مواجهة التاريخ الكولونيالي والوطني: سمات الشعر الليبي عند فاطمة عثمان وفاطمة محمود

السيرة: 

خولة بنغزي طالبة دكتوراه في قسم السياسة وزميلة في مركز البحوث النسوية في جامعة يورك. تبحث خولة حاليًا عن الاستجابات العالمية لتغيّر المناخ في الصحراء الكبرى من خلال تقنيات الطاقة النظيفة. وهي مهتمة بشكل خاص بدراسة كيفية بناء الخبرة البيئية وإضفاء الشرعية عليها وتوضيحها في مشاريع التنمية البيئية في شمال إفريقيا من خلال نهج دراسة الحالة متعدد المقاييس. يركّز عملها على تجارب المجتمعات المحلية، وخاصة النساء، وكيف أثّر بناء تقنيات التخفيف من آثار تغيّر المناخ على قدرتهم على البقاء في الصحراء. تستند مناهج خولة إلى مجموعة من الأساليب المتداخلة متعددة التخصصات بما في ذلك العلاقات الدولية البيئية، والإيكولوجيا السياسية غير الاستعمارية والاقتصاد السياسي النسوي. علاوة على ذلك، عملت على مدار السنوات الثلاث الماضية كمنسّقة لبرنامج Righting Relations Hamilton ، وهي حركة من المعلّمين الكبار ومنظمي المجتمع الذين يعملون من أجل إنهاء الاستعمار والتغيير الاجتماعي في "جزيرة السلحفاة". وهي أيضًا عضوة مؤسسة في المجموعة النسوية لجنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا التي تهدف إلى رفع أصوات الناس من الأغلبية العالمية من خلال خلق مساحة للتدخلات المعرفية والمنهجية في دراسة منطقة جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا التي يتمّ إيصالها من خلال النسوية ومناهضة الرأسمالية والأطر النازعة للاستعمار.

اقتباس: 
خولة بنغزي. "مواجهة التاريخ الكولونيالي والوطني: سمات الشعر الليبي عند فاطمة عثمان وفاطمة محمود". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 9 عدد 1 (20 يناير 2023): ص. 112-125. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 21 نوفمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/390.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (534.7 كيلوبايت)
ترجمة: 

مترجم يساريّ ثوري منذ سنوات طوال واستاذ في اللغة العربية، يعمل لأجل الطبقة العاملة التي ينتمي عن وعي وإصرار إلى صفوفها.

les_femmes_dalger_56_72_x_54_2016.jpg

نساء الجزائر٬ 2012

أسد فالويل

يُرغَم كلّ مؤرّخٍ للجماهير وللمحرومين والتابعين والمستعبدين، على التعامل مع قوّة وسلطة الأرشيف والقيود التي يضعها على ما يمكن معرفته، الذي يكون هامّاً من منظوره، ومتمتّعاً بالجاذبية وسلطة الفاعل التاريخي

سعدية هارتمان في Wayward Lives, Beautiful Experiments: Intimate Histories of Social Upheaval (2019:7).

 

المقدمة

ما الذي يجب إعادة سرده و(إعادة) المطالبة بتواريخ بديلة وعوالم أخرى؟ هل يمكننا (إعادة) تفحّص ماضينا و(إعادة) تخيّل عوالم أخرى عبر الشعر المناهض للكولونيالية؟

لطالما احتلّ القادة الثوريون مساحة واسعة في مخيّلتنا كرجال استعملوا كلّ وسيلة ضرورية لتحرير شعوبهم من الحكم الكولونيالي. أطبَقَ رجال مثل عمر المختار على المخيّلة التحرّرية للعديدين بصفته شخصية بطولية مناهضة للكولونيالية، خاصة في ليبيا ومنطقة جنوب غربي آسيا وشمالي أفريقيا. جرى إحياء ذكرى المختار وجهوده في قيادة المقاومة الليبية ضد الاحتلال الإمبراطوري لليبيا من قبل الدولة الليبية ما بعد الكولونيالية (كاوسزينسكي2011). إسم المختار، ووجهه، وقصّته البطولية نتعايش معها يومياً على أوراق العملة الليبية وأسماء الشوارع والمدارس والمستشفيات وصفوف التاريخ والمنازل. من دون شكّ، لا يمكن التقليل من مساهمات المختار في الكفاح الثوري الليبي والتحرر من بطش الإمبراطورية الفاشية الإيطالية. مع ذلك، فقد عملت أساطير المختار وسواه من الأبطال المناهضين للكولونيالية على إظهار التاريخ القومي الذكوري وهوية الدولة التي تهدف إلى خدمة شرعية الرجال الأقوياء في المناصب القيادية بالدولة. وهذا ما يدفعنا إلى السؤال، ما هي، إذاً، قصص أولئك الذين تُرِكوا في الخلف ولم يُترَك أيّ أثر لهم في كتب تاريخ الرجال الأقوياء؟

تهدف هذه الورقة إلى دراسة كيف يمكن لليومي، بشكلَيه النظري والمنهجي، أن يكون أداة المداخلات النسوية في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا والتي تواجه سرديات القوة والسلطة وتسمح لنا بالاستماع إلى قصص أخرى ورؤية رؤى أخرى. أقوم بذلك من خلال إشراك سؤالين مترابطين: ما هي أهمية تفحّص الشعر المناهض للكولونيالية/ المناهض للاستبداد، وخاصة ذلك المنتَج من النساء؟ لماذا على النسويات النظر إلى الشعر كطريقة لمعرفة ما هو خلاف ذلك؟ عبر عدسة اليومي،1 وخاصة استعمال الشعر وحضوره في الحياة اليومية والتعبير في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا، يمكننا الكشف عن السرديات التي قوّضتها السلطة الشاملة للكولونيالية والحكم الاستبدادي. كان الشعر أداةً ضرورية للتواصل والحفاظ على الثقافة والتاريخ، وهو من دون شكّ متجذّر في التقاليد الشفهية الليبية. "وصل الشعر إلى ازدهار جديد وقوي، مدفوعاً من المعاناة وغياب العدالة التي عانى منها الشعب الليبي من الكولونيالية الإيطالية" (جوريس وتنغور 2012:365). بذلك، وفي حين تؤمّن سرديات البطل المناهض للكولونيالية الذكورية عدسة واحدة يمكننا عبرها دراسة تاريخ النضال المناهض للكولونيالية في المنطقة، يقدّم الشعر العربي اليومي المناهض للكولونيالية/ المناهض للسلطة أداة منهجية وإبستمولوجية للنسويات في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا للوصول إلى التواريخ والرؤى التي أُنشئت خارج السيطرة الكاملة للامبراطورية ودولة ما بعد الكولونيالية.

إن اليومي كموقع نتفحّص فيه التواريخ الصامتة مستوحى من أعمال النسوية ما بعد الكولونيالية ونسوية السكّان الأصليين والنسوية السوداء والتي حاولت القطع مع التسلسل التأريخي الذكوري والمركزية الأوروبية المتجذر في القصص الخطّية للأحداث الكبرى من منظور الرجل القوي (الأبيض). بدلاً من ذلك، سعت هؤلاء النسويات إلى الكشف عن قصص أخرى أُخفيت بعناية في زوايا وشقوق الروايات التاريخية المهيمنة. أتفحّص القصيدة الليبية المعروفة بعنوان "خرابين"، للناجية من الإبادة فاطمة عثمان، وقصيدة "ما لا يمكن تخيّله" لفاطمة محمود، المعارضة السياسية لنظام القذافي. تمثّل القصيدتان الطرق التي يمكن أن يُقدَّم من خلالها الشعر العربي اليومي المناهض للكولونيالية/ المناهض للاستبداد، وخاصة المنتَج من قبل النساء، لمحة عن القصص والرؤى الأخرى التي أزيلت بواسطة محو التصوّرات الكبرى للكولونيالية والدولة الذكورية2 وعنفها.

أبدأ بتقديم لمحة سريعة عن التاريخ الكولونيالي الإيطالي في ليبيا وكيف أُخفيت الإبادة الجماعية في إيطاليا من خلال قصيدة فاطمة عثمان "خرابين". ومن ثم أنتقل إلى قصيدة فاطمة محمود "ما لا يمكن تخيّله" لاستكشاف الطرق التي أعادت فيها الدولة الليبية في عهد معمّر القذافي فرض التهميش الكولونيالي من خلال إخفاء القصص التي لا تتماشى مع سردية الدولة أو تهددها. وأختم بدراسة كيف يمكن للشعر كموقع يومي أن يكون مجالاً للتخيّل الثوري من خلال تحليل الطرق التي يُظهر فيها الشعر تدمير الامبراطوريات الكولونيالية وتخيّل الثورة ضد الاضطهاد.

 

الأرشيف الكولونيالي النتن وقصص أخرى عن الإبادة الجماعية

شاطئ إيطاليا الرابع

يتضمّن شهر أيلول/سبتمبر حدثين مهمّين، أهمّهما هو آخرهما؛ استيلاء القذافي على النظام الملكي السنوسي في 1 أيلول/سبتمبر عام 1969 (كوميتا 2013). الآخر، الأقلّ تذكّراً ولكنّه من دون شكّ مهم، هو الاجتياح العسكري للجيش الإيطالي لليبيا في نهاية شهر أيلول/سبتمبر عام 1911 (بويل 2015). على الرغم من أن ليبيا قد نالت استقلالها عن إيطاليا عام 1951، لكن الحكم الكولونيالي الإيطالي استمرّ حتى الستينيات مع استمرار "الكولونيالية الديموغرافية" حيث واصل الكولونياليون الإيطاليون احتلال أراضٍ ليبية حتى بعد انتهاء الإدارة الكولونيالية الإيطالية (بالينغر 2016). اعتبر الإيطاليون اجتياح ليبيا إنجازاً هاماً وحاسماً لاجتياح شرقي أفريقيا (أحميدا 2020؛ بن-غيا 2001). وبحسب روث بن-غيا (2001: 125)، "بعد زيارة موسوليني لليبيا عام 1926، استُهدفت البلاد لتصبح منطقة خارجية للحداثة الفاشية. تظهر مخططات استصلاح الأراضي والتطوير السياحي ومخططات التنظيم المُدني الشاملة ادّعاء النظام بأن ليبيا تشكّل "شاطئ إيطاليا الرابع"".

اعتمد مشروع الحداثة الإيطالي بشكل كبير على تحويل ليبيا إلى "شاطئ رابع" (كانون 1977). منح الاجتياح العسكري الإيطالي لليبيا الفرصة لحلّ مشكلة "جوع[نقص] الأرض" عبر نقل جماعي للسكان حيث أُعطيت الطبقة العاملة الإيطالية أراضٍ في ليبيا لزراعتها والاستفادة منها اقتصادياً (بن-غيا 2001؛ بالينغر 2016). هذا المخطط الضخم جاء عبر حكم امبريالي عنيف أدى إلى إبادة الشعب الليبي بسبب مقاومته لخطط الإدارة الكولونيالية. مع ذلك، وكما سأوضح أدناه، أُخفي تاريخ الإبادة الجماعية من السرديات التاريخية واستبدل بسرد مُرَمنَس حول إدارة كولونيالية إيطالية ليّنة وإعمارية.

 

رَمنَسة الكولونيالية في الأرشيف

ما هو معلوم وكيف نعلمه يستند إلى سرد تاريخي موضوع بدقّة. أشارت الكتابات النسوية التي أنتجتها النسويات السوداوات والنسويات من السكان الأصليين، والنسويات ما بعد/ المناهضة للكولونيالية إلى طرق إنتاج المعرفة منذ حقبة التنوير حيث مجّدت منظور الرجل الأوروبي على كل وجهات النظر والمعارف العالمية (مثلاً، أغاتانجيلو 2011؛ أغاتانجيلو وكيليان 2016؛ هيل كولينز 2000؛ سميث 2012؛ سيمبسون 2014). عبر بناء شكل محدد من المعرفة الشرعية خلقت التضمينات والإقصاءات وبالتالي جرى تكوين والحفاظ على السلطة الهرمية والهيمنة (لوكمان 2004؛ ميتشيل 2002). وبحسب الأكاديمية من السكان الأصليين ليندا سميث (2012)، جرى تقديم التاريخ المهيمن، الذي أنتجته المجموعة المهيمنة ونشرته الإمبراطورية، على أنه خطاب شمولي، وأممي، وأليف، والمفترض أنه يجمع كل المعارف المعلومة والخبرات البشرية المشتركة بشكل منظَّم.

في هذا الاعتبار التاريخي للهيمنة المركزية الأوروبية واصلت إمبراطوريات الماضي والحاضر الوصول إلى القوة المهيمنة. المعرفة هي القوة والقوة مشروطة بالمعرفة التي تحافظ عليها وتديمها من خلال عدسةٍ معينة واستعمالٍ لأدوات محددة. إحدى أدوات الحفاظ على هيمنة المعرفة هي الأرشيف. في حين استُخدم الأرشيف من قبل الأكاديميين النقديين كموقع نعيد عبره قراءة التاريخ من خلال عدسات مختلفة ونكشف عن سرديات بديلة، لكنها لا تسمح لنا بالكشف عن حالات الصمت والغيابات وبالتالي توليد لقصصٍ أخرى. لا يسمح لنا الأرشيف بالطعن بتحيّزات المركزية الأوروبية للنظرة الكولونيالية الساعية عن قصد إلى إنتاج واحتواء المعرفة المهيمنة (باستيان 2002).

عند دراسة قيود الأرشيف، ناقش علي عبد اللطيف أحميدة (2020) كيف أن الصمت حول الإبادة الليبية متجذّر بعدم إمكانية الوصول إلى الوثائق التاريخية، فضلاً عن محوها، والتي يعتقد أنها تكشف قصة الحكم الكولونيالي في ليبيا. لاحظ المؤرخون أن الكثير من الأرشيف التاريخي الموجود في إيطاليا قد أُتلف عمداً لمحو ماضيها النتن في ليبيا (أحميدة 2020، ياو 2018). أكثر من ذلك، لاحظ أحميدة أن الأرشيف الذي تحتفظ به إيطاليا لكتابة سردية معينة والحفاظ عليها، والسعي عن قصد إلى التقليل من عدد مراكز الاعتقال وتخفيض عدد القتلى. إضافة إلى ذلك، وهو الأكثر إثارة للصدمة، هو الطرق التي بنى فيها المؤرخون والكتاب والجنرالات الإيطاليون الإبادة الجماعية "كمجهود إيجابي لتحديث وتوطين البدو المتوحشين" (أحميدة 2020:26).

هذا بحسب روث بن-غيا (2001:126) هو نتيجة لحملة دعائية استراتيجية وضعها الفاشيون الإيطاليون وطبّقوها لإنتاج سردية محدّدة لمشروعهم الحداثي حيث جرى تصوير الجيش الإيطالي على أنه "مجتهد لا يكلّ عن بناء الطرق والجسور، وقد حوّل الصحارى إلى حدائق، وجاء بالسلام والرخاء للشعوب الأصلية". كان لهذه السرديات دائم التأثير على طريقة "تذكّر" الحكم الكولونيالي الإيطالي في السرديات العالمية المهيمنة. وبذلك، فإن أهمية الأرشيف هي في أنه يُنظر إليه من خلال عبارات إيجابية على أنه سردية تاريخية متجانسة وموثوقة لما حصل بسبب مَن أنتجها ومكان حفظها. وعادةً ما تشكّل هذه المساحات المختارة المحتفظة بمفاتيح التاريخ وتعلّم كيفية تذكُّر التاريخ.

 

الشاعرة عندما تواجه: أرشيف مضادّ وقصص أخرى

الشعر المناهض للكولونيالية، كشعر فاطمة عثمان، يواجه السرديات التصالحية والمُرمنِسة للتاريخ الكولونيالي. ولدت عثمان في البلدة الليبية الصغيرة هون عام 1920، وكتبت قصيدة "خرابين" كرد مباشر على الحكم الإيطالي الوحشي [المرتكب] للإبادة الجماعية في ليبيا. في كل قصيدتها تصف عثمان الحكم الكولونيالي الإيطالي بأنه "عدوان" (أحميدة 2020:179). باختيارها هذا الوصف، قارنت وواجهت التخيّلات الكولونيالية المستشرقة المتحضّرة التي "أتت لإنقاذ ومساعدة البدو المتخلّفين". أكثر من ذلك، يمكن تفسير عبارة عثمان بأن منزلها/أرضها قد دُمّر مرّتين بطرق متعددة، ولكن الأكثر وضوحاً هو تشديدها على وحشية "التقدّم" و"الحداثة" التي حاول الكولونياليون الإيطاليون إحضارها إلى ليبيا، والتي جرى توضيحها أعلاه، وبذلك نقضت السردية الرسمية التي حاولت إيطاليا بكل جهد الحفاظ عليها.

كتبت عثمان في قصيدتها عن غياب فرص العمل واختفاء النور وزوال كلّ شيء للإشارة إلى ما حصل والحقائق المعزولة التي جاء بها ما يُسمّى مشروع التقدّم الحديث (أحميدة 2020:179). وأكملت عثمان متحدثة "عن الدمع المذروف على موت أبناء البلد الأعزّاء المعلّقين بالحبال" (المرجع نفسه). الشنق سواء كان "مثل البلح في رأس شجرة النخيل" أو "المشنقة" أو "أولئك الذين لم يفرّوا قد أُعدموا" هو موضوع ثابت في القصيدة (المرجع نفسه). وهو [أحميدة] بذلك يشير إلى الإبادة الجماعية كأداة تكتيكية للكولونياليين الإيطاليين الذين حاولوا الهيمنة على سكان ليبيا وصدّ مقاومة السكان المحلّيين المستمرة لمشروع الحداثة الكولونيالية للإمبراطورية الإيطالية.

إن فعل الشنق الذي ذكرته في كل قصيدتها يرمز إلى الإبادة الجماعية التي تؤكده الشهادات الشفهية لأرشيف الدولة الليبية والأعمال الأكاديمية الحديثة. على سبيل المثال، أفادت جميلة سعيد سليمان في شهادتها الشفهية: "في المخيم، كان من النادر أن تمرّ الساعات من دون موت" (ياو 2018:806). وجدت الأبحاث الحديثة التي أجراها المجتمع الأكاديمي أن فترة التهدئة في ليبيا الممتدة بين عامي 1911-1943 كانت "إحدى أكثر الفترات عنفاً من تاريخ الكولونيالية خلال القرن العشرين. هذه التهدئة كانت قاسية وأدّت إلى الإبادة الجماعية لجزء واسع من السكان الأصليين" (بويل 2015:454). انخفض عدد السكان في ليبيا بشكل كبير خلال نظام الإبادة الجماعية من 1،4 مليون نسمة عام 1907 إلى 1،2 مليون نسمة عام 1912، ليصل بحلول عام 1933 إلى 825000 نسمة (المرجع نفسه).

الشكل الثاني للعنف الذي تصفه عثمان في قصيدتها هو التجويع الجماعي المقصود من خلال قتل ومصادرة الماشية وإبعاد الناس عن أراضيهم (أتكنسون 2012). فهي تذكر "خراب البلد مرّتين، وفي موطنها لا عمل حتى يهتم المرء بنفسه" (أحميدة 2020:179) لوصف ظروف استحالة العمل خارج القطاع الزراعي كما حصل مع أغلب الليبيين في ذلك الوقت. وبحسب أحميدة (83)، "بحلول عام 1933، جرى القضاء على 85 بالمئة من الأغنام والماعز و60 بالمئة من الأبقار والإبل". كان هذا، وبحسب الرسائل الموجودة في الأرشيف الإيطالي، أداة فاشية مقصودة لتدمير حياة الناس وحيواناتهم، وإبادتهم من خلال حرمانهم من سبل عيشهم وبقائهم. وتشير شهادات موجودة في أرشيف مركز الدراسات الليبي إلى عدد كبير من الأدلة على القضاء على الكثير من سبل العيش من قبل الكولونياليين وعبر الاستعمال القسري للتجويع كعمل من أعمال الإبادة الجماعية. على سبيل المثال، تفيد سليمان "أتذكّر أن أخي عبد الرحمن قد مات من الجوع فلفّيناه بقطعة من القماش ودفنّاه بجوارنا في الرمال…" (ياو 2018:806). على الرغم من أن الأعمال الأكاديمية الحديثة قد تمكّنت من الوصول إلى الشهادات والقصص المسجلة لأولئك الذين كانوا شهوداً على الفظاعات التي ارتكبها نظام الإبادة الجماعية، فقد قدّم شعر عثمان سردية مضادة غير مُرَمنسة للحكم الكولونيالي الإيطالي.

 

ضد التسلسل الزمني للوقت والتواريخ

بحسب سميث (2012)، إن التاريخ هو القوة وبالتالي هناك حاجة ماسة لاستعادته من قبل أولئك الذين تعرّضوا للإقصاء كاستعادة السلطة. سعت الباحثات النسويات السوداوات ومن السكان الأصليين إلى تحطيم التسلسل الزمني والتاريخي عبر النظر في الوضع اليومي كموقع يمكننا الوصول من خلاله إلى من لا صوت لهم (على سبيل المثال: كامب 2014؛ هارتمان 2019؛ هيل كولينز 2000؛ سيمبسون 2014؛ سميث 2012). إن الوقت الأوروبي الشامل والعنف الذي فرضه على كيفية تذكّرنا وفهمنا للعالم من حولنا متجذّر في طرق بناء هذا الوقت بالتسلسل الزمني الخطّي. جسّدت الكتابات التاريخية هذه الخطيّة بحيث، وتبعاً لسميث (2012:30)، بات التسلسل الزمني طريقةً تسمح بـ"تحديد موقع الأحداث في نقطة محددة". أشارت سميث إلى أنه من خلال النظر إلى تاريخ السكان الأصليين عبر الوقت الأوروبي وبالتالي، الكولونيالية والاستغلال، فإنه يعني الاستمرار بإعطاء الأفضلية للتأريخ الأوروبي الشامل. هي تدعونا إلى إعادة النظر بـ"مزيج الوقت السابق، الوقت الكولونيالي، والوقت السابق لذلك، زمن ما قبل الكولونيالية" (24). من خلال إعادة النظر بالوقت بشكل مختلف، تشير سميث إلى القطع مع التسلسل الزمني الذي يرى الأحداث "واقعة في نقطة زمنية محددة" (30) وكل شيء قبل الوقت الأوروبي هو "ما قبل التاريخ" و"ينتمي إلى عالم الأسطورة والتقاليد" (31).

تدفعنا إعادة النظر بالوقت بشكل مختلف إلى التفكير بطرق ونظريات معرفية بديلة يمكن من خلالها الوصول إلى عالم مختلف. ترى الباحثة النسوية السوداء تينا كامب سياسات الحياة اليومية كموقع يمكن من خلاله استعادة الأصوات والتواريخ وخصوصيات أولئك الذين تعرّضوا للإقصاء من السرديات والتاريخ الكولونيالي والدولتية. تناقش كامب (2014) الطرق التي يمكن من خلالها مفهمة المستقبل النسوي عبر قواعد "الهدوء" و"اليومي". يتمتع الأخيران بالحاجة إلى "النظر والاستماع إلى المستقبل في أماكن أخرى غير محتملة، في الممارسات اليومية للمجتمعات السوداء الحالية والماضية والتوصل إلى أرشيف بديل للاغتراب الإفريفي". تحاول كامب (2014) إعادة قراءة التاريخ ليس عبر الأرشيف القائم إنما عبر صور جوازات سفر الشعوب السوداء من الكاريبي لترميز الممارسة اليومية للرفض، وتضيف:

 

إنه رفض البقاء ضمن الوتيرة المطلوبة، السعي إلى الحرية، وإمكانية عيش حياة من دون حدود، ليس كعمل من أعمال المنع البسيط أو عدم تحمّل التعدّي. إنما رفض لأن تكون خاضعاً لقانون يرفض الاعتراف بك، لا يُعرَف بمعارضة أو مقاومة بالضرورة، إنما هو رفض للمقدمات نفسها التي أنكرت تاريخياً التجارب المُعاشة للسود باعتبارها إما مرضية أو استثنائية لمنطق التفوّق الأبيض.

 

في محاولة استعادة الماضي عبر إظهار أولئك الذين اعتُبروا خارج الزمن التاريخي الذكوري الأوروبي، تحاول كامب مفهمة المستقبل الأسود ضمن سياسات الممارسات اليومية للرفض الهادئ.

في وقت نجد أن الشعر المناهض للكولونيالية وللاستبداد ليس دائماً هادئاً وعادة ما يكون مشبعاً بالغضب، إلا أنه يؤمّن لنا أداة مهمة لإظهار قصص غير مروية وتخيّل عوالم أخرى. من خلال الصوت الشعري لأولئك الذين عاشوا واختبروا وحشية الامبراطورية وقمع الدولة نعلم بالقصص بطريقة أخرى. هذه الأصوات لا تصل إلى الأرشيف، وكتب التاريخ، أو مكتبات الامبراطوريات السابقة ودول ما بعد الكولونيالية. بدلاً من ذلك نجدها وهي منحسرة ومتدفّقة من أفواه الجيران والمجتمعات والأجيال من دون علامات الصمت الخاصة بالجندر والعرق والطبقة. فهم يتحدثون ضد الهيمنة الذكورية وصناعة التاريخ الكرونولوجي المسيطر والحفاظ على التاريخ. وهم يسمحون لنا بالتأمل والسرد بشكل آخر وبذلك نعيد تفحص حاضرنا و(إعادة) تخيّل مستقبلنا. يواجهون السلطة بأقوالهم بالطريقة الواضحة والحادة التي يستعملونها للسرد. ويمكن الوصول إليهم يومياً وهم يتحدثون عن الضغط اليومي للامبراطورية وللاستبداد.

 

سردية دولة ما بعد الكولونيالية وإسكات القصص الأخرى

الإرث الكولونيالي وصنع سرديات الدولة الذكورية الاستبدادية

كتب العديد من الباحثين بشكل واسع عن الطرق التي شكّل إرث السيطرة الكولونيالية من خلالها ظروف الأنظمة الاستبدادية (المجندرة) لدول ما بعد الكولونيالية (أيوبي 1995؛ بروملي 1994؛ مامداني 1996؛ ميتشل 1991؛ برات 2006، 2020؛ شنايدر 2006). أفادت خديجة العلوي وماورا بيلوتي (2019:710) كيف تبنّت الأنظمة النخبوية الاستبدادية في فترة ما بعد الكولونيالية الإرث الاستعماري "الذي أسس بشدّة العلاقات الاجتماعية في السلطة والسيطرة" من خلال إعادة فرض الهرميات الكولونيالية التي جعلت "مواطنيهم من الرجال والنساء أطفالاً غير مستعدين وغير مَهَرَة لمواجهة تحديات إعادة بناء المجموعات من الرماد". وكنتيجة لذلك، استعملت نخب الدولة ما بعد الكولونيالية تكتيكات المستعمرين في المراقبة والسيطرة. ووفقاً لنيكولا برات (2006:5) "أنشأ إرث الهيمنة الأوروبية زخماً لتوسيع مؤسسات الدولة في مرحلة ما بعد الاستقلال – من بينها الشرطة والجيش والمؤسسات الاقتصادية والبيروقراطية". سعى هذا التوسيع وتأسيس الدولة السيدة من خلال مؤسسات الرقابة والسيطرة إلى تحضير الظروف المناسبة لتركيز الموارد وسيطرة الدولة في يد نظام واحد شديد القوة (أوين 2004؛ برات 2006).

توسعت إعادة إنتاج دولة ما بعد الكولونيالية للسيطرة الشاملة للإمبراطورية إلى البناء المتأنّي لصورة الأمّة من خلال استعمال الأدوات الأمنية والإقصاء (الصدة 2022؛ خالدي 2017؛ باسو ودو جونغ 2016). أضاء رشيد خالدي (2017) على كيف أن "الهوس المتشدد بالأمن" الذي مارسته الدول في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا قد أعاد فرض الحصرية الاستعمارية للأرشيف وجعل الوصول إليها مسألة صعبة. فالأرشيف المحدود الذي وُضع في مركز الدراسات الليبية الشديد الحراسة وكان متعذراً الدخول إليه. أنشأ معمّر القذافي المركز بعد انقلابه عام 1969 لخلق مساحة للمعرفة داخل الأراضي الليبية. يتضمن المركز بعض النصوص والصور حول الإبادة الجماعية، إضافة إلى مجموعة من الأساليب الأرشيفية البديلة مثل شهادات شفهية للناجين بين عامي 1970-2006 (أحميدة 2020؛ ياو 2018). في وقت قد تكون الدولة الليبية قد بذلت محاولات لإقامة أرشيف خاص بها وإنتاج معارفها وسرديتها المضادة من الداخل من خلال شهادة الناجين، لكنها فعلت ذلك لخلق سردية تمجيدية ذكورية لأبطال التاريخ الليبي.

أعادت دولة ليبيا ما بعد الكولونيالية تشكيل الأرشيف كـ"أداة الأقوياء، الساعية إلى تطبيع وتوحيد وفرض النظام" (الصدة 2022:1). إن الإسكات الطويل للسرديات الأخرى وطرق رواية القصص متجذّر في المحو العنيف خلال الحقبة الكولونيالية وامتد بواسطة دولة ما بعد الكولونيالية المستبدة. من بين 1500 شهادة شفهية مخزَّنة بشكل آمن في أرشيف مركز الدراسات الليبية "أجري عدد قليل جداً منها فقط مع النساء" (أندرسون 1980؛ ياو 2018:793). هذا، وبحسب ياو، يعود بدرجة كبير إلى التركيبة الذكورية للدولة القومية الليبية؛ وتلاحظ أن "هذه السردية الجديدة تزيد من قيمة مقاومة المقاومين الذكور بغالبيتهم وتعظّم من شخصية عمر المختار…" (2018:793). تذهب ياو إلى أبعد من ذلك من خلال قولها "إنه جرى وضع الرجل الثوري في مركز بناء التاريخ الوطني الليبي. هذه النسخة من التاريخ الليبي أقرّتها الطبيعة الاستبدادية للنظام الجديد الساعي إلى احتكار السردية الرسمية للتاريخ الليبي" (المرجع نفسه). وبذلك، احتكر القذافي وأدام السردية القومية الذكورية المعادية للكولونيالية لتشريع سلطته عبر تصوير نفسه على أنه مسيح البطولة الوطنية المعادية للغرب. وهذا يعني في نهاية المطاف أن أولئك الذين لم يؤيدوا هذه السردية وسياسات القذافي سيتعرّضون للاحتواء والاستبعاد والإقصاء (عمادي 2012).

 

إقصاءات ما بعد الكولونيالية للأصوات الشعرية

تعرّض الشعر وسواه من الأعمال الأدبية لهيمنة الدولة ورقابتها في ظل نظام القذافي، التي كانت "محصورة بحفنة من الأوساط الفكرية والفنية، بسبب الثقل الكبير للقمع الذي وصل إليه نظام معمر القذافي الاستبدادي ليشمل الشؤون السياسية والثقافية" (جوريس وتنغور 2012:365). خلال 40 عاماً من عمر النظام، لم يكن هناك سوى دار نشر واحدة تديرها الحكومة وتطبع الأدب المؤيد لأجندة الحكومة القومية (جوريس وتنغور 2012). وبالتالي، إن مواقع المعرفة المناهضة للكولونيالية التي تحوّلت إلى سلطوية غير كافية لتزويدنا بالأدوات لـ(إعادة) تفحّص الماضي والرؤى التي يحملها أولئك الذين هم خارج هذه السرديات.

وعندما نقرأ الشعر المنتَج خارج وضد التاريخ الرسمي للكولونيالية والدولة، فإن إحدى الأعمال التي يمكن العثور عليها هي تلك التي كتبتها فاطمة محمود. كانت محمود صحافية في ليبيا خلال العقود الأولى من حكم القذافي (1967-1987) بعدها هاجرت إلى قبرص. هناك "أصبحت رئيسة تحرير مجلة شهرزاد الحديثة" التي ركزت على قضايا النساء العربيات (جوريس وتنغور 2012:382). قصيدتها "ما لا يمكن تخيله"،3 عندما تُفَسَّر من منظور مناهضة الكولونيالية والاستبداد، تخبرنا عن الشرطي الذي "يمتصّ دماء اللغة، ويعرّي الحروف من نقاطها ويمزّق أعمدة الكلام" (379). هنا، تتحدث محمود عن الطرق التي خنق رجال الشرطة الوسائل التي يمكن التكلّم والمقاومة بها. في تجربتها المُعاشة، نُفيت محمود لأسباب سياسية لحديثها ضد ما سمّته "النظام الديكتاتوري السياسي" للقذافي، وخاصة غياب حرية التعبير (382). طلبت اللجوء السياسي إلى ألمانيا عام 1995 للهروب من ملاحقة نظام القذافي لها واستمرت في الإقامة هناك.

في شعر محمود، الشرطي هو شخصية تسلطية يتحكّم في إخراس الأصوات والحياة نفسها. وعلى العكس من عثمان، التي تتحدث عن سياق تجربتها المعاشة لأنظمة الإبادة الكولونيالية، تجسد محمود تجربتها المعاشة لشعب مستعمر وشعب يسعى للحصول على الحرية في الحياة ما بعد الكولونيالية فقط ليواجه أدوات السيد بأشكال مختلفة. تتكلم محمود عن تراجع مساحات الحرية عندما تصف ما كانت تتخيله. وتقول "منسجِمات دَخَلنا في مناخ الماء، منسجِمات مع قانون الأشجار. منسجِمات مع العشب الناطق، مردداً الحماية، منسجِمات مع أفق القرنفل. خطأ الخزامى". هي تقارن ذلك مع أفعال الشرطي الذي "يخنق الزهور، ويدفن الياسمين المائل من حدائق النظرات" (379). في البداية، تصف محمود الأمل الذي أعطته ليبيا المحرّرة، والانسجام والتجدد وحرية النمو والتخيل خارج هيمنة الامبراطورية. هذا الحلم القصير الأمد دفنه الشرطي الذي خنق هذه الأحلام والأصوات التي تتكلم عنها. هي تصف حالة اليأس من السيطرة الدائمة "إننا نضبط ساعاتنا على معدل نبض الشرطي. بلادنا، على بعد جمرتين لتكون فرناً" (380).

يتعارض شعر محمود مع سرديات الدولة الرسمية للأرشيف والمكتبات والتي تظهر القذافي بطلاً ثورياً ومناهضاً للكولونيالية والداعم لحرية التعبير والتائق إلى تحرير كل الشعوب التي تعرضت للكولونيالية (سو 2019). تخبرنا قصتها عن رؤية جماعية ومتناغمة بديلة، سعت إلى تحرير الزهور من قيود الامبراطورية، وبلادها التي دُمّرت ثلاث مرات. هذا البلد ورؤيته جرى تقويضه من الأنظمة الاستبدادية لدول ما بعد الكولونيالية. يخبرنا الشعر اليومي المناهض للكولونيالية والمناهض للاستبداد عن التجارب اليومية للنساء في ليبيا وبما أخفته السرديات الكولونيالية والدولتية عن قصد من صفحات التاريخ: تخيلات ثورية للثورة والحرية بمواجهة اليأس.

 

الخلاصة: اليومي كموقع للتخيلات الثورية

في تحليل إيريكا مينا (2009:112) لشعر محمود درويش الثوري، تشير إلى أن الشعر المناهض للكولونيالية "يولّد السياق" وبالتالي "ينتج القطيعة المؤدية إلى احتمالات جديدة". وعندما نتفحّص يوميات الشعر المناهض للكولونيالية/الاستبداد كأداة منهجية تقطع وتمثل الاحتمالات، فإننا لا نكشف فقط عن قصص هامشية إنما أيضاً عن رؤى وتخيلات من عوالم أخرى. وعلى الرغم من اليأس والقنوط الذي يحيط بنا، كانت عثمان قادرة على الاعتماد على الأمل الربّاني وتدعو إلى إنهاء الكولونيالي وحكمه. في [قصيدة] خرابها، تدعو إلى زوال الإخضاع الكولونيالي بقولها: "في يوم حار فظيع، ستأتي عاصفة رملية مهدّدة شديدة، ستحمل معها زخات الرصاص، لتضرب رؤوس الكفار، ترسلهم إلى النسيان، وتأتي لي بالحياة وراحة البال" (أحميدة 2020:180).

كذلك تصف محمود في قصيدتها الأرض التي تضيق باستمرار، وحيث تتساقط زهور القرنفل وتهرب "ساحبة الدماء التي تُراق على ثياب الشرطي، وتدحرجنا في أرض الخيال. الدماء هي حبرنا السري، الدماء هي نارنا العتيقة" (جوريس وتنغور 2012:382). القسم الأخير الذي أنهت به قصيدتها، تصف فيه الدم المتناثر على ثياب الشرطي بأنه دم الثورة – حبر الشعب السري. وهو حبر لم يتمكن الشرطي من "أخذه أو امتصاص الدماء منه" (379). قاوم الدم الحكم الاستبدادي والقمعي، ونجا من جمر البلاد الخانقة وتحدث بقوة. حتى لو كان الدم هو الشيء الوحيد المتبقي، إلا أنه ما زال يعطينا الأمل بالرفض والثورة والحرية.

هذه العوالم الأخرى للثورة والحرية التي تصورها عثمان ومحمود هي شكل من أشكال المقاومة التي تسميها العلاوي وبيلوتي (2019:713) "الشاعرية المسلحة بالسكين"، حيث "الشاعر/ة قادر/ة على مواجهة ومقاومة كل قوة الامبراطورية بواسطة الكلمات بعيداً عن الواقع الكئيب واليائس الذي كانوا/ن يواجهونه/نه". أكثر من ذلك، تـ/يحاجج آنا أغاتانغيلو وكيل كيليان (2006:463) أن الشعر المناهض للكولونيالية/المناهض للاستبداد يسائل ما الذي جعل منه عالمياً وصحيحاً، مثل نظم وشرعية السيادة وعنف الحدود/الدول القومية من خلال "استلام السلطة الذكورية المشكلة للانقسامات بحيث تجبر الناس على حبها".

بذلك، إن الشعر اليومي المناهض للكولونيالية/المناهض للاستبداد هو موقع يمكن أن تتفحص فيه النسويات في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا القصص المنسيّة ورؤى النساء وأولئك الذين استُبعدوا من السرديات التاريخية المهيمنة. لا يشار إلى اليومي من خلال الأحداث الكبيرة والسرديات المرمنسة و/أو سيوف الأبطال الذكوريين المناهضين للكولونيالية. إنما هو موجود دوماً في الممارسات والعادات اليومية، دون حدود أو رقابة الإمبراطورية أو الدولة. هو موقع الرفض والأمل. إنه يتحدث عن القوة المهيمنة. ويتطلب سرداً لقصص أخرى بطرق أخرى. إنه يعطينا ومضات عن عوالم أخرى، عن تخيلات ثورية، ويسمح لنا كذلك بتخيّلٍ مختلف.

  • 1. أستعمل كلمة "اليومي" للتعبير عن الممارسة اليومية للشعر كجزء من تعبير ثقافي عربي وتقليد لغوي. هذا الاستعمال مستوحى من كلمة تينا كامب عام 2014 "مستقبل النسوية السوداء وممارسة الهروب" وكتابها الصادر عام 2017 "الاستماع إلى الصور".
  • 2. الشعراء السياسيون والليبيون المناهضون للكولونيالية كثيرون ويشتهر بعضهم خارج حدود الدولة مثل رجب بوحويش وابراهيم الكوني ومحمد الفيتوري. مع ذلك، فقد اخترت تفحص هاتين الشاعرتين لإظهار الإقصاء المزدوج للنساء بسبب جندرهن والوسائل التي واجهن ورفضن بها.
  • 3. قصيدة فاطمة محمود "ما لا يمكن تخيله" ترجمها الشاعر والكاتب الليبي خالد مطاوع.
ملحوظات: 
المراجع: 

Agathangelou, A. M. (2011). Making Anew an Arab Regional Order? On Poetry, Sex and Revolution. Globalization, 8(5), 581–594.

Agathangelou, A.M., & Killian, K.D. (2006). Epistemologies of Peace: Poetics, Globalization and the Social Justice Movement. Globalizations, 3(4), 459–483.

---. (2016). Time, Temporality and the Violence in International Relations. (1st ed.) New York: Routledge.

Ahmida, A. A. (2020). Genocide in Libya: Shar, a Hidden Colonial History (1st ed.). New York: Routledge.

Anderson, L. S. (1980). Research Facilities in the Socialist People’s Libyan Arab Jamahuriyyah. Middle East Studies Association Bulletin, 14(1), 27–31.

Atkinson, D. (2012). Encountering Bare Life in Italian Libya and Colonial Amnesia in Agamben. Agamben and Colonialism. (Edited by Marcelo Svirsky and Simone Bignall). Edinburgh: Edinburgh University Press, 155–177.

Ayubi, N. N. M. (2009 [1995]). Over-Stating the Arab State: Politics and Society in the Middle East. London: I.B. Tauris.

Ballinger, P. (2016). Colonial Twilight: Italian Settlers and the Long Decolonization of Libya. Journal of Contemporary History, 51(4), 813–838.

Bastian, J. A. (2002). Taking Custody, Giving Access: A Postcustodial Role for a New Century. Archivaria53, 76–93. https://archivaria.ca/index.php/archivaria/article/view/12838/14058

Basu, P., & De Jong, F. (2016). Utopian Archives, Decolonial Affordances: Introduction to Special Issue. Social Anthropology, 24(1), 5–19.

Ben-Ghiat, R. (2001). Fascist Modernities: Italy, 1922-1945. (1st ed.). Berkeley: University of California Press.

Bromley, S. (1994). Rethinking Middle East Politics. Austin: University of Texas Press.

Campt, T. (2014). Black Feminist Futures and the Practice of Fugitivity. New York: Barnard Center for Research on Women. https://bcrw.barnard.edu/videos/tina-campt-black-feminist-futures-and-the-practice-of-fugitivity/

---. (2017). Listening to Images. London and Durham: Duke University Press.

Cannon, B. D. (1977). Review of Fourth Shore: The Italian Colonization of Libya [Review of Review of Fourth Shore: The Italian Colonization of Libya, by C. G. Segrè]. ASA Review of Books, 3, 39–44.

El Alaoui, K., & Pilotti, M. (2019). Walking with Lips Raining Fire and Love! Arab Poets’ Testimony to the World. Interventions, 21(5), 708–726.

Elsadda, H. (2022). An Archive of Hope: Translating Memories of Revolution. The Routledge Handbook of Translation and Memory. Edited by Sharon Deane-Cox and Anneleen Spiessens. New York: Routledge.

Emadi, H. (2012). Libya: The Road to Regime Change. Global Dialogue, 14(2), 128-142.

Hartman S. V. (2019). Wayward Lives, Beautiful Experiments: Intimate Histories of Social Upheaval. (1st ed.). New York: W.W. Norton & Company.

Hill Collins, P. (2000). Toward an Afrocentric Feminist Epistemology. Black Feminist Thought: Knowledge, Consciousness and the Politics of Empowerment. London and New York: Routledge.

Joris, P., & Tengour, H. (2012). Poems for the Millennium: Book of North African Literature. (Vol. 4). Berkeley: University of California Press.

Kawczynski, D. (2011). Seeking Gaddafi: Libya, the West and the Arab Spring. London: Biteback Publishing.

Khalidi, R. (2017). The Humanities in the Arab World Today. Comparative Studies of South Asia, Africa and the Middle East, 37(1), 132–133.

Kumetat, D. (2012). Gaddafi’s Southern Legacy: Ideology and Power Politics in Africa. The Rise of the Global South: Philosophical, Geopolitical and Economic Trends of the 21st Century. (Edited by Justin Dargin). Singapore: World Scientific, 125–152.

Lockman Z. (2004). Contending Visions of the Middle East: The History and Politics of Orientalism. Cambridge, UK: Cambridge University Press.

Mamdani, M. (1996). Citizen and Subject: Contemporary Africa and the Legacy of Late Colonialism. Princeton: Princeton University Press.

Mena, E. (2009). The Geography of Poetry: Mahmoud Darwish and Postnational Identity. Human Architecture: Journal of the Sociology of Self-Knowledge, 7(5), 111–118.

Mitchell, T. (1991). Colonising Egypt (1st ed.). Berkeley: University of California Press.

---. (2002). The Middle East in the Past and Present of Social Science. In The Politics of Knowledge: Area Studies and the Disciplines (Vol. 3). Berkeley: University of California Press, 1–32.

Owen, R. (2004). State, Power and Politics in the Making of the Modern Middle East (3rd ed.). New York: Routledge.

Powell, I. T. (2015). Managing Colonial Recollections. Interventions, 17(3), 452–467.

Pratt, N. (2006). Democracy and Authoritarianism in the Arab World. Boulder: Lynne Rienner Publishers.

---. (2020). Embodying Geopolitics: Generations of Women’s Activism in Egypt, Jordan, and Lebanon (1st ed.). Berkeley: University of California Press. 

Schneider, L. (2006). Colonial Legacies and Postcolonial Authoritarianism in Tanzania: Connects and Disconnects. African Studies Review, 49(1), 93–118.

Simpson, A. (2014). Mohawk Interruptus: Political Life Across the Borders of Settler States. London and Durham: Duke University Press.

Smith, L. (2012). Imperialism, History, Writing and Theory. Decolonizing Methodologies: Research and Indigenous Peoples. London & New York: Zed Books.

Suh, S. C. (2019). The Pan-African Ideal Under a New Lens: The Contributions of Thabo Mbeki of South Africa and Muammar Gaddafi of Libya 1994-2008 (Doctoral dissertation). Johannesburg: University of Johannesburg.

Yeaw, K. (2018). Gender, Violence and Resistance under Italian Rule in Cyrenaica, 1923–1934. The Journal of North African Studies, 23(5), 791–810.