المقاوَمات الصغيرة: لقاء مع سامانتا أرانغو أوروزكو

السيرة: 

تعالج ممارسة مروة أرسانيوس الأسئلة الهيكلية والمتعلقة بالبنية التحتية باستخدام أجهزة وقوالب واستراتيجيات مختلفة. من المساحات المعمارية ، وتحولها وقدرتها على التكيف خلال الصراع، إلى مساحات تشغيل الفنان والاتفاقيات المؤقتة بين المجتمعات النسائية والتعاونيات ، تميل الممارسة إلى توفير مساحة داخل الهياكل الفنية الحالية وموازية لها مما يسمح بالتجربة مع أنواع مختلفة من السياسة. يصبح الفيلم شكلاً آخر ومساحة لربط الصراعات بالطريقة التي تشير بها الصور إلى الصور الأخرى. في السنوات الأربع الماضية، حاولت أرسانيوس التفكير في هذه الأسئلة من منظور مادي ومادي تاريخي جديد من خلال حركات نسوية مختلفة تناضل من أجل أرضها. يشمل بحثها العديد من التخصصات ويتم نشره في العديد من المنهجيات الجماعية والمشاريع التعاونية. تشمل العروض الفردية: مركز الفنون المعاصرة، سينسيناتي (2021)؛ معرض Skuc، ليوبليانا (2018)؛ مركز بيروت للفنون (2017)؛ متحف هامر، لوس أنجلوس (2016)؛ ويت دي ويث، روتردام (2016)؛ Kunsthalle Lissabon، لشبونة (2015)؛ والفن بشكل عام، نيويورك (2015).

اقتباس: 
مروة أرسانيوس. "المقاوَمات الصغيرة: لقاء مع سامانتا أرانغو أوروزكو". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 8 عدد 2 (28 نوفمبر 2022): ص. 5-5. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 03 ديسمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/370.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
ترجمة: 

درست أمل الأدب الروسي ومارست عمل الترجمة لأكثر من 20 عامًا غطت خلالها طيفًا واسعًا من الموضوعات بما في ذلك الرياضة وأفلام الكرتون للأطفال والأفلام الوثائقية التاريخية والمسلسلات الدرامية والبحوث الإجتماعية والانثرويبولوجية وأما أبرز أعمالها فكانت في ترجمة البرامج السياسية التلفزيونية.

 

مروة أرسانيوس: سامانتا، هلا عرّفتنا بنفسك وبـ"مجموعة البذور"، المنظّمة التي تعملين معها في كولومبيا؟

سامانتا أرانغو:  إسمي سامانتا أرانغو، وأنا جزء من مجموعةٍ منظَّمة في كولومبيا تُدعى "مجموعة البذور"، وهي التي دعمت منظّمات السكّان الأصليين والفلّاحين طوال العقدين الماضيين ضمن سلسلةٍ واسعةٍ من عمليات الدفاع عن الأراضي، تتعلّق بشكل خاص في الدفاع عن البذور المحلّية وأشكال الإنتاج التي تُعَدّ ملكيةً للمجتمع. إننا نعمل حالياً في منطقتين في البلاد: في الجزء الشمالي من كاوكا مع المجتمعات المتحدّرة من أصول إفريقية، وفي جنوب توليما مع مجتمعات السكّان الأصليين والفلّاحين. نوفّر الدعم التقني والسياسي لهذه المجتمعات، بما في ذلك من خلال التعليم التقليدي والتضامن الاقتصادي والاستراتيجيات للدفاع عن الأراضي والدعم المجتمعي حيث نركّز بشكل خاص على استقلالية المرأة.

 

م. أ: هلّا حدّثتِنا قليلاً عن النضالات الأكثر إلحاحاً في المنطقة؟

س. أ: إننا في بلدٍ شديد التعقيد والتنوّع، يتمتّع بثروةٍ كبيرة من المشاعات والمصادر الطبيعية. بالتالي فإن إحدى المشكلات الكبرى تتمثّل في الصراع على الأراضي. تاريخياً، جرّدت الحكومة والقطاع الخاص سكّان الريف من ممتلكاتهم في محاولة للاستيلاء على الأرض. واستخدمت شتّى الأساليب من أجل الاستحواذ على الأراضي، بدءاً من الأساليب المؤسسية (مثل السياسات العامة) وصولاً إلى استخدام العنف ضد المجتمعات. لذا، على الرغم من الاعتراف التاريخي بصراع واحد في كولومبيا والمتمثل بالصراع ما بين الميليشيات والدولة، فإن ما رأيناه على أرض الواقع هو حرب مستمرة ضد المجتمعات التي تعيش وتحمي الإقليم. في حين أنه ليس بوسعنا أن ننفي وجود بعض الجماعات المسلحة غير القانونية والتي تسبّبت في مشاكل كبيرة هنا، إلا أن المشكلة المنهجية الأكبر متمثلة في الطريقة التي جرّدت بها الحكومة المركزية الأطراف باستخدام العنف – العنف الذي لم يكن مادّياً فحسب، بل تزامن مع العنف الاقتصادي والبُنيوي.

هنالك أنظمة بيئية خاصة جداً في منطقة مثل جنوب توليما. لدينا صحراء بالقرب منّا، ما يجعل من النظام البيئي شديد الحساسية، بمعنى أن أي تدخّل يظهر جلّياً بنحو قوي. وعلى الرغم من صحة وجود عملية تصحّر طبيعي، إلا أن من الصحيح أن الإجراءات الخارجية قد عجّلت في هذه العملية. إن المجتمعات المحلية هي الأكثر تأثراً بهذه التغيّرات القاسية. وكلّ هذه الأمور تأتي مُضافةً إلى عملية الصراع على الأرض، وضد استغلالها المُفرط بفعل المشروعات الاقتصادية التي لا ترى في الأرض سوى شكلاً من أشكال الربح، وليس كمكان يعيش فيه بشر وحيوانات ونباتات. هناك العديد من النزاعات على الأرض بسبب المصالح الاقتصادية المختلفة، وهذا ما دفع المجتمعات التي تعيش هنا للدفاع عن أرضها وحمايتها. أخيراً، فقد تأثرت هذه منطقة تاريخياً بالصراع الكولومبي. كان هناك وجود مستمرّ للجهات المختلفة المسلحة – الجماعات شبه العسكرية وجماعات حرب العصابات، وكذلك الجيوش والجماعات المسلّحة قانوناً – تسبّبت في عدد من المواقف المعقّدة جداً وبالألم المهول للمجتمعات المحلية. لطالما كانت هذه المجتمعات محاصرة عند مفترق طرق، وسط كل هذه المصالح، بما في ذلك المصالح الاقتصادية للشركات الكبرى.

في ظل هذه الظروف المعقّدة، فإن هنالك صورة بانورامية بديلة تمنحنا الأمل كمنظّمة، ألا وهو المشروع السياسي الذي طوّرته المجتمعات لحماية والدفاع عن حياة كريمةٍ في المنطقة – لأن الأمر لا يقتصر على البقاء هنا ببساطة، بل على البقاء وعيش حياةٍ كريمة. في خضمّ وضعٍ مُعقّد مليء بالعنف، فقد وضعوا نصب أعينهم هدفاً يتمثل في تطبيق معرفتهم التقليدية والأشكال الاقتصادية والزراعية الخاصة بهم. إن معرفتهم وأشكالهم الاقتصادية هي، فَلنَقُل، أكثر تكاملاً: لا يمكنك التفكير في الاقتصاد والثقافة بنحو منفصل. على العكس تماماً، فإن استراتيجيات هذه المجتمعات تتضمن نماذج اقتصادية أكثر شمولية، والتي تنطوي بدورها على طرق لسَكَن المنطقة دون التأثير عليها بشكل مكثّف وبطرق تحميها وتتيح سبل العيش الكريم فيها.

نظراً للصراع التاريخي، فإن النساء هُنَّ أكثر من واجه تلك المشكلات. عندما قُتل الرجال في عوائلهنّ في خضم الصراع أو ذهبوا إلى الحرب، بقيَت النساء لحماية الأراضي والإبقاء عليها. لقد فعلوا ذلك جزئياً من خلال حماية البذور الهجينة منها والمحلية. يتعدّى الغرض من هذه البذور زراعتها لتُنتج لنا الطعام. حيث يمكن لهذه البذور أن توقف عملية التصحّر، إنها تحمل ذاكرة سُلالتها من البذور، مُمثلةً التأقلم مع التغيرات الجذرية في أرض المنطقة. حتى أن المجتمعات طوّرت بذوراً لديها القدرة على التكيّف مع الجفاف. قد تبدو عملية حماية وتطوير هذه البذور مسألةً بسيطة، لكنها مسألة ثورية خاصة ضمن هذا السياق، حيث تسود الصراعات على المياه وفي ظل الأزمة البيئية. لذا فإن النساء الريفيات لا يُطعمن عوائلهنّ وحسب، بل هنّ يسمحن للإنسانية في أن يكون لها مستقبل على هذه الأرض. كما أنهنّ يمثّلن إنجازاً بعيد المدى في معالجة مسألة التغّير المناخي.

يتطلب الاعتناء بالبذور الكثير من الشجاعة والقوّة: على الرغم من أن معظم المجموعات المسلّحة لا ترى في مشروعات البذور هذه تهديداً مباشراً، وهذا فقط لأنهم لا يفهمونها (وهذه مسألة جيدة). بيد أن حماية البذور في جوهرها مقاومةٌ غير مباشرة ضد هذه المجموعات، لأن حماية البذور تعني حماية المنطقة. إنها طريقة تقول فيها للمجتمع: "إننا لن نترك منطقتنا. من هنا نستمدّ طعامنا وغذاءنا، وهنا يمكننا أن نستمرّ في العيش، إليكم كيفية حماية الماء من خلال البذور". لهذا السبب فإنه من الشاعري والساحر للغاية، أن أرى القوة تنبع من هذه الأماكن الصغيرة التي تسكنها وتدافع عنها بالعادة النساء. تُعَدّ هذه المبادرات مصدر إلهامٍ لإعادة التفكير في الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للحياة بشكل عام، بطريقة تخرج عن النماذج الاقتصادية المتوحشة والمدمّرة. أعتقد أن ما يمكن أن نطلق عليه "الاقتصاد المنزلي" المطبَّق على نطاقٍ واسع، يوفر نموذجاً بديلاً وشاملاً لكيفية تنظيم الحياة الاقتصادية. يُنظَر في العادة إلى مثل هذه النماذج الاقتصادية البديلة باحتقار لأنها لا تعود على مستخدميها بمبالغ طائلة من الأموال. لكنها تتيح عملية الاستدامة مع مرور الوقت، وتمنع التأثيرات المدمّرة التي لا رجعة عنها على البيئة، وتخلق علاقة أكثر توازناً مع المنطقة.

 

م. أ: هناك عنفٌ سياسي واقتصادي، كذلك عنفٌ مستنِد إلى الجندر في المنطقة. قالت ميركي فيرا مرّةً (وصيّة بذور من جنوب توليما وجزء من شبكة "مجموعة البذور")، يُمكن لحماية البذور أن تكون عملاً فيه مخاطرة بحيث أنها تشكّل تهديداً للشركات الكُبرى. جعلني الأمر أفكّر في قوة تلك البذور، وكيف يمكن لأشياء صغيرة أن تساعد في مقاومة هذه الأشكال من العنف المُمنهج. كيف لنا أن نقاوم من خلال شيء صغير مثل بذرة؟

س. أ: لقد سمعتُ جملةً هنا مرّةً: "أوّل منطقةٍ في الصراع هي المعدة الجائعة، إن لم يتوفّر الطعام فإنه ما من سبيل للاستمرار بالمقاومة". ما إن يسيطر آخرون على الطعام، ليس بالإمكان فعل أي شيء. عندما تعتمد المجتمعات على شراء طعامها من المتاجر الكبيرة أو على نظام الغذاء الشامل، فإنه من الصعوبة بمكان إحداث عمليةٍ منظّمة قويّة لمقاومة هذا النظام. ومع ذلك، إذا كان لديهم استقلالية مع بذورهم وطعامهم، فمن الأسهل تطوير أنواع أخرى من الاقتصادات التي تسمح لهم بالاستقلال وتمنعهم من تحمّل المواقف العنيفة. إذا كان المجتمع يتمتّع بالاستقلالية في طعامه، وفي بذوره، فسيتمتّع كذلك بالمزيد من القوة لمقاومة المشاريع الحكومية التي تهدف إلى تجريدهم من أراضيهم. يتعلّق الأمر بكيفية تَمكُّن النساء من إطعام مجتمعاتنّ بالرغم من وجودهنّ في مناطق تعاني المشكلات المائية والنزاعات المسلحة، ومصالح المجموعات النافذة والفاعلين الاجتماعيين. كما أن المسألة متعلّقة في فهم عملية تغذية المجتمع والحفاظ على الأرض بكونها عملية متكاملة. وهذا يعني رفض انتزاع الأراضي، بالقول: "لا، إن لدينا مشروعاً سياسياً، ونرفض الاعتماد عليكم". بالطبع فإن الأمر أكثر تعقيداً من ذلك، فلن تُحَلّ كلّ المشكلات ببساطة لأن لديهم طعاماً وسيكونون قادرين على تغيير الظروف التي يعيشون في ظلها فوراً، بيد أنها بداية دون شك، البداية التي ستفتح الأبواب أمام تلك النسوة لاتخاذ قراراتهن حيال أجسادهن وأرضهن ومجتمعاتهن ومنظّماتهن.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن مسألة حفظ البذور وحمايتها ليست بمعزل عن العملية التنظيمية، لأنه لا جدوى من امتلاك البذور إن لم يكن لدى جاري بذوراً. وقد أدّى ذلك إلى أشكال قوية جداً من التنظيم، التي دفعت الأشخاص إلى الانضمام معاً وتبادل المعرفة، والقول: "علينا أن نتّحد". لذلك كلّه تداعيات إيجابية على العلاقات الاجتماعية في المنطقة، ما يدفع الناس للبدء في استعادة العلاقات التي دمّرها العنف. على سبيل المثال، فإننا بالغالب نعمل هنا في سهول توليما الجنوبية وناتاجيما وكوييما، لكننا بدأنا العام الماضي أيضاً العمل مع منظمات في الجبال، حيث غالبية المنظمات للفلّاحين (الفلّاحين، على الرغم من وجود مجتمعات للسكّان الأصليين هناك أيضاً). في حين أن هنالك صراعاً حادّاً على المياه هنا في السهول الجنوبية، فإن هنالك صراعاً شديداً في الجبال حول السيادة على الغذاء، لأن الزراعة الأُحادية للقهوة جاءت وقضت على كل شيء. لكن ومن خلال العملية الجديدة برمّتها، بدأت مجتمعات الجبال والسهول تلتقي مرة أخرى. لقد شهدنا على ذلك مجدّداً، وهو أن النساء هنّ مَن أنشأنَ العلاقات الودّية. لقد بدأنَ في تبادل البذور وأخذ البذور إلى النساء في الجبال حتى تتمكّن المجتمعات هناك أيضاً من بدء عمليات الاكتفاء الذاتي هذه. بدأنا نشهد على كيفية إعادة تلك الإجراءات البسيطة إلى ربط المناطق التي فصلها الصراع.

أخيراً، استخدمت النساء في هذه المبادرات معارفهن لتعزيز عمليات تمكين النساء الأخريات. ليس الغرض من حُماة البذور إنشاء علاقة ملكية أو إضفاء طابعٍ مؤسسي – ولا يتعلق الأمر بإنشاء بنك للبذور. بالنسبة لنا، فإن طريقة العناية بالبذور والحفاظ عليها تكمن في طريقة زرعها ونموها.

 

م. أ: هلّا حدّثتِنا أكثر قليلاً عن هذه الممارسة، التي ترفض الحفظ بمعناه التراكمي؟

س. أ: نعتقد سياسياً أن البذور يجب أن تكون مجانية، لأنه يجب فهم البذور بكونها صالحاً عامّاً وليست مُلكية خاصة. هذا يعني أنه يجب أن يكون هناك مجتمع يحمي ذلك الصالح العام، ولكن يستفيد منه أيضاً. إن خصخصة البذور تعني خصخصة الحياة بحد ذاتها. عندما نُخصخص شيئاً فإن هذا يعني بأن هنالك مالك، وإن كان هنالك مالك فإن هنالك سيطرة وإدارة مؤسسية، والتي لا تسمح للمجتمع بالاستفادة من الصالح العام ذاك. عادةً ما تقوم المشاريع الحالية للحفاظ على البذور (والتي أفضّل تسميتها بمشاريع السيطرة على البذور) عبر البنوك، حيث يراكمون كمّيات من البذور. ولا تفعل البنوك ذلك لضمان السيادة الغذائية، وإنما للتحكّم في كيفية استخدام هذه البذور، ولتحقيق فوائد اقتصادية منها.

من ناحية أخرى، بالنسبة للمجتمعات التي نعمل معها، فإن الدفاع عن البذور يُعَدّ عملية تاريخية طويلة الأمد. إنهم يدركون أن البذرة يجب أن تُزرع، وأن هذه هي الطريقة الفُضلى للحفاظ عليها من الناحية الاقتصادية. إن احتفظ المرء بالبذرة في درج أو في أي مكان، فإن تلك ليست بنفس نوع عملية الحفظ، وهي تفتقر إلى عمليتيّ التكيّف والتحسين. عندما أقول "تحسين"، فإنني أعني أنواع التحسين التي تظهر من المجتمع والممارسة الجماعية، وليس التحسين كما فهمته المؤسسات، فيما يتعلق بالبذور المعدَّلة وراثياً أو المعتمدة.

وخَلُصت هذه المجتمعات إلى أن البذور أفضل حالاً وهي "متحرّكة" – والحركة هنا إشارةً على وجوب زراعتها وإنتاجها عوضاً عن تخزينها. في حال تخزين البذور فإنها لن تؤدي وظيفتها الرئيسية، وستظهر ممارسات المُراكَمة. إن ممارسات المُراكَمة هذه هي بالتحديد ما يجري محاربته سياسياً، لأن المُراكَمة بحدّ ذاتها هي ما قادنا إلى هذه المشكلات بالدرجة الأولى المتعلّقة بالأرض والمياه وما إلى ذلك. تؤدي مراكمة شيء ما إلى عدم امتلاك مجموعة أخرى له، أو عدم تمكنّهم من الوصول إليه. بالتالي ومن منظور معارِض للمُراكَمة، تُعَدّ زراعة البذور باستمرار الطريقة الفُضلى للحفاظ عليها. البذور بكونها صالحاً عاماً، يجب أن تُكاثر نفسها، لا بُدّ وأن يجري غمسها في ديناميكية يجعلها تولّد فوائد جماعية لكلّ الناس، وليس فقط لقطاعات معينة.

 

م. أ: هلّا شرحتِ لنا ما يجري في مزارع السمك؟   

س. أ: تُعَدّ منطقة جنوب توليما جافّةً ذات موارد مائية محدودة، وتُعاني ضغوطاً اقتصاديةً قاسية. من ضمن هذه الضغوط هناك الزراعة الأحادية وهي واسعة النطاق، والوصول إلى المياه بشكل غير قانوني، لأن هنالك مشكلةٌ كبيرة في إدارة منطقة الريّ جنوب توليما. لكن لدينا مشكلة كبيرة أخرى، وهي أحواض تربية الأسماك التي جرى تطويرها بشكل مكثّف وعلى نطاق واسع. أولاً، جرى وضع هذه المزارع السمكية في المنطقة دون تصريح – أي أنها لا تمتلك ترخيصاً بيئياً. ثانياً، يؤدي استخدامهم للمياه إلى تدهور كبير في الموارد. كل ذلك لصالح عدد قليل من الشركات الدولية، وعلى حساب العديد من الأشخاص المعرّضين للخطر هنا في الإقليم. نظراً لانتشار البطالة وقلّة فرص العمل أو البدائل الأخرى للبقاء في المنطقة، استغلّت هذه الشركات من وضع هؤلاء الناس، ووظفت أشخاصاً للعمل لديها في ظل ظروف هي أشبه بالعبودية الحديثة. إنهم يدفعون الفُتات مقابل عملٍ شاقٍ جداً، من الناحيتين الجسدية والنفسية، في منطقة يبلغ متوسط ​​درجات الحرارة فيها قُرابة الـ 30 درجة مئوية ويمكن أن تصل إلى 38-40 درجة مئوية. أدّى وجود مزارع الأسماك هذه أيضاً إلى إعادة تشكيل سياسي وعسكرة للمنطقة من خلال الأمن الخاص. إن رجال الأمن الخاص هؤلاء في المزارع السمكية، رجالٌ مسلّحون دون هوية ودون زيّ موحّد. يمكن القول في واقع الأمر، إنّهم مجموعات شبه عسكرية، لأنه ما من هيكل تنظيمي واضح لهم، ولأنهم يدركون أنهم بعملهم يُخفون الكثير من الأمور.

المزارع السمكية أنظمةٌ إنتاجية مكثفة جداً، تؤدي إلى تدهور التربة وتدهور مصادر المياه، فضلاً عن تدهور المجتمعات. ومع ذلك، فإن المسألة الأخيرة معقدة للغاية ونقاشها محفوف بالمخاطر، لأنك لا تعرف حتى مَن هم الناس الذين يقفون وراء هذه الأعمال. هوياتهم غير واضحة، لكن ما يمتلكونه من سُلطة واضح، ويستعرضون ذلك من خلال أسلحتهم، ومن خلال ضخامة مشاريعهم ومن خلال الطريقة التي يأتون فيها للمنطقة دون استئذان – وببساطة يبدأون بمشاريع عملهم. إنهم يخزّنون المياه لتربية الأسماك غير المخصصة للسوق المحلي وإنما للتصدير. يأتون ليلوّثوا المياة ويدمّروا الأراضي ويقضوا على المجتمعات، ويأخذون كلّ شيء في طريقهم. كلّ ما يُخلّفونه وراءهم ليس سوى البؤس والمشكلات ويعمقّون انعدام المساواة. جرى اقتراح مزارع السمك هذه بدايةً كفُرصةٍ اقتصادية توفّر فرصاً للعمل. وخلَقَ مجيئها بالفعل فرصاً للعمل، ولكن لوظائف تفتقر إلى أي ظروف عمل لائقة، وببساطة تستغلّ الناس وتصادر أراضي الناس ومواردهم ومشترياتهم وتجرّد المجتمعات من كرامتها. إن الغوص أعمق في هذه المواضيع يجعلني أشعر بالتوتر، لكونها دقيقةً جداً وحساسةً.

 

م. أ: كيف تشرحين تورّط النظام البنكي في العنف الممنهج؟ وهل من نظام اقتصادي مستقلّ يجري العمل على بنائه؟

س. أ: في خضمّ كل هذه الصراعات، هناك قضية الديون المصرفية و"قطرة بقطرة". تُعَدّ "قطرة بقطرة" في كولومبيا منظّمات غير قانونية تقرِض المال بمعدل فائدةٍ مرتفعٍ جداً لا يمكن سداده، وعندما يعجز الناس عن سداد القروض ينتهي بهم المطاف بفقدان أعمالهم ومزارعهم وما إلى هنالك. يتعرّض الناس باستمرار للمطاردة والضغط والترهيب من قبل الجماعات المسلّحة التي تشكّل عصابات المرابين هذه. فَقَدَ العديد من المزارعين من السكّان الأصليين أراضيهم بسبب الديون إمّا من البنوك أو من هذه المنظمات الإجرامية. لمعالجة هذه المشكلة، عَمَدَت المجتمعات إلى البحث عن بدائل حتى لا تضطر إلى اللجوء للبنوك أو لمنظمات"قطرة بقطرة"، ولكن أيضاً للسماح بإعادة التفكير في الاقتصاد من منظور جماعي وأكثر داعماً، وليس من منظور فرديّ. استجابةً لذلك، بدأنا العمل مع مجموعات المدّخرات والصناديق الدوّارة، ومجموعات الادخار والائتمان المُدارة ذاتياً، والتي مكّنت المنظمات الاجتماعية من التخطيط بمواردها الاقتصادية بطريقة أكثر استدامة وجماعية، وبطريقةٍ ستفيد أنظمتها الإنتاجية الخاصة. لقد كانت خبرةً مهمةً جداً هنا في ناتاخايما وفي كويايما، وجرى تكرارها في أجزاء أُخرى من البلاد. كانت مينكو ونوبا قائدتين لهذه المبادرة، لقد كانتا في أجزاء أخرى من البلاد بهدف تقديم المشورة للمنظمات حول كيفية تشكيل مجموعات الادخار والائتمان المُدارة ذاتياً، وكذلك لتدوير الأموال مع المنظور السياسي لتعزيز أنظمة الإنتاج الخاصة بهم. لقد ولّد هذا الوضع ثورةً، على الأقل هنا في ناتاغايما.

تستغلّ كلٌّ من البنوك ومنظّمات "قطرة بقطرة" حقيقة كوننا في العديد من المجتمعات المضطهدة من قبل هذا النظام الاقتصادي، لا نعرف كيف نخطط مواردنا المالية بطريقة تسمح لنا بحياة مستدامة وكريمة. لقد سمحت لنا المنهجيات الاقتصادية التي طوّرها الناس استجابة لذلك، ليس فقط بالحصول على منظور أوسع وأكثر شمولاً للاقتصاد، وإنما أيضاً لتعزيز العمليات التنظيمية، ما يسمح للناس بالاستقلالية في أموالهم وما ينتجون بطريقة مستدامة. وقد أتى هذا بالعديد من الفوائد على المجتمعات التي تمكّنت من المضيّ قدماً في مشاريعها الإنتاجية، وكذلك للنساء المُعيلات لأسرهن اللائي أصبح بإمكانهنّ تجنّب مصير الوقوع في ديون ضخمة وفقدان منازلهن. تمنح الاستقلالية الاقتصادية هؤلاء النساء الاستقلال الضروري لتفادي العديد من حالات العنف. تتمتّع النساء المشاركات في المبادرة بفرصة المشاركة في المجال العام واتخاذ القرارات الاقتصادية، وهو جانب من جوانب المجتمع الذي عادةً ما يهيمن عليه الرجال. بدأت استراتيجيات الاقتصاد التضامني هذه كمبادرات صغيرة مثل مشاريع البذور، لكنها كانت تتكاثر بطريقة متسارعة للغاية. لديها اليوم تأثير كبير على كيفية رؤية المجتمعات لأنفسها، وكيف تُخطط لمستقبل لا تضطر فيه إلى الاعتماد على مؤسسات إقراض الأموال، القانونية وغير القانونية على حد سواء. لأنه وعلى الرغم من قانونية البنوك، إلا أنّ تداعيات وآثار أفعالها تُشابه تلك المنظمات غير القانونية، باستثناء كَون البنوك محميّة بحِرص شديد بموجب القانون.

ملحوظات: