المخيال النسوي المعادي للاستعمار: نضالات الماضي ومآلات المستقبل
رياض الأيوبي دارس للاقتصاد وقارئ لحقول العمران والفلسفة واللغويات في تاريخ العرب، بادي البدء في ممارسته الترجمة لمّا عمل على نقل الأدبيات الشيوعيّة للعربية عبر صفحة «ما العمل؟» ومن ثمّ توسّع في هذا البحر من خلال تتبّع مخاض عمل شيوعيّي لبنان زمن الستينيات على نقل الإنتاج المعرفي من عالم الشمال إلى العالم العربي.
تعبتُ من الانتظار،
ألم تتعب يا آخري
من انتظار غدٍ طيّب جليل صادق؟
هيّا نستلُّ سكينًا
نقسم فيها الدنيا عالمَين،
فيبان لنا جنس الجيف الذي تقتات عليه الدود
على قشرة هذه الأرض الخشنة1
لانجستون هيوز
يهدف هذا العدد إلى مساءلة والمساهمة في فهم موقع السياسات الجندرية والجنسية في النضالات الثورية ضد الاستعمار. يتخلّل هذا المشروع أعمالاً أكاديمية وأدبية وأرشيفية حاولت جميعها معالجة سؤال المدارس النسوية المعادية للاستعمار. ما تزال تلك المدارس غير ممَثّلة في مضمار الدراسات المعادية للاستعمار وما يحيط بها من سياسات القرن العشرين والحركات اليسارية والانتاج الأكاديمي والحركات الثورية. نعتبر هذا العدد مساهمة في الأدبيات الشاسعة المتعلقة بالمهمَّشين والمستعمَرين والمعرفة الجذرية والحركات الجماهيرية والرموز الشعبية. ستهمس لنا المقاربات النسوية لمعاداة الاستعمار بمعاني ماضينا، حاضر أيّامنا والمستقبل.
من الوحدة الإفريقية إلى اشتراكية أوروبا الشرقية – من فلسطين والعراق وإيران والفيليبين إلى شتّى نضالات سكان الأرض الأصليين من أجل السيادة سنسأل التالي: كيف تُعيد سياسة الجندر والجنس صقل فهمنا وإحساسنا بمعاني العدالة والحرية والرعاية والأمل؟ هل من حوار قائم بين الحركات الثورية في كلٍّ من ماضينا وحاضرنا، مع المعرفة النسوية؟ كيف تساهم تصوّرات المنخرطين في السياسات الجندرية والجنسية في إنتاج سرديات مختلفة حول ما بات مألوفاً من مساحات وبُنى وأحداث؟ كيف نحرص على تفكيك شامل لوضعية النساء تتجاوز اختزالية السردية البطولية القومية أو سردية الضحية؟ كيف نبيّن خصوصيات سياقية ووضعية عادةً ما يجري إقصاؤها من هكذا نقاشات؟ كيف تساعد المقاربات النسوية المتجدّدة لمفاهيم كالحرية والسيادة والمجتمع والرعاية والجنسانية والاشتراكية على إعادة النظر في التاريخ المتشعب لمعاداة الاستعمار؟
لا يمكن لعاقلٍ إنكار الدور المفصليّ الذي قامت به النسويات في نضالات التحرّر من الاستعمار وشتّى مجالات النشاط السياسي المعاصر. لكن إن ابتعدنا عن سردية البطولة والشهامة المجتزأة كحال سردية الضحية والخيانة، سنجد أنفسنا أمام قصّة مركّبة تدخل في نسائجها خيوط الأمل والخيانة والتماثل والانتفاض وإشكالية المسألة القومية والأبوية الراكدة في زوايا اليسار. من هنا نعود ونسأل، كيف لنا أن نخطّ مشهداً مستقبلياً في كنف الفكر النسوي؟
حوارات وتأمّلات
تشير ناغميه سحرابي (2022: 546-547) في نصٍّ لها إلى التالي:
إن تأريخ الثورة بلغة تولي النساء حقهنّ من السردية، يستجدي لزاماً التخلّي عن الثورة كمادة فكرية (رازحة في مخيال المخططين الاستراتيجيين والمنظّرين)، والنظر إليها على أنها عمل سياسيّ (يكمن في رحم الفعل الميداني).
بذلك نستفزّ الافتراضات المعرفية البحثية، دافعين إيّاها نحو توسيع فهمها لما يشتمل عليه التاريخ الثوري، ولما يُعَدّ منهجًا ومصدراً وتحليلاً بحثيًا سالمًا. تستطرد هارتمان بالقول إن لا ملحوظيّة الثورات المجهرية أي سلسلة الانتفاضات التي تجابه الهرميات القمعية على المستوى الجندري والعرقي والطبقي، دون أن تُوثَّق. تعود لاملحوظيّة هذه الحراكات إلى الطبيعة التبادهية2 لأنماط فعلها ضمن مشهدية النظام القائم، الأمر الذي يوليها قدر هامشي من الأهمية ضمن البنى المهيمنة وتلك المهيمَن عليها على حدّ سواء. هذا ما تطلق سهرابي (2022: 549) عليه تسمية "الموشور/المنخل البطولي"، الذي تعتمد عليه التمثيلات والسرديات التاريخية العائدة للفكر الثوري في مخاض إنتاجها.
انطلاقاً من هذه الروحية النقدية نستهلّ عددنا بفقرة حوارات وتأمّلات. يهدف هذا القسم الى ملء الفراغات الكائنة في التأخيرات المتواجدة للثورات واستحضار المفقود والمكتوم والممحي من أصوات. نبني مقاربتنا على مفهوم سعيدية هارتمان (2008: 16) التاريخ "الاستبصاري"3 كمنهج ومنظومة قيمية ترمي إلى سرد قصص أولائك الذين طُمست آثار رحالهم. تعالج هارتمان (2018: 467) مسألة الثورات الخافتة، أي تلك الحركات التمرديّة التي جابهت الهرميات الجندرية والعرقية والطبقية القمعية. في نص سلمى وجيريان بعنوان" درب التحرر الطويل"، نجد خريطة طريق نظرية "لأرض بإحداثيات ضالّة" على حدّ قول هارتمان (2008: 9). في طيّ رسائلهما لبعضهما الآخر، يتفكَّر الكتّاب في السياسات الرازحة خلف عملية "صناعة التاريخ" أو حياكة السردية التاريخية ومكانة النساء في مشاريع التحرّر الوطني والتحوّل الثوري الاجتماعي. يركّز عمل مي طه وسارة سالم على رواية صنع الله ابراهيم المعنونة "ذات" مدفوعاً بنقد لطيفة زيات (1992) للرواية، والذي ترجمته مي وسارة من الانجليزية إلى العربية. يسود طيّ النص المترجم خواطر كُتبت بخط اليد للمترجمتين، يتخلّلها أفكار وتساؤلات ورسومات توثّق صدىً معاصراً لـ"ساحٍ مجازي تتشكل فيه معالم ماضٍ متخيَّل" (هارتمان 2008: 9). تستدعي رنا بركات صوت أودري لورد للتمعّن في سؤال التحرّر في فلسطين. تساعدنا مقاربات لورد لمفاهيم القمع والحبّ والتحرّر على إعادة النظر في أوجه العنف التي في النضال الفلسطيني. تستهلّ حنا الطاهر نصّها بمستقطع شخصي لعمل يوسف شاهين باسم "جميلة" الجزائرية (جرى إطلاقه في 1968). من خلال التمعن بالمشهدية، تُمفصل لنا حنا مفاهيم معاداة الاستعمار والنسوية والحرية كما تتمظهر في آفاق الطموح تارة، وفي تعاكسها مع سياسات المواطنية المجندرة في الدولة الأردنية ما بعد الاستقلال.
المنهجيات النسوية
في "إعادة التفكّر"، تدعونا جوليتا سينغ إلى التفكير فيما قد يعنيه التخلي عن الإتقان كوسيلة للتواصل بشكل أعمق مع العالم. تركز سينغ بشكل خاص على الفكر المناهض للاستعمار، وتقترح أنّ طرق المعرفة الاستعمارية لا تزال موجودة وتتجلى عند كل محاولة لـ "إتقان" أي موضوع أو مجال أو ذات أو حتى عالم المعرفة بأسره. في أجزاء أخرى من النص نشهد استكشافًا للتقسيمات المزعجة التي تستمر في هيكلة الكتابة الأكاديمية مثل المعرفة العقلانية والموضوعية مقابل المعرفة العاطفية والشاعرية. هنا تحفيز للالتزام بأشكال المعرفة التي تنقضّ على الثنائيات، لأننا مهتمّون بشكل خاص بكيفية إنتاج أشكال المعرفة التي تستخدم سبلاً ومناظير متشعبة للمعرفة. يتحدّث هذا القسم الخاص، "المنهجيات النسوية"، بشكل مباشر عن إمكانيات المعرفة والبحث والكتابة التي تتحدى المعيارية مع التركيز على الشِعر وعلم التربية وفضاءات الحميمية باعتبارها مركزية لإنتاج المعرفة.
ترجم مارو بابون ثلاث قصائد لليلى بعلبكي، الكاتبة العربية البارزة والتي كانت أول من تفكّر بوضع المرأة اللبنانية من منظور وجودي شامل. تتشابك موضوعات الحرية والجسد الأنثوي والفردانية والخيانة السياسية والعديد من الموضوعات الأخرى من خلال أعمال بعلبكي والترجمات الثلاث، مشيّدةً لنا نافذة على الوسط السياسي والجنساني في أواخر القرن العشرين. كما تركز خولة بنغيسي على الشعر، وتحديداً الشعر الشعبي لنساء مثل فاطمة عثمان وفاطمة محمود في ليبيا. نحن لا نتعلم فقط عن شعر عثمان، ولكن على نطاق أوسع عن الزمان والمكان، والحرية والعدالة، ومسألة من يقرأ كشخصية مناهضة للاستعمار من وجهة نظر الحاضر. تستكشف مقالة شين كاريون حول الصوت الشعري والكتابة المؤقتة في الفلبين كيف يمكن أن يجسد الصوت الشعري تجارب الفرد والمجتمع والحساسيات الذاتية. من خلال قراءة القصائد التي كتبها خلال العقد الماضي، يركّز كارون على مفاهيم السفر حول العالم والتفكير الأرخبيلي من أجل إعادة تخيّل ما يبدو عليه الفكر المناهض للاستعمار في الفلبين اليوم.
بالنسبة للكثيرين منّا، كان علم التربية مدخلاً مهمًا لمسائل أوسع متعلقة بالتحرر وحركات الاطاحة بللاستعمار. في مقال عن تدريس النظريات النسوية في مجال تفكيك الاستعمار، تبدأ أيتاك ديبافار بالسؤال عمّا يعنيه العثور على الأمل في مواجهة الهزيمة المطلقة، والتفكير من مساحة الفصل الدراسي. يفترض ديبافار أن الفصل الدراسي مساحة للتفكير الجماعي وللحلم الجماعي، ويسأل عمّا يعنيه التخلي عن الإتقان واحتضان فكرة الانعتاق من "التعلّم"، ويذكّرنا بأن الوهن العقائدي أمر أساسي للتربية النسوية والتثقيف النسوي. في "الحديث عن ثورة"، تستكشف كاثرين ناتانيل وكانوال حميد وأمل خلف بشكل جماعي تشابكات التخصصات المختلفة مع أشكال القوة الاستعمارية. تسأل الكاتبتان من خلال التركيز بشكل خاص على "الكلمة" وتقديس النص كيف يمكن لأشكال أخرى من النصوص، مثل الأرض والجسد والتنفّس والروح والإحساس، أن تروي قصصًا/ سرديات مغايرة.
توثيق كفاح الزمن الغابِر
تتساءل أمنية الشاكري، في مقالها المعنوَن "تاريخ بلا وثائق"،4 عن ماهيّة دراسة تاريخ النضال لتقويض الاستعمار في غياهِب دُور الوثائق الحبيسة عند الدولة، وأمام الغَيبَة الكُبرى للشهادات التي تروي لنا وقائع الكفاح ضدّ الاستعمار. بالإضافة إلى المركزية الأوروبية الكامنة في التأريخ الاستعماري، يحدق بنا سؤال ماهيّة النبش بحثًا عن أخبار المقاومة ضد الاستعمار في أرض السجلّات التي تأبى الاعتراف بها، ناهيك عن توثيق مجرياتها. لذلك تدعونا (الشاكري) إلى اعتماد نَسَقٍ مغايِر في الحفظ والتسجيل والتوثيق – البحث في الرسائل والمذكّرات مثلًا، وبقيّة المحفوظات التي لا تدخل في عِداد "الوثائق" في مناهج الأرشفة المُمأسَسة؛ ممّا يعيد الاعتبار للحميميّة في الاطّلاع على قصص نساء ويساريّين/ـات وجماعاتٍ أُخرى لا يُنظَر لها – عادةً – دورٌ في صناعة التاريخ وتدريسه. لذا يتوجّه هذا القسم من العدد الخاص إلى سبر غِوار المسألة الشائكة: توثيق كفاح الزمن الغابر؛ ومع كلّ مساهمة تُروى لنا حكاية عن ثورة ومقاومة نسويّة عبر استحضار رموز و/أو حركات ذات شأنٍ محوريّ في تاريخ المقاومة، لنتفحّص كيف للطرق المتباينة في تعلّم المعارف المؤرشفة أن تغدو أداةً للإخبار عن مساعٍ سابقة، نسويّة ومناهضة للاستعمار، من أجل التغيير السياسي.
تصحبنا بدايةً عائشة لطيف، في مقالتها عن الشاعرة بيرو بريمان (١٨٣٢-١٨٧٢) من أرض البنجاب في الهند، للشهادة على حيويّة عوالِم السِيَر الذاتية والمذكّرات حيث للنساء أن تستبقي المرويّات الخاصّة بهنّ وعنهنّ. تعتمد بريمان الصيغة الشعريّة التراثيّة في البنجاب لتخبرنا عن مقاومتها للبنى السلطوية – الإسلامية والهندية والتركية – بغية تأسيس بنيان معرفيّ مضادّ ومقاوم للمرويّات الأبوية في التاريخ. ثمّ، تحت عنوان "ليس بعد الآن جنّةٌ مؤجّلة"،5 تضرب ألينا ساجد وتزعزع موضعة النساء في معادلة ثنائيّة صفريّة إمّا كفاعلاتٍ وإمّا كضحايا للتاريخ، سعيًا وراء تفحّص قدرة الأمل الثوري في أن يكون تأطيرًا بديلًا لموقع النساء داخل النضال ضدّ الاستعمار في الجزائر وفلسطين. ومن خلال التفكيك المتمعّن لـ "قضيّة المرأة" في عوالِم وأزمنة متباينة، تُحيلُنا ساجِد إلى شبح الآمال والمطامح التي ما تزال تؤرّق حاضرنا وتتعدّى فناءنا. بينما يتطرّق زياد النابلسي، في مساهمته، إلى سؤال لانغستون هيوز عن مصير الأحلام المعلَّقة، بالكتابة عن مفهوم تحرّر النساء في خطاب الحزب الإفريقي من أجل استقلال غينيا والرأس الأخضر، ثمّ في النصوص الثورية التي كتبها أميلكار كابرال؛ إذ يحاجج تانابلسي بأنّ محوريّة قضايا تحرّر النساء داخل هذه الحركة تتأتّى من التوجّه الحداثي والفلسفي عند كابرال، وتحديدًا من الالتزام بمبدئيّة الإدارة الذاتيّة. والتشديد في هذا العدد على أهميّة الإقرار بالتزام التحرّر الجندري في أوساط الحركات الساعية إلى الحريّة المعادية للاستعمار، كي نكتسب فهمًا أصحّ لماهيّة الأحلام المعلَّقة التي تشير إليها ساجِد. كذلك تذهب بنا إليزابيث أرمسترونغ إلى المستقبل في مقالها عن إستِر كوبِر وفيديا كانوغا – الشيوعيّتان الملتزمتان، والمناضلتان ضدّ الاستعمار والعنصريّة، إذ تبرِز أرمسترونغ كيف أنّ الكفاح فيما مضى كان يندفع من المحلّي إلى الأمميّ، بالإضافة للإمكانات التي انطوَت عليها أفعال النضال والتضامن.
الخَوْض في الحاضِر
لن نَصدُق في إجلال أيّام الكفاح الغابر ما دمنا لا نعير انتباهًا لماهيّة اختراقها الزمن الحاضر؛ لِذا نقتطع من خطاب توماس سانكارا أثناء اليوم العالمي للنساء، في شهر مارس/آذار من العام ١٩٨٧، هذا البيان – الحارّ والصادق – من القلب:
يا رفاقي، ما من ثورةٍ اجتماعيّة – حقّاً – دون تحرّر النساء؛ بل عساها ألّا تنظر عيناي، ولا تسعى بي قدماي، إلى مجتمعٍ مكتوم على نَفَسِ شطرٍ منه إلّا واستَشعَر قلبي شدّة الغضبة الموعودة مِن هدير الرياح العاصفة.
ما زالَ النداء الذي أطلقه سانكارا على راهنيّته، منذ لفظه بصوتٍ انفجاريّ حتى يومنا الحاضر. إذ يقتحم الصدع القائم بين الأهداف المنشودة والوقائع الضالّة: الوعود والآمال والكرامة التي ترتسم في آفاق الكفاح ضدّ الاستعمار، أمام واقع القهر والإقصاء والترويض والخيانة. هذا الجرح النازف بأحلامنا المُعَلّقة يقضّ مضاجعنا بسؤال الماهيّة التحرّرية: إن كان التحرّر معزوفة آمالنا إبّان خوض الحروب ضدّ المستعمِرين، فَأينَ قِطاف ثمر النضال، وإلى موائد مَن حُمِل؟ ثمّ بأيّ حقّ أُسكِتَت النساء فينا تحت لواء العضّ على الجراح وكتمان التأوّهات بانتظار أيّامٍ، مؤجَّلة لا مُعَجَّلة، حُبلى بتطييب معاشهنّ لاحقًا؟ هل لتحرّرٍ ذي منطِقٍ أُحاديّ أن يتحقّق؟ وسط هذا التيهان تصرخ أودري لورد بجوابٍ لا يقبل في طيّاته الشبهات: "ما من تحرّرٍ أحاديّ المنطق طالما أنّنا لا نحيا في خضمّ اشتباكٍ أحاديّ الأبعاد".
ذاك السؤال وتلك الإجابة يُبحِران بنا إلى عوالم نُعيد التفكير والتدبير فيها بمعاني التحرّر وصيرورته في آنٍ معًا: أملٌ ينيرُ آفاقنا وعَملٌ يتحقّق ويتبدّى أمامنا لِنَحيا في كلّ لحظة نعدّ فيها العُدّة ونشحذ الحناجر والقبضات لنقاتل، الآن وها هنا. وإذ تحكم أودري لورد (1984: 51) بالعمى على كلّ رؤيةٍ مكبّلة ومشوّشة للتحرّر، تدعونا لنبذ الأوهام والخوض مجدّدًا في عثرات الطريق:
إنّ الزعم باضطرار الواحد (الرجال) لإخضاع الآخر (النساء) وإذعانهنّ تحت سلطانه، سُنّةً في الحياة ومن شروطها، يكبح تسديد الخُطى لتحقيق الأهداف الجماعيّة ككائنات تجبل ذاتها بذاتها. [...] هذا الطراز من الفهم، بل هذا الوهم، يستحوذ على مخيّلة سواد الشعوب المقهورة. هذه الخرافة المُعَمّدة بمنطق الإنتهازيّة القائمة على عقيدة أنّ الحرّية بِضاعةٌ نادرة لا يحوزها إلّا أصحاب الغَلَبة مِن الرجال، وإذا اضطرّوا لاقتسامها مع الغير لم يوفّروا جهدًا في القهر والافتراس إلّا وبذلوا لانتهاز الحصّة الأكبر. لننتهي إلى التقاتل فيما بيننا، ولو على فتات وبقايا مرميّة، بدلًا من توحيد القوى للنضال في سبيل الحريّة الكاملة.
نتساءل فيما بقيَ مِن مضامين التحرّر في بُنى دوَل ما بعد جلاء الاستعمار الإداري – المهووسة بتوطيد التسلّط وتثبيت القبضة الأمنيّة والصراع على النفوذ السياسي – في غِمار حضرة البعث الليبيرالي؟6 ثمّ كيف لنا أن نتصدّى لهذا الواقع البائس، إن كان دويّ نضال الأيّام الغابرة، في انتصاراته وانكساراته – بآماله العالية وذكرى اغتيالها بفعل الردّة والخيانة، لم يَزَل يقتحم حاضِرَنا ويصوغ دورته؟
تتلقّف كُلّ من نيروز أبو حاطوم ورزان غزّاوي هذين السؤالين الأخيرين وتدعواننا للتوقّف عند "العدوان والسلطان الإمبرياليّ في الحاضر الاستعماري، ووحشيّة أفعال الدولة ما بعد الإستعماريّة"، نقلًا عن ديريك غريغوري (٢٠٠٤)7؛ من ثمّ تفحصان معًا بعين التحليل تدجين وعسكرة كفاح الفلسطينيّين والجولانيّين من أجل التحرّر وحقّ تقرير المصير، بفعل نهج الدولة السورية في سياق تسويغ وحشيّة حربها ضدّ الانتفاضة في سوريا منذ انطلاقتها عام ٢٠١١؛ وهذا ما تسمّيانه "الاغتسال بالصمود".8 نجد روح هذه الدعوة التحريضيّة على إبصار الحاضر الإستعماري ووحشيّة الدولة ما بعد الإستعماريّة – في آنٍ معًا، عند إيتاك ديپاڤر في تأمّلاته على ضوء انتعاش الحراك الحالي في شوارع إيران رافعًا ثلاثيّة "النساء-الحياة-الحرّيّة". مستعينًا بالنظر عبر عدسات تفكيك الاستعمار والكويريّة مع معاداة العنصريّة والإمبرياليّة، يخاطب ديپاڤر القارئ ويدعوه للعبور إلى ما هو أبعد من الرؤى الضيّقة – القاصِرة عن حركة الشارع في إيران عند القراءات النسويّة-الليبيراليّة، الزاعمة لذاتها وبذاتها معاداة الإمبرياليّة وهي المتلهّفة لمجيء فارسٍ أبيض (على جوادٍ أبيض) من عالم الشمال كي تنتفي عذاباتنا على يديه.
تأخذ فانيا نويل، في مقال "باريس على النار"، على عاتقها مهمّة التصدّي لصعوبات الجمع ما بين قوىً وتطلّعات عدّة، وتعيد النظر في مَوضَعة النقاشات حول التقاطعيّة بعدسةٍ نسويّة-إفريقيّة وتستعرض المداولات السياسيّة والفكريّة حول التقاطعيّة داخل الأوساط الناشطيّة في فرنسا من خلال رصد وفحص تاريخ المنظّمات المناهضة للعنصريّة هناك، للإحالة بالتالي إلى العداوات المتشعّبة بين طيفٍ واسع من التيارات النسويّة المحظيّة بدعم النساء من غير البيضاوات. ثمّ تفتتح عايدة هوزيس مساهمتها بالدعوة إلى البحث في مسألةٍ أُخرى: "ماهيّة أن نكون نسويات في مستعمرةٍ مستقبَحة 9في مكانٍ لا ترى فيه الطغمة السياسية الأوروبية مآلًا للغزو أو الاستيلاء، بل ساحة خطيرة مختلّة لا بد من الاستحكام بها". وتتفحّص هذا التساؤل من خلال حوارٍ مع عالمة الاجتماع والفنانة الناشطة هانا سوراك من سراييفو البوسنة والهرسك، وهي مدوِّنة بصرية ومؤسّسة لمنبر"كلهنّ مشعوذات" المعني بـ"تحديد وتقويض دعائم الخصائص الأبوية في نطاق اليومي".
- 1. لا يوجد ترجمة سابقة، هذه الترجمة بتصرف (محررة الترجمة).
- 2. نعني بالتبادهية، سلسلة الأفعال التي يغيب عنها نسق استراتيجيّ محكم، قد تعني أيضا غياب البنية التنظيمية عن جسد الفعل المشار إليه إلا أن السياق هنا قد يحمل الوجهين (مديرة الترجمة).
- 3. وصول إلى علاقة ذات معنًى بين مختلف أجزاء الموقف، ويعني ذلك التوصّل بصورة تلقائيّة إلى فكرة جديدة.
- 4. ترجمة صفاء الزرقان: https://nama-center.com/articles/details/41020
- 5. أو "ليس بعد الآن نعيمٌ مؤجّل" (في الترجمة).
- 6. نرى هنا مقابلة الـ NeoLiberalism في الانجليزيّة بـ البعث الليبيرالي في العربيّة: فالبعث في المعجم فعل إيقاظ نائمٍ من سباته و/أو نفخ الروح في ميّت، كذلك بعث الليبيراليّة على صورتها الفظّة زمن السبعينيّات في سائر أرجاء العالم ونحاجج (الرفاق المترجمين) في الخمسينيات في سياق العالم العربي لا سيما مصر والمشرق العربي. لكن نكتفي في هذا الهامش العودة إلى خصائص مفردة "البعث" عن رديفاتها: ارتباطها في السياق السياسي العربي بمتلازمة بطش وتغوّل أجهزة الدولة، ولو تفحّصنا زرع الصحوة الليبيراليّة داخل العالم العربي نرى الجذر في قلب المؤسسات الرسميّة التي انقضّت على كلّ هبّةٍ شعبيّة وكلّ تركيبٍ مضاد للمشروع النيوليبرالي (ملاحظة في الترجمة والسياسة).
- 7. الاقتباس من ترجمتنا عن: what Derek Gregory (2004) called the colonial present of imperial intervention and domination, and the violent practices of the postcolonial state.
- 8. أو التطهّر بالصمود. استراتيجيّة النظام العربي الرسمي لغسل ما تتلطّخ به أزياء رجالاته، عسكر وتجّار وممتهني السياسة، من دماء عبر تسويق وتسويغ نَحر الشعوب على مذبح "الصمود" في المعركة، باديَ بدءٍ ضدّ العدوّ الصهيوني و/أو الإسلام الحركيّ، ثمّ المهزلة – وشرّ البليّة ما يضحك، حينما نادى إعلام العسكر في مصر بـ "الصمود" ريثما ينتهي العراك بين روسيا وأوكرانيا، بعد الصمود طوال "الحرب مع كورونا". الله أعلم، توشِك هذه الشعوب أن تَجد نفسها مُطالَبةً بالصمود لمجرّد الصمود – بما هو إحدى خِصال "العربيّ الأصيل". (ملاحظة في السياسة والترجمة).
- 9. اخترنا ترجمة اللفظة الإنجليزية unwanted colony الى مستعمرة مستقبحة والهدف هو التمعن في عناصر الشيطنة والخطاب الحوسلي الذي يجري فيه أرشفة وجود تلك الجغرافيات ضمن نطاق زمني وتحت نير إدارات سياسية معينة. كما أن للصيغة العربية هذه قدرة على تبيان العلاقة التبعية للبلاد المستقبحة تلك على أنها مفاعيلُ داخل جملة التفاعلات الاستغلالية التي تقوم بها الامبرياليات العالمية ضمن النظام الرأسمالي الحالي (ملحوظة المترجمة)
El Shakry, Omnia. “History without documents: The vexed archives of decolonization in the Middle East.” The American Historical Review 120:3 (2015), 920-934.
Gregory, Derek. The Colonial Present: Afghanistan, Palestine, Iraq (Malden, MA: Wiley-Blackwell), 2004.
Hartman, Saidiya. Lose Your Mother. A Journey Along the Atlantic Slave Route (New York: Farrar, Straus and Giroux), 2008.
Hartman, Saidiya. “The Anarchy of Colored Girls Assembled in a Riotous Manner.” South Atlantic Quarterly 117:3 (July 2018), 465-490.
Lorde, Audre. “Learning from the 60s.” In Sister Outsider: Essays and Speeches (Berkeley: Crossing Press), 1984.
Lorde, Audre. “Scratching the Surface: Some Notes on Barriers to Women and Loving,” in Sister Outsider: Essays and Speeches (Berkeley: Crossing Press), 1984.
Sankara, Thomas. “The Revolution Cannot Triumph Without the Emancipation of Women.” In Thomas Sankara Speaks. The Burkina Faso Revolution 1983-1987 (New York: Pathfinder Press), 1988.
Sajed, Alina. “‘Claim No Easy Victories:’ On the Political and Ideational Content of Liberation.” International Politics Reviews (forthcoming).
Salem, Sara. Anticolonial Afterlives in Egypt: The Politics of Hegemony (Cambridge: Cambridge University Press), 2020.
Singh, Julietta. Unthinking Mastery: Dehumanism and Decolonial Entanglements (Durham: Duke University Press), 2017.
Sohrabi, Naghemh. “Writing Revolution as if Women Mattered.” Comparative Studies of South Asia, Africa and the Middle East 42:2 (2022), 546-550.