"أشعَلْنا النار فأحرقتنا": ثلاث مقالات شعرية بقلم ليلى بعلبكي
جرى نشر المقالات الشعرية بموافقة من الكاتبة. حقوق النشر عائدة الى ليلى بعلبكي. تم نشرها للمرة الأولى في مجلة الدستور عام1973.
مارو بابون طالبة دكتوراه في الأدب المقارن بجامعة ييل. تدرس مخطوطتها قيد التطوير رغبة العالم الثالث في تكوين "صوت" أو "لغة الشعب" عبر الشعر الفلسطيني والكوبي والجزائري من أواخر الخمسينيات إلى أوائل السبعينيات. بالتركيز على الكتّاب محمود درويش وفياض جاميس وجان سيناك، يبرز المشروع شبكات التداول والترجمة والتبادل التي تربط هؤلاء الشعراء ببعضهم البعض. وهي أيضًا مترجمة من اللغات الإسبانية والعربية والفرنسية.
حائزة على إجازة في اللغة الإنجليزية وآدابها، ماجستير في إدارة الأعمال( قسم موارد بشرية ) ، مترجمة محلفة لدى المحاكم في لبنان، وإجازة في علم النفس وطالبة ماجستير في علم النفس العيادي . تعمل في مجال التدريس والترجمة منذ أكثر من 25 عاما. عملت كمحررة ومترجمة لدى الوكالة الوطنية للإعلام في وزارة الإعلام، إضافة إلى الكثير من الصحف والشركات والوكالات واعمال الترجمة القانونية.
نشرت مجلة "الآداب" الثقافية اللبنانية عام 1973 عدداً خاصاً بعنوان "أدباؤنا في المعركة" يتناول حرب تشرين/ أكتوبر التي كانت قد بلغت أوجها قبل بضعة أشهر من صدور العدد. صحيح أن نهايات الأمور، وإن لم تكن جميعها، لا تبدو عند بلوغها بدايات مكلّلة بالنصر، إلا أنّ نهاية حرب تشرين/ أكتوبر سرعان ما وُصفت بأنها حرب النهضة والانبعاث. لقد أعادت انتصارات القوات السورية والمصرية على إسرائيل الثقة بالهوية العربية التي واجهت مصيراً قاتماً بعد نكسة حزيران/ يونيو 1967. افتتح سهيل إدريس، الكاتب والمحرر الملتزم في مجلة "الآداب"، العدد الخاص بافتتاحية اعتبر فيها أن الحرب سجّلت "تاريخاً جديداً للشعب العربي". كيف سيتمّ تناول هذا التاريخ الجديد – ما هي الأسباب والمظاهر التي أدّت إليه؟ – سؤال طرحه أدريس ودعا الأدباء العرب إلى الإجابة عليه.
جاءت الإجابة عن هذا السؤال، في لفتة مؤثّرة تعبّر عن الوحدة، من نحو مئة من الأدباء من بلدان مختلفة، نحو إثني عشر بلداً. وقد قدّم أدونيس، وتوفيق الحكيم، ونزار قباني، ومحمود درويش ونجيب محفوظ، وهم مجموعة من الكتّاب المعروفين، مقالات في ذلك السياق كُتبت خصيصاً للعدد الخاص الذي تضمّن أيضاً مقالات تحليلية وقصصاً قصيرة وقصائد مختلفة ومتنوعة كانت قد نُشرت في مجلات دورية توزَّع أو تصدر في بلدان مختلفة في المنطقة. تصدّر الغلاف إضافة إلى أسماء عدد من المساهمين اللبنانيين، أسم مميز: ليلى بعلبكي.1 برز اسم ليلى بعلبكي ليس فقط لأنها واحدة من قلّة من النساء اللواتي كتبن في هذا العدد بل لأن اسمها يأتي كتذكير بأن عام 1973 هو تاريخ الذكرى السنوية العاشرة لحدث بارز في تاريخ الأدب العربي النسوي: نشر مجموعة القصص الوحيدة التي كتبتها وتحمل عنوان "سفينة حنان إلى القمر" والمُحاكمة التي واجهتها بعد نشرها.
بعلبكي هي كاتبة رواية "أنا أحيا" التي نُشرت عام 1958، وهي أول امرأة عربية تتحدث عن الأفكار الوجودية لتحاكي حالة النساء في لبنان. تتحدر بعلبكي من عائلة ذات أصول شيعية ولدت عام 1936 في بيروت. ظهرت بعلبكي في عصر ثقافي يعتبر ذروة التحوّل الكلّي للوظيفة الاجتماعية إذ بدأت الكتابة تُعتبر سلاحاً في جميع أنواع الصراعات الاجتماعية – السياسية في المنطقة. وكما ذكرت كفاح حنّا ومارغو بدران أنّ الحركة النسوية تلقّت الدعم مع انتهاء فترة الوصاية وذلك من خلال التركيز على تطور القوة الثقافية والأدبية بين النساء2 (البرجوازيات بشكل أساسي). شهدت أواخر الخمسينيات – سنوات شكّلتها نهضة العروبة والنهضة الثقافية الفلسطينية وصراعات متنوعة مناهضة للاستعمار – توثيق الروابط بين الاستقلالية الفكرية وتمكين المرأة. لقد جسّدت لينا، بطلة رواية "أنا أحيا"، قوة معتقداتها الوجودية وفردية شخصيتها؛ وشكّل مسار بحثها الدائم لمعرفة الذات المساحة الاجتماعية للرواية. شكّل نقد لينا اللاذع للبرجوازية الذكورية كسلطة ذات سيادة، مصدر إلهام لعدد كبير من الأدباء الذين عاصروا بعلبكي والذين دخلوا معترك الأدب فيما بعد. دفعت الرواية بعلبكي الى الصدارة إذ أطلقت ما اعتبرته حنان عواد أول "حركة نسوية ثورية" في الأدب العربي.3 أما حنان الشيخة وكوليت خوري فقد اعتبرتاها نموذجاً مهماً، هذا ومن الجدير بالذكر أنه كان من الصعب إدراج رواية مثل "الباب المفتوح" عام 1960 للكاتبة لطيفة الزيات في قائمة الأعمال الأدبية لولا لم يسبق ذلك تقبّل رواية "أنا أحيا".
حظيت رواية بعلبكي باهتمام عدد من القطاعات الأدبية العربية، غير أنّها أثارت من ناحية أخرى غيظ منتقديها. وتحوّل ذلك الغيظ إلى اضطهاد صريح وعلني عند نشر مجموعتها الروائية "سفينة حنان إلى القمر" عام 1963. وبعد مطالعة أخلاقية، نُشرت تحت اسم مستعار في المجلة المصرية "صباح الخير"، جرى حظر المجموعة في لبنان وتمّت مُحاكمة بعلبكي بتهمة ما سُمّي "إباحية" عدة قصص.4 كانت تلك المحاكمة الأولى من نوعها في لبنان، حيث جرى محاكمة كاتبة بتهمة "إهانة الأخلاق العامة" عبر كتابات تتناول الرغبة الجنسية من منظور المرأة. وبالرغم من تبرئة بعلبكي، إلا أن التجربة كانت مروعة. واتفق النقاد بالإجماع أن المحاكمة أنهت المرحلة الأكثر أهمية في مسار بعلبكي الأدبي.5
وكانت نهاية أخرى أدّت إلى بداية جديدة، إذ تحوّلت بعلبكي إلى الصحافة. وكان أن نشرت في الستينيات والسبعينيات في المجلات والصحف مقالات تناولت فيها ما كان يجري حينها من أحداث وأمور أثارت اهتمامها. قد تكون تلك الكتابات شخصية أو سياسية؛ إلا أنها غالباً ما كانت تؤكد، كما في مقالاتها الثلاث التي نُشرت في العدد الخاص من مجلة "الآداب" عام 1973، أن الحدود بين الاثنين جرى طمسها. ومن الجدير بالذكر، أن الحدّ بين الملاحظة التوثيقية والإبداع الأدبي كان قد طُمس هو أيضاً. "شَهدْتُ ولادة الفجر"، "على وجه الماء مشى حبيبي" و"أيتها الدبلوماسية: نارنا لن تطفئيها" – هذه النصوص التجريبية القصيرة بشكل عام، والتي جرى نشرها في مجلة "الدستور" وتمّت ترجمتها هنا لأول مرة إلى اللغة الإنكليزية، تناقض الرواية القائلة إن بعلبكي توقّفت كليّاً عن ممارسة النشاط الأدبي بعد محاكمة عام 1963. وقد أظهرت هذه النصوص مفهوم بعلبكي الجديد للحرية.
"أنا أحيا"، كما يبدو من العنوان، تأكيد صارم على الاستقلالية (الفردانية) الفطرية. تعتبر لينا أنه يجب تحقيق الحرية من خلال ممارسات تملّك الذات. (تبدأ الرواية بعبارات: "تساءلت، فيما كنت أعبر الرصيف بين محطة القطار ومنزلنا، لمن هذا الشعر الدافئ، هذا الشعر المنثور على كتفيّ؟ هل هو لي؟ أوليس جميع المخلوقات عندها شعر تستطيع أن تفعل به ما يحلو لها؟" من6 هذه البداية التوكيدية التي تعتبر الجسد كنقطة صراع للحرية، تعكس الرواية أفكاراً ثورية في كل الاتجاهات ضد أية سلطة قد تعيق بحث لينا عن الأصالة سواء كان الأب أو جهة سياسية. وَصَفَ بعض النقّاد في ذلك الحين الرواية بأنها عدمية رغم قوة ثورة لينا وبلوغها حدود الطيش، إلا أن التقييم الحديث للرواية استخلص منها دروساً مختلفة.7 دروس على صلة وثيقة بأهدافنا؛ دروس تؤكد أن الصراع من أجل الحرية والحرية كشكل من رفض الاستعمار تبدأ من داخل النفس وتنطلق للخارج لتطاول العائلة والدولة وتستمرّ لتطاول أخيراً... كل ما يعترض طريقها.
إن كانت روايات "أنا أحيا" و"سفينة حنان إلى القمر" لبعلبكي تضمنت ذلك الدرس باختصار، فإن مقالاتها في مجلة "الآداب" عكست تعبيرها النضالي الناضج. قدّمت لنا هذه النصوص التي ظهرت بمناسبات مختلفة فكانت أحياناً واضحة جداً وأحياناً أخرى خفيّة، برمزيتها، مفهوماً للحرية ما زال مرتبطاً بجسد المرأة وتجاربه الحميمة. إلا أنه جسد يدفعها بقوة عبر الجموع، ويمحو الـ"أنا" لتذوب بالـ"نحن" التي تضمنت الكثير من الفخر والمعنى. ومن خلال استخدام استعارات كونية ولغة رمزية نابضة بالحياة، نال الحشد الثوري المتدافع من خلال هذه المقالات نقطة انطلاق جديدة للنضال من أجل الحرية؛ ومن خلال تلك الجدلية استردّ الفرد نفسه لأنها تحركت ضمنها. هي جموع تحارب علناً لتحرير فلسطين (في مقالات "حضرت ولادة الفجر" و"أيتها الدبلوماسية: نارنا لن تطفئيها") ولتثبيت مساهمات النساء في القتال لتحقيق عالم متساوٍ جديد. في هذه النصوص، تتفاعل نشوة الحب الرومنسي مع انفعالات الاضطرابات الاجتماعية، ويجسّد الوجع المبرح للحب الضائع عذاب الخيانة السياسية. سُمّي الشهداء عشاق وأعداء للدولة الصهيونية. وعندما جرى التشديد على مفهوم الأسرة والإشادة بها كما في "على سطح الماء مشى حبيبي"، كان ذلك من خلال لغة التكاثر الاجتماعي. وعندما استحضرت الأمومة، كانت بمثابة الوتد الذي سيؤدي عدم وجوده إلى انهيار بدعة العالم المادي برمتها. قد لا يخلو الأمر من بقايا مسار ثقافي موروث يمنح أسبقية للبسالة الذكورية، لكن الإهتمام بالقرابة النسوية وبوضع عمالة النساء كشرط مسبق أساسي لمتاعب المقاتلين الرجال، أثبت صحة الأساليب التي عبّرت من خلالها بعلبكي عن التخيلات النسوية في عصرها. وفيما كانت فئة المحاربين الرجال تلقى التبجيل، بدأت الأمور تتجلّى ـ تبيّن أنهم وسطاء اجتماعياً. هذا التحول الذي تناولته بعلبكي حول المطالب النسوية والذي حاكى ما أشارت إليه كفاح حنّا على أنه انتقال من نموذج نسوي فردي محض إلى نموذج علائقي، بدا هنا مُؤثراً جداً من خلال الابتكارات الرسمية والجمالية التي تضمّنها.
عندما قرأت مقالات بعلبكي للمرة الأولى في مجلة "الآداب"، اعتبرتها قصائد نثرية. جعلتني الرمزية، والفواصل المتكررة، وبناء وإيقاع الكلمات المُستخدمة أبلغ تلك التفسيرات – هذا عدا أن القصيدة النثرية، كانت، بشكل عام، رائجة جدا في المحافل الأدبية اللبنانية في فترة السبعينيات (1973). لم أعرف أن تلك النصوص هي مقالات صحفية إلا بعد أن أتيحت لي الفرصة إلى مراسلة الكاتبة – من خلال زوجة ابنها زينة. إلا أن بعلبكي تفهّمت حالة الارتباك التي اعترتني وأعجبتها فكرة أن تبدو مقالاتها قصائد وكتبت في رسالتها، "إنها موهبة فطرية" بعدما ذكرت أن والدها كان شاعراً.
وهكذا اعتبرتُ تلك النصوص الثلاث "مقالات شعرية" قدّمت من خلال تأرجحها الرسمي والعام أفكاراً قيّمة حول أساليب الكتابة التي حاكت الإحساس بالحياة عبر "التاريخ الجديد" الذي كتب عنه إدريس. النضال الفلسطيني، واغتيال القادة اليساريين وفشل الإصلاحات السياسية، ظهرت جميعها في مقالات بعلبكي التي كتبتها عام 1973 ليس فقط كمسائل عربية إنما كاهتمامات محقّة نسوية ومناهضة للاستعمار. نبّهتنا هذه المقالات إلى أهمية هذا التحوّل التاريخي في المسار النسوي بقدر ما لفتت انتباهنا إلى أن بعلبكي بقيت شخصية مؤثرة في الأدب العربي لزمن طويل بعد المحاكمة التي بات اسمها مرادفاً لها. آمل أن يكون إعادة تسليط الضوء على تلك الفترة من عملها في ترجماتي، حافزاً ليفعل آخرون ذلك أيضاً.
جرى نشر المقالات الشعرية بموافقة من الكاتبة. حقوق النشر عائدة الى ليلى بعلبكي. تم نشرها للمرة الأولى في مجلة الدستور عام 1973.
Allen, Roger and Hilary Kilpatrick, eds. Love and Sexuality in Modern Arabic Literature. London: Saqi Books, 1994.
Awad, Hanan. Arab Causes in the Fiction of Ghaddah al-Samman, 1961/1975. Sherbook: Editions Naaman, 1983.
ليلى بعلبكي، أنا أحيا، بيروت: المكتب التجاري، 1964.
ليلى بعلبكي، "حضرت ولادة الفجر"، "على وجه الماء مشى حبيبي" و"أيتها الدبلوماسية: نارنا لا تطفئيها"، الأدب 21، رقم 11-12 (1973): 28-29. https://al-adab.com/sites/default/files/aladab_1973_v21_11-12_0028_0029.pdf
ليلى بعلبكي، سفينة حنان إلى القمر، بيروت: المكتب التجاري، 1966.
Badran, Margot. Feminists, Islam, and Nation: Gender and the Making of Modern Egypt. Princeton: Princeton University Press, 1995.
Di Capua, Yoav. No Exit: Arab Existentialism, Jean-Paul Sartre, and Decolonization. Chicago: University of Chicago Press, 2018.
قناة الغد، "رواية «أنا أحيا» للكاتبة اللبنانية ليلي بعلبكي"، يوتوب، 19 تشرين الاول 2019. https://www.youtube.com/watch?v=tI33GNqEyrI&t=946s
Hanna, Kifah. Feminism and Avant-Garde Aesthetics in the Levantine Novel. New York: Palgrave MacMillan, 2016.