بين الغابة والبامبو
ورد زراع
قلبي كالبلاد التي أنا منها… مسلوب
وعقلي كالعالم الذي أحيا فيه… فوضى
وأنتِ كالبلاد التي أحلم بها… جميلة!
***
المرّة الأولى التي حصلتُ فيها على سكنٍ خاصّ بي كانت وأنا في الواحد والثلاثين من عمري. استأجرتُ غرفة ضمن منزلٍ مشتركٍ في مدينة أوبسالا في السويد، كان ذلك يناسب وضعي المالي. ولأنّ الغرفة مفروشة، لم أضطرّ لشراء الاثاث، مع ذلك ذهبت إلى السوق في يوم الانتقال، لشراء الشمع فقط. هناك، اشتريت شمعاً برائحة القرفة ونبتة ساق البامبو. اخترت هذه النبتة بالذات لأنها لا تحتاج تربةً لتنمو فيها، لا ثبات إذاً، وإن حدَثَ وأردتُ نقلها من مكان إلى آخر فلن أضطرّ لقطع جذورها.
في السكن الجديد أحطّ رحالي، الكتب، الغيتار، الملابس، اللابتوب، وساق البامبو في إناء شفّاف. أحسدها فوق طاولتي الفارغة، لو أنني بامبو لما خفتُ الصوَر ولوضعتُ صوَرَ من أُحبّ في إطاراتٍ خشبية من أشجار تمّ قطعها لأتذكّر شجرة عائلتي!
ما هي الغربة، أن أكون مع من وُلِدت بينهم وأنا أخبّئ هويتي كرجلٍ عابر، أم أن أظهر كرجل عابر في بلاد أخرى لا أخشى فيها أن أقول أنا transman وسط من لا يفهمون العربية؟
الرأسمالية تأكلني
ورد زرّاع
النوع: فنّ رقمي
التاريخ: تموز/يوليو 2022
بدّلتُ بعدها سكني عدّة مرّات، و كانت نافذتي في كلّ مكان جديد انتقل إليه تطلّ على حديقة وتَبعُد دقائق قليلة فقط عن أقرب غابة كمعظم المناطق في السويد. ما من شوارع ضيّقة هنا وكلّ النوافذ تطلّ على الطريق بعكس الشام لا سيّما الشام القديمة. هناك، حيث تطلّ النوافذ على نوافذ الآخرين وتبقى مغلقة دائماً تخبّئ الكثير من الهويات والأفكار والرغبات المحرّمة في الحارات الضيّقة.
رافقني البامبو في كلّ منازلي.
هل أنت مثلي يا ساق البامبو كوير ولاجئ؟
***
كوير ولاجئ تقاطعية تعني القليل من الأصدقاء في البلد الجديد، لذلك كنتُ أخرج إلى الغابة كلّما ضاقت بي الأيام، مما طوّر علاقة جديدة بيني وبين الطبيعة، نشأَتْ من خلالها علاقة تصالحية بيني وبين جسدي. ساعدتني الطبيعة على تقبّل جسدي أكثر، ومنحتني الشجاعة لأمضي صوب هويتي الجندرية الحقيقية كرجل. عندما أمشي هناك، أراقب كلّ ما حولي من تفاصيل تنعكس إيجاباً عليّ فأشعر بالقبول. ما من تصنيف هنا، الكلّ موجود كما هو ولكلٍّ دوره. في الغابة مكان للجميع دون تقييم أو قالب.
ليس على الشجرة مثلاً أن تكون في يوم من الأيام زهرة أو عشبة لتنتمي إلى محيطها. كما ليس عليها أن تكون مستقيمة أو منحنية ليتم الإعتراف بها كشجرة! في مجتمعات البشر الوضع مختلف تماماً. فأنت عندما تخرج عن القالب المُعَدّ مسبقاً كرجل أو امرأة - وفق الشرائع والأعراف - يتمّ نبذك، تصبح كوير يخالف النمط الجندري التقليدي المحدَّد والمحدود. كوير في الخروج عن قياس القالب بزيادة أو نقصان. الكويرية بما تعنيه من فرادة، كونها اللا قالب، أي أن يكون الإنسان مَن هو دون أن يتماهى مع مَن يجب أن يكون. هذا الخروج عن النمط كان ولا يزال عدو الاستعمار الأول وعدو الرأسمالية التي لا تختلف عن السلطات الديكتاتورية في اعتماد وجودها وضمان استمراريتها على وجود مجموعات مُقَولبة من الناس تسيّرها وتقتات عليها. قد تستخدم الرأسمالية أدوات جديدة كلّ مرة لكنها تنتهج السياسة ذاتها. فهي التي تسعى إلى قتل التعاون بين مكوّنات المجتمع وتدمير المنطق التشاركي من خلال تغذية الإيغو والأنانية التنافسية، تخلق في الوقت ذاته مجتمعات استهلاكية يشترك أفرادها بصفات موحّدة و ينتهجون ذات السلوك. استعمارٌ بلا جيش وبلا حدود، ومجتمعات يسهل قيادتها من خلال إفقارها.
***
يتمثّل الخطر الحقيقي لسلطة من هذا النوع في قدرتها على الخداع. فهي تبدو من الخارج كأنها تحقّق كلّ ما يريده الإنسان من "حرية" و"استقلالية" و"تعدّد الخيارات" لكنها في الواقع تستعمل رغبات الإنسان ضده لتسيّره في أنماط سامّة تضمن زيادة أرباحها بغض النظر عن خسارات الآخرين. فمثلاً، عندما أذهب لشراء شفرة لأحلق ذقني أجد قسماً خاصاً بشفرات الرجال تميل ألوانه للأزرق أو الأسود وقسماً آخر يغطيه اللون الزهري وهو للشفرات "النسائية" والتي تكون أسعارها مرتفعة جداً مقارنة بشفرات الرجال! التنميط في خدمة الاستهلاك. ماذا لو حلقتُ بشفرة زهرية أو لو أن صديقتي استخدمت شفرتي الأرخص ثمناً لتحلق شعر يديها أي فرق سيحصل؟ لا شيء. الكويرية هنا هي العدو. الوعي بالتنميط والخروج عنه هو أكثر ما تخافه أي سلطة استغلالية حاكمة.
العلاقة متعدية بين سلامة البيئة وحرية الأفراد في المجتمع. كلّما تمّ تشويه الطبيعة في مكان ما، تمّ بالتوازي خنق حريات الأفراد وترسيخ السيطرة عليهم من خلال إبعادهم عن الطبيعة، طبيعتهم… والعكس صحيح أيضاً. إذ حتى في الأنظمة التي تسوّق نفسها كحامية للبيئة وتُكثر من القواعد الناظمة لتَعامُل الأفراد مع الطبيعة، تراها تقدّس الفردية والأنماط الاستهلاكية وتزرع أسواراً بين الناس وبيئاتهم المحيطة. وهذا لا يشبه الطبيعة بشيء.
أن يتغيّر المشهد يعني أن يتغيّر الموقف بالضرورة، والعين التي اعتادت القولبة والتنميط في كلّ ما تستهلك لن تبصر التنوّع والرحابة في الغابات مهما مشَت فيها. كما أنها لن تبصر الفساد في منظومتها الاجتماعية، حتى ولو كانت مفتوحة.