ هذه، على كلّ تلك "الاحتجاجات الطارئة" التي نظّمناها حين قُصف مستشفىً آخر. متى توقفّنا عن تلك "الاحتجاجات الطارئة"؟ نجتمع كلّ أسبوع في اعتصام، أو فاعلية أو تظاهرة، لكنّنا لم نعد نتحدّث عن الطوارئ بعد الآن، رغم أنّ كل دقيقة، وكل ثانية تمرّ، تصرخ بحقيقة عاجلة لا تُطاق.
إنّ النظرية الكويرية المتوارَثة من بُنى الهيمنة، والمنبثقة من أماكن بعيدة، من قلب الإمبريالية نفسها، ناقشت لعقودٍ قدرة المستقبل على التجدّد والإنتاج، ساعيةً إلى إقناعنا بأنّ "المستقبل" و"اللا-مستقبل" مشروعان متمايزان. فالأول يُنشّطه الخيال الراديكالي، فيما يدعو الثاني، على نحوٍ استعجالي، إلى تدمير أيّ نسيجٍ اجتماعي مألوفٍ لنا.6 وقد استحوذ هذا النقاش على حيّزٍ واسع، شأنه شأن كثيرٍ من التنظيرات القادمة من الغرب، إلى حدّ أنّنا – نحن المفكّرين الكويريين المناهضين للاستعمار، الذين نفكّر انطلاقًا من موروثٍ فكريٍّ آخر – وجدنا أنفسنا، وأنا منهم، مضطرّين إلى إدراج ذواتنا داخل هذا الحوار، أحيانًا على حساب معارفنا الخاصة.
غير أنّ أخذ تعاليم المقاومة المناهضة للاستعمار في فلسطين اليوم بعين الاعتبار يكشف أنّ "المستقبل" و"اللا-مستقبل" لا يشكّلان ثنائيةً صريحة. إنّهما، على العكس، امتدادٌ متواصل للفكر والممارسة المناهضة للاستعمار، حيث يغدو لزامًا علينا الاتّكاء على أخلاقيّة الزوال – أخلاقيّاتنا الخاصة، وأخلاقيّة العوالم التي نسعى إلى استحضارها – وعلى تحرير أنفسنا من أنظمة السلطة، من دون التخلّي عن الأرض، ولا عن جيوب الحياة والمقاومة التي تحتضنها. إنّ شمولية الاستعمار والرأسمالية اللامتناهية هي ما يجعلهما قاتلَين. منظومةٌ لا يمكن أن نضاهيها، ولا ينبغي لنا أن نحاول مطابقتها. من هذا المنطلق، يمكننا تعريف اللا-مستقبلية الكويرية، ليس باعتبارها مشروعًا للاستحواذ على السلطة أو الأرض، بل كفعلٍ مستمرٍّ لإزاحة مراكز الهيمنة، بحيث تبقى أنظمتنا البيئية، السلالية والجماعية، حيّة. وفي كثير من النواحي، اللا-مستقبلية الكويرية هي ما تخلق الشروط المادية لأي مستقبلٍ مناهض للرأسمالية والاستعمار.
الشبح: ما الدور الذي تؤديه اللاتمرحلية الكويرية حين نفهمها في سياق الامتداد الاستعماري الطويل لعالمٍ لا مفرّ منه؛ عالم ليس هو نفسه الحتمية (التي كثيرًا ما تولّد اللامبالاة والعدمية، بل وحتى ثنائية الأمل واليأس)، بل تجربة للزمن تُستحدث ويُعاد إنتاجها بواسطة أدوات وتقنيات الاستعمار ذاته؟
عدنا إلى نشر هذا العدد صيف عام 2025، وأعدنا تسميته "اللا-مستقبلية الكويرية" بدلًا من "نضال كويري نحو عوالم جديدة". ورغم التغيير في الإطار المفاهيمي، اختار بعض المؤلّفين الانسحاب من مساهماتهم، غالبًا لأنّهم لم يستطيعوا التوفيق بين ما كتبوه قبل تصاعد الإبادة وبين الفظائع الجارية اليوم. أما الغالبية، فقد أعادت النظر في نصوصها أو أعادت كتابتها بالكامل، محاولةً إحداث مسافة بين الحلم القديم والواقع الموحش. في الوقت نفسه، أرسل إلينا عدد كبير من المؤلّفين من خارج دائرة الكتابة كتاباتهم بشكلٍ تلقائي، وقد شهد هذا العام أكبر عدد من المساهمات، رغم أنّنا لم نطلق أي دعوة مفتوحة، ما جعل هذا العدد الأكبر حتى الآن. تُركنا أمام دهشة صامتة: لم نكن نعرف كيف نفسّر ذلك، في ظل الإبادة المستمرّة في غزّة واتساع الحرب الاستعمارية ضمن جغرافية المنطقة.
لكن هذا الاندفاع بهذا القدر من الالتزام والإرادة، عزّز إرادتنا نحو الفعل. سألنا أنفسنا: لماذا الآن؟ ما الذي تغيّر؟ وما هي الظروف التي جعلت نشر عددٍ حول سؤال المستقبل وتمرحلياته ليس ممكنًا فحسب، بل مرغوبًا أيضًا؟ أسئلة تقودنا إلى مراقبة الحاضر بعينٍ يقظة، وإعادة رسم المستقبل على الرغم من كلّ الظلام، وإدراك أنّ الفعل الكتابي يمكن أن يكون شكلًا من أشكال المقاومة، مهما بدا هشًا أو مؤقتًا.
الشبح: إن لم يكن من أملٍ فتبّاً للأمل – لم يبقَ إلا التمرّد، مرّةً أخرى على الأقلّ وإن كانت الأخيرة.
على المستوى الخطابي، لا تُفهم الّلا-مستقبلية الكويرية بوصفها حيّزًا نظريًا مجرّدًا، بل باعتبارها فعلًا سياسيًا مناهضًا للاستعمار في جوهره. فالمشروع الاستعماري يقتل بالجملة، لا لمجرّد الإبادة، بل بغية القضاء على أيّ بنية مناهِضة للاستعمار، أيّاً كان شكلها أو موضع تشكّلها. غير أنّ المفارقة، كما تُظهرها تجارب مقاومة الاستعمار في فلسطين وغيرها من السياقات التاريخية، تكمن في أنّ المناضلين يموتون لكي تحيا الهوية المناهضة للاستعمار، تلك التي نُسجت في ما بينهم، ومن خلال علاقتهم ببعضهم وبالأرض والزمن. وعليه، يغدو الموت – وما بعد الموت – منبرًا نتكلّم منه، ونفكّر عبره، لنحيا على نقيض ما خُطِّط لنا أن نحياه.7
حين نُواجَه بدمارٍ بهذا الاتساع، قد يبدو الحديث عن اللاتمرحلية الكويرية سذاجةً محضة. لكنّني، كما كثيرين غيري، متعب.ة من مواعظ الكويريين والبيئيين والمناهضين للامبريالية الغربيين الذين تنبّؤوا بـ"نهاية العالم" بيقينٍ محتومٍ في الفنّ والأدب – إلا أنه يحدث بالفعل في أماكن أخرى، بينما نتحدّث. لقد كان يحدث لعقودٍ وقرون قبل أن يلحق به الخيال العلمي والفنّ التجريبي والنظرية الكويرية. وكما فعل أسلافهم من الإداريين الاستعماريين والمبشّرين والمنظّرين العرقيين، يعودون اليوم من داخل المؤسسات المعرفية الاقتلاعية نفسها، بنبرة التفوّق الأخلاقي والمعرفي، ليلقوا علينا المحاضرات، ويطالبوننا بالتعاطف، فيما يستخفّون بمعاركنا وبالطرق التي نختارها لنقاوم.
الشبح: هل ستُصدر المؤسّسة بيان تواطؤٍ مختومًا؟
هل ستُقنّن استعمارها الجاري في نشرةٍ رسمية؟
هل ستُصدر بياناً لعدم-عدم التمييز؟
ربما علينا أن نكون سُذّجًا كي نجعل هذه اللاتمرحلية الكويرية ممكنةً. وربما كانت السذاجة، على غير ما يُظَنّ، إحدى الأدوات القليلة المتبقّية في ترسانتنا السياسية، تلك التي لم تُستلَب بعد، ولم تُروَّض، ولم تقع في قبضة أسيادنا المستعمِرين.8 نحن سُذّج، نعم، لأنّ لنا معركة نخوضها، نحو عوالم حرّة لم تُرسَم خرائطها بعد.
يُصوَّر المخيال الراديكالي، في الغالب، بوصفه مجرّد سذاجة، وباعتباره منفصلًا عن "المعطيات الموضوعية" لما يُسمّى بالحالة على الأرض. غير أنّ هذا الاتهام ليس سوى امتداداً للهذيان الاستعماري نفسه، وإعادة إنتاجٍ لنمط تفكيرهم هم، ذاك الذي لا يستمدّ مشروعيته إلا من سردياتهم المصطنعة،9 ومن تصوّرهم الأحادي لما هو واقعي وممكن. فإذا كان المخيال الراديكالي يُتَّهَم بأنّه يُقصي المستقبل، فلعلّ ذلك لأنّه، على العكس، متجذّر بعمق في اليوميّ المعاش، وفي راهن الفعل المقاوم.
الشبح: أؤمن بالفعل المقاوم، ولا أراه عقيمًا، بل ربما لم أعد أخشى عُقمه.
في صميم نضالنا لتفكيك معطيات الزمن الاستعماري، وفي قلب تنظيمنا الرامي إلى تقويض أسس القوى المهيمنة، نتّكئ على هذا المخيال ذاته. إنّ السعي إلى القضاء على النظامين الاستعماري والرأسمالي هو فعلٌ متجذّر في المخيال الراديكالي، كما أنّ التطلّع إلى إنهاء الإبادة، بأيّ ثمن، ليس سوى تعبيرٍ صريح عن خيال راديكالي. وإعادة طرح سؤال حقّ العودة للفلسطينيين، في ظلّ المعطيات الراهنة، يبيّن لنا أن العودة تنتمي إلى نسيج هذا المخيال. أمّا النظر إلى العودة بوصفها مسألة كويرية تحرّرية – كما طرحتها سارونا أبوعكر في كتابها عام 2020، وتبنّاها كثير من الفلسطينيين الكويريين – فلا يتعلّق بوجهة العودة أو مسارها، بل بالعودة ذاتها بوصفها حقًا غير قابلٍ للتنازل.
سارونا: أدفع بالعودة إلى الأمام ليس كسياسة عليها انتظار سيرورةٍ مستقيمة الوجهة تتحقق فيها السيادة الفلسطينية على شكل أرض. العودة ليست نقطة نهاية – بل هي انطلاقةٌ مستمرة. بلورة صيغة كويرية للعودة لا يجري من خلال الاكتفاء بعملية إعادة موضعة مادية البعد لا تتحقق إلا بالاستعادة المادية لفلسطين إن كان هذا ما يختاره الفلسطينيون/ات، بل يحتاج أيضًا إلى عملية احتلال لعدة أزمنةٍ وفضاءات من الممارسة باعتبار أن الذات الفلسطينية تشغل جلّ تلك الأشياء بالذات.10
ينطوي المخيال الراديكالي على تلك اللا-مستقبلية الكويرية، التي يسعى هذا العدد إلى سبر أغوارها النظرية. فالمخيال التحرّري يحرّر الزمن والجذور، ولا يخشى مقاربة أسئلة الحميميات الحدّية والتيه المكاني، إضافةً إلى الولوج في إشكاليات العبور والتفكيك في صناعة الأرشيف المعادي للاستعمار. لقد شيّدنا رؤيتنا ومسارنا عبر هذه الأبواب في ثلاثة وعشرين نصًا، غير أن هذه الأبواب لا تشكّل تسلسلًا مقدّسًا أو بنيةً خطّية موجِّهة، إذ يمكن قراءة العدد وفق المسارات التي يشتهيها القارئ. فمن مقال أكانكشا ميهتا "نرفض النسوية الإمبريالية الاستعمارية" إلى مقال "كيف يتبجّى لنا المستقبل" بقلم سارة السرّاج، وهي أيضًا رسّامة هذا العدد، لا يكون الاتجاه غاية بحدّ ذاته. اللاتمرحلية تكمن في التحرّر من المساقات المتحجّرة والاتجاهات الأحادية، إنها دعوة مفتوحة إلى التيه، حين يستوجب الأمر.
إذا كانت القراءة غير الخطّية، أو متعدّدة الاتجاهات، لهذا العدد تجسّد روحيته النظرية التي نسعى إلى معالجتها، فإنّ بنيته التحتية كثيرًا ما اضطُرّت إلى العمل تحت وطأة فظائع السنوات الثلاث الماضية. ولم يُنجَز هذا العدد إلّا بمنهجيّةٍ تنتمي، فعليًا، إلى مدرسة اللاتمرحليّة الكويرية، وإن لم يكن ذلك متعمّدًا. خلال تلك الفترة، أنشأنا علاقاتٍ رفاقيّة، وانزوينا لبرهة في مواجهة حزنٍ لا يوصف. وضعنا التنظيم الميداني في صدارة أولويّاتنا لمجابهة الإبادة الصهيونيّة، وتخلّينا عن المموّلين، ثم عدنا إلى سؤال الخطاب، وأعدنا لَمَّ شملنا مع آخرين وجدناهم على الطريق ذاته.
ليس سرّاً أنّ التمويل قُطع عن مجلّة "كحل"، ما جعلنا عاجزين عن الاستمرار في دفع أجور أعضاء الفريق. وفي اللحظة التي كنت أتصارع فيها مع معنى إصدار مجلّة مثل "كحل" على نحوٍ منفرد، انضمّت إليّ صبيحة علوش مطلع عام 2025، ثم جو هِملاثا في الصيف. وقد قدّمتا وقتهما وجهدهما وفكرهما تطوّعًا، كي تواصل "كحل" حياتها رغم أنف منطق إعادة توزيع الموارد الاستعماري المعاصر. كان الرجوع إلى عددٍ مؤجَّل أصلًا مهمّةً شاقّة، وقد أدّ.ت جو دورًا محوريًا في إعادة التواصل مع الكاتبات والكتّاب، وفي توفير البنية والدافع اللازمين للمضيّ نحو اتّجاهٍ مختلف. ولاحقًا، في الصيف، وإن كان ذلك على نحوٍ مؤقّت، عادت صباح أيوب لتتولّى تحرير النسخة العربية، كما عادت مايا زبداوي وبريسيكا شعار لتتولّيا ترجمة العدد كاملًا. كثيرًا ما مزحنا داخل الفريق بأنّ الوداع بات تقليدًا متكرّرًا في "كحل"، وربما كانت هذه هي الفكرة: أن نعمل بما هو متاح، وأن نمضي رغم التقلّبات، وأن ننتظر عودةً – لا تقوم مقام ما مضى، بل تفتح حيّزًا جديدًا لما يمكن أن يكون – لكنّها، في كلّ الأحوال، شكلٌ من أشكال اللقاء. لقاءٌ يظلّ، دائمًا، إمكانًا نصنعه بأيدينا.
- 1. https://kohljournal.press/ar/node/295
- 2. يشير مصطلح اللا-مستقبلية الكويرية إلى اللاخطّية الزمنية في التصنيفات الزمنية، انطلاقًا من منظورٍ تحرّري مضاد للاستعمار. فهي تتحدّى التسلسل الخطّي للزمن من الماضي إلى الحاضر ثم المستقبل، مؤكدة موقفًا معارضًا لهيمنة الحاضر وعلاقة حميمة مع الماضي. وفي سياق الفكر العربي الماركسي، يُنظر إليها على أنها صراع داخلي على البنى الزمنية، يهدف إلى إعادة تشكيلها وفق تصوّرات تحررية. (ملاحظة المترجمة)
- 3. https://kohljournal.press/ar/issue-6-3
- 4. https://kohljournal.press/ar/issue-7-1
- 5. أترجم nonfuturity في العربية بمصطلح (لا)تمرحلية لا سيما تيمّناً بالمفهوم كما يبرز في كتابات ماركسية عربية مختلفة، مع إضافة الكويرية (al-kuwriyya) للحفاظ على الخصوصية النظرية للكويرية، وبالتالي الحفاظ على البُعدين الزمني والسياسي للمفهوم بلغته الانجليزية. (ملاحظة المترجمة)
- 6. غالباً ما يستشهد هذا النقاش بكتاب لي إيدلمان "لا مستقبل" (2004) وكتاب خوسيه إستيبان مونيوز "الإبحار في يوتوبيا" (2009)، ولكنه يستمرّ بالظهور في العديد من المحادثات والمؤتمرات الأكاديمية الكويرية الغربية.
- 7. https://genderit.org/feminist-talk/what-method-under-annihilation-notes-queerness-death-and-data
- 8. في إشارة إلى قول أودري لورد: "أدوات السيّد لن تهدم بيت السيّد أبداً".
- 9. https://kohljournal.press/ar/between-facts-fiction
- 10. https://kohljournal.press/ar/node/265
