عندما لا أعود موجوداً في هذا العالم: إثنوغرافيا ذاتية نسوية تعاونية للموت والدفن لدى المسلمات/ين الكويريات/يين
هذا المقال هو إثنوغرافيا ذاتية، تعاونية ونسوية، لمُسلمَين كويريَّين في المنفى، يطرح أسئلة حول الموت والدفن والحداد لدى المسلمين الكويريين. إنه أرشفة لحيواتنا السرّية وأحلامنا بمراسم دفن إسلامية كويرية واستعادة للّحظات التي أوشكنا فيها على الموت. نسأل فيه: هل سيبكينا أحبابنا عندما نموت؟ هل سيمنحوننا مراسم دفن لائقة؟ وإذ نطرح هذه الأسئلة، نتساءل أيضاً أيّ أسرار نريد أن ندفن معنا وأيّ منها نريد كشفه بموتنا. نأمل أن تضيء مساهمتنا الإثنوغرافيّة الذاتيّة هذه على مسائل الموت والآخِرة لدى أولئك الذين ما زالوا في موقع حائر إزاء الحبّ العائليّ وحميمية صلات القرابة. نُهدي هذا العمل لرفاقنا الكويريّين والمُبعَدين والمهمّشين وأبناء الثقافة الثالثة والمتوارين والمصارِعين من أجل والمكسورين والمكافحين والذين ينشدون العادات والطقوس التي تمنحنا سلام القلب، مع علمنا بأنها ليست مضمونة دوماً أو لا تعكس ما نحن عليه حقّاً. عسى أن يساهم فتح هذا النقاش في التخفيف من إنهاكنا.
ناقدة ومترجمة لبنانية مقيمة في باريس. حاصلة على دكتوراه في اللغة والأدب العربي الحديث من جامعة السوربون الجديدة. يتمحور عملها البحثي حول الصمت والكلام في سياقات الهيمنة وتجلياتهما الأسلوبية واللّغوية في النصوص السردية. عملت محرّرة ثقافية في جريدة "النهار" اللّبنانية حيث كتبت عشرات المراجعات النقدية في الرواية والشعر. درّست اللغة العربية والترجمة والأدب في جامعتَي باريس الثامنة والسوربون الجديدة وفي السوربون حالياً. من ترجماتها: "بلا عائلة" لهكتور مالو، و"صديقان وقصص أخرى" لغي دو موباسان، و"كانوا بشراً فحسب" للوران موفينييه.
مقدّمة
يتحرّك المسلمون الكويريّون والعابرون/ات جنسياً، إن في أوطانهم أو في المنفى بين نوعين من الاضطهاد: الهوموفوبيا والإسلاموفوبيا (رحمن 2010؛ أبراهام 2009). وحتّى الفضاءات الحميمة، كمنزل العائلة أو مجتمع الكوير، هي أماكن مُفارِقة. إذ يحدث أن تصير أماكن للحبّ والحرية وصِلات القرابة والشفاء والحيوات الجديدة، كما يمكن أن تصير أماكن للاضطهاد وعدم الانتماء والألم والموت. في حياتنا المعقّدة كمسلمين/ات كويريّين/ات، الموت شديد القرب دوماً. وبالتالي تُمسي لحظات النجاة البسيطة احتفالاتٍ وسجلّات لحيواتنا الكويريّة. وفيما نتصارع مع تجارب نجاتنا وعمليات التذكّر والحلم والكفّ عن الحلم نستعيد قصيدة "دُعاء النجاة" لأودري لورد:1
"من أجلنا نحن الذين نحيا على الشواطئ
واقفين على التخوم الثابتة للقرار،
وحيدين وحاسِمين.
من أجلنا نحن الذين لا نملك ترف
الخيار وأحلامه العابرة
نحن الذين نحبّ على العتبات
في الرحيل والعودة
في الساعات بين فجرٍ وآخَر
ناظرين إلى الداخل والخارج
من قبلُ ومن بَعدُ في الأوان ذاته
نرومُ آناً يولِّدُ
مستقبلاً
كالخبز في أفواه أطفالنا
فلا تعكسُ أحلامُهم
موتَ أحلامِنا.
من أجلِنا نحن الذين
وُسِمنا بالخوف
كدمغةٍ شاحبةٍ في وسط جباهنا
أُرضعنا الخوفَ مع حليب أمّهاتنا
بهذا السلاح
بهذا الوعد الواهم بقليلٍ من الأمان
أمِلَ ثقيلو الظلّ إسكاتنا
من أجلِنا كلّنا
هذه اللّحظة وهذا النصر
لم يكن مقدّراً لنا أن ننجو.
عندما تشرق الشمس نخاف
فقد لا تظلّ مُشرقة
وعندما تغيب نخاف
فقد لا تشرق في الصباح
وعندما تمتلئ بطوننا نخاف
من التخمة
وعندما تفرغ نخاف
من الجوع
وعندما نُحَبّ نخاف
أن يختفي الحب
وعندما نكون وحيدين نخاف
ألا يرجع الحب يوماً
وعندما نتكلّم نخاف
ألّا تُسمع كلماتنا
أو تُقبَل
ولكن عندما نصمت
نظلّ خائفين
لذا من الأجدى أن نتكلّم
ونتذكّر
أنه لم يكن مقدّراً لنا أن ننجو".
ظللنا حتى وقتٍ طويل خائفين. خفنا بسبب حيواتنا السرّية، هذه الحيوات التي قُدِّرَ لنا أن نعيشها. خفنا أن نخسر أحبّاءنا بسبب عنف الإسلاموفوبيا والعنصرية والنفي والحروب. خفنا أن تقتلهم كويريّتنا. لذا لزمنا الصمت لوقتٍ طويل. لكننا الآن هنا لنتكلّم. لنتكلّم عن أسرارنا، وعن الحب الحرام والأحلام المقدّسة والموت أحياء. نحن هنا لنردّ على القوى التي تسعى لإبقائنا ساكتين. نحن هنا لنتحدّث إلى من بقي من الناجين ومن سيأتي بعدنا. نحن هنا لنتذكّر حياتنا بصفتنا كويريّين/ات.
التقينا، نحن قيس ووازنة، خلال مشاركتنا، كلّ من ناحيته، في المُعتكَف السنوي لمجتمع الميم.2 هذا الاجتماع هو واحد من الاجتماعات القليلة من هذا النوع في الولايات المتحدة، إن لم يكن الأوحد، الذي يوفّر مساحةً آمنة للكويريّين المسلمين والعابرين جنسياً للقاء والشفاء والعودة للإيمان وإعادة خلق تقاليد جديدة والتواصل بعضنا مع بعض. فأن يلتقي أفغانٌ بعضهم بالآخر في مساحاتٍ مثل هذه، لهو أمرٌ أكثر من نادر، إذ لم يحصل أبداً لا لكلينا ولا لأصدقائنا الكويريين الآخرين، الذين شجّعونا فوراً على اللقاء.
لم يكن من السهل البتّة أن أكبر، أنا وازنة، في الولايات المتحدة وأن أبني صداقات وثيقة مع أفغان. فمنذ طفولتي وحتى سنوات المراهقة الأولى مُنعتُ من بناء صداقات إلا مع أنسبائي الأفغان خوفاً من أن "أتأمرَك" كثيراً. ومع سنّ البلوغ، بدأت أمي وشقيقاتها يغرسن التنافس والارتياب فينا، نحن بناتهنّ، فتحطّمت صداقتنا. مُنعنا من مشاركة أيّ من أسرارنا أو مسائلنا الخاصة التي يمكن أن تجلب لنا العار أو، وهذا أكثر أهمية، أن تسيء لصورة أمّهاتنا. وبوصفي مراهقة تحمل سرّاً شديد الثّقل، استبطنت هذا الشعور بالعار وبدأتُ أعزل نفسي بنفسي عن الأفغان الآخرين خوفاً من القيل والقال أو مّما هو أسوأ.
بصفتنا أفغاناً كويريّين/ات معلنين/ات في مهنٍ تجعلنا على احتكاك مباشر بالناس، يمدّ معظمنا يد المساعدة ويشارك مع الآخَرين رحلته وارتياحه لمعرفته أنه ليس الوحيد في هذه الحالة. لذا فإن دوري بصفتي أفغانية كويرية هو في مكان ما بين الأخت الكبرى والمستشارة. لكن لقائي بقيس كان مختلفاً بعض الشيء عن اللّقاء بأفغان من مجتمع الميم في الولايات المتحدة.
أعيش اليوم، أنا قيس، في الولايات المتحدة الأميركية. وُلدتُ ونشأتُ في أفغانستان وعشتُ خلال مراهقتي لاجئاً في باكستان. أن أبني صداقات أو أُغرَم أو أستقرّ في أمكنة، هي أمور ليست متاحةً لنا كشعبٍ يعيش حالة من الهروب. لطالما قالت لي والدتي:
Mahajer asti, dileta ba kas wo ba makan e basta nako. Dilet mishkena.
أي: "أنت لاجئ. لا تُلقِ قلبَك على أحد أو في مكان فإنّه سينكسر". ولكنني لم أستطع أن ألجم قلبي الكويريّ، فكسره أولئك الذين أحببتهم سرّاً وأولئك الذين وثقتُ بهم فسلّمتهم أسراري.
نشترك نحن قيس ووازنة في فهم ثقافة القيل والقال الأفغانية والضغوط لإخفاء أيّ أجزاء من أنفسنا من شأنها تشويه سمعة عائلتينا أو وسمهما بالعار. يأتمن واحدنا الآخَر على أسراره ونتشارك الصلات الأفغانية الكويرية بحبّ وعناية. كلانا في منتصف الثلاثينات من العمر ونعيش كويريّتنا المعقّدة وأحلامنا وتعافينا وحدادنا وكتابتنا المشتركة.
هذا التعاون النسوي فيما بيننا لكتابة إثنوغرافيا ذاتية هو أرشفة لتجارب النجاة وللحظات الموت الوشيك وللاحتفاء بحيواتنا الكويرية وللحداد الاستباقي على موتنا وحلمنا بدفنٍ كويريّ على الطريقة الإسلامية. إنها طريقتنا للكلام من أجل التذكّر كما تدعونا أودري لورد لفعله. نتكلّم حتى لا يُصار لإنكار مطالبتنا بدفن إسلاميّ، كما أُنكرت تمنّياتنا بأن نعيش كوريّتنا بحرية في حياتنا. نسأل، نحن قيس ووازنة، ما إذا كانت عائلتانا وأحبّاؤنا سيبكوننا عند موتنا كما تخيّلونا، أو كما كنّا فعليّاً. وهل حياتنا هي "أهل للبكاء" (بتلر 2016، 129)؟ ونتساءل أي أسرار نريد أن ندفن معنا وأيّ منها نريد أو نقدر على أن نكشفها أو نطمسها في مسار حياتنا.
وبينما كنّا نكتب هذه المقالة المشتركة، أصابت جائحة ملايين البشر حول العالم، لا سيّما في جنوب الكرة الأرضية، وخصوصاً الأشخاص الكويريين/ات والعابرين/ات جنسياً والسود والسكان الأصليين الملوّنين والنساء والفقراء (غاتو وآخرون 2021؛ ياندا وآخرون 2021؛ العلي 2020؛ باسيلي 2020). في الوقت نفسه، استمرّ وعد إدارة أميركية جديدة بتحريض أصحاب نظرية التفوّق العرقي البيض على استهداف الأقليات والمجموعات العرقية ومن بينها المسلمون الأميركيون. ثمة أيضاً حرب في أفغانستان، المكان الذي يسمّيه كلانا موطناً ونروم العودة إليه. يومياً، تنفجر قنابل على جانب الطرق وتحصل تفجيرات انتحارية وعمليات قتل، في الوقت الذي ترك فيه المجتمع الدولي أفغانستان معتبراً أن مهمته الأمنية قد انتهت، وسلّم البلاد لطالبان، المجموعة التي سبق أن وُسمت بالإرهابية. والناس هناك أكثر خوفاً من أن يبقوا وأكثر خوفاً من أن يرحلوا. وفي ظلّ هذا الحضور الدائم للعنف والحرب بيننا وحولنا، لا يسعنا إلا أن نفكّر بالموت الآن أكثر من أي وقت. في كلّ تفجير انتحاريّ هناك في البلاد وفي كل وفاة ناتجة عن الكوفيد-19 هنا وهناك، نتساءل كم من الكويريين/ات والعابرين/ات جنسياً المسلمين/ات، المُستتِرين3 منهم والظاهرين والكامنين في البين بين،4 قد ماتوا. فعندما نتذكّر موت الكويريين والعابرين المسلمين، إن في الوطن أو في بلاد الشتات، فإننا نلقي الضوء على رغبات لم تتحقّق وأحلام لم تكتمل وحيوات سرية تكشف نفسها بعد الممات. هل سنقدر يوماً أن نكون ذاتنا بشكل كامل قبل موتنا؟ كيف سيتذكّرنا الآخرون؟ ما الذي يمكننا أن نختار كشفه بعد الرحيل؟
منهجية البحث
نستخدم في هذه المقالة الإثنوغرافيا الذاتية النسوية التعاونية (شانغ ونغونجيري وهرنانديز 2016). تسمح لنا هذه المقاربة بأن ندمج رؤيتينا الكويريّتين المتشابهتين والمختلفتين في الأوان ذاته بخصوص البُعدَين الجندري والجنساني للتقاليد والطقوس، واستباق موتنا والحياة الآخِرة، بينما نفكّر ونحلم ونشفى معاً. نشأ عملنا التعاونيّ هذا كجزء من محادثاتنا المستمرّة ونضالنا أثناء اجتيازنا للفضاءات المدموغة عرقيّاً وجندرياً وجنسانياً والموسومة برهاب الإسلام ورهاب المثلية. في هذا التعاون فكّرنا في هويّاتنا الفريدة وتجاربنا المعاشة على طريقة الإثنوغرافيا الذاتية، ولكننا كنا نجتمع ونناقشها سويّةً، لذا نحن بإزاء إثنوغرافيا ذاتية تعاونية.
تدمج الإثنوغرافيا الذاتية بين الإثنوغرافيا والسيرة الذاتية (بايس 2012). إنها نوع من السرد يموقع الذات في السياق الاجتماعيّ (إليس 2004). تربط الإثنوغرافيا الذاتية بين الشخصي والاجتماعي–السياسي. وتوفّر، من حيث هي منهجية بحث، حيّزاً تَمنح فيه الاختبارات المعاشة معنى وهدفاً للمفاهيم المجرّدة والنظريات. نستخدم هذه المنهجيّة للتحرّك بين الأزمنة والحدود والفضاءات المختلفة ولنربط ما هو شخصي بما هو اجتماعي وسياسي. فمن خلال ملاحظات عن الذات وتجاربها، تشبك الإثنوغرافيا الذاتية ما هو فردي مع المنظومة والبُنى الاجتماعية، على أمل الإضاءة بشكلٍ أوضح على تعقيدات كينونة الكويريين والعابرين وعيشهم وتسييس موتهم ودفنهم، وذلك في أمكنة من العالم تحمل تاريخاً وإرثاً من الاستعمار والأبوية والعنصرية والتدخلات الخارجية والحروب. هذا النوع من وصل الذات بالبُنى الأوسع تسمّيه حنين الغبرا "الردّ على المنظومة" (2015، 3). نطمحُ هنا إلى أن نردّ على تلك المنظومات والبُنى التي تمنع الدفن عن أجسادنا الكويرية والعابرة جنسياً، وتنكر حقّ حياتنا الكويرية والعابرة بموتٍ لائق. نتوجّه أيضاً للناجين منّا الذي يشاركوننا الحلم نفسه. تستنير مقاربتنا أيضاً بالشعريات والسياسات النسوية الخاصة بالإثنوغرافيا الذاتية والتي تسمح "للملاحظات الصريحة حول التجربة الشخصية بالخروج من دائرة العلوم الاجتماعية التقليدية وتجابه وتغازل وتلاطف هذا الألم الشديد وهذا التذكير الملحّ بأن الناس لا يمكنهم فهم تجارب بعضهم البعض" (آلن وبيرسي 2005، 158). يتناول هذا المقال ذكريات تجارب الموت الوشيك التي تطاردنا، والذكريات المؤلمة لأحاديثنا وجلسات الاستجواب العائلية بأسئلتها عن حياتنا وموتنا. وإذ نفعل ذلك، فإننا نؤرق الجثث الموسومة جندرياً/ جنسانياً وطقوس الدفن والحداد الإسلامية في الوطن والمنفى.
ندرك أن الإثنوغرافيا الذاتية تكشف عن مواطن الهشاشة فينا. لكننا سياسيّاً وعاطفياً "نحتضن هشاشتنا لهدفٍ محدّد" (جونز 2016، 136). وكما تؤكّد أوناوا ماكلفور، فالإثنوغرافيا الذاتية هي "دعوة مفتوحة للإدانة والتفحّص. لكن البعض يعتقد أنه من خلال مشاركة الآخَرين بعضاً من تفاصيلنا الحميمة، تزداد إمكانات التعاطف واللّطف والتفهّم" (2010، 33). من هنا، نأمل أن نتمكّن من خلال مشاركة تفاصيلنا الحميمة ولحظات هشاشتنا في هذا المقال، من فتح النقاش والحوار حول حياة المسلمين الكويريّين والعابرين وموتهم ودفنهم والحداد عليهم. في هذه التعرية الكاشفة لتجارب الموت الوشيك التي عشناها والخوف من ألا يبكينا أحد وحلمنا بدفن إسلاميّ كويري، نريد أن نقدّم طرقاً بديلة لمعاينة الموت وطقوس الدفن في حياة هؤلاء المسلمين الذين يتحدّون الثنائيّات الجندرية والأجساد الموسومة جنسانياً.
مَن سوف يدفنني؟ - وازنة
المرّة الأولى التي رأت فيها أمي، مادار جان، أوشامي قالت لي:
"ماذا سيقولون عندما يغسلون جسدكِ عند موتك؟ سيكون سرّك مكشوفاً للجميع. ما قيمة أن تخلقي لنفسكِ حياةً تنفقين كل طاقتك لإخفائها؟ لا يمكنني أن أتصوّر كم أنتِ مُرهَقة".
أنا مرهقة، هذا صحيح.
لا أعتقد أنني الوحيدة التي تواري ما هو أكثر من الأوشام وتُخفي وتمثّل وتنتظر حدوث شيء أفضل بكثير. ونحن جميعاً مُرهَقون، حتى أنتِ يا مادار جان. لا يمكنني حتى أن أتخيّل الارتياح الذي قد أشعر به عندما أتوقّف عن فعل كلّ ذلك.
وعندما رفضتُ خاطباً تقدّم للزواج، توسّلَتني:
"مَن سيدفنكِ يا وازنة؟"
أتساءل كم مرّة فكّرَتْ بهذا الأمر في نفسها. هل تتساءل عما إذا كنتُ قادرة على تنفيذ رغباتها عندما يحين الوقت؟ إذا كنتُ قد رفضتُ الزواج بشكله التقليديّ، فهل سأحترم طقوس الدفن الخاصة بنا أو أنني سألتزم بطقوسي الخاصة؟
عندما تخرّجتُ من الثانوية، قمتُ بكلّ ما بوسعي لتفادي العودة إلى منزل العائلة. وجدتُ عملاً ثابتاً وكذبتُ بشأن متابعة الدراسة الجامعية. في البداية، قلتُ لأهلي إنني أعيش مع "صديقتي"، ثم بدأتُ ألمّح لهم بالحقائق الصعبة كون "صديقتي" أكثر من مجرّد صديقة بكثير، وبأنني لا أنوي العودة إلى المنزل رسميّاً.
أتذكّر الضغط الذي مارسته أمي عليّ، في الفترة ما بين سنّ الثانية والعشرين والثالثة والعشرين، بشأن ما أقوم به ولماذا لا أرجع إلى المنزل. كانت ساخطة وحائرة فقالت لي:
ماذا أقول للناس عندما يسألونني عنكِ؟ كيف أواجههم بأن ابنتي البكر لا تعيش في المنزل؟! ينبغي أن أقول لهم أنكِ مُتِّ وأقيم لكِ مأتماً حتى يكفّوا عن السؤال عنكِ.
تساءلتُ حينها كم من الآخَرين حصل لهم هذا وهل سأصير مثلهم في عداد الموتى الأحياء.
وعندما أُسأل عن قصة إعلان5 هويتي الجنسانية، أعتقد أنني أخيّب أمل معظم الناس إذ لا تقدّم لهم إجاباتي ما يتوقّعون سماعه، مع أنني لا أمتنع كذلك عن مجاراتهم. فالمسألة كانت سهلة "داخلياً" بالنسبة إليّ.
أنا أنجذب جنسياً للنساء، أي أنني لا أشبه نساء عائلتي الأخريات، والله يعرف ذلك فهو من خلقني هكذا.
كبرتُ وموضوع الجنسانية، المِثليّ منها والمغاير أو سواه محاطٌ بالصمت، لذا افترضتُ أن هذا الجزء منّا لن يتسنّى له أن يجد مكاناً للحياة يوماً.
وعندما اخترتُ أن أقولَ لهم إنني أعيشُ مع امرأة، كان الأمرُ صاعقاً لأنه أكّد لي ما توقّعتُه وما أملتُ في الأوان ذاته أن أتلافاه، أعني: الخزي والعار. حاول بابا أن يتمالك نفسه ليحدّ من الأضرار ويعقلن هذا الخبر غير المعقول. خلال رحلة بالسيارة معاً، قال لي بكل ذرّة من كيانه إنه "ليس هناك أفغاناً مثليّين. إذا ظننتِ أنه بإمكانك أن تعيشي الأمر علناً، فعليكِ أن تعرفي أنهم ba kafanem shash wo go mehkohnan / سيبولون ويتغوّطون على قبري".
"خلص". هذا يكفي. كيف يمكنني مجرّد التفكير في العيش بطريقة تعرّض حياة أبي كلّها وموته والحياة الآخرة للخطر؟ كان ذلك هو القبر الذي حفرته لنفسي وعليّ أن أستلقي فيه.
هكذا تعلّمتُ تفادي الأحاديث الصعبة، وإبعاد الحقائق الفردية من أجل مصلحة الجماعة والعيش في الخفاء، وبرعتُ فيها كلّها. وعندما وجدتُ الكلمات المناسبة لأسمّي نفسي كويريّاً، منحني هذا شعوراً بالارتياح لذيذاً ومؤلماً في الأوان ذاته، لأنني بتُّ أملكُ لغة خاصة بي. كنتُ أعرفُ أنني سأحمل هذا السرّ الذي يعتبره الآخرون قذراً معي إلى القبر، وعندما فضحني أعمامي بعد بحث أجروه في الإنترنت، عرفتُ أنني أتحمّل مسؤولية افتضاح هذا العار. كان هذا خطأي الذي استحقّيت عنه برودة حضن مادار وبابا وجفائهما. كان ذلك غروري وأنانيّنتي اللّذان صنعا هذا السرير وتوجّب عليّ الاستلقاء عليه.
تمنّى بابا لو أنّني متّ – قيس
منذ سمعتُ بابا يتمنّى لو أنّني متّ، وأنا أفكّر في موتي.
هل تمنّى لي الموت عندما حملني أوّل مرّة بين ذراعيه
فوراً بعدما أنجبتني أمي
المرأة التي أنجبت
ستّة آخرين؟
يُقال أنْ ليس من السهل تربية طفل واحد
فما بالك بسبعة
في خضمّ حرب
ومجاعة؟
قالوا إنهم أمّنوا الحليب
لكنهم عجزوا عن تأمين السكّر.
وأنا رفضتُ الحليب من دون سكّر.
بكيتُ كما لو كنتُ أعرف أنني وُلدتُ في
المكان الخطأ
والزمن الخطأ
أفغانستان
الحرب الباردة
تسمّونها الحرب الباردة
أما أنا فأحرقني لهيبها منذ كنتُ في أحشاء أمي
لم أشأ أن أخرج
فتساءلوا:
متأخّر
أو ميت؟
قالوا إنه لزمني عشرة شهور.
لكنّني أفكّر الآن: مَن ينتبه للوقت
في خضمّ الحرب؟
وأفكّر:
هل تمنّى لي أبي الموت عندما منحني اسم عاشق؟
أو عندما انتبه أنني لا أشبه ابنَيْه الآخَرَين؟
أتذكّر جيّداً اللحظة التي تمنّى لي أبي فيها الموت. تقع هذه الذكرى في أعلى لائحة الأمور التي أتمنّى نسيانها. كان ذلك في يوم جمعة ربيعيّ جميل في كابول. كنّا نتهيّأ لحضور حفل زفاف ابنة عمي في المساء. طلبت منّي أختاي وثلاثة من بنات عمّي أن أعلّمهنّ الرقص. كان حبّي للرقص ومعرفتي بآخر خطوات الرقص البوليووديّة قد فتح لي باباً للدخول بسهولة إلى الأماكن المخصصة للنساء خلال حفلات الزفاف والاجتماعات العائلية. كنتُ أُري أختيّ وبنات عمّي رقصتي المفضّلة في ذلك الوقت، والتي تقضي بوضع اليد اليُمنى على القلب فيما تمتدّ اليُسرى من عند الكتف قبل أن تعود إليه بهدوء تزامناً مع الإيقاع. كانت الغرفة ملأى بالفرح والضحك وموسيقى بوليوود العالية حتى دخل بابا واثباً وأطفأ شريط المسجّلة، وحلّ الصمتُ في الغرفة.
كان صمتاً عميقاً لا يُسمع فيه إلا حفيف النسيم عبر شقوق النوافذ التي حطّمتها الصواريخ والقنابل. كان بإمكاني سماع الشريط اللّاصق الممزّق وهو يصفق زجاج النافذة المكسور فيما يتسلّل الهواء إلى الغرفة راقصاً مع دخان الشاي المتصاعد من فنجان عمّتي. عمّتي المفضّلة، سليمة، التي كانت الشخص الوحيد بين الحاضرين الرافض لرقصتنا فضلاً عن بابا، فسألتْه: "ما الخطأ العظيم الذي ارتكبتَه مع قيس حتى صار أنثويّاً إلى هذا الحدّ؟"، وأشارت إليّ بيدها مجريةً مسحاً عن بُعد لجسمي من فوق إلى تحت. فأجاب بابا: "يا ليت قيس كان ميتاً".
كنتُ في الحادية والعشرين أطفح بالحياة. لكن في تلك اللحظة، شعرتُ بالحياة تخرج من جسمي وتغادر الغرفة من شقوق النافذة وتختلط بالنسيم في الخارج. شعرتُ بالحالة التي يسمّيها إريك ستانلي "في انتظار الموت" (2011، 1). منذ تلك اللحظة وأنا في انتظار أن يتحقّق دعاء أبي. في انتظار الموت الذي تمنّاه لي. منذ تلك اللحظة نظّمتُ جنازتي ودفني آلاف المرّات في رأسي. فأتخيّل أحياناً جنازتي بضخامة زفافٍ أفغانيّ لن أحصل عليه أبداً. أريد أن يكون عشّاقي حاضرين. وأولئك الذين تركوني. والرجال الذين رغبوا فيّ خلف الأبواب المغلقة، أريدهم أن يكونوا حاضرين كذلك. عمّتي وعمّي أيضاً. ويحدث في هذه التخيّلات أن أمنع بابا وعمّتي المفضّلة سليمة من توديعي. وأحلم في بعض الأحيان بأن بابا وعمّتي المفضّلة سليمة يحملان بين ذراعيهما جسمي الأنثويّ الكويريّ ملفوفاً بكفن ورديّ وأخضر وهما يبكيانني كما لو أنهما أحبّاني بكلّ ما فيّ.
الموت الإسلامي الكويري في الوطن والمنفى: المعاينة والعيش
تنبني حياة الكويريين والعابرين جنسياً بوصفها تهديداً للأمن والأمان وللبُنى الأبوية المغايرة (ريتشر – مونبوتي 2017؛ عمار 2013). من العلاقة مع الدولة إلى الروابط العائلية والمساحات العامة، تُعتبر أجساد أفراد مجتمع الميم خطرة وفي الأوان ذاته تافهة وعديمة الأهمية (ستانلي 2011). وجودنا المرئيّ جدّاً وغير المرئي في الأوان ذاته متشابكٌ مع العنف الدائم. فكويريّتي سمحت لي، أنا قيس، بالرقص في الأماكن المخصصة للنساء حيث يُمنع حضور الرجال منعاً باتّاً. فبالنسبة للرجال الذين يحرسون تلك الأماكن أنا لا شيء. لكنني أصبحُ مرئيّاً بشدّة عندما أرقص في الأماكن المخصصة للرجال، لأنني أشكّل تهديداً لرجولتهم. فكان بعضهم يسخر منّي بينما البعض الآخر يرمي عليّ النقود ويلمسني عندما تتسنّى له الفرصة. وعندما رقصتُ في كلا المكانين كنتُ خائفاً من أن يعتدي عليّ أحد أو يقتلني أو يمزّقني إرباً كما فعلوا لحياة، الشخص الترانس الذي وُجد جسده في كيس أرزّ خارج صالة الأعراس القائمة قبالة منزلنا في أحد شوارع كابول المكتظّة. ذات صباح من صيف 2004، انتشرت الأخبار في حيّنا كالنار في الهشيم بأنّ عجوزاً عثر على جثّة في طريقه إلى المسجد لأداء صلاة الصباح.
كانت صالات الأعراس قليلة العدد. لذا تستقبل زفافين أو ثلاثة في الوقت نفسه موزّعة على طوابق مختلفة. حدث ذلك بعد ثلاث سنوات على سقوط طالبان. كان الشباب الأفغان متحمّسين للمستقبل، فأقاموا أعراساً باذخة ظلّوا ممنوعين منها خلال حكم طالبان من 1996 إلى 2001. وبينما كان نور الفجر ينتشر في سماء كابول، تجمّعنا كلّنا في الشارع وبدأت الشرطة تحقّق بشأن الجثّة في كيس الأرزّ. وانتشر كلام عن أن الجثة ليست لامرأة بل لـ Izak، وهي كلمة احتقاريّة تشير إلى شخص عابر جنسياً أو رجل مثليّ أنثويّ. كان الجمع المحتشد حول رجال الشرطة الخمسة والكيس يكبر، بينما يتم إخراج الجثة من الكيس. كان الجسد مقطّعاً، ينقصه يدٌ وساق ولكن الجذع لا يزال عليه فستان. راح رجال الشرطة يسألون هل رأى واحدٌ من الحشد ساقاً أو يداً بالقرب من المكان. حاولوا معرفة لمن تعود هذه الجثة ومن أين أتت. فاقترح أحدهم أن يسألوا الإمام. فالمسجد على بُعد بضعة منازل في الأسفل والإمام يعرف تقريباً كلّ سكّان الحيّ. هكذا توجّه شرطيّ إلى المسجد ليطلب من الإمام أن يأتي ويتعرّف على الجثّة. وعندما وصل تعرّف فوراً على الشخص الميت في كيس الأرزّ وقال للحشد:
yak insan e gomrah bod- da libas e zanana mairaqseed. Namish Hayat bod
أي: "كان هذا الشخص إنساناً خارجاً عن الصراط المستقيم، ويرقص مرتدياً ملابس نسائية. كان اسمه حياة".6
قصيرة هي حياة أولئك الذين يعيشون على الهامش مضطهدين في الوطن والمنفى. في "تأمّلات في المنفى"، يكتب إدوارد سعيد: "المنفى مثير بشكل عجيب للتفكير ولكن عيشه صعب. إنه الصدع القسريّ الذي يستحيل رأبه بين الإنسان ومسقط رأسه، بين الذات وموطنها الحقيقي: ولا يمكن التغلّب على الحزن الجوهريّ الناجم عنه" (2000، 180). وإذ نعيش الآن في المنفى، نعرف ما الذي عناه سعيد بالاغتراب بما هو تجربة فظيعة. هرب البعض منّا من عنف الحروب والهوموفوبيا في الوطن ليتلقّفه عنف الهوموفوبيا والإسلاموفوبيا في المنفى. ويموت البعض منّا ببطء بينما يتحرّق للعودة. وتقتل البعضَ منّا قوى المنفى.
المنفى الذي عشناه نحن قيس ووازنة قتل سارة حجازي، وهي لاجئة من مجتمع الميم مثلنا. بكينا موت سارة في الحجر خلال الجائحة. أُرغمت سارة على الخروج من مصر إلى كندا. وهناك، في المنفى، قتلها عنف الماضي وألم أرضٍ غريبة. بالنسبة للبعض منّا، نحن أفراد مجتمع الميم القادمين من الجنوب، مكسورين ومنبوذين، المنفى شديد الفظاعة بحيث حتى الموت يصير "مثيراً بشكلٍ عجيب" (سعيد 2000، 180).
نموت صغاراً
عندما كنّا صغاراً ننظر إلى المستقبل، لم نتصوّر أننا سنتخطّى الخامسة والعشرين، إذ تقصّر الحروب وظروفها من توقّعات أعمارنا. لم يكن لدينا أية وسيلة، نحن قيس ووازنة، لنتصوّر ما سنغدو عليه إذا ما نجونا. لذا، حتى في تخيّلاتنا، لم نكن فعليّاً موجودين بالنسبة لأنفسنا. ولم يكن للذين يمثّلون مثلنا هويّات عرفنا أننا ننتمي إليها، نماذج للاقتداء بها، لا سيّما نماذج يُحكى عنها بصورة إيجابيّة وتُسمّى بأسمائها. لذا ارتضينا بفكرة أننا سنموت بطريقة أو بأخرى. تصوّرنا أنفسنا كموتى أحياء: فحتى لو قُدّر لنا العيش إلى ما بعد الخامسة والعشرين، فإن حياتنا ستكون مهدّدة بقتل حلمنا بوجود ذاتيّ كامل ومُعبَّر عنه. وأيّاً كان الشكل الذي سيأتي الموت فيه، فسيكون حقيقة وضرورة في الأوان ذاته. سيكون "نصيباً" وقدراً.
ولمّا كنّا أطفالاً نكبر في أعقاب أزمة مرض الإيدز والحرب وصعود رُهاب الأجانب في أفغانستان ونيويورك وباكستان، فإنّنا ما برحنا نرث مبدأ الموت المبكر. ولأن جزءاً كبيراً من هويّتنا الجنسيّة حدّدته النظرة الاستشراقية البيضاء، بات وجودنا الكويريّ تهديداً للوطن وللدولة البطريركية المغايرة جنسيًا. ففي الوطن وخارجه، نمت كويريّتنا على مساهمات الحركة المثلية الأوروبية البيضاء وسرديّاتها التي لم نكن نفهم بَعد واقعها الأحادي المتحجّر.7 ولا تزال هذه السرديات تقدّم لنا أسوأ السيناريوهات ومحصّلات العيش: أن يُفتضح أمرنا وتقتلنا عائلاتنا، نُنبَذ، نتعرّض للتنمّر، نموت ضحية الهوموفوبيا (يقتلنا عاشق أو المجتمع)، نعيش في الوحدة والمخدرات والكحول. لذا كنّا نتساءل من سيقتلنا أوّلاً: عاشق؟ أو فرد من العائلة؟ أو نحن أنفسنا؟
في 2004، بدأتُ، أنا وازنة، مهنة مربّية صحة جنسية في وقتٍ كان ثمة فيه اهتمام كبير على الصعيد العام بضرورة اتّخاذ خطوات داعمة لشباب مجتمع الميم في الولايات المتحدة. لذا كُلّفت بصفتي خبيرة في هذه الجهود، بالدفع لإنشاء فضاءات آمنة ونوادي طلاب على غرار اتّحادات المثليين والمغايرين، ولإقامة برامج دراسات تمثّل الشباب الكويريين والعابرين وتؤكّد وجودهم. في دائرتي الشخصية، كانت النساء الكويرّبات والعابرات اللواتي أعرفهنّ والقريبات منّي اجتماعياً ينهين حياتهنّ، مزعزعات مشاعر الإيمان في أوساط مجتمع الميم. أما أنا، فالحقيقة المحرجة هي أن أيّاً من هذا لم يربكني. لقد كنتُ أفهم الحاجة إلى هذا النوع من "الرحيل". فالأمل بـ"موت طبيعيّ ومُحترَم" شبه مستحيل عندما ننتمي إلى هويات لا تُضمَن لها حياة يومية كريمة. لذا سيكون هذا المصير محتّماً للبعض منّا، بغض النظر عن الثقافة البديلة التي نوفّرها. كان الانتحار هو الوعد الأخير لنفسي ولا يزال يقبع في صندوق معدّات النجاة الخاصة بي.
اقتربتُ، أنا قيس، من الموت بشكل كبير عدّة مرّات في حياتي. عندما كنتُ ممدّداً في أحد أسرّة مستشفى مينابوليس إثر ذبحة قلبية في 2013، اتّصلتُ بأمي لكنني لم أتمكّن من إخبارها بأنني نجوت للتو من الموت وبأن حبيبي يجلس بجانب سريري. سمعَت صوتي المرتجف وسألتني متى أزورها في البيت. لم أعرف يومها بما أجيب وما أزال لا أعرف. في ذلك الوقت، لم أكن قد حصلتُ بَعد على أوراق إقامة شرعية، واليوم ذهبتُ بعيداً جدّاً في كويريّتي، فهل ستعترف بي؟ أم ستتمنّى لي الموت كما فعل بابا؟
لطالما كان الموت حاضراً حولي خلال نشوئي في أفغانستان وباكستان في خضمّ الحرب والتهجير. حاضر في تمنّيات أبي لي. حاضر في كوابيسي. أفكّر فيه كلّما نمتُ مع رجال: هل سيقتلونني بعدما يطارحونني الحب؟ هل سأحترق في جهنّم لممارسة الحب الحرام؟ لا أعرف بما يفكّر الرجال عندما يضاجعونني ولكن ما أفكّر أنا فيه هو الموت.
هل ستقيم لي عائلتي جنازةً كتلكَ التي أقامتها لابن عمي الذي انفجر رأسه بتفجير انتحاريّ؟ هل سيدفنوني في مقابر العائلة في شومالي، إلى جانب عمّتي سليمة التي اتّفقت مع أبي على تمنّي الموت لي؟ اليوم أقول لحبيبي أن ينقل جثماني إلى أفغانستان، هناك حيث أحببت أوّل مرّة، وتمنّيت الموت أوّل مرّة، حيث حاولتُ الانتحار أوّل مرّة، واعتُدي عليّ أوّل مرّة في السادسة من عمري لأنني مفرط الأنثويّة. هناك أريد أن أُدفَن. قلتُ لحبيبي أن يخبر عائلتي بأسراري ولكن ليس كلّها. هل سيزور إخوتي قبري كلَّ عيد أضحى وفي ليلة البراءة؟8 هل ستكفّ عمّاتي بعد موتي عن الثرثرة بشأن جنسانيّتي؟
الأسرار التي نتركها خلفنا وتلك التي تُدفَن معنا
منذ صغرنا أثار اهتمامنا التقليد القاضي بتهيئة الناس حقائب موتهم. سحرتنا مفاهيم الاعتلال والعناية والتحضير التي ترافقها، وهي تُملأ بما يحتاجه المسلم لدفنه بالإضافة إلى "لمسات" أخرى. لا تُحَضَّر هذه الحقائب في أوقات المرض، بل يبدأ تحضيرها بانتظام وعناية قبل ذلك بكثير. يحتوي كلّ منها على أدواتٍ عمليّة لتحضير الجثمان: كفن، صابون، أمشاط، أدعية، ماء ورد – كل هذه الأشياء بمثابة تذكير صغير بكم هو باطل استخدامها السابق. فضلاً عن ذلك، كانت الحقائب التي شهدنا على تهيئتها وامتلائها لأشخاص مغايرين جنسياً. فما الذي يمكن أن تحتويه حقيبة موت مسلمٍ كويريّ؟ تتغيّر هنا معاني الذاتيّة والغيريّة، فنحن نعرف أن هذا التقليد يخدم الأحياء والأموات معاً ويساعدهم على تحقيق السلام الداخلي. كذلك هي حقائبنا، تمثيلات رمزيّة للأسرار التي نتركها خلفنا ونكشفها بعد موتنا، وتلك التي تُدفَن معنا.
تحثّنا هذه العناية المتحفيّة بتلك الحقائب أيضاً، على السؤال الذي لم نتمكّن يوماً من طرحه على أحبابنا:
هل كنتَ متماسكاً وأنت تهيّئ حقيبتك أو ارتجفتَ وبكيتَ وأنت تملأها؟
متى عرفتَ أن الوقت حان لإخبار أحد ما بمكانها؟
كم مرّة أعدتَ النظر بمحتوياتها؟
والأهم، هل منحك ذلك سلاماً لعقلك وقلبك
بشأن حياتك وموتك؟
ماذا أضعُ في حقيبتي؟ - وازنة
لا تزال كلمات مادار عن أوشامي مطبوعةً فيّ كما لو بحبر لا يُمحى، لتذكّرني بافتضاح أسراري. أستعيدها مراراً وتكراراً كلّما حاول أفراد عائلتي أن يقتلوني اجتماعيّاً. وتذكّرني بها دوماً كويريّتي وفشلي في الالتزام بالتقاليد وعجزي عن تمثيل دور "المرأة" بشكل صحيح. أتساءل ما الفرق بين الكذب والحياة الملأى بالأسرار؟ إذا كنتُ قد وصلتُ إلى هنا اليوم، وعبرت سنّ الخامسة والعشرين مخترقةً عنف العائلة والعشاق والدولة: فهل يمكنني تحرير أسراري الآن؟
- كيس من الفاصوليا9 ليؤازر مَن سيهيّئون جثماني ويذكّرهم بأنني مسلمة. لا أدري ما ستكون عليه الأيام الأولى في القبر ولكنني سمعت أنها مبلبِلة ومخيفة، لذا سأوصي بأن توزّع وجبة "الخاتم"10 على راحة نفسي بكميات كبيرة.
- دفتر يوميّاتي طفلةً.
- طبعة كفّ جاك. فقد كان رفيقي وصديقي طوال 12 سنة، وقد منحني بذلك أطول وأصحّ تعبير عن الحب عرفته في حياتي.
- تذكارات من رحلاتي على شكل صَدَف وحجارة وسواها ممّا حملت من رحلاتي إلى الصين ومنغوليا. كنتُ في السادسة عشرة وكانت تلك أوّل مرّة أكون فيها قريبة إلى هذا الحدّ من أفغانستان ومشتاقة لعائلتي.
- أدعية وتعاويذ وصلوات وتمائم من شأنها حمايتي وحفظي و/أو إعادتي إلى الصراط المستقيم. أوكلُ لها أن تقوم بمهمّتها بغضّ النظر عما يفكّر به الآخرون.
- لفائف حنّة. فالحنّة إحدى التعبيرات الثقافية المفضّلة لديّ والتي لزمني الكثير من كره الذات والتنمّر من أجل امتلاكها. أحبّ كيف أنها وُجدت قبلي وسوف تعيش من بعدي. تجمع مادار هذه اللّفائف من الأعراس التي تُدعى إليها آملةً أن تجلب الفأل الحسن لبناتها. قد لا أتزوّج يوماً خصوصاً بالطريقة التي تريدها هي. لا أريدها أن تودّع هذا الأمل، ولكن أن تعرف أنني بقيت أحمل آمالها في قلبي ونصب عيني حتى عندما نظرتُ إلى جهات أخرى.
- كفن.
ماذا أريد أن أترك خلفي؟ - قيس
العيش في أفغانستان خلال الحرب جعلني أعتاد على أن أحمل في حقيبة ظهري بضعة أغراض ذات قيمة عاطفية. فماذا لو متّ بتفجير انتحاريّ؟ كيف سيتعرّف عليّ أحبّائي؟ في كابول، نحمل عناوين أحبائنا وأرقام هواتفهم في جيوبنا أو حقائب ظهرنا في حال تخلّى عنا الحظّ ذلك النهار وانفجرنا بقنبلة على طرف الطريق أو بتفجير انتحاريّ. وضّبتُ حقيبتي ووضعت فيها بعض الأغراض الشبيهة بتلك التي كنتُ أحملها في حقيبة ظهري في أفغانستان.
- صورة عائلية التُقطت في خضمّ الحرب في كابول تماماً قبل هرب عائلتي إلى باكستان. إنها الصورة العائلية الوحيدة التي بقيَتْ فيما احترقت كل الصور الأخرى أو ضاعت في الحرب.
- مجموعة من القصائد بالفارسيّة تشكّل اليوم سجلّاً لمشاعري في وقتٍ كنتُ أتصارع فيه مع جنسانيّتي وأكافح من أجل إيجاد اسم لرغباتي بالحياة والموت والتعبير عنها.
- بطاقة أسمّيها خيال الحب.
- علبة تحوي حبلاً عقده أبي حول حقيبتي عندما غادرتُ أفغانستان للمرة الأخيرة باتّجاه الولايات المتحدة. كان الحبل لمساعدتي في عدم إضاعة حقيبتي. لم أضيّع حقيبتي لكنني ضيّعتُ كلّ شيء آخَر.
- الحذاء ذو الكعب العالي الذي انتعلته على المنصّة لاستلام شهادة الدكتوراه.
- مفكّرة تحوي عنوان منزلي وأرقام هواتف أحبائي وجواز سفري الأفغانيّ.
- دجاجة بلا رأس، هدية من صديق عزيز في مناسبة مميزة.
- كفني الأخضر والوردي، وهما لونان لطالما أردتُ ارتداءهما في زفافي.
خاتمة
نأمل أن تضيء مساهمتنا الإثنوغرافية الذاتية هذه على مسائل الموت والحياة الآخِرة لدى أولئك الذين ما يزالون في موقع حائر إزاء الحبّ العائليّ وحميمية صلات القرابة. ما زلنا لم نُنبَذ أو نُنكَر بَعد، ولكن يمكن أن يحصل هذا في مماتنا وبعده، عندما يُفتضح كل شيء وتنكشف الأسرار التي نحملها في أجسادنا. كان هذا التعاون النسوي الكويري فيما بيننا بمثابة طريقة للنجاة خلال الجائحة والعزلة التي فرضها الحجر العام. وبينما كان العالم يبكي علانيةً خسارة الأحبّاء والحياة الطبيعية، كنا نشعر بأننا نعرف هذه الخسارة التي تحيطنا. لم نملك قبل الجائحة امتياز الحداد العلنيّ. كنا نبكي ونحزن لخسارة أحبّائنا من مجتمع الميم سرّاً، تماماً كما أحببناهم سرّاً. تساءل البعض منّا ممن تخلّت عنهم عائلاتهم في حياتهم، عمّا إذا كانت هذه العائلات ستتخلّى عنهم في موتهم. تملك عائلاتنا امتيازات دينية وحقوقاً قانونية على أجسادنا (زنغن 2019)، لذا نتساءل إذا كانت ستعتبرنا جديرين بالبكاء وتقيم لنا مآتم وتضمن لنا الدفن الإسلاميّ الذي نحلم به.
تشكّل هذه المقالة جزءاً من مشروع أوسع متعدّد الميادين بعنوان "عندما لا أعود موجوداً في هذا العالم: موت الكويريين/ات والعابرين/ات جنسياً المسلمين/ات ودفنهم/نّ في الوطن والمنفى". وهو مُهدى للكويريّين/ات منّا والمطرودين/ات والمهمّشين/ات وأبناء الثقافة الثالثة11 والمتوارين/ات والمصارعين/ات من أجل البقاء والمكسورين/ات والمكافحين/ات والذين يُنشدون/ن العادات والطقوس التي تمنحنا سلام القلب، مع علمنا أنها ليست مضمونة لنا دوماً أو لا تعكس ما نحن عليه حقّاً. عسى أن يساهم فتح هذا النقاش في التخفيف من إنهاكنا.
- 1. أودري لورد (1934-1992): كاتبة وشاعرة أميركية ومناضلة نسوية كويرية وأحد الوجوه الأدبية في "حركة الفنون السوداء" (المترجمة).
- 2. مجتمع الميم أومجتمع المثليون والمثليات وثنائيو وثنائيات الميل الجنسي والمتحوّلون والمتحوّالت جنسيا وحاملو وحامالات صفات الجنسين والكوير (مديرة الترجمة).
- 3. هنا محاولة لترجمة التعبير الإنكليزي in the closet، الذي يعني حرفياً "في الخزانة"، ويصف ذوي الجنسانيات غير النمطية الذين يُخفون هويتهم الجنسية. لا ترجمة عربية واحدة ومعتمدة لهذا التعبير الذي يقتضي التفكير بترجمته الانتباه إلى الحقلين المعجمي والدلالي المرافقين له بالإنكليزية. إذ يُقال being closeted لوصف الحالة، وcoming out عندما يخرج الشخص من مخبأه ويفصح عن مثليته، وto out someone أي كشف مثلية الشخص من دون موافقته، إخراجه من مخبأه. بالتالي، لا يشير التعبير إلى عملية التخفّي والاختباء وحدها، بل إلى المكان وخصائصه التي تنعكس على الفرد المتخفّي فيه. فالخزانة مخبأ داخل المنزل (الخاص داخل الخاص)، لكنها مخبأ هش معرّض دوماً للانكشاف. لذا نقترح "مستتِر" مستعيرين التعبير النحوي المشتقّ من "ستر" و"ستار"، والأخير مرتبط في الثقافة العربية بالخصوصية والحجب عن الخارج والفصل بين فضاءين والإخفاء، كما أن الحقل المعجمي المرتبط به واسع ويسمح للكتّاب والمترجمين باستغلاله بشكل مُخصب ومفيد (المترجمة).
- 4. وهي ترجمة لمصطلح الـ in-betweens/in betweenness، وهو كناية عن حالٍ هوياتية في مخاض من التبدل والتغير ضمن موقعها غير المستقر جغرافيا والمقيد قانونيا والمقوض زمنيًا. لهذا التعبير أكثر من ترجمة في اللغة العربية ويستقي منطقه من أدبيات الهجرة واللجوء وكذلك من أدبيات التحليل الطبقي الماركسي المعاصر (مديرة الترجمة).
- 5. أو: ... قصّة "الإفصاح عن" هويتي الجنسانية، لما للإعلان أو الإفصاح من دلالة المجاهرة بالسّر أمام المجتمع أو بالأخص في هذا السياق أمام العائلة، وهذه ترجمة للعبارة المعتمدة بالإنجليزية coming out (مديرة الترجمة).
- 6. يشير النص الأصلي إلى معنى اسم "حياة". وهو نفسه بالعربية والفارسية (المترجمة).
- 7. ارتأينا هذه الترجمة المسيّقة للفظة monolith بحيث أنها تصف البنية المؤسسية والخطابية المنغلقة والجامدة للتيارات المهيمنة والسائدة إعلاميًا من حركة المثلية الأوروبية (مديرة الترجمة).
- 8. ليلة البراءة أو نصف شعبان، يحتفل بها بعض المسلمين/ات إحياءً لذكرى تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام بمكة، الذي حصل كما يُرجّح في العام الثاني من الهجرة.
- 9. للبقوليات عموماً ارتباط رمزي بالإسلام في مناطق آسيا الوسطى، إذ حملها المسلمون معهم خلال المد الإسلامي في مطلع القرن الثامن الميلادي (المترجمة).
- 10. خاتم: وجبة خفيفة من الخضار المرّ المقلي بالزبدة تشتهر بها خصوصاً مملكة البوتان والهند (المترجمة).
- 11. يصف هذا التعبير أبناء المهاجرين/ات وجميع الأشخاص الذين/اللواتي نشأوا/ن في ثقافة مختلفة عن ثقافة أهلهم/نّ أو ثقافتهم/نّ الأصلية (بالعادة تعود إلى جذور ثقافية ولغوية وجغرافية). والمقصود بالثقافة الثالثة، تلك التي يخلّقها هؤلاء نتيجة تمازج/ تناحر الثقافتين اللّتين نشأوا/ن بينهما. (المترجمة بالتعاون مع مديرة الترجمة).
Abraham, Ibrahim. "‘Out to get us’: queer Muslims and the clash of sexual civilizations in Australia." Contemporary Islam 3, no. 1 (2009): 79-97.
Al-Ali, Nadje. "Covid-19 and feminism in the Global South: Challenges, initiatives and dilemmas." European Journal of Women's Studies 27, no. 4 (2020): 333-347.
Allen, Katherine R., and Fred P. Piercy. "Feminist autoethnography." Research methods in family therapy 2 (2005): 155-169.
Amar, Paul. The security archipelago. Duke University Press, 2013.
Bassily, Nelly. “Leah Lakshmi Taught Me: my anxious, pandemic-time musings about building for the long-haul”. Kohl: a Journal for Body and gender Research 6, no. 2 (2020): 183-186. Available at: https://kohljournal.press/leah-lakshmi-taught-me
Butler, Judith. Frames of war: When is life grievable?. Verso Books, 2016. 129.
Chang, Heewon, Faith Ngunjiri, and Kathy-Ann C. Hernandez. Collaborative autoethnography. Routledge, 2016.
Ellis, Carolyn. The ethnographic I: A methodological novel about autoethnography. Rowman Altamira, 2004.
Gato, Jorge, Jaime Barrientos, Fiona Tasker, Marina Miscioscia, Elder Cerqueira-Santos, Anna Malmquist, Daniel Seabra et al. "Psychosocial effects of the COVID-19 pandemic and mental health among LGBTQ+ young adults: a cross-cultural comparison across six nations." Journal of Homosexuality 68, no. 4 (2021): 612-630.
Ghabra, Haneen. "Disrupting privileged and oppressed spaces: Reflecting ethically on my Arabness through feminist autoethnography." Kaleidoscope: A Graduate Journal of Qualitative Communication Research 14, no. 1 (2015): 2.
Griffin, Ada Gay, and Michelle Parkerson. A litany for survival: the life and work of Audre Lorde. New York, NY: Third World Newsreel, 1996.
Holman Jones, Stacy. "Living bodies of thought: The “critical” in critical autoethnography." Qualitative Inquiry 22, no. 4 (2016): 228-237.
Iyanda, Ayodeji E., Kwadwo A. Boakye, Yongmei Lu, and Joseph R. Oppong. "Racial/Ethnic Heterogeneity and Rural-Urban Disparity of COVID-19 Case Fatality Ratio in the USA: a Negative Binomial and GIS-Based Analysis." Journal of racial and ethnic health disparities (2021): 1-14.
McIvor, Onowa. "I am my subject: Blending Indigenous research methodology and autoethnography through integrity-based, spirit-based research." Canadian Journal of Native Education 33, no. 1 (2010): 137-155.
Pace, Steven. "Writing the self into research: Using grounded theory analytic strategies in autoethnography." Text Journal, no. 13 (2012).
Rahman, Momin. "Queer as intersectionality: Theorizing gay Muslim identities." Sociology 44, no. 5 (2010): 944-961.
Richter-Montpetit, Melanie. "Everything you always wanted to know about sex (in IR) but were afraid to ask: The ‘queer turn’in international relations." Millennium 46, no. 2 (2018): 220-240.
Said, Edward. "Reflections on exile." Said EW Reflections on exile and other essays. Cambridge (Mass.): Harvard University Press, 2000. 180.
Stanley, Eric. "Near Life, Queer DeathOverkill and Ontological Capture." Social Text 29, no. 2 (2011): 1-19.
Zengin, Aslı. "The Afterlife of Gender: Sovereignty, Intimacy and Muslim Funerals of Transgender People in Turkey." Cultural Anthropology 34, no. 1 (2019): 78-102.