السريرة الأرخبيلية: ملاحظات وتأمّلات حول الصوت الشعري والكتابة العابرة في الفلبين

السيرة: 

شين كاريون مؤلف لثلاث مجموعات شعرية، كان آخرها أول كتاب شعر مؤلف منفرد في الفلبين عن خروج العابرين (In Praise of Wilderness، 2021). حصل على جوائز من بينها زمالة فولبرايت، وأكمل درجة الدكتوراه في نيويورك حيث درس الكتابة الإبداعية. حاليًا، هو أستاذ مشارك في الفنون الجميلة بجامعة الفلبين في سيبو ويواصل العمل في دراسات الترجمة وفك الاستعمار، والمرئية، والثقافة الشعبية، وإعادة التفكير في الأرخبيل والحدود فيما يتعلق باللغة والهوية والجنس.

اقتباس: 
شين كاريون. " السريرة الأرخبيلية: ملاحظات وتأمّلات حول الصوت الشعري والكتابة العابرة في الفلبين". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 9 عدد 1 (20 يناير 2023): ص. 99-111. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 19 أبريل 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/389.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (794.16 كيلوبايت)
ترجمة: 

أدهم سليم هو باحث وكاتب يعمل حالياً مديراً لتحرير منصة "الأركيلوغ" للنشر والترجمة.

باحثة ومترجمة واستشارية. يتركّز عملها البحثي في الثقافة والفنون وهي متخصّصة في الفنون العربيّة المعاصرة. يشمل عملها البحثي مجالات عدّة منها العمالة الثقافيّة والفنيّة المجندرة. عملت سابقًا كمديرة مساعدة في مركز بيروت للفن وشاركت في تقييم عدد من المعارض الفنيّة. هي أيضًا مؤسّسة مشاركة في "الأركيلوغ" منصّة إلكترونيّة للترجمة والنشر بشكل جماعيّ.

asadtryptich11.jpg

نساء الجزائر٬ 2012

أسد فالويل

 

من وإلى المركز.. السفر بين "العوالم"

أنا شغوفٌ بالصوت في الشعر؛ وبشكلٍ خاص، بالصوت في مجموعاتي الشعرية التي تمتدّ على مدى عقدٍ كامل: travelbook (2013)؛ Then, Beast (2017)؛ و In Praise of Wilderness (2021). يُفترَض عادةً في الصوت الشعريّ أن يصطبغ وينبض بإحساس الشاعر بذاته. ولا أحيل هنا إلى نمط السيرة الذاتية في كتابة الشعر أو القصيدة الاعترافية ونحوها. بل ألمّح إلى صوتٍ شعريٍّ يجسّد في آنٍ تجارب الفرد والجماعة ومدارك ذاتٍ تتشكل باستمرار عبر حركتها من وإلى فضاءاتٍ ومقاماتٍ مؤقتة. في مقاربتي لما كتبته خلال العقد الماضي – وهي عمليةٌ من التساؤل والتجوال والاستكشاف – أقرأ قصائدي من خلال مفاهيم التفكير الأرخبيلي والسفر بين "العوالم" وأتساءل كيف للصوت الشعري في قصائدي أن يعبّر عن حركتي من وإلى مراكز مختلفة وعن موقعيتي العابرة وسريرة نفسي الأرخبيلية كشخصٍ عابر يكتب بالإنكليزية في الفلبين. وكيف لهذا الشكل من الترحال المستمرّ أن يسمح لي بإعادة تخيّل ماهية العمل المناهض للاستعمار في الأدب الفلبيني.

تركتُ سيبو مرارًا من أجل الشعر. قصدت فضاءاتٍ أدبيةٍ عدّة، وانتقلت إلى مانيلا، ثم إلى نيويورك. وبعد كل سفرة، كنت أعود إلى حيث وُلدت ونشأت، إلى جزيرة سيبو حاضرة الثقافة والاقتصاد في إقليم بيسايا بالفلبين. إن تجربة العيش على واحدة ضمن عديدٍ من الجزر في بلدٍ أرخبيلي يتحدث أهله مئات اللغات يجعل كل سفرةٍ بمثابة انتقال من مركزٍ إلى آخر. هنا تبدو العاصمة مانيلا لا كفضاءٍ جغرافيٍ مختلفٍ وحسب، بل كعالمٍ مختلفٍ لغويًا وثقافيًا عن ذلك الذي أتيت منه، تمامًا كما نيويورك: مدينةٌ أخرى في بلدٍ آخر في النصف الآخر من الكرة الأرضية.

بخلاف العالم الذي تعلّمت سكناه أولًا، كنت غريبًا في هذه العوالم الأخرى. كانت غربتي في أعيُن الآخرين تستند على افتراضات كوني امرأةً غيريةً تجيد اللغة السيبوية بطلاقة وتكتب، ربما ببعض النوستالجيا، عن مسقط رأسها وأعراف شعوب البيسايا.

كنت واعيًا لذلك، إلا أنني لم آخذ هذه الافتراضات على محمل الحقيقة أو عكسها. رغم إدراكي لكوني من "عالم" آخر، إلا أنني شعرت بشكلٍ من الألفة هو أقرب للانتماء في هذه الفضاءات والأماكن المختلفة والبعيدة – وربما تحديدًا لكونها كذلك – عن المكان الذي اعتدت على اعتباره موطني. ولا ينفي ذلك أنني أشعر بالألفة أيضًا في سيبو، بل بالأحرى تعزّز هذه التعدّدية الهوياتية المُعاشة شعوري بالألفة والموطن أينما حللت.

حينما أقول "عالم" أقصد نسخةً معدّلةً عن فكرة ماريا لوغونس لعالمٍ يأهله أناسٌ حقيقيون، سواء كانوا نفرًا من الناس أو قسمًا من المجتمع أو مجتمعًا برمّته أو حتى متسعًا يشمل شعوبًا عدّة في عالمٍ متغيّر.1 يشمل العالم في نظرتي بعدًا شعوريًا يتصل بالحيّز المكاني والزماني الذي يؤوي هذا العالم وسكانه. يمكننا على هذا النحو النظر إلى العالم بشكلٍ علائقي؛ كمركزٍ ريزوميٍ للمشاعر. فيمكننا خلق العوالم زمانيًا، كما يحدث حين يجتمع عددٌ من الكتاب لظرفٍ ما – كحضور ورشة عمل أو إقامة فنية أو زمالة أو مهرجان، قد يتردد صدى أثره في أشكالٍ لاحقةٍ رغم ما يبدو عليه الظرف من لحظيةٍ عارضةٍ. فاللقاء قد لا يعني بالضرورة الاختبار الجسدي للظرف الزمني نفسه، فالناس يلتقون أيضًا عبر تقاطعات اللغة وعلى تخوم الاستعمار وفي استراحة قد تلهم مسيرة حياة من النضال وفي الفضاءات الخلالية حيث يبتعد الكتّاب عن حيث كانوا وحيث هم وحيث يودّون الذهاب في المستقبل الحالم.

أجد ذاتي المتعددة مع ميرلي ألونان، ومع كتّاب من شرقي البيسايا ممّن يكتبن/ون بلغاتهن/م المحلية التي تختلف وتتشابه مع السيبوية، ومع تجمّعات الأدباء في سيبو كتجمّع النساء في الفنون الأدبية وباتالاد، كما مع كتّاب من مناطق أخرى من البلاد "أصبحت" من خلالها كاتبًا من الجنوب. لا أرى الجنوب الذي تقع فيه سيبو نسبةً إلى العاصمة مانيلا كمحددٍ جغرافيٍ لموطني، بل كهويةٍ وموقعٍ أنتسب له وآلفه، ونوعٍ من الانتماء وتحالفٍ معقّدٍ لاستخلاص مفهوم "الأمة" ممّا فرضته عليه العاصمة من قيود. أرى الجنوب كمساحةٍ لتمكين عالمٍ يسكن غالبه كتّاب من جنوب الفلبين من الانفتاح ليشمل سائر البلاد وربما الجنوب العالمي كلّه، في إيماءةٍ إلى التنوّع المعقد للعوالم الذي قد يسمح لأحدها أن يكون مركزًا في ذاته، ينشأ وينمو ضمن الذات المتغيرة التي تسكن هذا العالم مؤقتًا عبر لحظات من تعريف الذات وتقريرها.

العالم بهذا المعنى دائم التشكّل وفي حركةٍ دائبة، وهو متصلٌ بطرق عدّة مع العوالم العديدة التي سكنَتها أو ارتحلَت فيها ذواتنا سواء جسمانيًا أو خلاف ذلك. ربما ندرك هذا العالم أولًا عبر مقدمات وسيطة من نوع: سمعت عنه، أو قرأت عنه في كتاب، أو شاهدته على الشاشة، ثم نعيد تخيله بعد ذلك بشكلٍ مستمرٍ ليستحيل واقعيًا بما يكفي لتسكنه ذواتنا. بينما يسري الإحساس بتبدّل الحال بين المستقرّ والمقام في قصائدي، يتناهى لسمعي صوتٌ قادمٌ من واحدةٍ من قصائدي السالفة، ليخبرني بوجود عوالم أخرى مختلفة وبعيدة عن عالمي الآني. "مانيلا" هي عنوان القصيدة ومطلعها:

 

لا بدّ أنّه حقيقي، ذلك العالم الذي أرى
على التلفاز: فيضان، مجاعة

فاجعة أن تكون
إنسانًا. لا تسمع سوى الشائعات

القادمة من بعيد
تتحرك مع كل موجةٍ

من زبدٍ فوّارٍ وتردد
قصصًا تتحول إلى حقائق – رأيتها

 

يخبر الصوت في القصيدة عن فضول المتحدّث الذي اجتذبته مانيلا لا لكونها عالمًا مختلفًا عن عالمه، بل بشكلٍ أساسيٍ لكونها عالمًا موازيًا ومنفصلًا عن عالمه في الآن ذاته. ورغم معرفته بهذا العالم عبر التلفاز والشائعات حصرًا، لا يغير ذلك من قناعته الراسخة بأن هذا المكان الاستثنائي للمأساة وانتصار الروح موجودٌ حقًا بمعزل عمّا وصله من معلومات. وحين يتأكّد شخصيًا مع تحوّل القصص إلى واقع تحققت منه العين يعود الصوت إلى فكرة الاستكانة في حضن الوطن، والانفتاح على إمكانية الحركة وسكنى العالم الفعلي. تنطوي نبرة الصوت على ألفةٍ تربط العوالم التي يتحدّر منها ويتوجه إليها الصوت، كما والفضاءات العلائقية التي يكون فيها الصوت حين يتحدث.

أدرك أن العالم الذي تركته لن يكون هو نفسه حين أعود. العالم متحوّرٌ على الدوام، وكذلك ما تنطوي عليه سريرة المرء من ذواتٍ متعددة. نسمع هذا التحول المستمر للعالم وللذات في لحظة العودة في صوت المتحدّث/ة في قصيدة "أن تذهب إلى أوبون" والتي تقتفي أثر التغيّر مع الحركة:

 

يجب أن تذهب إلى أوبون         يجب أن تأتي
أن تعود إلى أوبون                على أي حافلة وأي طريق
أي منعطف سيوصلنا

هذا الجسر الأخير                 إلى أوبون
قدم في المحطة           ثقيلة بكل أحمالها
معطف جديد              دفتر قديم        متفرّقات
من بين كل البطاقات التي تحمل اسمًا               تحمل اسمي     واحدة
حين     عشتها تقف الآن القدم الأخرى

تعيش

متأرجحًا بين أذرع الشجر
أرجوحة من الأريج
أزهار جوافة وسفرجل هندي

وثمار ورد

ثمار الكاكايا أعسلت كقفير نحل
الملكة
حاملة
حي من الأطفال
كلهم أخوتي وأخواتي
أركض حافي القدمين
ترقص أنامل قدمي على نعال من تراب
غسق   وشوارع وعرة
تمتلئ حفرها بمياه المطر

 

كتبت هذه القصيدة على غرار قصيدة ألفين بانغ "أن تذهب إلى سنغافورة" والتي كتبها هو أيضًا على غرار قصيدة آدم زغاجفسكي "أن تذهب إلى لفوف،" وفيها يشي ترحال صوت المتحدّث/ة بمعرفة – بمعزل عن نيةّ وفعل العودة إلى عالم سكنه هذا الصوت سابقًا، وعن إمكانية وجود هذا العالم جغرافيًا – لم يكن استمرارها ممكنًا سوى في الذاكرة حيث "مراكب الورق لا تزال تبحر في مخيلتي".2 بعبارة أخرى، لم يكن لهذا العالم السابق أن يظل موجودًا سوى بالاتساع المستمرّ لسريرة النفس. إنه عالمٌ للمشاعر من بين عديدٍ من العوالم التي تتغير باستمرار بفعل الخبرات المتراكمة. تُظهِر هذه المحاولات للعودة حركةً تردديةً للذات بين عوالم تأتلف فيها هذه الذات – عبر تعريف الذات وتقريرها – مع عوالم متغيرة من خلال (إعادة) تشكيل العلاقات المتعددة والمعقدة.

أحيانًا قد تتردد الذات بين عالمٍ موجود بدءًا في المخيّلة – تسكنه الذات عبر المشاعر – وعالمٍ هو نفسه (غيره) تجده الذات لاحقًا عبر السكنى، مشابهًا أو مختلفًا عن ذلك الذي تخيلته. في قصيدتي "أميركا" والتي كتبتها في لقاء مع ماريا غيلان وجو وايل، وشعراء آخرين/ات من خلفياتٍ عمالية ومهاجرة، يبدو الصوت الشعري بادئ الأمر راغبًا في سكنى عالم تزينه مظاهر الاستعمار. لكن قرب نهاية القصيدة، يتبدّى ملمح من الشك في صوت المتحدّثة بينما تتوانى أفكارها:

 

في شبابنا وددنا لو تزوجنا أميركي
أن نذهب إلى أميركا وأن نعيش في بيت كبير
فالقصور والأميرات بالفساتين المكشكشة
لم يعد لهن وجود، بالتأكيد نعرف ذلك!
إلا أنه لم يزل بإمكاننا اختيار ألوان غرفنا، وستائرها
أن نرتدي مريولًا وأن نخبز الكعك
لأولادنا المقبلين ركضًا مع كلبنا في أعقابهم
سيكون ذلك في أواخر الخريف أو شتاء معتدل
الشجرة في باحتنا الخلفية ستكون عارية من أوراقها تحمل مرجوحتنا

 

نتعرّف من الصورة والحالة الشعورية على صاحبة الصوت في القصيدة والتي ترنو إلى عالمٍ مثاليٍ تحلم به منذ الطفولة، إلا أنها حين تصل إلى هذا العالم لتحقق حلمها تكتشف خواه الذي تلمح إليه بذكر الخريف وشجرةٍ عاريةٍ تحمل مرجوحةً خاوية.

بُنيت بعض العوالم تاريخيًا بطرقٍ تحثّ مدارك وحركات بعينها. لذا يشير الصوت في القصيدة إلى علاقة صكّها الاستعمار بين الذات والعالم المتخيل الذي ترغبه؛ وهي علاقة يزيد من تعقيدها سكنى العالم الحقيقي الذي تُضطر فيه هذه الذات إلى تطوير هوياتٍ جديدة كي تتكيف وتصمد وتزدهر.

بالنظر إلى علاقتي مع اللغات وتقاطعاتها مع تواريخ الناس، كتبت قصيدة "بابل" لأصف الانطلاق من عالم والوصول إلى آخر من خلال عملية تناسي اللغة والتي هي ركن من أركان المشروع الاستعماري:

 

1.

القاعدة الأولى هي الإصغاء

انصتي إلى الصخرة على الحائط السد

انصتي

 

2.

مقابل البرج، أضع راحتي المفتوحة
أضغط أذني اليسرى، أضغط
أغمض عينيّ، وشفتاي مفتوحتان
لساني يبحث عن الكلمات

 

لا حاجة هنا للغة السيبوية التي سرعان ما تبخرت

كان الوعد سماءً –

 

وهكذا، صخرة بعد صخرة، قطعت
صلتي مع أصولي، قطعت حبلي السُرّي
تليّفت عُرى الذاكرة وصارت قاسية

كالذرة، خشنة كبلّورات ملح على سردين مجفف

 

يشهد الصوت هنا على اختبار الفرد والجماعة لسلطة استعمارية تمأسست عبر التعليم الرسمي، وبشكلٍ أكثر تفصيلًا، على قدرة التعليم النظامي على تشكيل الألسن عبر الإنكليزية. يتحدّث الصوت عن تجربتي في مانيلا حيث اللغة الأساسية هي التغالوغ؛ وفي نيويورك بنسختها المحلية من الإنكليزية الأميركية، وحين أعود إلى سيبو بلغاتها المحلية، وحين أتحرك بين عوالم مختلفة تكون فيها اللغة هي الفاصل الواصل. أدرك كيف تشكل اللغة مشاعر المرء الأدبية بل وانحيازاته أيضًا. كشاعرٍ فلبيني من جزيرة سيبو، لست متمكّنًا من لغة الفلبينو، وهي اللغة القومية التي تُدرّس رسميًا في أنحاء البلاد، أو اللغة السيبوية التي يُفترض فيها أن تكون لغتي الأصلية. ما أتقنه هو النسخة الفلبينية المحلية من الإنكليزية والتي تثري خلفيتي ومداركي الأدبية. نتيجة لذلك تُصنّف أعمالي عادةً تحت ما يبدو كإشارةٍ تحذيرية: أدب فلبيني بالإنكليزية أو شعر فلبيني بالإنكليزية أو أدب سيبوي بالإنكليزية.

تتردد أصداء هذا التوتر في "بابل". حتى وإن بدا الصوت على طول القصيدة طائعًا، هناك ثمّة قلق من "الإصغاء" و"الطاعة" للغةٍ حادّةٍ لا تخدم التلقين الاستعماري وحسب، بل وتحرك أطره المفاهيمية المفروضة والتي تتضمن أيضًا مفهوم الجندر. في القصيدة نفسها أشير إلى استعمارية مفهوم الجندر:

 

الكتاب المقدس، وقاموس "ويبستر" لونه أحمر

وبانية أبراج، تُرجمت

واستُبدلت بضمير

هي

لكن في أحلامي وجدت صبيًا

في أحشائي كان نائمًا

ككلب ضائع إلى جوار عمود إنارة

baleté tree, engkanto

 

تؤكد الإشارة لضمير التأنيث هنا على أهمية الضمائر في علاقتها مع الجسد كدوالٍ على الذات. تفرض الضمائر الثنائية المتقابلة بالإنكليزية "هو" و"هي" تصنيفًا ونظرةً للعالم تختلف عن تلك التي تعبّر عنها اللغتان السيبوية والتغالوغ بضمير مثل "siya" والذي يمكن استعماله للإشارة للمذكر والمؤنث وسواهما.

أفترض أن الجسد جزءٌ من الذات التي تنتقل بين العوالم، وهو دافعٌ من دوافع حركتها فيها. وأعتقد أن الجسد في بعض العوالم يمتلك هامشًا من المراوحة بينما يصبح جموده في مجتمعاتٍ أخرى دليل سلطة أكبر، وربما سلطة كاملة، على تحولات الذات. وبينما يمكن للانتقال إلى عالم ما أن يؤثر على الظهور والعلاقات في هذا العالم، إلا أن هذا الفعل قد يمتلك استمرارية متقلبة في عوالم أخرى. خرجت من الخزانة عبر نشري لمجموعاتي الشعرية، إلا أنني لا أجد بدًا من "الانتقال الخيالي" حين أُستَبدَل بضمائر متزامنة ومؤقتة في العوالم المختلفة التي انتمي لها. وأقصد بالانتقال الخيالي هنا الإشارة إلى ذلك الموقف اللعوب الذي يسمح للغريب أن يكون موجودًا في عالم ما عبر "الانفتاح على المفاجأة" و"الانفتاح على إعادة تخيل الذات".3

أعي أن أعمالي تُقرأ من منظورٍ هوياتي ومن تخيلٍ لذاتي كغريب، لذا يمثل الانتقال الخيالي في قصائدي صوتًا عادةً ما تربطه علاقةٌ غائمةٌ مع الجسد. في قصيدتي "موكب السيرك" يتعجب الصوت من مرأى الأجسام المؤدية في الفضاء العام:

 

جاءت الأفيال
تمشي. جاء السيرك
إلى المدينة، يربو الرذاذ
على خواصر جلدية ويقشعرّ
جلدي اليقظ. وحوش

لاحقًا في القصيدة نفسها، يعبّر الصوت عن تماهيه مع حيوانات السيرك:

برأسٍ متوّج
كغزال صغير، وجدت

نفسي مع الآخرين أسارع
نحو الحواجز العالية

إلى العروض اليومية
ما أجمل أيام الفيلة
أوقات غير اعتيادية ورائعة

دخان وألعاب نارية
تتحوّل

أولاد نحاف بعمر الثالثة عشر
يرمقون النمور الحبيسة تخطو، مفتولة
صهباء ومتوترة

 

في هذه القصيدة، كما في غيرها، لا نرى الوعي بالذات ممثلًا بالجسد بقدر ما نسمعه في الصوت الذي يحرك الذات وهي تلمس الجلد وحدود الجسد. حين تسافر الذات إلى عالمٍ ما وتقيم فيه، يتحول الجسد مؤديًا أمام الناس في هذا العالم.

أعتقد أنه ورغم خروجي من الخزانة على صفحات مطبوعةٍ واسعة التوزيع، إلا أن التصور عن ذاتي في بعض العوالم لا يزال مرتهنًا بجسدي. هل يمكن أن ينتقل المرء إلى عالمٍ تكون فيه مادية الجسد أمرًا أقل شأنًا بالمقارنة مع الذات؟ في قصيدتي "حب دون ضوء" يتشكك الصوت الشعري في الجسد، ويعتبره – بل ويعتبر مجرد رؤيته – عقبةً في سبيله:

 

أفضّل العتمة
حيث يمكن أن نهجر
أنفسنا، حيث لا نكون
أكثر من مجرّد حواس ورغبة
ربما الحبّ أيضًا
يحتفل بعماه

 

صوت المتحدّث في هذه القصيدة هو صوت يتمنّى – رغم معرفته بهذا العالم – أن يعيش في عالم يرى فيه ما هو أبعد من محض انطباعات جسدية. بعبارة أخرى، يود صاحب الصوت لو يكون موجودًا في هذا العالم دون أن يُختزَل بأطر النوع الاجتماعي والجنسانية المفروضة على الجسد.

 

صوت عابر التموضع

كنتُ أُعامَل كامرأةٍ غيريةٍ متوافقة الجنس إلى أن بدأتُ أؤلّف القصائد عن رغبتي وحبّي لامرأة، ما استدعى افتراض قراءة نصوصي كمحاكاةٍ لهويتي الجنسية ولما يفتَرض أنه جسدي المتكلم. وعندما طُلب إليّ الحديث عن نفسي خلال إطلاق مجموعتي الشعرية الأولى، واجهتُ صعوبةً بالغةً في التعبير بوضوح عمّا كان يخالجني حينها وأفتقد المفردات لوصفه. تقتضي القاعدة السائدة عند استقبال الغرباء في عالم جديد التعريف بالذات والامتثال للتصنيفات المبرمة سواء وفق النوع الاجتماعي أو الإثنية أو الطبقة أو غيرها. وتكمن الأهمية البالغة للتعريف الذاتي في اعتباره نوعًا من الشهادة في مواجهة إصرار العالم على فرض هذا التعريف وفق تصوراتٍ معيارية بل أيضًا بحسب مظهر الجسد.

بشكلٍ عام، يتمّ التركيز على النوع الاجتماعي في قراءة القصيدة في الفلبين من خلال نسبة الصوت الشعري إلى جسد المؤلف وعن طريق الإصغاء إلى أي إشارات سماعية قد يحملها هذا الصوت تعبيرًا عن علاقات السلطة غير المتكافئة بين الرجال والنساء أو عن أي تعزيزات أو اختلالات سواء كانت صريحة أم مُضمرة في التصوّرات المعيارية الغيرية. بعبارةٍ أخرى، ثمّة علاقة مباشرة بين ما يُعتقَد أنه الجندر الأدبي للصوت الشعري وبين الجندر المفترض للمؤلف الذي يُستخدم جسده كمحدِّد جندري. فعلى سبيل المثال، ترتكز قراءة أشعار كل من إرليندا ألبورو وأدونيس دورادو على التسليم بالمنظور المعياري الذي يطابق جسد الشاعر/ة مع الجندر المفتَرض المنسوب إلى الصوت الشعري. وبالرغم من ظهور بعض القراءات النقدية لأمثال ج. نيل غارسيا الذي يسعى إلى زعزعة فرضيات القراء حول الجندر الأدبي من خلال الإشارة إلى "نفحات مثلية" في نصوصِ "مُرمّزة" في الأدب الفلبيني،4 فليس من ثمّة نقدٍ أو تأزيمٍ للفرضية الضمنية بأن الكاتب/ة متوافق/ة الجنس. تستمرّ المفاهيم والتوجهات السائدة في استقراء الجندر في الشعر الفلبيني المعاصر في الإحالة إلى المواقف الجريئة سواء في مجابهة الأبوية والغيرية أو في الدفاع عنهما.

عندما أعلنتُ على الملأ أنني "امرأة تعشق النساء" بمناسبة إطلاق مجموعتي الشعرية الأولى، كنت أتكلّم من منطلق كوني قد عشتُ طيلة حياتي في عالم من صنع النساء، عشتُ وعوملت فيه كامرأة واتخذتُ أدوارًا اجتماعية مخصصةً للإناث ومن موقعٍ متوافقٍ مع الظروف التي تملي عليّ ظهوري كسحاقيةٍ في هذا البلد. دخلت إلى الوسط الأدبي في الفلبين كشخصٍ قادمٍ من سيبو يكتب الشعر باللغة الإنكليزية وله مساهمات في الكتابة السحاقية التي كانت لا تزال في بواكيرها. وقد آلفت عوالم الأدب الفلبيني على تعددها بالرغم من أنني لم أكن قادرًا على إطلاق اسمٍ محددٍ بعد. وبعد مرور عشر سنوات تقريبًا، خرجتُ كعابرٍ إلى دائرةٍ صغيرةٍ من الكتاب، وكان ذلك قُبيل نشر ديوان In Praise of Wilderness الذي استخدمتُ فيه ضمير المذكر. على الأثر، تمّ إقصائي من مجال الكتابة السحاقية في الفلبين بالرغم من أن ذلك الخروج كان لا يزال خارج نطاق أعمالي المنشورة. هل يؤكد هذا النوع من الإقصاء أن استقبال العمل الأدبي يقوم على تفضيل التعريف الهوياتي على التجربة الجسدية للكاتب؟ كيف تشكل مبادرات الإقصاء والإدماج العلاقة بين الصوت والجندر في قصائد الشعراء العابرين والمذكّرين5 مثلي الذين تتشكل مداركهم وأحاسيسهم إلى حد بعيد بالمراوحة في عالم يراهم ويعاملهم كنساء من ناحية، وبترحالهم الدائم من وإلى عوالم أخرى تراهم بصورة مغايرة؟ كيف يمكن الإصغاء إلى الصوت الشعري باعتباره شكلًا من أشكال اللامركزة وصدىً من أصداء التحولات الداخلية المستمرة؟

تتردد هذه الأسئلة في قصيدة "المبتدئة" حيث لا يشي الصوت بتململ الذات في جسدها فحسب، بل ويُسرّ أيضًا بأحاسيس نابعةٍ حكمًا من تجارب الحياة التي شكّلها هذا الجسد إلى حدٍ بعيد:

 

أمي اكتشفت أنني أزنّر ثديي

أعصّبهما كما تلفّ الشريطة

هدية لا أرغب فيها

لم تقل شيئًا. لبثت

بينما أعرّي صدري

بينما يتذكّر الجسد

انتفاخه

 

تتقاسم الأم والابنة لحظةً نادرةً من الانتماء/ الإقصاء. فبينما تعرّي الأم ابنتها وهي تؤدي طقس الانضمام إلى عالم النسوة، تُفاجأ برؤيتها للمرة الأولى عاريةً من رداء الجسد. تفطن الابنة إلى ما اكتشفته الأم: مكوث الابنة المؤقت في عالم النساء، وهو العالم الذي تنتمي إليه الأم، ورحلة الأم مع ابنتها إلى عالمٍ يقر ويحتضن فكرة السفر بين "العوالم" بمحبة6 ما يسمح للابنة بالشعور بالترحاب في كنف العالم الذي تنتمي إليه الأم.

يؤكد هذا التلاقي اللحظي بين الأم وابنتها على أن التجوّل بين العوالم المختلفة وفي داخلها يمكن أن يكون فعلًا واعيًا وإراديًا حتى وإن لم يكن كذلك بالضرورة. ويدل أيضًا على أن الإقصاء من أحد هذه العوالم سواء كان قائمًا على أساس التمايز الجسدي أو الهوياتي أو الاثنين معًا، لا يعني بالضرورة انتفاءً تامًا لأي صلةٍ مع هذا العالم أو حظرًا من ارتياده والمكوث الظرفي فيه.

قد يتّسع مفهوم الانتماء/ الإقصاء ليشمل علاقة الجسد مع العرق والإثنية وغيرهما من الانتماءات الهوياتية ومع التاريخ والاستعمار والولاءات الفردية المتداخلة بأشكال يعبّر عنها الصوت المتكلم في قصيدة "جسد 2":

 

جسدي الأسمر له ذاكرته
جسدي الأنثوي الوحشي الأسمر البائس يقاوم
خذلان نسياني وإنكاري.
كم تنصّلت منه، كل النساء السمراوات
يضربن على صدروهن، قلق
وتواريخ الجزيرة الشفهية.

فيا حبّ، كيف أعاهدك بعد حيرة
الرغبة، بالوفاء الملتهب الأبدي
في هذه البلاد، بلاد الرجال البيض

 

أحيانًا، يقترب وقع الصوت الشعري والتفصيل السردي في القصيدة والسياقات التي ينبثقان عنها من المؤلف/ة لدرجة تبرّر الإستماع إلى الصوت في الشعر من خلال فرضيات معينة عن هوية المؤلف/ة وجسده/ا. غير أن الهويات متعددة ومتحورة كما أنها قد لا تتوافق مع الجسد. وعندما تتمثل الهويات في الصوت الشعري، يردد ذلك الصوت وقع استراحاتها وهي تحط رحالها في عوالم مختلفة ومواقعها الذاتية المتنقلة. وليس التعبير عن تلك الهويات بواسطة اللغة أو الجسد كدالّةٍ بأقلّ تعقيدًا إذ من شأنهما (إعادة) موضعة وتحديد ارتباطات الفرد وعلاقاته.

 

  • 1. Lugones, 1990, p.168.
  • 2. Carreon, 2013, p.47.
  • 3. Lugones, 1990, p.177.
  • 4. Garcia, 2012, p.9.
  • 5. ارتأينا ترجمة transmasculine باستخدام لفظ "المذكرين".
  • 6. Lugones, 1990, p.162.
ملحوظات: 
المراجع: 

Bachelard, Gaston. The Poetics of Space. Translated by Maria Jolas. Boston: Beacon Press, 1994.

Carreon, Shane. travelbook. Diliman, Quezon City: The University of the Philippines Press, 2013.

—. Then, Beast. Diliman, Quezon City: The University of the Philippines Press, 2017.

—. In Praise of Wilderness. Diliman, Quezon City: The University of the Philippines Press, 2021.

Cromwell, Jason. “Queering the Binaries: Transsituated Identities, Bodies, and Sexualities.” In The Transgender Studies Reader, 509-520. Edited by Susan Stryker and Stephen Whittle. New York: Routledge, 2006.

Garcia, J. Neil, editor. “Introduction: Reading Auras: The Gay Theme in Philippine Fiction in English.” In Aura: The Gay Theme in Philippine Fiction in English, 9-38. Manila: Anvil Publishing Inc., 2012.

Glissant, Édouard. Poetics of Relation. Translated by Betsy Wing. Ann Arbor: University of Michigan Press, 2010.

Hoagland, Tony. The Art of Voice: Poetic Principles and Practice. New York and London: W.W. Norton & Company, 2019.

Lanser, Susan. “Queering Narrative Voice.Textual Practice, 32, no. 6 (2018): 923-937.

Lugones, Maria. “Playfulness, ‘World’-Travelling, and Loving Perception.” In Lesbian Philosophies and Cultures, 159-180. Edited by Jeffner Allen. Albany, New York: State University of New York Press, 1990.

—. “The Coloniality of Gender.” Worlds & Knowledges Otherwise, 2 (2008): 1-17.

—. “Toward a Decolonial Feminism.” Hypatia: A Journal of Feminist Philosophy, 25, no. 4 (2010): 742-759.

—. “Heterosexualism and the Colonial/Modern Gender System.” Hypatia: A Journal of Feminist Philosophy, 22, no. 1 (2007): 186-209.

Pugh, Jonathan. “Island Movements: Thinking with the Archipelago.” Island Studies Journal, 8, no. 1 (2013): 9-24.

Stryker, Susan and Paisley Currah. “General Editors’ Introduction.” TSQ: Transgender Studies Quarterly, 1, no. 3 (2014): 303-307.

—. “(De)Subjugated Knowledges: An Introduction to Transgender Studies.” In The Transgender Studies Reader, 1-17. Edited by Susan Stryker and Stephen Whittle. New York: Routledge, 2006.

Wiedorn, Michael. “On the Unfolding of Édouard Glissant’s Archipelagic Thought.” KaribNordic Journal for Caribbean Studies, 6 no. 1 (2021), 1-7.