السجن، الرقابة، والمراقبة: الاقتصاد السياسي للمجمّعات الصّناعيّة

السيرة: 

غوى صايغ كاتبة كويرية آناركية، وناشرة مستقلة ومؤرشفة. هي المحرّرة المؤسِّسة لمجلّة "كحل" ومؤسِّسة شريكة لـ"منشورات المعرفة التقاطعية". حصلت على ماجستير في الدراسات الجندرية من جامعة باريس 8 فينسين - سانت دينيس. إنها شغوفة بنظرية الكوير، والمنشورات الدورية العابرة للحدود القومية، والتاريخ المتخيل أو المجهول. أودري لورد وسارة أحمد هما ملهمتاها.

اقتباس: 
غوى صايغ. "السجن، الرقابة، والمراقبة: الاقتصاد السياسي للمجمّعات الصّناعيّة". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 4 عدد 1 (2018): ص. 1-5. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 25 أبريل 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/incarceration-surveillance-policing.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (512.8 كيلوبايت)

Islamkhatib.png

Islam Khatib

كثفت الشرطة المصرية حملتها ضد النسويات والأشخاص ذوي/ات الجنسانية غير المعيارية. واستمر الاحتلال في فلسطين في حبسه للفتيات والقصّر الفلسطينيات، ومدّد بشكل غير قانوني اعتقال خالدة جرّار، وقتل المدنيين/ات المحتجين/ات خلف خطوط الهدنة في المنطقة العازلة في غزة. تستمر الدولة اللبنانية في احتجاز عاملات المنازل المهاجرات واللاجئات والأشخاص العابرين/ات* جندريّا، في خضم الفساد الصارخ وطائفيّة السلطة المروّعة. هذه الحوادث ليست سوى عدد قليل من اللحظات المؤدّية إلى حالات الطوارئ والذعر، المدارة بواسطة أنظمة التّحكم.

عاملة كآليات مستمرّة ذاتيّا، تحتكر أنظمة السيطرة الأرض والموارد والمواقع الجيوسياسية والمساحات المتصلة وغير المتصلة بالإنترنت، وعلاوة على ذلك، تحتكر السياسات والخطاب والدعم العام. تطبَّق هذه السّعة العملية من خلال ثلاثيّة السجن والرقابة والمراقبة المنظّمة لمواضيع السيطرة من خلال إجراءات عقابية وإشراف صارم. ولعل مفهوم إلزاميّة “الدّولة” هو من أكثر نظم التحكم عولمة وتطبيقا واعتياديّة. على الرغم من أن ممارسات الدولة تُنتقد من قبل جهات حقوقيّة وإنسانية، فإنّ كيان الدولة السياسي نادراً ما يُنظر إليه على أنه صراع أيديولوجي: فيتم التعامل مع هيمنتها على أنها أمر بديهيّ وطبيعيّ. إن الخطابات حول القمع ومحاربة “النظام” كثيرة، لكنها نادراً ما ترتبط بالاحتكار الذي تمارسه الدولة، ككيان، على المجتمعات التي تريد تنظيمها، سواء كتكتيك بقاء أو كوسيلة استخلاص واستغلال. وبدلاً من ذلك، يتمّ تقسيم هذا النوع المنتشر من القمع، ونسبه إلى أشخاص معينين في السلطة أو إلى سياسات محددة، والاعتقاد في إمكانيّة تداركه من خلال الإصلاحات أو التعديلات.

إن النظر إلى جوهر مسألة تشكيلات الدولة وعملها يستدعي دراسة متأنية للإستيهامات والوعود بدولة القانون والنظام التي تزعم أنها تحققهما. يتمّ تأطير ما يعتبر قانونًا كإجراء ضروري، يقصد به تحقيق ما لم ينشأ النظام لتلبيته في المقام الأول. السجن، كوسيلة للتجريم، يحمل دلالات “تصحيح” و “توبة.” إلا أن زهرة عبد الله، التّي عملت مع سجينات سابقات في مصر من خلال الحكواتيّة، تروي في “ما تفعله القصص بقلوبنا” أنّ الأنظمة السجنيّة لا تقدم للسجينات أي نوع من إعادة التأهيل، ناهيك عن الرعاية الصحية. بدلا من ذلك، فهنّ يواجهن مأزقا مزدوجا: لا يتم تجريمهنّ فحسب، بل يتم وضعهن في حلقة لا منتهية من الوصم الاجتماعي والتخلي والإفقار. في نفس الوقت، على الأقل كقيمة اسميّة، تراكم الدولة رأس المال من خلال المؤسسات والآليات المختلفة التي تدعم السجون. ولكن هل من الممكن الحديث عن مجمّع صناعي سجني في سياق مناطق غرب آسيا وشمال أفريقيا؟

جاء المجمع الصناعي السجني ليشير إلى انتشار منشآت السجون المخصخصة في الولايات المتحدة والحبس المتزايد للسكان حسب خطوط العنصرية والجنسانية و”المواطنة،” وتحويل السجون إلى آليات رأسمالية. ويشير هذا السياق الخاص إلى أوجه التشابه بين معاملة المستوطنين المستعمرين للسكان الأصليين، سواء في فلسطين أو من خلال الهيمنة “العربية” على الأقليات العرقية مثل السكان الأكراد أو الأمازيغ أو النوبيين. من المؤكد أن الظروف التاريخية التي أدت إلى إنشاء المجمعات الصناعية في الولايات المتحدة ليست قابلة للتحويل. لكن تفكيك المنطلقات المنطقيّة لنشوء الدول والحدود يستلزم بالضرورة معالجة السياقات في أكثر من مجرد جغرافيتها البحتة. على سبيل المثال، تتحكم G4S، وهي مؤسسة أمنية بريطانية متعددة الجنسيات، في السجون في الولايات المتحدة، وتوفر الأجهزة والحراس عند نقاط التفتيش الإسرائيلية في فلسطين، وتتعاقد على أمن المباني الراقية ومراكز طلبات التأشيرات في لبنان. وبالتالي يصبح من المستحيل حصر النظرية والتطبيق العملي ونقدهما في الحدود الجغرافية السياسية وحدها، سوى في تسمية المصادر والموارد التي جعلت هذا التسمية ممكنة. من ناحية أولى، السياقات عابرة للحدود بشكل كبير ومحددة بطرق تقاطعها وترابطها. من ناحية أخرى، فإن الخطاب الذي ينتقل عبر السياقات والنضالات يتشكل ويستمدّ معرفته من بقايا الاستعمار والأسواق المفتوحة المعولمة والتكوينات المحلية والتاريخية.

يستوجب النظر في المجمعات الصناعية سياقيّا ومحلّيا مشكلة الربح ورأس المال. مع تدفق رأس المال توافقيّا مع أنظمة التحكم، لا يقتصر الربح على أبعاده المادية أو المالية. كما تبرهن أميرة محمود عثمان في “حالات من الانتظار: عقوبة الإعدام في مصر الحديثة،” تستخدم دولة أمنية مثل مصر السجون وعقوبة الإعدام كوسيلة للقضاء على الأجساد المسيّسة التي تعتبرها “قابلة للقتل.” أبعد من التهديدات الفردية لسيادة الدولة، تستخدم هذه الممارسات كضبط ومراقبة لردع المعارضين/ات السياسيين/ات عن التنظيم والتعبئة، بغض النظر عن موقعيّتهم/نّ. لكن معاملة “المواطنين/ات” و “غير المواطنين/ات” تنظّم، في أكثر الأحيان، من خلال ربحيتها للدولة والدور الذي تلعبه في بقائها. على سبيل المثال، فإن “المواطنين/ات” المالكين/ات لرأس مال اجتماعي ونقديّ متراكم هم/نّ أقل عرضة للتأثّر بأجهزة المراقبة والسجن. أما بالنسبة للعمال/عاملات المهاجرين/ات واللاجئين/ات، فيسمح لهم/نّ بالوجود ضمن الحدود المتخيلة للدولة القومية طالما أن أجسامهم/نّ “صحية” وقادرة، وبالتالي مربحة للاقتصاد السياسي للدولة. في لبنان، يتم احتجاز و/أو ترحيل عاملات المنازل المهاجرات في اللحظة التي لا تستطيع فيها أجسامهن تكبّد عمل مقروء من قبل الدولة.

ولذلك، فإنه ليس من قبيل المفاجأة أن الدول المعتبرة لذاتيّاتها كحقيقة مطلقة، من شأنها أن تولّد مؤسسات وآليات سيطرة أبوية ومعيارية. فالترويج لثنائية الجندر وإلزاميّة الغيريّة الجنسيّة والزواج يعززون وهم “أخلاقيّة” الدولة من أجل تنظيم ومراقبة مواضيعها من طرف جهات ومؤسسات حكومية. في “التسميّات المطلوبة،” يـ/تصف إسراء حسين تجربة في التحرش والتخويف اختبر/ت/ها في مركز الشرطة الكويتي بسبب “التشبه بالجنس الآخر.” هذا النوع من المراقبة يراوغ ويصرف الانتباه العام عن فساد الدولة ورقابتها، كما تجادل لارا منصور في “تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كحلبة مصارعة: دراسة حالة علم قوس قزح في القاهرة.” من منحى آخر، ينظر مقال مريم مكّي، “دولة الرقابة البوليسية: الذعر الأخلاقي والذكورة في مصر بعد 2011،” إلى الذعر الأخلاقي كأداة للتحكم والسيطرة المفرّقة بين مواضيعها وفقًا لمفاهيم تعسفية عن الأدوار المجندرة وسياسات الاحترام؛ على سبيل المثال، أصبحت النساء المتظاهرات “أجسادًا منتهكة” متميزة عن “البنات” الفاضلات والمحافظات على شرف الأمة.

ربما يمكن تفسير الاحترام كركيزة للدّولة على أفضل وجه بإشارة منصور إلى “قلق الفراغ،” أو تغطية الدولة للفجوات التي يمكن أن تخفف من سيطرتها من خلال التجريم والمراقبة. تصف منصور أيضاً تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بأنها “حلبة مصارعة،” وهي ساحة تستعملها الدّولة للمراقبة. هذه الآلية تجمع أولئك/تلك الذين/اللواتي يتحدّون/ين عناصر السيادة الجنسانية و/أو السياسية الاجتماعية للدولة، ويتم ترجمتها إلى اعتقالات واضطهاد في العالم المنفصل عن الانترنت. لكن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات هي كذلك موقع نضال تكنولوجيات بديلة وممارسات مضادة للخطاب السائد، حيث تستخدم الدول وسائل الإعلام الرقمية والاجتماعية من أجل الدعاية و”التحكم في المعتقدات” على الرغم من أنماط البيانات، مع تفعيل إجراءاتها العقابية. إن ترويض المعارضة كإستراتيجية للحفاظ على الذات لا تحدث فقط في مجال الاعتقالات والقمع العلني، بل أيضًا عبر الوسائل الرقمية والخطابية التي تهدف إلى السيطرة على من يقيمون/ن في إقليم الدولة. ولعل هذا هو السبب في أن سياسات الدولة وممارساتها تتعارض مع حركات العدالة الاجتماعية، لا سيّما عندما تنظر العدالة إلى النضالات على أنها غير قابلة للتجزئة. في مجلّتها المصغّرة التي تحدد نغمة عدد كحل ومشروع الألف المشترك في ديسمبر 2018 حول العدالة الإنجابية، تُظهر إسلام الخطيب الترابطات بين المجمع الصناعي السجنيّ والعدالة الإنجابية. في هذا الإطار، أصبحنا ندرك أن ما يتم جعله “قانونيًا” لا يكون كذلك إلا بقدر بقائه تحت مظلة الدولة ومؤسساتها. كما تجادل رولى الصغير في “ضبط جنسانية النساء والاستفادة من ذلك: العمل الجنسي والدولة التونسية،” فإن عمل الجنس العام والمنظّم من طرق الدولة هو الشكل القانوني الوحيد للعمل الجنسي في تونس، حيث تستفيد الدولة من تقنينه وضبطه. لذا، يجب علينا أن نطرح الأسئلة غير المستساغة حول ما إذا كان الفكر والعمل والنضال الذي نستثمره في الإصلاحات لا يخدم سوى الحفاظ على النظام من خلال تبييض صورته، لأن “أجسادنا ومنتجات عملنا تستخدمها المؤسسات كدليل على الإدماج،”1 لأن هذا العمل مسموح به فقط نظرا لخدمته النظام.

بالطبع تغضب النسويات: نحن نيأس، نشعر بالعجز، نطالب بالاصلاحات ونشجعها؛ نحن نقدم أجسادنا بأفضل الطرق التي نعرفها؛ نتمسك بالأمل بجميع أشكاله. لكن البعض منا يبقى بشعور من عدم الارتياح بأننا نعالج الأعراض، وأننا مُنحنا هامشاً ضئيلاً من التشويش لقمع الأصوات المعارضة، وأن آفاقنا للتحرير يتم تحديدها من قبل أنظمة التحكم نفسها التي كنا نقاتلها في المقام الأول. كما قالت أنجيلا ديفيس “إننا نستخدم دائمًا من هم في قلب الهياكل التي نريد تفكيكها كمعيار.”2 عندما نخلط بين تفكيك النظام والتسلل إليه، عندما تصبح إمكانية الوصول إلى المناصب والإصلاحات السياسيّة هي هدفنا وهدفنا الوحيد. عندما نطمح لهذا المعيار، فإننا نُضغط نحو تنازلات تلهينا وتبقينا مشغولين/ات بالبيروقراطية، وفي النهاية تُعيينا بالوعد الزائف بأن الإصلاح سوف يتحول إلى تفكيك. في مواجهة هذا المأزق، نحتاج إلى الدفع بكل ما لدينا، سياسياً ومادياً وخطابياً. عندما ننخرط في مشروع الحياة الهائل هذا، يصبح من السهل الوقوع في إنتاج “القداسة” التي ترفض النقد باعتباره مثيراً للانقسام، وتحديداً بسبب ما يستلزمه هذا العمل. لكن في “توظيفات المنظومة العقابية في استغلال الصهيونية للمثلية الجنسية،” يـ/تستكشف موسى الشديدي التحولات في الخطاب الصهيوني تجاه المثليين الفلسطينيين باعتبارهم ضروريين لاستمرار الاحتلال. لذلك، من الضروري التعامل مع الخطاب كموقع للنضال. إن توقع الأوسمة وإلغاء الانتقادات باعتبارها هجمات متعمدة تمنع استبطان النّقد، وبالتالي، فإن خيالات التحرر ضد أنظمة السيطرة والقمع، حتى وإن لم تكن جميعها، سيؤتي ثماره.

من المهم أيضًا أن نأخذ بعين الاعتبار الطرق المختلفة التي تمتدّ بها الاستراتيجيات التنظيمية للمراقبة والرقابة على الكيانات والجهات والمنظمات غير الحكومية، كما يتضح من محادثة هذا الموضوع بين سنا، تي م.ك.، رائد، كاتيا، ورنا، في “المراقبة والرّقابة المؤسسية: توثيق النشاط الطلابي في الجامعة الأميركية في بيروت.” وبالتالي، تجب تسميتها ومسائلتها كلما ظهرت ضمن حركاتنا. في “إبطاء الخطى: التّواطؤ المتجسد وتحدّيات التضامن النسوي في مسيرة يوم العاملات والعمال 2017 في بيروت،” تصل أليسون فين إلى إدراك مزعج أنّ جسدها أصبح عن غير قصد أداةً لمراقبة عاملات المنازل المهاجرات، في حين أنّها قصدت أن تكون متضامنة مع نضالهنّ. تسعى حركاتنا إلى أن تكون تضامنيّة، ولكن هذا التضامن محفوف بامتيازات غير متكافئة. إن الوعي بالاختلافات الداخلية لحالة الطبقة والمواطنة وحدهما لن يكون كافياً لمعالجة ديناميكيات السلطة التي تتسرب إلى تحركاتنا. في “الانتخابات النّيابيّة، المجتمع المدني، والعوائق التي تمنع التغيير السياسي،” تستكشف جمانة تلحوق الطرق التي شاركت بها الحملات الانتخابية لقوائم “المجتمع المدني” في نظام هو بالأساس إقصائيّ في تعريفه علاقته بالمهاجرين/ات واللاجئين/ات والطّبقة العاملة. لترديد صدى أنجيلا ديفيس، “من سيـكونون في وضع يمكّنهم من ولوج السّقف الزجاجي، من اختراق السقف الزجاجي، إن لم يكونوا أولئك الذين هم بالفعل في القمة؟”3 يجب أن نسأل أنفسنا ما هي الأدوات التي نديمها عندما نقوم بالتّنازلات من أجل سرديّة الخير الأعظم، عندما لا يكون الخير الأعظم هنا والآن.

واعتبرت فين أنّ السؤال هو “ليس ما إذا كنا متواطئين/ات، ولكن ما نفعله بوعينا بهذا التواطؤ.” في حركاتنا، تدعو محاولات التوفيق إلى التركيز على الهدف، على الرغم من “الاستراتيجيات” المختلفة المستخدمة لتحقيق هذا الهدف. لكن الاستراتيجية غير قابلة للتجزئة من أيديولوجيتها السياسية: ولا يؤدّي تطبيعها إلى شيء سوى جعل مطلب واحد مستساغًا للنظام على حساب الصراعات الأخرى. إلى أي مدى تقوم حركاتنا بإعادة إنتاج رقابة ومراقبة النظير للنظير، إلى أي مدى تم تقييد مخيلتنا من خلال هذه الآليات عندما نحاول التغيير؟ كما تخبرنا نور أبو عصب ونوف ناصر الدين في “إقالة العدالة من المعايير السائدة: الدول كآلات للقمع،” فإن “السعي لتحقيق العدالة، كما نرغبها،” لا يمكن المساومة فيه.

  • 1. Ahmed, Sara. Living a Feminist Life. Duke University Press, 2017. p. 263-264
  • 2. Davis, Angela. “Angela Davis in Conversation.” Women of the World (WOW) Festival. Southbank Center, 2017. Available at: https://www.youtube.com/watch?v=BMUskpoNdIc
  • 3. المرجع السابق.
ملحوظات: