"كلّن عندن سيّارات وجدّي عنده حمار"

السيرة: 

هيا دكور، كاتبة ومترجمة، حاصلة على ماجستير في العلوم الإدراكية للغات، ومهتمّة بدمج المسرح مع عالم اللغة. درست الصحافة والأدب الانجليزي والفرنسي وحاليًّا تكمل دراساتها العليا وبحثها في المسرح الأدائي والتجريبي والتطبيقي.

اقتباس: 
هيا دكور. ""كلّن عندن سيّارات وجدّي عنده حمار"". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 8 عدد 2 (10 نوفمبر 2022): ص. 3-3. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 28 مارس 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/366.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.

كانت أغنية "كلّن عندن سيّارات وجدّي عنده حمار" (تأليف الياس الرحباني) من الأغاني التي تربيّتُ عليها وأحببتُها وغنّيناها صغارًا في المدرسة وفي البيت. قبل أن آلَف هذه الأغنية، كان من الطبيعيّ جدًّا أن ألاحظ أنّي وبيئتي نألف العديد من الحيوانات، كالماعز والخراف والدجاج، والحمير التي كانت جزءًا لا يتجزّأ بل وأساسيّاً من بيئة الريف الفلسطيني وقراه. أدّى الأغنية أبناء الياس الرحباني أداءً لطيفًا، فحفظنا الكلمات التي تقول إنه بينما بات الجميع يمتلك السيّارات، جدّي لا يتنازل عن حماره بل يحبّه لدرجة أنه "معلّقله خرزة زرقا" خوفاً عليه من الحسد!

 

 

 

الاحتلال والحمار والعنزة السوداء

في تقرير عرضته القناة 13 الاسرائيليّة في تموز/ يوليو الماضي، بعنوان "حول واقع الحمير الصعب في البلاد والعالم"، تشرح مالكة مزرعة حيوانات اسرائيليّة للمشاهدين بوجهٍ حزين وعينين دامعتين عن التعنيف الذي تعرّضت له الحمير قبل وصولها إلى واحة السلام أي مزرعتها. الفتاة "المحبّة للحيوانات" تعلن لاحقًا أنها سترسل خمسين حمارًا في رحلة جويّة إلى مزرعة في الريف الفرنسيّ ليعيشوا حياةً كريمةً هناك، فمزرعتها باتت تفيض بالحمير ولا يمكنها إنقاذ المزيد. هي تريدهم، حسب ما تقول، أن يعيشوا في أي مكان "إلّا في غزّة"، فغزّة ليست مكانًا مناسبّا للحمير.

ينتهي التقرير إذاً برسالة واضحة حول مدى اهتمام الاسرائيليين بالحيوانات ورأفتهم بها. أما تفصيل جحيم غزة فلا مجال للتطرّق له في الإعلام إذ لا يتماشى مع الصورة "الإنسانية المتحضّرة الخضراء" التي تدأب سلطات الاحتلال وإعلامه على تصديرها للعالم.

غزّة التي حوّلها الاحتلال إلى سجن كبير، هي مكان لا يناسب البشر ولا حتى الحمير. قطاع مكتظّ يطوّقه الاحتلال ويتحكّم بكلّ تفاصيل حياة سكّانه، من كمّيات الغذاء والدواء والوقود والمواد الأوّلية التي يُسمح بإدخالها إلى القطاع حتى ساعات التغذية اليومية بالكهرباء إلى القصف المتواصل للبنى التحتية والمباني السكنية وارتكاب المجازر البشرية بشكل مستمرّ…

يستخدم الاحتلال الحصار على غزة برّاً وبحراً كأداة حرب اقتصادية أيضاً لإضعاف المؤسسات الفلسطينية وفصل القطاع عن الضفة الغربية في سبيل تنفيذ خطط نظام الفصل العنصري. كثافة غزّة السكانية هي من الأعلى في العالم، معدّلها يصل إلى 5,500 إنسان لكلّ كيلومتر مربّع واحد. بينما "في فرنسا، سيكون لكلّ أربعة حمير 10 دونمات من الأرض ليسرحوا ويمرحوا فيها"، تقول صاحبة المزرعة في التقرير التلفزيوني الإسرائيلي، مسرورة مبتسمة.

في عرف الاستعمار الكولونيالي يفرض المستعمِر على السكّان الأصليين تشديدات في علاقتهم مع البيئة والحيوانات التي تسكن معهم، ويستغلّها لتقويض علاقة السكّان مع أرضهم والتحكّم في الاقتصاد والحدّ من حريّة الحركة وشدّ الخناق على المستعمَرين داخل الأرض. عام 1950، قام الاحتلال الاسرائيلي بسنّ قانون يمنع الفلسطينيّين من رعي الماعز في المساحات المفتوحة، ليسمح بعنزة واحدة في كل 40 دونمًا من الأرض الزراعية. سنَّ هذا القانون رئيس حكومة الاحتلال السابق دافيد بن غوريون وأسماه "قانون حماية النباتات - أضرار الماعز" وقد عُرف لاحقاً باسم "قانون العنزة السوداء".

زعَمَ الصهاينة أن الماعز السوداء تأكل أغراس الصنوبر التي تغرسها الـ"كيرن كييمت" أي "الصندوق القومي اليهودي"، وأن هذا يسبّب الرعي الجائر ويحوّل الأراضي إلى مساحات جرداء. في الحقيقة كان هذا القانون تضييقًا إضافياً على المزارعين الفلسطينيين للتقليل من إنتاجهم وللحدّ من حركة المزارعين ومواشيهم. أما عملية التشجير التي تتباهى بها اسرائيل فهي هدفت إلى محو وإخفاء آثار مئات القرى الفلسطينية المهجّرة وطمس حدودها وتهيئتها للمستوطنين القادمين ليسلبوا الأرض من أهلها ويزرعوها ويستفيدوا من خيراتها.

لكن العنزة السوداء لا تفهم القوانين الاستيطانية فهي من حيوانات الفلسطينيين الأليفة على أرض فلسطين وأهلها، تتنقّل لغَرَض الشرب والطعام بحريّة من مكان إلى آخر، ومعها قد تتنقّل العائلات من أصحابها وهذا ما أثار غيظ المُحتَلّ ودفعه إلى فرض حملة ضدها في مناطق عديدة وفي النقب خاصةً، حيث ترعى الماعز في الأرض المفتوحة.

لذا، في عام 1976 أقامت حكومة الاحتلال ما سمّته "الدوريّات الخضراء" وعيّن ألون غاليلي صاحب الخبرة الكبيرة في تهجير البدو، قائدًا لها، وهي دوريات ادّعى جيش الاحتلال أنها تهدف إلى تطبيق القوانين الزراعية على الأراضي المفتوحة. أمّا النساء البدويّات فسمّوها "الدوريّات السوداء"، لأنها عملت بالأساس على ملاحقة الماعز الأسود والتخلّص منها وملاحقة السكّان وقطع أرزاقهم ومصادرة أراضيهم وبيوتهم.

جاء قانون 1950 وكلّ ما تبعه من إجراءات تحت ذريعة "الخوف من التصحّر والإخلال بالتوازن البيئيّ"، لكنّه خدم فقط مصالح الاحتلال وأهمّها احتكار الإسرائيليين للزراعة وللمنتوجات الحيوانية. هكذا، شهد أبناء الجيل الثاني للنكبة مسار اختفاء بعض المنتجات الحيوانية التي كانت جزءاً أساسياً من نظامهم الغذائي. اعتادت أمّي مثلاً على حليب الماعز وجبنته ولبنه، ولم تتقبّل بسهولة كيف اختفت تلك المنتجات من البيوت والسوق وحلّت المنتجات البقرية مكانها.

وبعد الحريق الكبير الذي نشب في جبال الكرمل عام 2010 والذي أودى بحياة 44 شخصًا وقضى على آلاف الأشجار، ألغى الاحتلال "قانون الماعز الأسود" عندما علموا متأخّرين أن إبعادهم للماعز الأسود ساهم في انتشار الحشائش والشجيرات بشكل كبير بين الأشجار الكثيفة وهو ما يؤدّي إلى سرعة نشوب الحرائق ويساعد في انتشارها.

وكما اختفت المِعزَة الفلسطينيّة ومنتجاتها تدريجيًّا من ملامح حياة الفلسطينيين اختفاءً ممنهجًا، كذا اختفت الحمير أيضاً كجزء من طمس معالم المكان الأصلية ومحو نظام حياة سكّانه الأصليين.

 

اختفاء الحمير وتغيير الهوية

في سوقٍ كسوق الناصرة في فلسطين المحتلة، يعاني أهله، خصوصاً المسنّين منهم، من صعوبة نقل الأغراض واللوازم إلى منازلهم وذلك بسبب اختفاء الحمير من السوق والمدينة بشكل عام. فالحمار كان وسيلة النقل والتنقّل الأبرز في الأسواق الفلسطينية القديمة ذات الممرّات الضيّقة. لكن الاحتلال الصهيوني أراد أن يغيّر ملامح هذه الأسواق كلّياً وأن يحوّلها، كما حوّل البلدات الفلسطينيّة القديمة الأخرى مثل عكّا ويافا، إلى مناطق سياحيّة حيث أصبحت المحلّات الفلسطينيّة استوديوهات لعرض أعمال فنّانين إسرائيليين ومتاجر يبيع فيها التجّار الاسرائيليون بضاعتهم للسيّاح. اعتمد الاحتلال خطة ممنهجة ليُخرج الحمير وأصحابها من الأسواق القديمة تمهيداً إلى إخفاء تلك الحيوانات كلّياً من المكان.

بات اختفاء الحمير ملحوظًا في القرى والبلدات الفلسطينيّة وخاصةً تلك التي ما زال يعيش فيها الفلاحون الفلسطينيّون. تعمل الباحثة رزان زعبي، وهي صاحبة محترف موجود داخل السوق القديم في الناصرة، على توثيق الموروث المعماري في المدينة، وتربط في بحثها مسألة اختفاء الحمير مع تراجع مقوّمات الحياة في المدينة على مختلف المستويات. تقول رزان في حديثي معها: "لطالما ذكر أقاربي الحمير كحيوانات معروفة ومألوفة في المدينة، كلّ حمار لديه اسماً معروفاً في السوق: "مسعود" "باسم" و"ياسمينة"... والحمّارون أي أصحاب الحمير كانوا معروفين من قبل السكّان ومن أصحاب المحال أيضاً".

ما الذي حصل للحمير بعد الاحتلال؟ تخبرني رزان أن البلدة القديمة في سوق الناصرة "بُنيت أصلًا بحسب مقاييس الحمار ـ وسيلة النقل الوحيدة في الشوارع آنذاك". في عملها التوثيقي لذاكرة المكان، كان هدف رزان مع فريق البحث العمل على توثيق قصة اختفاء الحمير قبل توثيق العمارة. "أطلقنا اسم "رحلة اختفاء: حمار، حارة، حكاية" على هذا المشروع والمقصود منه اختفاء الحمير من مشهد السوق العام". يُذكر أن المشروع تمّ كجزء من تعاون مع مركز "رواق" لتوثيق أزقّة وتراث سوق الناصرة القديم.

السنوات المفصلية لاختفاء الحمار من الناصرة كانت في التسعينات وبداية الألفية، حين قرّرت وزارة السياحة الإسرائيلية العمل على "إصلاح" البنية التحتية في سوق الناصرة من خلال تغيير منظومة المواصلات بأكملها. كان هناك نوعان من الحمير في الناصرة: حمير البلدية ـ المسؤولة عن تجميع قمامة الحارات، والحمير التي تربّيها العائلات في البيوت لمساعدتهم في الأعمال والتنقّل. في التسعينات تمّ نقل البلدية من منطقة عمارة السرايا إلى مكان آخر ومع هذا الانتقال اضطرّ الحمّارون إلى الخروج من خان السرايا وإخراج حمير البلدية من الخان، ما أدّى إلى تشتّتهم.

وضعت حكومة الاحتلال "خطة سياحية" بميزانية تبلغ 30 مليون شاقلًا (شيكل) وعيّنت معمارياً اسرائيلياً لتنفيذها وهو معماري اشتهر ببناء المستوطنات. تخبرنا رزان أنّ "مكتب هذا المعماري موجود أصلاً على أنقاض قرية لفتا المهجّرة، هو شخص عمل على بناء مستوطنة كريات أربع، وهو ذا توجّه صهيونيّ بحت". قام المشروع السياحي الإسرائيلي على تغيير ملامح سوق الناصرة بأكملها، كإزالة أبواب البيوت والمحلّات المصنوعة من خشب عمره آلاف السنين واستبدالها بأبواب حديدية، كما وحدّوا ألوان الأبواب في سبيل محو الاختلاف الذي كان يستدلّ من خلاله السكّان على المحلات ويعبّرون عن أذواقهم المتنوّعة من خلاله، كلّ هذا بحجة "تطوير البنى التحتيّة" كما أُعلن رسمياً.

"هذا تطهير وليس تطوير. حياة الكثيرين تعطّلت إذ لا يمكنك إيصال مونتك من الغذاء إلى البيت. المسنّون خرجوا من السوق لصعوبة المشي منه وإليه. كان هذا مخططاً واضحًا لتحويل المدينة إلى مركز سياحي يبرز فيها النمط الاسرائيلي فقط وتُطمَس الهوية الفلسطينية والمعالم الأصلية للمكان"، تقول رزان خلال مقابلتنا. كما تشرح أنها فتّشت كثيراً عن حمار يشارك في مسيرة احتفالية لأهل الناصرة الفلسطينيين ولم يكن إيجاده بالأمر السهل أبداً. وبعد عناء وبحث طويل، تمكّنت من جلب حمارين، تجمّع حولهما الأطفال الفلسطينيون وزيّنوهما بالورود الملوّنة ومشوا بهما إلى السوق القديمة وصولاً إلى خان الحمير سابقاً، كان الحدث أشبه بتحدٍّ كبير للممارسات الاسرائيلية والقوانين الجائرة. تأثرّ أصحاب المحلات القديمة جداً لدى رؤيتهم الحمير تتمشى في سوق الناصرة من جديد، وهم يدركون أن هذا المشهد كان مؤقتاً.

لا نعلم فعلياً إذا كان شعور ومنطق أطفال اليوم يفهم ما تعنيه لنا أغنية "كلّن عندن سيّارات وجدّي عنده حمار".

 

 

مصادرة الحمير استراتيجية توسّعية

في النقب، تحقّق مصادرة الحمير من قبل سلطات الاحتلال أهدافاً استراتيجية تصبّ في الهدف التوسّعي الاستعماري ذاته وتكمّل المخطط الأصلي بالاستيلاء على الأراضي ومصادرة خيراتها في تلك المنطقة. في عام 2016 مثلاً، وضمن مساعيها المتكررة للتضييق على أهل منطقة غور الأردن صادرت السلطات الاسرائيلية أربعين حمارًا لمزارعين من بدو النقب، وعرضتها للبيع في مزاد علنيّ. يريد الاحتلال إخراج أهل الغور من المنطقة الغنيّة بالموارد الطبيعية والمياه بهدف الاستيلاء عليها واستغلال مواردها. كانت هذه المرة الثالثة خلال سنتين التي يصادر فيها الاحتلال الحمير ويعرضها للبيع في مزاد تحت شعار "حماية السلامة العامة"، بينما تُفرض غرامة كبيرة على أصحاب الحمير المصادَرة تفوق قيمتها سعر الحمار نفسه فلا يتمكّن صاحبه من استرداده.

وسيلة خنق اخرى يستخدمها الاحتلال تجاه سكان المنطقة على ضفاف نهر الأردن وهي حرمانهم من المياه. إذ تفرض السلطات الاسرائيلية على السكان من الفلسطينيين وعلى التجمّعات البدوية شراء المياه بثمن باهظ بينما تمدّ، عبر أراضيهم، قنوات جرّ المياه إلى المستوطنات المنتشرة المجاورة والتي تتنعّم بالمياه طوال السنة بينما تموت مواشي البدو ومحاصيلهم من الجفاف خلال الموجات الموسمية بسبب الشحّ. هكذا يعاني أهل النقب من المخططات الاستيطانيّة الصهيونية حتى اليوم، ويخوضون معركة الحفاظ على الوجود والأرض بمواجهة مشروع "الاستيطان الأخضر" الذي تعمل عليه سلطة الاحتلال الاسرائيلية حالياً داخل التجمّعات السكنية البدويّة لإقامة 12 مستوطنة ومزرعة صهيونية جديدة داخلها.

حتى يومنا هذا، يستمرّ الاحتلال بمصادرة الحمير في مختلف المناطق، حتى أنه يشنّ أحياناً حملات اعتقال ضدّها، وكلّ مرة تحت ذريعة مختلفة. تدّعي سلطات الاحتلال أحياناً أن "مَن كان يمتطي الحمار رشق القوات الاسرائيلية بالحجارة"، وتقول أحياناً اخرى إن الحمار "شارك بأعمال شغب"، وأحياناً تصادرها بحجة "عدم امتلاك صاحب الحمار رخصة لاقتنائه". يتحكّم الاحتلال بجميع تفاصيل الحياة اليوميّة للفلسطينيّين وصولاً إلى حياة حيواناتهم، ويسنّ قوانين ويشرّع إجراءات من شأنها أن تقيّد أي محاولة لمقاومته.

 

"غسيل أخضر" منذ اليوم الأول

إلحاق الضرر بالحياة البيئيّة الفلسطينيّة خدمةً للاستيطان والتوسّع ليس بالجديد على الاحتلال. فحتى قبل بدء احتلال أرض فلسطين، درَسَ الكتاب الأبيض الذي أصدرته الحكومة البريطانية عام 1939 والذي يدعو إلى "إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين"، قدرة الاستيعاب البيئيّة للهجرة اليهودية، وبحسب هذه الدراسة تحدّدت الهجرة وتحوّل سؤال المياه في فلسطين إلى سؤال سياسي. فحين خدَمت رواية وفرة المياه في فلسطين فكرة الاحتلال استخدمها البريطانيون والاسرائيليون من أجل تشجيع هجرة اليهود القادمين إلى بلاد لا يعرفونها ولا يعرفون بيئتها. أمّا حين أراد الاسرائيليون تمرير مشاريع للاستيلاء على المياه، كمشروع المياه القطري عام 1964 الذي أرادوا من خلاله سرقة مياه نهر الأردن، فقد حوّلوا رواية وفرة المياه في المنطقة إلى شحّ في المياه ليبرّروا قيام المشروع المذكور.

مخططات سرقة المياه التي بدأها الاحتلال منذ اليوم الأول لقيام مشروعه الصهيوني أطلقت شرارة المقاومة الأهلية والمسلّحة للتصدي لها والدفاع عن الأرض وثرواتها المائية، وكان أبرزها عملية قرية عيلبون (الجليل) عام 1964، حيث تمكّن المقاومون من تدمير محطة المياه الاسرائيلية التي كانت تسرق المياه من القرى الفلسطينية. وتُعدّ "عملية عيلبون" من العمليات الأولى التي أسست لفكرة انطلاق "الثورة الفلسطينية المعاصرة".

دراسات عديدة تُظهر بالأرقام والصور والخرائط ما كانت عليه الثروات الطبيعية في فلسطين قبل الاحتلال وبعده، وتُبيّن كيف قضت المشاريع التوسعية الاستيطانية على مساحات واسعة كانت غنية بالموارد الطبيعية. تذكر لمى شحادة في دراستها الجامعية بعنوان "الإدارة الإسرائيلية لموارد المياه: قصة بناء أمّة، وتحويل الطبيعة، وإبعاد الفلسطينيين عن بيئتهم" (2019)، أنه قبل الاحتلال كانت المحميات الطبيعية في فلسطين تمتد على مساحة 28 ألف هكتار لكن الاحتلال قلّصها إلى 850 هكتار فقط، تحت سيطرة "الصندوق القومي اليهودي ـ كاكال"، كما وجفّف نحو 97% من المستنقعات الطبيعيّة.

يستغلّ الإعلام الإسرائيلي ومعظم الإعلام الغربي كافة الفرص لإخفاء المخطّطات الاستعمارية لسلطة الاحتلال التي قامت على تدمير البيئة والطبيعة وتقويض المساحات الحيوية للفلسطينيين. على العكس، باتت التقارير الاخبارية الاسرائيلية تركّز منذ فترة على الصورة "الخضراء الحضارية" للاحتلال "المحافِظ على البيئة". إذ تبثّ القنوات التلفزيونية تقارير إعلامية دائمة حول ظاهرة انتشار الخُضْريّة (النظام النباتي الصرف) في تل أبيب، ويتباهى الإعلام الاسرائيلي بأن نسبة الأشخاص الذين يتبعون النظام الغذائي الخضري في المدينة "هي من أكبر النسب في العالم". كما يتباهى مثلاً بأن جيش الاحتلال ينتعل "أحذية صنعت من موادّ أعيد تدويرها" وبأنه يدعم هذا النوع من التصنيع!

صورة وقحة حافلة بالتناقضات يتمّ من خلالها استغلال العناوين البيئية جنباً إلى جنب مع عناوين المجازر التي ترتكبها القوات الاسرائيلية بحقّ الفلسطينيين وثرواتهم الطبيعية يومياً. امتياز آخر يستغلّه الاحتلال لتبييض صورته وإخفاء هويته كآلة تدميرية بَحت.

ملحوظات: