حديثٌ عن المستقبل

السيرة: 

إليزابيث أرمسترونج أستاذة في برنامج دراسة النساء والجندر في كلية سميث. تقوم بتدريس مقررات حول النسوية والأرض وحركات العدالة الاجتماعية القائمة على العمل حول العالم. لقد كتبت كتابين عن الممارسات التنظيمية، أحدهما عن الهند تحت عنوان "الجندر والنيوليبرالية: جمعية نساء الهند الديموقراطية وسياسة العولمة" (2013) والآخر عن الولايات المتحدة وهو معنون "التراجع عن التنظيم: إعادة بلورة الحركة النسوية الأمريكية" (2002). وهي عضو مجلس إدارة في ترايكونتينينتال: معهد للأبحاث الاجتماعية (Tricontinental) مع وحدات مقرها في البرازيل والأرجنتين وجنوب أفريقيا والهند ونيبال. وهي عضو في هيئة تحرير ميريديانز: النسوية، العرق، عبر الوطنية، وكذلك كحل: مجلة لأبحاث الجسد والجندر، وهي مجلة نسائية تقدمية حول الجندر والجنسانية في مناطق الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا.

اقتباس: 
إليزابيث أرمسترونج. "حديثٌ عن المستقبل". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 9 عدد 1 (23 يناير 2023): ص. 175-181. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 21 نوفمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/395.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (479.13 كيلوبايت)
ترجمة: 

ناقدة ومترجمة لبنانية مقيمة في باريس. حاصلة على دكتوراه في اللغة والأدب العربي الحديث من جامعة السوربون الجديدة. يتمحور عملها البحثي حول الصمت والكلام في سياقات الهيمنة وتجلياتهما الأسلوبية واللّغوية في النصوص السردية. عملت محرّرة ثقافية في جريدة "النهار" اللّبنانية حيث كتبت عشرات المراجعات النقدية في الرواية والشعر. درّست اللغة العربية والترجمة والأدب في جامعتَي باريس الثامنة والسوربون الجديدة وفي السوربون حالياً. من ترجماتها: "بلا عائلة" لهكتور مالو، و"صديقان وقصص أخرى" لغي دو موباسان، و"كانوا بشراً فحسب" للوران موفينييه.

armstrong_future.png

من اليسار: إستير كوبر، أليس دريتز، فيديا كانوغا.
"الاتّحاد العالمي للشباب الديمقراطي" (WFDY) المؤتمر الأوّل، لندن، تشرين الثاني/ نوفمبر 1945.

في الصورة، تبدو إستير كوبر في منتصف جملتها وحاجباها مرفوعان قليلاً. لا بل أكثر من ذلك، تبدو غارقة في فكرة ما أو في رؤيا أو تحليل. أما فيديا كانوغا، فتنحني صوبها وتنظر مباشرة في عينيها، فمها مرتاح ويدها ممدودة بكفٍّ مفتوح صوبها. ثمّة شخص ثالث في الصورة، إنّها أليس دريتز التي تنظر بعيداً، تكاد في سهوها تبدو خارج الصورة، وهذا غريب فهي تقف أيضاً إلى جانب فيديا وإستير. ولكن الاثنتين تبدوان كأنّهما غير منتبهتَيْن لوجودها من فرط استغراقهما في الحديث، لهذا السبب ربّما سَهَت أليس عنهما. ما يهمّ أكثر هو حديثهما والتركيز الحميم الذي تشي به تعابيرهما. فهما التَقَتا من أجل بناء عالمٍ آخَر، عالم خالٍ من الإرهاب الفاشيّ ومن العنصرية ومن الاحتلال الاستعماري.1

التَقَتا للمرّة الأولى والوحيدة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1945 في لندن في بريطانيا خلال الاجتماع التأسيسي لـ"الاتحاد العالمي للشباب الديمقراطي". عموماً يفترض أي حديث حدّاً أدنى من لغة مشتركة تظهر في الإيماءات أو في الانتباه أو في الأهداف المشتركة. ولكن في 1945، وحتى بين الأحلاف، كان على كلمات مثل "فاشية" و"تضامن"، أو "عسكرة" و"سلام"، أو"حرية" و"استبداد"، أن تكتسب معانيها خلال تلك الاجتماعات الثورية بين أشخاصٍ بعيدين عن أوطانهم.

نُشرت هذه الصورة مع التقرير الرسمي الصادر عن المؤتمر والمُعَنوَن: "إلى الأمام من أجل مستقبلنا!". وهي تطرح علينا نحن مَن ننظر إليها اليوم السؤال التالي: بمَ يشعر مَن يقف فوق رماد حربٍ طالت العالم بأكمله ومزّقت حياة معظم سكّان الأرض وقتلت الملايين؟ هذا بينما نقف نحن اليوم فوق دمار الحروب التي لا تنتهي، حتى لو أعلنت وسائل الإعلام أنها انتهت أو تجاهلت أن الحصار الاقتصادي والاحتلال العسكري والقصف الجوّي هي حروب لا تزال تحصل الآن. ماذا يعني أن نستعيد هذا الحديث، في حين أننا نرفض القبول بالجراح المتباينة للعنف الذي عشناه؟ ساهمت فيديا وإستير وأليس بتحليل لحظتهنّ التاريخية بشكلٍ شامل. فخلال هذا الاجتماع، ومع حركات شبابية أخرى حول العالم، ربطنَ العنصرية بالاستعمار وبالفاشية. وأضافت فيديا وإستير الأبوية بوصفها جزءاً لا يتجزّأ من الحرب والعنف اللّذين تستند إليهما الرأسمالية من أجل أن تظلّ تعيد إنتاج نفسها. ولكن كلّاً منهما وضعت هذا التحليل حيّز التنفيذ بشكل مختلف، فأسّست فيديا حركات نضال عالمية، بينما بَنَتْ إستير حركةً محلّية.

جاءت فيديا من شيفيلد حيث تدرس الطب لحضور المؤتمر – وكانت قد وصلت المرة الأولى إلى إنكلترا في 1938 لمتابعة دراستها، ثم انضمّت إلى "الحزب الشيوعي في بريطانيا العظمى" كما كان يُسمّى آنذاك في 1942، وكانت إحدى قادة اتّحاد الطلَبة الهنود. وطوال الحرب، كان كفاح الطلّاب الهنود للاحتلال الاستعماري البريطاني جزءاً لا يتجزّأ من تصدّيهم للفاشية. فبنوا معارضة شاملة ضمّت طلّاباً أفارقة وكاريبيّين من أبناء المستعمرات. أما إستير كوبر فكانت عضوةً في الحزب الشيوعي الأميركي وأتت من بيرمينغهام في ولاية آلاباما. كانت أمينة السر التنفيذية لـ"تجمّع الشباب السود الجنوبيين"، وهي المجموعة التي قادت العملية المباشرة الأكثر جذرية، والتنظيم الشعبي الشبابي الذي وقف ضد عنصرية قوانين جيم كرو2 في ولايات الجنوب خلال الحرب وبعدها. ويشير باحثون من أمثال دايو غور وإريك ماكدافي إلى الحيوية المحورية للقيادة النسوية السوداء التي انبثقت من الحركة الشيوعية في الولايات المتحدة الأميركية خلال القرن العشرين. وهي حركة كانت تضمّ أعضاء من الحزب إلى جانب رفاق درب.3 يستخدم ماكدافي صورة الحديث هذه بين إستير كوبر وآليس دريتز وفيديا كانوغا ليبيّن أهمية النسويات السوداوات في الحركة الأممية لإنهاء الاستبداد والاستغلال في العالم.

سجّل التقرير الرسميّ للمؤتمر التباين الحاصل بين أكثر من أربعمائة مندوب ومائة وخمسين مراقباً والأمل الذي عبّروا عنه. ففي تقاريرهم المختلفة، رفض الشباب القادمون من بلدان محتلّة أن يعلنوا أي نوع من الانتصار على الفاشية. وفي مداخلةٍ له خلال الجلسة الثانية المنعقدة بكامل الأعضاء، ذكّر مندوبٌ نيجيري واسمه ج.ك.ج أماكري، الشبابَ بأن "التمييز العنصري لم يكن موجوداً فقط في ألمانيا واليابان، ولكنه كان يُمارس أيضاً في الولايات المتحدة الأميركية وأفريقيا الجنوبية وبريطانيا وبلجيكا إلخ". وأعلن الطلاب إلى جانب أماكري أن تفشّي العنصرية في البلدان المنتصرة بعد الحرب يعني أن الصراع ضد الفاشية لم ينتهِ بالنصر. وفي ندائه للبلدان، ربط أماكري العنصرية بالأبارتهايد وبقوانين جيم كرو وبالاستعمار وبالفاشية: فهذه كلها مترابطة في منظومة واحدة ويستحيل فصلها عن بعضها البعض.

كانت فيديا كانوغا أمينة سرّ إحدى اللجان الأربع المسمّاة: "مشاركة الشباب في بناء سلام راسخ ومستدام". وكما قالت خلال النقاشات، فإن "حرية الشعوب المستعمَرة وحقها في تقرير مصيرها ضروريان من أجل الحفاظ على السلام وإعادة بناء الاقتصاد العالمي. وعلى الشباب من كلّ العالم أن يدعموا نضال الشعوب المستعمَرة الشرعي من أجل حقوقها". والنضال ضد الحرب ومن أجل السلام هو نضالٌ اقتصاديّ ويستلزم إعادة بناء تتخطّى أوروبا لتصل إلى البلدان التي طالها النهب المستمرّ للموارد من قِبَل الاستعمار. قد تكون إستير اقتربت من فيديا بعد هذه المداخلة، فالحركة النضالية التي أسّستها خلخلت أيضاً النسيج الاجتماعي برفضها سياسة الفصل التي ترسيها قوانين جيم كرو ولا إنسانيتها. وربما ساهمت أفكار إستير كوبر بإرساء مفهوم موسّع للسلام يحفظ في داخله مكاناً للكفاح المسلّح. فبالنسبة لكوبر وكانوغا، ليست الفاشية سِمةً من سمات الحرب فقط، بل هي إيديولوجيا متضمّنة في الرأسمالية وأداة وضيعة لتدعيم منظومة متهالكة ومائتة.

كانت فيديا وإستير في منتصف العشرينات. لم تكونا شابتين صغيرتين تماماً ولكنهما كانتا جاهزتين لمواجهة احتمالات إعادة البناء في لحظة الأرض المحروقة تلك. فبالنسبة لفيديا كانوغا، كما بالنسبة للعديد من الشباب التقدّميّ والشيوعيّ بدت الحرب غير منتهية، وإذا كان قد قُضي عليها في بلدان مثل إنكلترا فإنها كانت لا تزال مستمرّة في أماكن أخرى. في مذكّراتها، وصفت فيديا هذه اللحظة التاريخية الملحّة واعتبرت أن رفض الفاشية والدعوات إلى الحرب والاستعباد الاستعماري تقتضي كلّها إرادة عالمية موحّدة وصفَتها بضمير الغائب وإن كانت تشمل نفسها فيها:

 

لن يسمحوا بعد اليوم بأن تحصد حرب وحشية هذا القدر من الضحايا البشرية، وبأن تُدمَّر الثروات التي أبدعها الشباب خلال قرون، وبأن يُظلِم مستقبل الأجيال الشابّة القادمة. لن يسمحوا بعد اليوم بهدر حيوات الشباب بهذا الشكل العبثي من أجل المصالح الشخصية لحفنة من دعاة الحروب الامبرياليين. لن يُسمح للفاشية بعد اليوم بأن ترفع رأسها البغيض في أي زاوية من العالم. لقد أعلنوا تضامنهم مع كل الشعوب التي تعيش تحت نير الاستعمار وأكّدوا إرادتهم للعمل سويّة بصداقة وتعاون لتأمين مستقبل سعيد لشباب المستقبل.4

 

ماذا تعني هذه الذكرى لنا نحن اليوم في الوقت الذي نتخيّل فيه مستقبلنا؟ أين هو المستقبل الذي تجرّأوا على تخيّله؟ هاتان الشابتان اللّتان التقَتا للمرة الأولى والوحيدة خلال مؤتمر الاتحاد العالمي للشباب في لندن، اتّخذت كلّ منهما طريقاً مختلفاً ولكنهما كانتا خلف إطلاق حملة مطالب واسعة المدى من أجل تفكيك الروابط وطرق العيش القمعية القديمة في سبيل رؤية جذرية للعمل والحرية.

ظلّت فيديا كانوغا حاضرة في المشهد العالمي لسنوات عديدة فيما بعد، حتى عودتها إلى الهند في 1949 حيث استقرّت في كولكاتا في البنغال بعيداً عن ماهاراشترا المدينة التي وُلدت فيها. بعد مؤتمر لندن، حضرت مؤتمرات دولية للشباب والطلاب والنساء بوصفها مندوبة تمثّل أصوات الكثيرين من حركتها وقلوبهم، وبوصفها تعمل في مكاتب دولية مركزية لخلق روابط بين العديد من الشباب حول العالم، ومن أجل تنظيم مؤتمرات عالمية أخرى للشباب المناضل ضد الإمبريالية. أما إستير كوبر فعملت بشكل وثيق على تنظيم جبهات شعبية تضم شيوعيين وليبراليين في الأحياء والمدن والقرى من أجل الدفع بأهداف كبرى في سبيل عالم آخَر.

بعد تأسيس "الاتحاد العالمي للشباب الديمقراطي"، عادت إستير إلى نشاطها النضاليّ في ظل خطر القمع العنصري. فعملت على تنظيم صفوف الناس العاديين وشكّلت تحالفات مع منظّمات ذات توجّهات أكثر إصلاحية على غرار "المنظمة العالمية لاستنهاض الملوّنين"،5 وذلك من أجل بناء جبهة موحّدة ضد الفاشية العنصرية التي تقوم عليها الولايات المتحدة الأميركية. فنّظمت داخل "هيئة الشباب السود الجنوبيين"، حركات نقابية بين العمّال المنزليين وعمّال التبغ لرفض الباصات والمطاعم التي تعتمد الفصل بين السود والبيض، ولدعم المطالب بالحق بالجنسية ورفض الضريبة على الرأس6 في عوازل الاقتراع. نُظّمت هذه الحملات المختلفة بهدف أوسع ألا وهو تفكيك نظام الفصل العنصري الثقافي والاقتصادي والمدني، وهو ما عُرف لاحقاً باسم الحركة من أجل الحقوق المدنية. كل هذه التحرّكات الخطِرة، لا سيما في المناطق الصغيرة مثل بيرمينغهام أضعفت شيئاً فشيئاً من قوّة الامبريالية العنصرية الأميركية.

حاولت كوبر أن تحضر المؤتمر التالي الذي نظّمه الشيوعيون بعد شهر في باريس بهدف تأسيس "الاتحاد الديمقراطي العالمي للنساء"،7 ولكن الحكومة الأميركية رفضت منحها تأشيرة سفر إلى فرنسا. وكما يظهر في هذه الصورة الفوتوغرافية، فإن الآذان الصاغية التي لقِيَتْها نقاشاتها في لندن يجعلنا نخمّن لمَ ضاق موظّفو وزارة الخارجية الأميركية ذرعاً بمؤتمر يساري إضافي يجمع هذه المرّة نساءً يساريّات من حول العالم. ولكن إذا كانوا يحاولون إثباط عزيمتها فقد فشلوا. إذ حضرَت زميلتُها في الحزب الشيوعي الأميركي وفي "تجمّع الشباب السود الجنوبيين"، تيلما دايل، المؤتمر وعادت بالنقاشات والدروس الذي جرت خلاله. كما حضرت فيديا كانوغا المؤتمر التأسيسي "للاتحاد الديمقراطي العالمي للنساء"، لتمثّل هذه المرّة لا الطلاب الهنود في إنكلترا، بل العشرة آلاف طالبة المنضويات في اتّحاد كلّ طلاب الهند الذي يقوده الشيوعيون. إذ قامت حكومة الاستعمار البريطانية بكلّ ما بوسعها لتجعل الحصول على جوازات السفر وتأشيرات الدخول أمراً مستحيلاً، ولم يُسمح لأي شخص من الهند بالمشاركة، فذهبت فيديا بدلاً منهم.8

تتذكّر فيديا أن باريس كانت تشهد آنذاك الشتاء الأكثر قسوة منذ سنوات، فلم تخلع معطفها طوال مدة الاجتماعات. وإلى جانب رفيقات من فييتنام وشمال أفريقيا، نجحت هؤلاء النساء في توحيد قواهنّ في باريس من أجل فرض أمميّة للنساء تعترف بأن النضال ضد الاستعمار والعنصرية والإمبريالية هو جزء لا يتجزّأ من النضال ضد الفاشية. تروي فيديا متذكّرةً:

 

ماذا قلنا نحن المندوبات الهنديات في تقريرنا في المؤتمر الأوّل للاتحاد الديمقراطي العالمي للنساء؟ تحدّثنا عن أثر قرنين من الهيمنة الاستعمارية البريطانية وما خلّفته للأسف من فقر وأمّية ومعدّلات عالية بشكل مهول لوفيات الأطفال والأمّهات. وعندما قلنا إن كلّ ستة من عشر أطفال يولدون في ضواحي كالكوتا وبومباي الفقيرة لا يبلغون عامهم الأوّل، لم يصدّقنا الحاضرون بسهولة. ارتجفوا عندما سمعوا إيلا ريد تصف المجاعة في البنغال التي حصدت أكثر من ثلاثة ملايين ضحية في 1943. أخبرناهم عن الدور الذي لعبَتْه النساء الهنديات في النضال من أجل الاستقلال، وشدّدنا خصوصاً على أن المساواة وحقوق النساء لا معنى لها بالنسبة لنا طالما أن بلدنا لم يتحرّر من النير البريطاني. أما المندوبات الأخريات القادمات من بلدان مستعمَرة كالجزائر والمغرب وسواهما فتحدّثنَ بالاتّجاه نفسه. حضرت المؤتمر أيضاً بعض الشابات الفييتناميات اللّواتي كنّ يدرسن في باريس ووزّعن على المندوبات الأخريات مناشير تصف نضال شعبهنّ ضد الفاشية اليابانية والاستعمار الفرنسي في ذلك الوقت، فلم يكن معظمنا يعرف إلا الهند الصينية الفرنسية وكانت فييتنام اسماً جديداً غير مألوف في جغرافية 1945.9

 

كان صعود معاداة وزارة الخارجية الأميركية للشيوعية هو أحد الأسباب التي جعلت إستير كوبر تعود إلى ألاباما بعد ندوة لندن. ولكنها قبل ذلك أمضت ستة أسابيع متنقّلة في الاتحاد السوفييتي. وبحسب إريك ماكدافي، فإن هذه التجارب "جعلتها مقتنعة أكثر من أي وقت مضى بأهمية تقييم المشاكل التي تعاني منها النساء ضمن السياق العالمي وتشكيل تحالفات سياسية عابرة للبلدان بين نساء من كل أنحاء العالم".10 وجدت النضالات المحلّية التي نظّمتها كوبر في بيرمينغهام صدى في هذه الحركات الواسعة، ليس فقط كمجال للتضامن العالمي ولكن بشكل خاص لأنها كانت ترفض نُظُم الاستغلال والقمع نفسها.

كان ترويع الحكومة البريطانية لحركات النضال الشيوعية المعادية للاستعمار هو أحد الأسباب التي حدت بفيديا إلى السفر في سبيل الانضمام إلى الحركة الشيوعية العالمية. وبعد باريس، عملت في المقرّ الرئيسي لـ"الاتحاد العالمي للشباب الديمقراطي" الذي سرعان ما نقل مكتبه من باريس إلى براغ هرباً من صعود معاداة الشيوعية في فرنسا. وليست مصادفة أن يظهر اسم فيديا، حتى لو كُتب بطرق مختلفة، في تقارير أجهزة المخابرات الأميركية والإنكليزية العائدة إلى تلك الفترة.11 وبينما كانت فيديا تعمل في براغ في المقرّ الرئيسي لـ"الاتحاد العالمي للشباب الديمقراطي"، أشعلت المنظمة العالمية الشيوعية شرارةً في النضال ضد الإمبريالية. فأسّس مندوبون على غرار سوريبنو، وهو شيوعيّ إندونيسي انضم إلى الحزب الشيوعي الهولندي، "سوراباتي" خلال الحرب، وهي مقاومة مسلّحة معادية للفاشية مؤلّفة من طلّاب إندونيسيّين سرقت أسلحتها من قوى الاحتلال الألمانية في هولندا لتقاوم الفاشية.12 كان سوريبنو يعمل ضمن الاتحاد العالمي للطلاب القائم أيضاً في براغ. معاً، أطلقت هاتان الشبكتان العالميّتان مؤتمر الشباب والطلاب من جنوب شرق آسيا الذي نُظّم في كالكوتا في شباط/ فبراير 1948.

كان عنوان الندوة شديد الدلالة: "ندوة الشباب والطلاب من جنوب شرق آسيا للنضال من أجل الحرية والاستقلال". شكّلت هذه الندوة بالنسبة للحركات الثورية في فييتنام وإندونيسيا نقطة تحوّل من المفاوضة المسلّحة مع قوى الاستعمار إلى رفض قاطع للاعتراف بشرعيتها تحت أي ظرف كان.13 اندلعت مطالب الشباب والطلّاب الجذريين في كالكوتا، وقد أيّدوا الاستحواذ المسلّح على السلطة لإنهاء الاستعمار حول العالم. في آذار/ مارس 1948، قاد الشيوعيون تمرّداً في بورما (تُسمّى اليوم ميانمار)، وفي حزيران/ يونيو في مالايا (تُسمّى اليوم ماليزيا وسنغافورة)، وفي أيلول/ سبتمبر في أندونيسيا. ولم تضعف مطالب الشباب والطلبة المعادين للاستعمار في أي لحظة. وفي 1945، طالبوا بتحرير سجناء سياسيين مُعتَقَلين في الهند وإندونيسيا وفي أماكن أخرى. وفي 1949، طالب المجلس الاستعماري لشؤون الطلاب بإنهاء حكم الاستعمار: "انسحبوا! إندونيسيا للإندونيسيين وهولندا للهولنديين".

لم تلتقِ إستير كوبر وفيديا كانوغا إلا مرة واحدة ووحيدة في لندن في 1945، لكنّ الشغف الذي وثّقته صورة فوتوغرافية خلال نقاشهما يربط تاريخ كلّ منهما بالنضال الرؤيوي. ليست قصتهما مثالاً علينا أن نحتذيه بحذافيره، فالتاريخ لا يتكرّر، ولكن علينا أن نجيب بأنفسنا على الأسئلة التالية: أي نوع من اللقاءات يمكن أن يسمح بتشكيل فهمنا المشترك الخاص للكيفية التي يسمح بها هذا العالم للعنف بأن يبدو أمراً محتّماً، هذا إذا ما تمّ الإقرار به أصلاً. وما المفاهيم التي نحتاجها لتفكيك الوضع القائم وإيجاد أهداف مشتركة أفضل؟ ولمَ لا نحضر مؤتمرات من دون أن نمثّل بالضرورة تنظيمات تضمّ مائتين أو عشرين ألف عضو؟ فاللّغة التحررية تنبني انطلاقاً من تطلّعات الناس ونضالاتهم. وبغض النظر عمّا إذا كان عملنا محلياً أو في أمكنة أبعد، فعلى لقاءاتنا أن توضح ما الذي يجب أن يتغيّر. وبالرغم من الاستنزاف الكامل للموارد البيئية فإن هذه النقاشات يمكن أن تمنحنا الشجاعة لنتخيّل مستقبلاً آخَر.

  • 1. نُشرت الصورة أوّل مرّة في التقرير الصادر عن المؤتمر. أنظر: “Forward for our Future!: Official Report of World Youth Conference, London, November, 1945,” Fraser 1984, James H. and Sibylle Fraser Collection, MS 655, Special Collections and University Archives, University of Massachusetts, Amherst, US.
  • 2. قوانين جيم كرو: هي القوانين التي سُنّت بين 1876 و1965 في الولايات الجنوبية الأميركية وشرّعت الفصل العنصري بين السود والبيض في المرافق العامة. (المترجمة)
  • 3. Dayo Gore, Radicalism at the Crossroads: African American Women Activists in the Cold War (New York: New York University Press, 2011); Erik McDuffie, Sojourning for Freedom: Black Women, American Communism, and the Making of Black Left Feminism (Durham, NC: Duke University Press, 2011). لمزيد من التفاصيل حول نقاشات فيديا كانوغا وإستير كوبر خلال مؤتمر 1945 التأسيسي انظر: Erik McDuffie, “‘For full freedom of…colored women in Africa, Asia, and in these United States…’ Black Women Radicals and the Practice of a Black Women’s International,” Palimpsest: A Journal on Women, Gender and the Black International 1:1(2012): 1-30.
  • 4. اتّخذت فيديا كانوغا في مرحلة لاحقة من حياتها اسم شهرة زوجها سونيل مونسي. Vidya Munsi, In Retrospect: War-Time Memories and Thoughts on Women’s Movement (Kolkata: Manisha, 2006): 69.
  • 5. National Association for the Advancement of Colored People (NAACP).
  • 6. الـ poll taxes أو الـ community charge وهي ضريبة تُفرض على كل الأشخاص البالغين بالتساوي بين كل المواطنين من دون أن تأخذ بالاعتبار دخل الأفراد وممتلكاتهم. (المترجمة)
  • 7. Women’s International Democratic Federation (WIDF).
  • 8. المرجع السابق، ص 74.
  • 9. المرجع السابق، ص 75.
  • 10. إريك ماكدافي، 2012، ص 15.
  • 11. تقرير وكالة الاستخبارات الأميركية: “The Women’s International Democratic Federation in the Far East,” April 18, 1949. CIA-RDP82-00457R002600450010-7. Approved for release, September 19, 1999; Colonial Office, “Co-ordinating Council for Colonial Student Affairs,” March 16, 1949; Women’s International Democratic Federation South East Asian Women's Conference, KPM/SB/4671/08, Special Branch files, Calcutta Police, Kolkata Police Museum Archive, Kolkata, India. The National Archives, London, UK, Accession Number, CO 537/4381. في حين لا يُذكر اسم فيديا في وثائق المخابرات الهندية، إلا أنها تصف برعب مؤتمر كالكوتا. كل الشكر لسوشيتانا شاتوبادياي التي أطلعتني على ملفات الاتحاد العالمي الديمقراطي للنساء.
  • 12. صفحة المحطة الوثائقية الهولندية على فيسبوك، "Indonesians in the Dutch Resistance Against the Nazis"، 25 شباط/فبراير 2021. سُمّيت الوحدة العسكرية على اسم بطلٍ إندونيسيّ.
  • 13. Ruth McVey, “The Calcutta Conference and the Southeast Asian Uprisings,” Interim Report Series, Modern Indonesia Project, Ithaca, NY: Cornell University, 1958; Tuong Vu, “‘It’s Time for the Indochinese Revolution to Show Its True Colors’: The Radical Turn of Vietnamese Politics in 1948,” Journal of Southeast Asian Studies 40:3 (October 2009): 519-542; Larisa Efimova, “Did the Soviet Union Instruct Southeast Asian Communists to Revolt? New Russian Evidence on the Calcutta Youth Conference of February 1948,” Journal of Southeast Asian Studies. 40:3 (October 2009): 449-469; Larisa Efimova (with an introduction by Ruth McVey), “Stalin and the New Program for the Communist Party of Indonesia,” Indonesia 91 (April 2011): 131-163.
ملحوظات: