إعادة النظر في التقاطعات والسّياقات: الكتابة في عصر التغيّرات
بات الحديث عن انتاج معرفة خاصّة بالنسويّة في منطقة الشرق الأوسط وفي جنوب غرب آسيا وفي منطقة شمال أفريقيا مهمة شاقة. فقد أصبح تحديد انتاجنا للمعرفة أكثر صعوبة، من ناحية الموقع والمعاني. وبما أنّ حركاتنا النّسويّة مثقلة بمشاكل الوصول الى المعلومات وتفتقر للأدوات اللازمة للمشاركة في العمليّات المعرفيّة، وقعت اليوم في شباك السيطرة واحتكار المعرفة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
تولّد الكثير من الخطابات حول الجندريّة والهويّة الجنسيّة في المنطقة نوعًا من الإستثناء لدى التعامل مع حركات نسويّة محليّة ونساء كويريّات وهويّات من فئة الم. م. م. م وخاصّة حين تتقاطع مع هويّات أخرى "مهمّشة". نٌعتبر تلقائيًّا بأننا نتحدى و/أو نتعدى على الوضع الراهن. في حين أن هذا قد يكون أو لا يكون دائمًا صحيحاً. تعكس القراءات السطحية لما تفعله المجتمعات المحليّة أو لما ينبغي فعله رؤية ضعيفة للأفكار والصور عن الجندريّة والهويّة الجنسانية في بلادنا. أساسياً، نحن نشاهد أنفسنا نؤدّي دور الشخصيّات المضافة على قصصنا الشخصية، ويجري تشريح متسرع لنضالنا لتبرهن حجة جاهزة تسبقها. ولكنّ المعرفة الخاصة بسياقاتنا أو المعرفة التي تشعر بتقاطع نضالنا ليست بعيدة المنال. فهي بكلّ بساطة قد تراجعت الى المركز الثاني ويجري حذفها أحيانًا من السرد السائد، سواء كان محلّي أو عالمي أو أكاديمي أو حتّى من تفكير المجتمع المدني.
الآن، وأكثر من أي وقت مضى، أصبحت الكتابة النسويّة ضروريّة جدًّا في مواجهة موجة النيوليبراليّة والإمبرياليّة وموجة التطرّف الدّيني التي تجتاح المنطقة. ولا تكفي ديناميّات القوّة الموجودة في التاريخ وتأثيرات الإستعمار الغربي في المنطقة لتبرير الظلم المعرفي الذي تواجهه الحركات النسويّة والجنسانيّة الصاعدة. نحن بحاجة ماسّة اليوم الى الكتابة كواجب أخلاقي للحركات الغير موثقة التي سبقتنا، وأيضًا كاستراتيجيّة مقاومة للوقوف في وجه ثنائية الإمبريالية الغربي مقابل "الشّرق الأوسط" المتطرّف والتعميم المهَمِش لخطاب حقوق الإنسان. وتصدر كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر منصّة بديلة بعد النظر المتأنّي في هذه التّحدّيات.
حين نتحدّث عن الأجساد، نحن نتطرّق أيضًا الى مسائل التعذيب والأوصوليّة والأجساد المهاجرة. إذ نربط تعريفنا لكلّ ما هو جسديّ بقضايا الإعتقال والسجن ومخيّمات اللاجئين والجوع والفنّ. وبعيدًا عن التقليل من شأن النّاس والتأثير على وظائفهم الجسديّة، فنحن ننظر الى هذه الأجساد- أي أجسادنا- ونرى كيف تمثّل نفسها وكيف تتمثّل وكيف تتحرّك في الفضاء وكيف تتفاعل مع الإيديولوجيّات. وإن أتت كلمة "نسويّة" مع مجموعتها الخاصّة من المعرفة الغربيّة عن "الجنسانيّة" وقد تمّ ربطها تلقائيًّا بالهويّة. وبالتالي يأتي إعتماد تعبير "الجسد" ليتخطى معاني الجنسانية مؤسساً مساحة هم أوسع.
إن العدد الأوّل من كحل الصادر بعنوان "اعادة النّظر في التّقاطعات: تعريف للجندر والجنسانيّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا" لا يدّعي تقديم أجوبة قاطعة للتوتّرات المذكورة أعلاه، بل يأمل أن يساهم في خلق جوّ قابل للنقاش ولإعادة التعريف من الداخل. إن العدد الكبير من التقارير الذي تلقّيناه كردّ على دعوة المشاركة جاء ليمثل مختلف المجالات الأكاديميّة وأنواع الكتابة. وغالبيّة المقالات الواردة في هذا العدد قد كتبها طّلاب وناشطين من المنطقة. أما التعاون معهم في تحرير كتاباتهم والتفكير بالمفاهيم والطروحات فقد مثَل بالنسبة إليُ والى ديمة قائدبيه تجربة غنية نعتز بها. إلقد ألهمنا اندفاع الزملاء للكتابة وإصرارهم على أن يٌسمعوا أصواتهم، على نحو لا يقاس.
يفتتح هذا العدد تعليق أريان شاهفيسي حول "النّسويّة كواجب أخلاقي في عالم تسوده العولمة". يفكك مقال شاهفيسي نوع المساواة الليبراليّة الحديثة التي يطلبها عالمنا المعولم ويسلّط الضوء على النسويّة الليبرالية أو ما تسمّيه شاهفيسي "النسوية الهرائية". وتقوم بالتالي على توجيه انتقاداتها على تأنيث العمل وانخفاض قيمة الرّعاية. أدّى هذان العنصران الى الإستعانة بمصادر خارجيّة لمقدّمي الرعاية والعاملين في المنازل في نظام قائم على العولمة والعنصريّة وعدم المساواة. وتستخدم شاهفيسي الإستعانة بعاملات أجنبيات في المنازل كبرهان، في دفاعها عن واجب أخلاقي تتبنّاه النّسويّة.
في حين تتناول شاهفيسي الإقتصاد المعولم كموضع تركيزها، تسلّط جنى نخّال الضوء على "النساء كفضاءٍ/النساء في الفضاء" في قلب مدينة بيروت. فبالنسبة الى نخّال، ينطوي "تغيير موقع أجسادنا واعادة كتابة الفضاء الجندريّ" على دراسة متأنّية للإقتصاد الرأسمالي. يشدّد التكوين الحرفي للمساحات الحضاريّة المحيطة بالهيئات النسائيّة بما في ذلك الهندسة المعماريّة والتصميم الحضاري على النموذج الهرمي للجندريّة. وفي هذه الحال، تعيد الهويّات المكانيّة تعريف مفاهيم الأنوثة والذكورة وتستقطب اعادة توزيع المجالات الخاصة والشبه عامة والعامة.
اذا أتى مقال نخّال ليركز على الفوارق الجندريّة في بيروت، فإنّ أنجي عبد المنعم تضع التحرّش الجنسي في في وسط العاصمة المصريّة، القاهرة في مقال تحت عنوان "التصوّر المفاهيمي للتّحرّش الجنسي في مصر: التقييم الطولي للتحرّش الجنسي في المنتديات العربيّة الإلكترونيّة ونشاط مكافحة التحرّش الجنسي". وتقيّم عبد المنعم التحوّل الذي شهده الخطاب المصري فيما يتعلّق بالتحرّش. إن استخدام كلمة "التحرّش الجنسي" يدل على طرق ترجمة اللّغة في مفاهيمنا وتعاريفنا للجنسانيّة والإعتداء والإيذاء فتعيد إذًا تعريف هذا المفهوم من خلال اعادة النظر في الدّلالات اللّغويّة الخاصة بنا.
أمّا في مقال "من الشتات إلى القومية عبر الإستعمار: "الذاكرة" اليهوديّة تحت التّبييض، والأسرلة، والغسيل الورديّ، ومحو الكويريّة"، فتتطرق سحر مندور الى اعادة تعريف المقاطعات عبر توسيع مفهومنا للكويريّة ولمحو الكويريّة. وتصبح الكويريّة مرادفة لزعزعة الإستقرار والبنية المعياريّة والرّواية السائدة ونقل الذاكرة. وتأتي بها الى الأراضي الفلسطينيّة حيث تمحى من ذاكرة وتاريخ يهود الشرق الأوسط والفلسطينيين والمهاجرين مفاهيم الكويريّة لصالح رواية أحادية المحور للذاكرة اليهوديّة وللشتات. ويقوم تبييض "الورديّ" بقمع كافة أشكال الكويريّة والتهديد الذي تشكّله على الدولة الصهيونيّة وعقيدتها.
ومن تعريف آخر للكويرية، تنظر سارة حمدان عن الهويّات العربيّة الكويريّة من خلال تقديم قراءات من المثلية العالمية لجوزيف مسعد. ومن خلال تشديدها على تعدد الهويّات "المثليّة"، تقودنا حمدان عبر مفاهيم التأثير الكويري والإختلاف الجنسي في سياق تعبير الكويريين العرب عن اللغة والهويّات الجنسانية. ويغذي تحليلها الدقيق حول بريد مستعجِل: قصص حقيقيّة تفكيك العار الكويري والهويات الهجينة ويقاوم الثنائيّات المتجذرة في الهيمنة الغربيّة وفي تصنيف الهويّات الجنسانية.
وفي العودة الى مدينة بيروت في زمن الحرب، تختم زينة مسكاوي سلسلة مقالات هذا العدد. يمثّل مقالها "الأجساد المعبّرة: تجسيد فنّي لأعمال سمير خدّاج وربيع مروّة ولينا صانع" قراءة متأنّية للأعمال والعروض الفنّيّة لهؤلاء الفنانين اللبنانيين. وتقارب من خلال عرضها لكيفية تعامل هذه الأعمال الفنيّة مع الجسد، فترة الحرب الأهليّة اللبنانيّة، وفترة ما بعد الحرب. ويفتح عمل مسكاوي آفاقًا جديدة لإعادة احياء الأعمال الجندريّة من وجهة نظر فنّيّة ومن دون التركيز فقط على العنصر الأنثوي أو الذكوري.
وبالإضافة الى المقالات البحثيّة الموجودة في هذا العدد، تفتح شهادات نشطائنا الباب أمام الكتابة البديلة وتتحدّى الوضع الراهن المرتبط بالنشر ومن يحقّ له الكتابة عن التحرّكات والنّشاط وفي أي شكلٍ.
ففي "الغسيل الوردي: استراتيجيّة اسرائيل الدوليّة وجدول أعمالها الدّاخليّ"، تروي غدير شافعي تجربتها كامرأة فلسطينيّة كويريّة تعيش في ظلّ الإحتلال. وبما أنّها وقفت وجهًا لوجه أمام سياسة الغسيل الوردي، تفكك الشافعي هذه الإستراتيجيّة الإسرائيليّة، فتعكس موضوع "الإنخراط"، وتضعف التعاريف المتعلّقة بالهويّات الجنسيّة التي لا تعترف بنضال الفلسطينيين. وفي المقابل، تقيّم الهام حمّادي الوضع الرّاهن لحقوق المرأة في العراق في شهادتها التي تحمل عنوان "حقوق المرأة في العراق بين تحدّيات الماضي والحاضر". وتشدد حمّادي على تدهور حالة النساء بعد العام 2003 واستجابة الحركات النسويّة لمثل هذا التدهور. وتعرض القوانين التي تحدد مجمل جوانب حياة النساء وتبين معنى أن تكون امرأة تعيش في العراق اليوم في ظلّ الحروب الجيوسياسيّة والتّغيّرات.
وبهدف تحدّي الوسائل المعتمدة لإنتاج المعرفة، تقدّم "أحاديث" مكانًا لنقاش بين النسويات. لقد تمّ تسجيل الأحاديث ونقلها وتحريرها بعد موافقة المشاركين. ولهذا العدد، تقدّم "أحاديث" الجزء الأوّل من حوار دار بين خمسة نشطاء في الحركة النسويّة عملن معًا عن قرب وقد يسَرت سناء ه. هذا الحوار. لقد تفاعل المشاركات الستة بشكل جميل عن طريق تبادل وجهات النظر حول مفهوم "الحركة" بشفافيّة ومصداقيّة تامّة. وأخيرًا، يختتم أنس سعدون العدد في عملٍ تحت عنوان "مشروع قانون لمكافحة العنف ضدّ النساء في المغرب: أي جديد؟" ويفصّل بنود هذا المشروع حول العنف ضد العنف الجندري في المغرب.
ختاماً، من المهم الإشارة الى أن كحل لم تأتِ من العدم. فمفهوم المجلة يتمسك بوضوح في سياق الحركات النسويّة واليسارية، القديمة منها والحديثة، في لبنان والمنطقة. وبعيدًا عن الإحتفاء بالذات، تٌعتبر كحل نتاج تفكير جماعيّ وعمل تطبيقي نسوي بإمتياز. ويسعى العدد الأوّل الى تغذية رؤى وأحلام الكثير من الحركات النسوية وأحلامها. وإذا كان هناك شيئًا واحدًا علينا تذكّره في عملنا، فهو تكريم هذا الدّين.