الرابع من آب و"حفظ ماء الوجه": رقصة الحقيقة والمجاز

السيرة: 

طالبة دكتوراه متفرغة حاليًا للكتابة والبحث حول السرديات السائدة في كتب التاريخ المدرسية في لبنان. قبل أن تنتقل للعيش والعمل في ألمانيا، قضت 12 عامًا في التعليم الثانوي الرسمي كأستاذة فلسفة ولغة ألمانية، متنقلة بين مختلف المناطق اللبنانية، وانتهت تجربتها في بيروت بالإصابة بكسور في عظام الوجه وارتجاج في الدماغ إثر انفجار المرفأ في الرابع من آب 2020.

اقتباس: 
بشرى صعب. "الرابع من آب و"حفظ ماء الوجه": رقصة الحقيقة والمجاز". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 7 عدد 1 (06 سبتمبر 2021): ص. 68-72. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 21 نوفمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/August-4th.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (660.08 كيلوبايت)

statue.jpg1

انقلاب الجماهير على هرمية السلطة

جولروخ نفيسي

هناك أمور لا يمكن أن نفهمها إلّا في أوانها. منذ سنوات كثيرة، عندما كنت أدرس علم اجتماع اللغة، قرأت عن نظرية "التهذيب" ومفهوم "الوجه" فيها، حيث يحاول كلّ طرف من أطراف الحوار أو التفاعل أن يُظهر نفسه بأفضل صورة من خلال الحفاظ على صورة الآخر – أي كما نقول بالعربيّة أن "يحفظ ماء الوجه"، أو بالعامّية اللبنانيّة أن "يبيّض" وجهه من خلال تبييض وجه الآخر. بالمقابل، كما تذهب النظريّة، فإن أسوأ خسارة ممكن أن تحلّ بنا في تفاعل لفظيّ هي أن "يُسوَدّ وجهنا" كما نقول في لبنان، من هنا نفهم فداحة ما تعنيه عبارة "قبَّح الله وجهك"! لكن ما لم أكن أعرفه حينذاك، ولم يكن بإمكاني أن أعرفه، هو أنني سأحظى يوماً "بشرف" اختبار تحوّل كل هذه التعابير من مجاز الى حقيقة، ذات رابع من آب 2020.

كانت الساعة السادسة مساءً، وكنت أتشارك قهوةً مسائيّةً مع خالتي، في منزلها الكائن في الجمّيزة، أحد الأحياء الأكثر تضرّرًا من انفجار مرفأ بيروت. لا أذكر شيئًا ممّا حدث – والحقيقة أنني لا أريد أن أتذكّر – لكنني أذكر أنني استيقظت من غيبوبة وقعت فيها إثر إصابتي.

  • وين أنا؟
  • بالمستشفى.
  • شو صار؟
  • شي كتير كبير. أحسنلك ما تعرفي… ارجعي نامي هلق.

هكذا قالت لي الممرضة، فنمت. ثمّ استفقت مجدداً وانتبهت لثيابي ملطّخة بالدم ومرمية على كرسي في مقابل سريري، وكلمة "دماغ" مكتوبة بالانكليزية وبالخطّ العريض على ساعدي. وجدت أنني "فقدت ماء الوجه" بالمعنى الحرفي الدقيق للعبارة: أي أنني أُصبت بكسور في محجر العين وتوقّفت مجاري الدمع عندي عن تصريف "الماء".

تطلّب الأمر منّي أياماً لأستوعب بالكامل ما حصل. كنت محظوظة، بمعنى من المعاني، أنني نسيت، حرفياً ولأسباب فيزيولوجية، هول الصدمة، رغم أنني أتذكّر صدمات من نوع آخر مثل تصريح وزيرة من هنا ورئيس من هناك...

في البداية، أذكر أنني كنت سعيدة. سعيدة لأنني لم أفقد شيئاً من قدراتي العقلية سوى قدرتي على التركيز و24 ساعة من الذاكرة (التركيز عاد، لكن الذاكرة ما زالت "مضروبة") لذلك كنت أقول لكلّ من يسألني: "أنا بخير والحمدلله".

لم أستوعب سوى متأخرة جداً أن ما فقدته هو بالضبط ما لم أقدّر قيمته يوماً: "ماء الوجه" نفسه الذي قرأت عنه، في حياة سابقة، حين كنت أدرس علم اجتماع اللغة.

كنت سعيدة، رغم الغضب والحقد الذي سبّبه استيعاب الأبعاد السياسية لما حصل، لأن لا شيء أُصيب منّي سوى "وجهي". لكن مَن هُم "أكبر وأفهم" منّي، من أقارب وجيران وأصدقاء كانوا أسرع إلى الاستيعاب: "انشالله ما يكون وجهك تشوّه كتير" قالت لي صديقة للعائلة في مكالمة هاتفية؛ "أيمتى بدّك تعملي عملية تجميل؟" سألني صديقي؛ "لم أستوعب أن الموضوع سيّئ لهذه الدرجة"، قال صديق آخر بعد أن رأى صورتي... وأنا كنت أضحك من قلبي من سخافة هؤلاء الذين يعتبرون أن فقدان "الوجه" أسوأ من فقدان الدماغ! كان ذلك لأنني لم أستوعب بالكامل ما تعلّمته في علم اجتماع اللغة، ولم أفقه العلاقة العميقة والرقصة العجيبة بين الحقيقة والمجاز، لكنني سرعان ما بدأت أفهم.

أنواع متعددة من التمييز لم أكن أعرفها من قبل، تعرّفت إليها بعد الرابع من آب، ومعها أنواع أخرى من "قلّة التهذيب" لم أتخيّل من قبل أنها موجودة: من اتّهامي بالسرقة في أحد المحلّات التجارية في بيروت، لا لشيء إلا لأنّ شكل وجهي بات لا يوحي بالثقة، إلى اتّهامي علنًا بالغباء في محلّ تجاريّ آخر – هذه المرّة في ألمانيا – لأنّني أصبحت بحاجة الى مزيد من الوقت للتأكد أنّني أقرأ كلّ شيء بدقّة. هذا عدا عن أنواع التمييز الصامت الذي اختبرته في السفارات، والمطارات، والإدارات الرسمية حيث عشت في أشهر ما يعيشه أصحاب الإعاقة البصريّة كلّ يوم، في ظلّ الإهمال التام لحقّهم في بيئة دامجة!

في الأسابيع الأولى، حين قرّرت بسرعة أن أخرج الى العلن وأقوم بنشاطات "طبيعيّة"، ظننت أنني فهمت بالكامل فداحة ما جرى، وذلك من خلال نظرة المارّة إليّ في الشوارع، نظرات كان فيها الكثير من الاستغراب لشكلي، تمامًا كأنّ انفجارًا لم يكن. والواقع أنّ الناس لم يعرفوا في أيّة خانة يصنّفون الوجه الذي يرونه، فهو مشوّه نعم، لكنه لا يشبه الوجوه المشوّهة الباكية التي يرونها كلّ يوم عبر شاشة التلفزيون: الإعلام اللبناني، قبل وبعد الرابع من آب، يعتاش من تصوير البؤس وقد حوّله بشكل من الأشكال إلى بورنوغرافيا. لكن لا أحد يصوّر القوّة والصمود والتحدّي في وجوه من يقدَّمون حصرًا بصفة "الضحايا"؛ لا أحد يصغي إلى صوتهم بل يُمنَعون إلّا من البكاء!

لا يتوقّع الناس، من تلقاء نفسهم، أن يلتقوا "وجها لوجه" بضحية انفجار. من السهل، بالنسبة إليهم، أن يشفقوا على وجه مشوّه يرونه من بعيد في الإعلام أو على وسائل التواصل الاجتماعي. لكنّهم لم يكونوا معتادين، وربما لم يعتادوا بعد (أو لن يعتادوا أبداً) على "التفاوض حول الوجه"، أي حول التهذيب والاحترام، مع وجه مشوّه بالمعنى الحرفي للكلمة لكنّه مصرّ أن يحفظ "ماءه" المجازي.

كنت في إحدى الإدارات الرسمية بعد أسبوع من الانفجار، لم أكن قد قمت بعد بعملية ترميم محجر العين، بجانبي رجل يسأل عن معاملة إدارية صدَفَ أنني أعرف تفاصيلها جيداً. قلت له ما أعرفه تلقائياً من دون أن أنتبه إلى أنني أصبحت شخصاً بلا وجه، أي أنني، بالنسبة إلى الرجل الواقف بجانبي، شخصٌ بلا صوت أيضاً أو ينبغي أن يكون بلا صوت. تصرّف الرجل كأنه لم يسمعني أو كأنني لم أقل شيئاً! حافظتُ على رباطة جأشي، لأنني حينها بدأت أفهم.

أمّا عندما غادرت لبنان، بعد بضعة شهور، أصبحت الأمور مختلفة. الأمر تعدّى هنا حدود "الشفقة" بما هي شكل من أشكال "سواد الوجه"، إلى مشاعر غامضة تتراوح بين قلّة احترام تلقائية وعدوانية غير معلنة من قبل الآخرين وكلّها مرتبطة بشكل أو بآخر بذاك "الوجه" الذي بات، بعد أن تمّ ترميمه وتعافى جزئياً، واقعاً في "منزلة بين منزلتين": المألوف وغير المألوف، الجميل والقبيح. ليس نيترات الأمونيوم أول ما يخطر في بال الناس هنا حين يرونني للمرة الأولى. إنه "شيء ما" يعجزون عن تحديده، لكنني بتُّ أعرف أنه مرتبط ارتباطاً شديداً بذاك الذي نسمّيه "ماء الوجه". هذا الوجه الجديد، بعد أن سوّده النيترات وكسره، بات يفرض عليّ تفاوضاً جديداً على "وجهي": من امرأة تقليدية الملامح تحاول بجهد (وليس بنجاح دائماً) أن تجعل المخاطب "يقبضها جدّ" بدل أن ينظر إليها كطفلة تلهو، إلى كائن يصارع ليجد لنفسه مكاناً في المحادثات "الطبيعية"، ليؤسس لهويّة ما، لماء وجه جديدة، تكون جديرة بالحفظ.

الحقيقة ترقص أحياناً مع المجاز بطريقة مثيرة للسخرية. بات بإمكاني القول اليوم إنني استعدتُ إلى حدّ ما ماء وجهي المجازي، من خلال عمليات مفاوضة يومية ما زلت أقوم بها منذ الرابع من آب 2020 لفرض وجهي "شبه الطبيعي" على الناس وزجّه في وجوههم لإجبارهم على احترامه. هذه المهارة الجديدة في "التفاوض على الوجه"، التي لم أكن أحلم باكتسابها من قبل، تجعلني أفكّر بحزن في كلّ الذين أفقَدهم النيترات – وقبله الأزمة الاقتصادية – وجههم "الحقيقيّ"، ثمّ جاء المجتمع، والإعلام بشكل خاص، ليُفقدهم وجههم "المجازيّ": هل تصنيف المرء كضحيّة ينبغي أن يُفقده كرامته الانسانيّة؟ هل أن فقدانه لوجهه – أو لأي عضو من أعضاء جسمه، أو لبيته، أو لعمله الخ. – يجعله بطبيعة الحال فاقدًا لحقّه في الخصوصيّة وفي احترام مساحته الشخصيّة؟ ألا يكفي اختراق الإهمال لحيواتنا وتدميره لمدينتنا وأجسادنا حتى يأتي الإعلام أيضاً ويخترق "ماء وجهنا"؟

أذكر، بشكل خاص، تلك الفتاة التي بالكاد تبلغ الرابعة من العمر، كيف تحوّل وجهها المشوّه الى "رمز" اعلامي، رمز لماذا بالضبط؟ لذكوريّة ما، ربما، أو لتصوّر مفاده أن تلك الفتاة الصغيرة فقدت رمزيًا "أعزّ ما تملك": جمال وجهها. أو ربما هو رمز لاستباحة حق الطفل في الحياة والأمن والأمان والأهمّ في مستقبل غير "مشوّه". لكن الأكيد الأكيد أنّه رمز للدّوس على كرامتنا وللحرب الضروس على "ماء وجهنا" بكل معاني الكلمة، اللغوية والاجتماعية والثقافية.

قبل الرابع من آب، وحتى قبل الاستهداف المباشر لوجوه المتظاهرين وعيونهم من قبل القوى الأمنية، "مَرمَغَ الاعلام وجهنا بالوحل" وسوّده بحيث لم يعد قابلاً للتبييض،بعيدًا عن أي نقد تحرري للتاريخ السياسي لتطور العبارات والمقولات الثقافية/الشعبية في اللغة العربية والتي قد تبرز في تحليلها شُبهة العنصرية، إلا أن هاتين المقولتين شائعتين في معظم المناطق الناطقة باللغة العربية، ويُقصد فيها سياقيُا هنا "تشويه السمعة" أو "ذمّ" الجموع المنتفضة، أي أن مقصدها بعيد عن الدلالات الاستعلائية عرقيا أو حضاريا (مديرة الترجمة). عندما تعدّى على حرمات منازل "البؤساء" ومشاعرهم، لا لشيء إلا لسبق صحفي. تذهب نظرية "الوجه" الى أنني أتعاقد ضمنيًا مع الآخر على أن أحفظ أو "أنقذ" وجهه من أي كلام أو فعل أو إشارة تضرّ بالصورة التي يريد أن يعكسها عن ذاته، في مقابل أن يحفظ هو بدوره صورتي: فهل صورة الطرابلسيين عن ذاتهم، مثلًا، والتي يريدون أن يعكسوها عن ذاتهم، هي صورة أحزمة البؤس المدقع حصراً؟ أو صورة عدم الالتزام بالحجر المنزلي في عصر الكورونا؟ هل كلّف أحدهم نفسه عناء "التعاقد" مع الطرابلسيين؟ أم أن رأيهم بأنفسهم لا يهمّ، والمهمّ هو كيف نريد أن نصوّرهم؟ هل كلّف أحدهم نفسه عناء سؤال النساء في ساحات الثورة ما إذا كان "الوجه" الذي تردن تقديمه هو الوجه الرومنسي/ الجنسي الذي تمّ تقديمهن به؟ أم أن فانتازمات الاعلاميّ والمُشاهد أهمّ من ماء وجه النساء؟ مَن تعاقد مع ضحايا انفجار المرفأ وأهاليهم حول الوجه الذي يريدون أن يقدّموه؟

غير أن نظرية "الوجه" نفسها، وهنا بيت القصيد، تقول إنني حين أحفظ ماء وجه الآخر إنما أحفظ ماء وجهي: هل يعرف كاتب مقدّمة نشرة الأخبار أنّه حين يقول عن المواطنين "بلا مخ" لأنهم لا يلبسون كمّامة، يرفع عن نفسه الغطاء المهني ويعرّض نفسه لإهانات محقّة لأنها تجيب على الإهانة التي تلفّظ بها؟ وهل تدرك إعلامية قالت عن مواطنين آخرين إنّهم "بشعين" لأنهم لا يكفّون عن انتقاد السلطة، أنها بقولها هذا فسخت العقد الضمني الذي يحميها من التنمّر؟ هل يفهم "صنّاع الرأي" أنّهم بتحطيمهم وجوهنا، لم يعد لديهم هُم، ماء وجه ليخسروه؟ 


   
ملحوظات: