"ما بعد آب": إعادة بناء قوّة جماعية عبر صناعة أفلام نسوية

السيرة: 

دانيال دايفي مخرجة أفلام وعالمة أنثروبولوجيا سينمائية حاصلة على درجة الدكتوراه في السينما الوثائقية والأنثروبولوجية. أخرجت أفلامًا أنثروبولوجية وأفلامًا قصيرة ، وتعمل حاليًا على أفلام وثائقية روائية ومقاطع فيديو تجريبية . كما تعمل دانييل كمنسقة ومحاضرة في بعض الجامعات اللبنانية، إلى جانب كونها أحد مؤسسي مجموعة راويات- أخوات في السينما.

أناييس فارين باحثة في دراسات السينما ومنسقة أفلام. نشرت في: سينسماتيك بيروت وترابل دون لي كوليكسيون (نقد فني استعراضي بعنوان إشكاليات داخل التشكيلات) وإتجاهات ومجلة ديبودومون (فياضانات) ومجلة ذا فانآبيولوس وأفريكولتور وأنيكي. تدرس أنيس في جامعة القديس يوسف. وهي عضوة في اللجنة المنظمة لمهرجان سينما فلسطين (باريس).

اقتباس: 
دانيال دايفي، أناييس فارين. ""ما بعد آب": إعادة بناء قوّة جماعية عبر صناعة أفلام نسوية". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 7 عدد 3 (08 أغسطس 2022): ص. 13-13. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 03 ديسمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/360.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
ترجمة: 

حائزة على إجازة في اللغة الإنجليزية وآدابها، ماجستير في إدارة الأعمال( قسم موارد بشرية ) ، مترجمة محلفة لدى المحاكم في لبنان، وإجازة في علم النفس وطالبة ماجستير في علم النفس العيادي  . تعمل في مجال التدريس والترجمة منذ أكثر من 25 عاما.  عملت كمحررة ومترجمة لدى الوكالة الوطنية للإعلام في وزارة الإعلام،  إضافة إلى الكثير من الصحف والشركات والوكالات واعمال الترجمة القانونية.

the_window_still2.jpg

ما بعد آب 2021

"ما بعد آب"1 ( 2021، 16') فيلم من إخراج سارة قصقص وإنتاج ليليان رحال (شركة كاراج فيلمز2). ترتكز أحداث الفيلم على تجارب وقصص شخصية لنساء كويريات يعشن في لبنان. تمّت كتابة الفيلم وتصويره وتنقيحه ومنتجته خلال فترة قصيرة لم تتجاوز السنة. يتناول الفيلم ذكرى الانفجار المدمّر لمرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس عام 2020. في "ما بعد آب"، تجتمع بسمة ومريم في غرفة نومهما القديمة، وتحاولان إيجاد حلٍّ للصدمة المشتركة التي عاشتاها ولعلاقتهما المنتهية.

منحت عملية تصوير هذا الفيلم عزيمةً في أوساط المُشاركين في هذه التجربة. وكما قالت المنتجة ليليان رحال في المقابلة التي أجريناها معها: "كانت المرّة الأولى التي أشعر فيها أن السينما هي ما يُبقيك حيّاً في بلدك المتداعي". أُجريت المقابلة أدناه، مع سارة قصقص و ليليان رحال، لتوثيق تجربة التصوير والعمل الجماعي الذي بُذل لإنجاز هذا الفيلم الروائي القصير، وأبعاد التضامن لما فيها من محبّةٍ ومؤازرةٍ بين النساء. بمنأى عن تجاربنا المختلفة كمشاهدين وقراءاتنا المتعددة لفيلم "ما بعد آب"، فإن نقاشنا الدقيق حول العمليات التقنية وكيفية صناعة الفيلم، كانت الطريقة الفضلى للتفكير بأهمية خلق أماكن بديلة للعمل معاً، وتحدّي الروايات السائدة وغير المتجانسة في تاريخ الأفلام.

جرى تقديم العرض الأول من فيلم "ما بعد آب" في أمستردام خلال "مهرجان  روز فيلمداغن فيلم" ("أيّام الفيلم الوردي") في 14 آذار/ مارس 2022، أما عرضه للمرة الأولى في أميركا الشمالية فقد جرى في "أسبن شورتفست" في  6 نيسان/ أبريل عام 2022، وقد تمكّنت سارة قصقص وليليان رحال منذ العرض الأول للفيلم، من الحفاظ على استراتيجية المهرجان التي نوقشت في وقت سابق لهذه المقابلة. جرى اختيار الفيلم في العديد من مهرجانات الأفلام الكويرية البارزة بما فيها مهرجان "إنسايد أوت" في تورنتو. وقد وقع الاختيار على فيلم "ما بعد آب" في مهرجانات أفلام بارزة، مهرجانات ليست مخصصة حصراً للأفلام الكويرية، من ضمنها ثلاثة تخوّل الفيلم التأهل للفوز بجائزة الأوسكار ("أسبن شورتفست"، "كورتفيلمفستيفلن"، و"أوف": مهرجان أودنس العالمي للأفلام).

     

    ليليان، سارة أنتما تعملان معاً في صناعة الأفلام والمشاريع الفنّية منذ فترة. هلّا أطلعتمانا على الاتجاه الذي سلكه هذا التعاون؟ وهل مجرّد صداقة العمل هي ما يجمعكما؟

    سارة: نحن نعمل معاً منذ عام 2016، لا بل قبل ذلك. فقد عملنا معاً على مشاريع صغيرة كانت تُطلب منّا. أما أوّل مشروع قمنا به لحسابنا الخاص كان عام 2016، وكان فيلماً وثائقياً قصيراً (16 دقيقة)3 بعنوان  "خبز وشاي".

    ليليان: الحقيقة أننا في البداية عملنا معاً في مجال الموسيقى قبل الأفلام. وقد سجّلنا مجموعة من المختارات الموسيقية الخاصة بنا. سارة ملحّنة ومغنّية وتعزف على الغيتار، وأنا عازفة إيقاع. هكذا، بعد العمل معاً في مجال الموسيقى، انتقلنا للعمل معاً في صناعة الأفلام. وأريد أن أذكر أن فيلم "خبز وشاي" هو عمل مشترك لنا بكل تفاصيله من الألف إلى الياء. استخدمنا كاميراتين، كلّ منّا استخدمت واحدة، وسارة قامت بتسجيل الصوت والمونتاج وإعداد الموسيقى.

    سارة: كانت معظم كتاباتي على شكل روايات، لكن بدأتُ مع فيلم "خبز وشاي" أتحوّل إلى الأسلوب الوثائقي في الكتابة والتجريب ضمن المساحات الواقعية. وكان أن صوّرنا فيلم "خبز وشاي" ثم صوّرنا بعد بضع سنوات فيلم "تحت التحت" ( 2018، 72')4.  والآن حان الوقت للقيام بعمل روائي. أنجزت معظم أعمالي مع ليليان.  قمت في تموز/ يوليو الماضي بإخراج فيلم وثائقي قصير بعنوان "اضطراب" (2021، '6)5 بناءً على طلب من  شركة "بيروت دي سي" وكانت شركتنا "كاراج فيلمز" هي المنتج التنفيذي؛ وكانت تلك المرة الأولى منذ عام 2015 التي أقوم فيها بمشروع ليس من إنتاج ليليان. لكن حتى في تلك التجربة كانت ليليان أحد الأشخاص الذين أجريتُ مقابلة معهم في الفيلم وأخذتُ بنصيحتها. وقد حدث الأمر نفسه في مجال الموسيقى. أعتقد أن كلّاً منّا تشرك الأخرى في الأمور حتى وإن كانت مستقلّة عن بعضها الآخر.

    ليليان: لم نكن متفقتين تماما منذ البداية. كنّا نتشارك الإهتمام والرؤية والشغف، لكن البداية لم تكن بتلك السهولة لا في مجال الموسيقى ولا في مجال الأفلام. غير أن الأمور تحسّنت مع الوقت. وأستطيع القول إنه في فيلم "ما بعد آب" كان التعاون مع سارة فائق السهولة. فقد أصبحت كلّ منّا تعرف الكثير عن الأخرى، عن طريقة عملها وكيفية تفكيرها.

     

    تحظى إهراءات القمح في مرفأ بيروت بمكانة عالية في الفيلم. إذ أنها تمثّل جاذباً للكاميرا وليس طارداً لها. قد يولّد ذلك نوعاً من الانزعاج في نفوس المشاهدين، حيث أن  طريقة معالجة ذاك الدمار ومقاربة الكاميرا له تأتي مخالفة لما أحدثه الانفجار. يبدو لنا وكأن هذا الحضور الطاغي للأهراءت يعكس شعور مريم التي لا تستطيع مغادرة المدينة رغم القسوة والأذى اللذان تُلقي بهما المدينة عليها. وإذا ما كان الحوار بين شخصيات الفيلم يجعلنا نعتبر صورة الاهراءات وكأنها انعكاس لشعور مريم، يُظهر الفيلم عبر طريقة المونتاج وسرد الأحداث أننا لا ننظر الى الاهراءات إلى جانب مريم، وإنما تلك اللقطة للاهراءات جرى تصويرها فعلياً من النافذة.

    سارة، اخبرينا، كيف جرى اختيار عنوان The Window للفيلم؟ هل يمكن اعتبار النافذة بمثابة الراوي أو شخصية ثالثة في الفيلم، أهي شكلٌ من أشكال الوعي الباطني/البديل الذي يروي القصة؟

    سارة : أجل، بالتأكيد. تشبه النافذة وعاءً يحوي ما في الخارج. المدينة في الخارج، والصدمة في الخارج والنافذة وعاء يتيح لك التأمّل في تلك الأمور. بالنسبة لي، تحمل النافذة الكثير من المعاني على عدّة مستويات: فكما تتيح لك النظر منها للخارج ورؤية الحقيقة، تتيح لك أيضاً أن تدير لها ظهرك ولا ترى شيئًا. لقد عملت على  ذلك من خلال حجب الممثلين. لكن في الوقت نفسه يمكنك أن تنظر إلى الداخل عبر نافذة وترى ما يدور في داخلك، وكأنما تنظر الى روحك وليس مجرد إلقاء اللوم على ما في الخارج. لقد ركّزت على هذا الأمر كمُعالجةٍ بصرية.

    The Window بحرفيتها كعنوان، إضافة إلى التصوير الذي جرى في غرفة واحدة تحتوي على الكثير من النوافذ، شكّلا حافزاً كبيراً: عندما وقع الانفجار دُمّرت جميع نوافذنا، هذا المعنى أيضاً حمله هذا العنوان. غالباً ما يكون العنوان الأول عنوانًا مبدئياً، ومعظم الأوقات ينتهي بك الأمر في اتجاه مغاير تماماً، لكن في هذا الفيلم، وحتى قبل أن أبدأ بكتابة النص، وضعتُ هذا العنوان ولم أغيّره. عنوان الفيلم باللغة العربية "ما بعد آب"، وهو يحمل منظوراً مختلفًا للقصة.

     

    ليليان، هل يمكنك أن تخبرينا أكثر عن عملية الإنتاج؟ كيف ساعدتِ كمنتجة في كتابة وتطوير المشروع مع سارة؟ وفيما يتعلق بالتمويل، هل بحثتِ وقدّمتِ عرضاً تلبية لمشاريع مطلوبة أو أنّك جمعتِ مموّلين محددين؟

    ليليان: في بداية عام 2021، عرَضَت سارة عليّ النص. أعجبني على الفور، وشعرت شخصياً أنه يحاكيني. بدأنا العمل معًا على النص معتمدين بشكل أساسي على تجارب شخصية، وروايات من نساء يعشن في لبنان ومن نساء كويريات في العالم العربي؛ قصص من واقع مجتمعنا. وبناءً على ذلك قمت على الفور بالتواصل مع ممولين محدّدين ولم أُلبِّ الدعوات المفتوحة. لحسن الحظ، نجحتُ بالحصول على التمويل من المحاولة الثانية. كان النص جاهزاً تقريباً وحصلنا على التمويل. وكنت حينها متحمسة جداً لأجمع فريق العمل. كانت تلك المرة الأولى التي أشعر فيها أن السينما هي التي تبقيك حيّاً في بلدك المتداعي. غالباً يخالجك شعور أنك تعيش لتصنع الأفلام، لكن هذه المرة كان الشعور مختلفاً. شعرنا أن هذا المشروع يمنحنا القوة، شعور لم يسبق أن أحسسناه. وكأنما هو بداية عملية شفاء لأنه كان يخالجنا يوميًا. كان شعوراً جميلًا جداً.

    صوّرنا الفيلم في نهاية شهر تموز/ يوليو، لأننا أردنا القيام بذلك قبل 4 آب/ أغسطس. وقد كنّا سمعنا حينها أنه سيُصار إلى هدم  الاهراءات لأنها باتت مصدر خطر، فشعرنا بضرورة إنهاء التصوير بأسرع ما يمكن. أردنا توثيق الاهراءات لأننا نعرف أنه يومًا ما ستختفي من الوجود وستصبح من الماضي. وبالنسبة إلينا، كان يجب المحافظة عليها.

    سارة: أعتبرها ندبة. وقد طرحت هذا الأمر في الفيلم الوثائقي "اضطراب". أنا أعتبر أنّك عندما تستطيع رؤية الصدمة، فذلك تذكير لك بما استطعت تخطّيه. ولا أقصد بذلك أنّك شُفيت أو أنّك أصبحت بأفضل حال أو أنّك تخطّيت الأمر، هي أشبه بندبة، فالندبة تذكّرك دائما بما مررت به. أردنا توثيق الاهراءات كندبة، لأنها جزء لا يتجزّأ من صدمتنا الجماعية وتاريخنا الجماعي. ليس لدينا صورة أو انطباع واحد مُتّفق عليه لما حدث، إنما ندبة هائلة لا يمكن تجاهلها.  يصعب عليك البدء من جديد بعد هول الصدمة التي مررنا بها، وقد عكست شخصيات الفيلم ذلك. كان كلّ ما يتمّ سماعه ورؤيته خارج النافذة  يمثّل حالتنا الحالية فعلاً. وكانت بسمة ومريم غارقتين في هذا الواقع. حاوَلَتا مرّات عديدة التوجّه نحو الباب ومغادرة الغرفة الصغيرة لكنّهما بقيَتا في الداخل، رغم أن الباب غير مقفل والحياة مستمرة في الخارج. إنها تلك الحلقة التي لا تنتهي من السُمّية والاعتمادية، سواء في علاقتهما ببعضهما أو بالمدينة بحدّ ذاتها.

    صوّرت مشاهد  مُلبّدة للاهراءات بنفسي باستخدام كاميرا فيديو قديمة واضعة كأساً زُجاجياً أمام العدسة، ودمجت اللقطات معاً فيما كانت (الشخصيتان) تتحدثان عن لحظة الانفجار. أردتُ إظهار ضبابية الذاكرة والانطباعات المختلفة للقصة نفسها. هذا الجزء من الفيلم شخصي جداً، لأني كنت أعاني من ثغرات في ذاكرتي لتلك الليلة، والأشخاص الذين كنت معهم كانوا يملأون تلك الثغرات كلّما تحدّثوا عن قصصهم الشخصية وتجاربهم.

           

          أظهرتِ تفاعل  الثنائي السابق في مساحة بدت خارج المكان والزمان. في هذا المنزل المغلق، يناقش الأشخاص - الممثلتان والفريق على حدّ سواء- مرّة تلو الأخرى مدى تقاربهم. وقد تولّد عن ذلك مشهدياتٌ مُنظمةٌ بدقّةٍ متناهية.

          سارة، هل كانت تلك الحركات لأجسام الممثلات ولأجسام الفريق الفنّي موجودة أصلاً في النص، أم أنها جاءت بشكل ارتجالي لتتوافق وقيود مكان التصوير؟

          سارة: جرى الارتجال في البروفات، قمنا بالتصوير عند غروب الشمس لأربعة أيّام متتالية، ولم يكن لدينا سوى 40 دقيقة فقط للتصوير كلّ يوم. لذا لم يكن هناك مجال للقيام بارتجالات مختلفة في مكان التصوير. لكنّي قمت بالكثير من التعديل على حركات الممثلين خلال البروفات. فأنا أعتبر أن الجسد والنظرة في هذا الفيلم، يستطيعان دائماً قول أمور تعجز الكلمات عن التعبير عنها.  يتكلّمون، يقولون أشياء كثيرة لكن أجسادهم ونظراتهم تقول أشياء أخرى، فيما هم ينظرون إلى الإهراءت والمرفأ، وفيما هم يديرون لها ظهورهم، وطريقة دورانهم حول بعضهم الآخر، كنت أدرك أهمية إظهار تلك الحركات وأردت أن تكون الكاميرا شبه خفيّة. كان الأهمّ أن نصوّر ما نحتاج أن نشعر به ونراه، وكان التركيز على الوجود الجسدي للممثلتين أكثر من الكلمات التي تتلفّظان بها.

          لقد كان العمل مع الممثلتين صوفيا موسى وتمارا سعادة تجربة رائعة. فقد قدّمتا للعمل الكثير حتى خلال البروفات. إحدى الأمور التي قمنا بتغييرها أيضاً، كانت عكس الأدوار. كانت لحظات جرى خلالها جمعهماً معاً وفصلهما عن بعضهما الآخر حيث أصبح الأمر برمّته جزءاً من اللعبة بينهما. مدى رغبتهما بأن تكونا معاً كشخصيات، ومدى عجزهما عن ذلك، أمراً برعتا في تجسيده ومنحه أبعاداً عديدة. 

          تطلّبت البروفات الكثير من الوقت، وهذا لا ينطبق عليّ وعلى الممثلات فقط، إنما أيضاً على بولين مارون (مديرة التصوير) وتاتيانا دحدح (مهندسة الصوت)، وذلك لتحديد مكان كل شخص وكيفية تحركه في كل لقطة. إضافة لوجود ستة أشخاص في الغرفة مما جعلها مكتظة، شكّل غروب الشمس تحدّيا بالنسبة لنا، فقد كان هناك العديد من النوافذ، وعليه كان هناك الكثير من الظلال، والشمس كانت تتحرك بسرعة فائقة فكانت الظلال تتغيّر. لذا كنّا بحاجة للإحاطة بجميع الأمور قبل البدء بالتصوير. قامت تاتيانا بعمل مذهل بالنسبة للصوت، لأن الغرفة أثارت الكثير من التحدّيات؛ إحداها أن موقع مولّد الكهرباء الرئيسي للشارع بأكمله كان تحت النافذة مباشرة.

          ليليان: كانت تلك الفترة بداية الانقطاع الكبير في الكهرباء، وقد بدأ ذلك تدريجياً عندما بدأنا البروفات وصولا إلى بدء التصوير.

          سارة: عملت تاتيانا بتأنٍّ بالغ في التحضير للعمل، كانت تذهب الى مكان التصوير وتعمل على اختبار العديد من الميكروفونات وإيجاد حلول عبر العلاجات الصوتية. ثم تحوّل الأمر إلى تعاون مع بولين أيضا، إذ كنّا نريد إبقاء الألواح الصوتية خارج إطار الصورة. كان على بولين وتاتيانا أن تتحرّكا معاً وأن تُبقيا كلّ شيءٍ خارج إطار الصورة.

          ليليان:  قامت بولين بعمل رائع بالنسبة للمحافظة على الضوء، لأننا لم نكن نصوّر وفقاً لتتابع النص. وأنا، كمنتجة، لم أكن أريد المساومة على ما يحتاجونه من المعدات، لأني كنت على ثقة أنهنّ سيفعلن ما بوسعهن. كنت أثق بخياراتهن.

           

          إحدى اللحظات المؤثرة في الفيلم، هي تلك التي ذكّرت فيها مريم بسمة بالضغط الكبير الذي كانت تشعر به عندما كانت الأخيرة تتخذ القرارات عنها. أتاح هذا البعد من العلاقة  ربط حركة الكاميرا باتجاه الإهراءات مع رغبات مريم.

          سارة! هل فكّرت خلال كتابتك للنص بذك البُعد من علاقتهما التي تتجاوز سردية حوارْ بين "زوجين من النساء"؟ هل هي طريقة لإظهار أن كونهما امرأتين  ليست جُل ما يُميز علاقتهما؟ من ناحية أخرى، هل نعتبر قصة هذا الثنائي طريقة لتقديم مُعالجة كويرية للرمزيات والسرديات المُتكررة في السينما اللبنانية، والسؤال الذي يتوجها: هل نهجر (هذا المكان أو هذا الآخر) أم نبقى؟

          سارة: عادةً ما تعالج الأفلام الكورية في السينما اللبنانية، مسائل متعلّقة بشباب يافع كويري يعاني من مشاكل مع المخدرات أو مع أمهاتهم. أردتُ تحدّي تلك الفكرة والتحدّث عن نساء أمثالنا - نساء كويريات في منتصف الثلاثينات من العمر. تمثيل المرأة الكويرية في هذا الفيلم كان ضرورياً لأنه لم يكن هناك أي توضيح، وكنّا نحن مصدر الإلهام الأساسي، نحن والمعاناة التي مررنا بها. قبل الانفجار، بدا وكأنّ المجتمع الكويري له وجود وبدأ يزداد ويكبر مع اندلاع الثورة. كان لنا تواجد أكبر، وكانت لدينا منابر نستخدمها من دون خوف ومن دون خجل. لكن بعد الانفجار، بدا وكأنّ كل هذا تلاشى وتلك المنابر اختفت وتبدّد كل الدعم. تلاشى الزخم الذي بنيناه خلال الثورة، وأردت فعلاً تسليط الضوء على ذلك. كما وإنها تمثل في الوقت ذاته قصة أيّ علاقة في أيّ مكان في العالم، من الناحية الديناميكية، عند وقوع حدث مروّع، يحدث انفصال ويبقى الأمر معلّقاً.

          ليليان: لا يتعلّق محور القصة  بالمرأة الكويرية، فظهور المرأة الكويرية في هذا الفيلم كان طبيعياً جداً وليس في الإخراج تحفّظ على ذلك. وصلتنا ردود الفعل تلك من قبل كثير من الناس: يُمكن لأي شخص أن يجد انعكاساُ لنفسه في قصة هذين الشخصين، بغض النظر عن الجنس أو التوجه الجنسي.

          سارة: تُقرّر مريم في الفيلم الامتثال لرغبة المجتمع، إلا أن ذلك لا ينبع من أي خجل في كونها امرأة كويرية، إنه خوفها على حياتها. تسود تلك الفكرة المتداولة بأن المرأة بعد بلوغها عمراً معيّناً يجب أن تتزوج، ويتمخض عن عدم الامتثال لتلك العادات جُملة من الصعاب. عليك أن تأخذ موقفاً صارماً، عليك أن تؤمن به وأن تقاتل لأجله. بعد تجربة "رؤية الموت بأعينهم"، تبدّلت الديناميكية برمّتها بين الشخصيات. كانت ردّات فعلهم متناقضة جدا: إحداهن أرادت إنقاذ نفسها فقررت المغادرة، والأخرى عادت إلى برّ الأمان الذي يوفّره ما هو متعارف عليه ومقبول للمرأة.

           

          تُظهر مقدمة الفيلم أن الطاقم كان بمعظمه من النساء. وخلال حوار بعد عرض الفيلم قلت يا سارة: "كنّا جميعنا نساء في موقع التصوير، ورقصنا حول  بعضنا الآخر لننجز الفيلم". هذا يذكّرنا بكلمات الناشطة النسوية الأناركية إيما غولدمان ("إن لم يكن باستطاعتي الرقص، لا أريد أن أكون جزءًا من ثورتك")، كما يذكّرنا بكلمات إحدى أغاني الثورة اللبنانية عام 2019 ("بدنا نرقص، بدنا نغنّي، بدنا نسقّط النظام") وهو شعارٌ عارض الفصل ما بين الفرح والسعادة من جهة وعملية بناء الحركة الثورية من جهةٍ أُخرى. 

          سارة، هل يمكنك أن تشرحي لنا، نظرياً وعملياً، كيف يعتبر فيلمك تجربة تحاكي الفرح النسوي والكويري؟

          سارة: كانت، ومنذ الوهلة الأولى، الحميمية والقوة التي أوجدناها معاً مدعاة فخر وتجربة رائعة. لم يكن هناك أي غرور. ما حدث أن الجميع اجتمعوا فعلاً معاً، وبالأخص في هكذا موقع يثير الكثير من المواجع، وتشاركوا تلك التجارب معاً وعاشوا قصة حميمة. يُعتبر الفيلم، وعلى مستوى عالٍ، حدثاً بارزاً لأن هذا المجال يسيطر عليه الرجال؛ وكذلك الحال بالنسبة للقصص والروايات. فعلاً كنّا جميعنا نساءً وكان ذلك بمثابة خرق هائل لذلك التقليد السائد. وجدنا جميع الشخصيات اللواتي كنّا بحاجة لها، جميع أولئك النساء الموهوبات اللواتي لا يحصلن عادة على هذه الفرصة لأنها تعتبر عملاً للرجال. أعتقد أن ذلك منحنا جميعاً سلطة أكبر.

           

          ليليان، أخبرينا كيف اخترت وتواصلت مع الفريق الفنّي والتقني الذي جمعته؟ في لبنان، المحال التي تؤجر المعدات ترسل عمّالاً تقنيين للمساعدة وغالبا مايكونوا رجالاً، هل كان هناك أي رجل في فريقك؟

          ليليان: كان يفترض أن تكون مساعِدة  كاميرا ثانية إمرأة، لكن متجر تأجير المعدات غيّر الإتفاقية في اللحظة الأخيرة. في لبنان، كما في البلاد العربية جميعها، عندما يتعلق الأمر بالفريق التقني، يقلَّل من شأن عمل المرأة في معظم الأوقات،  حتى أن عملها  قد لا يحظى بالاحترام.  جميع أعضاء فريق التصوير كنّ نساءً وكذلك أعضاء الفريق الفنّي للتصوير الرقمي. عندما واجهتنا مشكلة  في الكابل خلال التصوير، للأسف وجّه الشبّان من متجر تأجير المعدّات اللوم إلى مساعدة التصوير لأنها امرأة، واتهموها أنّها، من دون شكّ، أخطأت في وصل الكابل بالكهرباء وما الى هنالك. لكن أعضاء الفريق الفنّي، كما سبق وذكرت جميعهن نساءً، تعاونَّ معا وقمن بحلّ المشكلة دون مساعدة من عمّال متجر تأجير المعدّات؛ والحقيقة أنني شخصيًا ذُهلت بالعمل الذي قمن به. بالمناسبة إن جميع متاجر تأجير المعدّات في لبنان يمتلكها رجال.

          كيف وقع اختياري على هؤلاء النساء؟ أنا شخصيًا لا أساوم عندما يتعلق الأمر باختيار  الفنّيين. جميعهن نساء عملتُ معهن من قبل عدّة مرّات. مثلاً، تعجبني جداً طريقة عمل مارينا تبشراني، وهي تعمل كمساعدة كاميرا أولى. كنّا نصور ونحن نحمل الكاميرا، ورغم كل الازدحام في الغرفة لم نكن بحاجة لإعادة تصوير أي لقطة، وذلك لشدّة التركيز خلال العمل. وكان هذا أيضًا أحد التحديات التي  فرضها تنفيذ التصوير لمدة 40 دقيقة فقط في اليوم. ما كان العمل لينتهي بأربعة أيام لولا وجود مارينا وتاتيانا وبولين، وكيفية حفظهن لمواقعهن وسرعة تحرّكهن.

           

          همّش التاريخ المُهيمن على السينما عمل النساء، من خلال إبراز مهمة المخرج وطمس أهمية الدور الذي يقوم به الفنيون في عملية صناعة الأفلام. هل تُعبّر شارة النهاية عن موقفٍ يُعارض ذلك السرد التقليدي لتاريخ السينما؟

          سارة: كان تصميم شارة النهاية مهمّاَ، لم يكن الأمر مجرّد عرض سريع؛ فقد حرصنا أن يظهر اسم كل شخص مدّة كافية على الشاشة، فاخترنا أن نظهرها فُرادةً وليس على شكل شريط مُتحرك. حتى  تقديم الأغنية أمام صورة المرفأ المعبّرة جداً في الخلفية، كان الهدف منه جذب المشاهد نحو التمعن في شارة النهاية.

          ليليان: أريد إضافة شيء بخصوص التصوير. تم تمويل الفيلم من قبل مؤسسة "هاينريش بول" وقد تقيّدنا بالسياسة الخضراء التي تتبعها المنظمة والتزمنا ببعض القواعد التي طرحوها مثل اعتماد نظام صفر نفايات من التصوير. كانت المرة الأولى التي أصوّر فيها دون وجود أية عبوات بلاستيكية في الموقع، وكل الأشياء الأخرى التي استخدمناها كانت قابلة للتدوير. كان ذلك تحدٍّ آخرً جميل. ولقد عملنا مع  الشخص المناسب جدا لتحقيق ذلك، فمتعهدة الطعام سارة ابو جودة صديقة للبيئة بامتياز. هي اهتمّت بهذه الأمور وقد وضعت اسم كل فرد من  فريق العمل على قنينة زجاجية وكانت تعاود تعبئتها يوميًا. أحببت ذلك كثيرا وقد غمرني الفرح لرؤية موقع التصوير خالٍ من النفايات (صفر نفايات).

           

          هل يمكنك إخبارنا أكثر عن عملية المونتاج؟

          سارة: هناك أسلوب طالما استخدمناه أنا وليليان؛ وهو أنه في لحظة معيّنة يكون على ليليان الاختفاء. تكون موجودة خلال الفترة الأولى ثم تغادر. في الحقيقة إن الشخص عندما ينظر لأمر ما كل يوم،  يفقد انطباعه وموضوعيته تجاهه. لذا غادرت ليليان؛ وعندما عادت فيما بعد، كانت قادرة أن تتذكر ما عملنا عليه قبل فترة طويلة وعليه كانت قادرة أن ترى الأمور بشكل أكثر وضوحًا منّي أو من مسؤولة المونتاج ماريا مالك.

          كان العمل مع ماريا مذهلًا فهي حساسة وتعطي عملها حقه. لم يسبق لي أن عملت مع مسؤول مونتاج يشعر لهذه الدرجة بالسرد العاطفي، ويمكنه البناء على المشاعر التي تحملها الكلمات وليس على الكلمات بحد ذاتها. من الممكن أن نمضي الكثير من الوقت بعيداً عن الشاشة. نعدّ الغداء معًا ونتعرّف على بعضنا البعض. لقد خلقنا هذا الرابط، لأنّ فهم الخلفية التي تأتي منها كلّ منّا كما تجاربنا الحياتية، هو أمر مهمّ في مشروع حميم كهذا.

          عندما كنت أعمل على تصميم الصوت مع لمى صوايا، خصصنا بضعة جلسات لمناقشة  المفاهيم. كنت مهتمّة بجماليات الصوت، خاصة عندما يتعلق الأمر بالحشد الموجود خارج الغرفة. أردت أن يظهر أنه متطفل جدا. كان ذلك الحشد بالنسبة لي يمثل المجتمع؛ فالناس لا يتركونك وشأنك،  فإذا واجهت أي حدث سواء فرح أم حزن، ترى الأعين تراقبك أو تطلق عليك الأحكام المُسبقة، وهذا يخلق فيك شعوراً مختلفا بطريقة أو بأخرى. لطالما انكفأت بسمة ومريم نحو فقاعتهما عندما يكون التواصل بينهما جيدا. لكن عندما تختلفان: كانتا ترفعا دروعهما الدفاعية، وتظهر الإهراءات من جديد ونعاود سماع الحشد في الخارج. ويتناهى إلى الداخل ضجيج المدينة، وأصوات صفارات الإنذار، حتى المدينة نفسها. كنت متنبهة جداً لكل تلك الأمور وصممتها بدقّة مع لمى. تحوّل الأحداث، حتى وإن كانت باهتة، انتباهك عن الحميمية التي تحدث في الداخل، إلى عنصر الاضطراب الذي يحدث في الخارج. وأظننا جميعًا نتفق على أن العيش في لبنان يعني أن هناك دائماً ما يُشتتنا. التوتر الذي يسود  المدينة، والضغط الذي يولده ذلك، والصدمة،  كل هذه الأمور تعيقك، جسديًا وعاطفيًا، دائماً.

           

          ليليان، أخبرينا كيف عُدتِ؟

          ليليان: وضعنا برنامجًا لعودتي في النهاية. كنت مطمئنّة لتركهنّ يعملن لوحدهنّ؛ لكن، في الوقت ذاته، كانت تراودني بعض المخاوف لأنه كان من الممكن وبسهولة أن يتُهنَ في عالمهن الخاص، وأن لا يتمكنّ دائماً من رؤية الأمور بشكل موضوعي. كنت أعود دائمًا حاملةً تقييمات لما فعلنه، وكان ذلك منبّهاً لهنّ لأمور عديدة ولبعض التفاصيل. ما كان ذلك ليكون ممكناً لو أني بقيت في الموقع. وقد طبّقنا الأمر ذاته بالنسبة للصوت. كنت أعطي ملاحظاتي وكنا نتناقش حولها، وكنا إما نتوافق عليها أو لا فنتبنّى التغييرات وفقا لذلك، كفريق طبعًا.

           

          ليليان، سارة، ما هي الاستراتيجية التي اتبعتماها بالنسبة لتوزيع الفيلم؟

          ليليان: اتفقت مع مؤسسة "هاينريش بول"، المنظمة التي موّلت الفيلم، على إستراتيجية لتتبعها في لبنان والبلاد العربية. لذا، وضعنا استراتيجية تتضمن أن نتعاون مع منظمات نسوية لتقديم عروض خاصة مباشرة في بادئ الأمر، إضافة إلى بعض العروضات الخاصة عبر الانترنت، مما يتيح المجال لجعل الفيلم في متناول الجمعيات والمنظمات التي تعمل بطرق اجتماعية لتحقيق أهداف معينة، والتي قد تستخدم الفيلم لإحداث تغيير ما. عليه، وضعنا لائحة بأسماء المنظمات التي لا تبغي الربح، لنتمكن من القيام بتلك العروض للفيلم. لكن، لسوء الحظ، كان يجب إبقاء تلك العروض خاصة. إلا أنها ستتزامن مع المهرجانات الدولية. وسيتبعها بالتأكيد فقرة سؤال وجواب عبر الانترنت، أو مناقشات مباشرة مع المخرجة.

          هنا في لبنان، لا يمكن عرض الفيلم إلا بشكل خاص. عرض فيلم كويري في لبنان على خشبات المسارح يتطلب أن تتشارك مع مؤسسات تستطيع عرضه دون الحصول على ترخيص.

          سارة: تناقشنا كثيراً في الأمر ووضعنا مساراً للفيلم . قدّمنا طلباً للاشتراك في مهرجانات الفيلم النسوي، ومهرجانات مجتمع الميم، أو مهرجانات تتضمن فئات مجتمع الميم. إعطاء تلك الأهمية للأفلام الكويرية، أو تخصيص مهرجان حصري للأفلام الكويرية، أمر مهمّ جدا؛ هي خطوة تجاه جعل  الأفلام الكويرية أمرًا عاديًا، سواء كان عن النساء أم أن نساءً قمن بتصويره. سيمهّد هذا الأمر الطريق لجعل الأفلام الكويرية تدخل في المهرجانات بشكلٍ أوسع. كما وقد اتخذنا قراراً واضحًا وهو  أن نتقدّم للإشتراك في مهرجانات لا تتضمن هذه الفئات، لأن المهرجانات يجب أن تكون شاملة، وتتضمن جميع الأفلام حتى وإن لم تشمل تلك الفئات. هكذا وضعنا استراتيجية للعمل على كل تلك الخطط، لأنها جميعًا حققت النجاح مع فيلم "ما بعد آب". هناك الكثير من الأمور التي لقيت الاستحسان في الفيلم، ولم يقتصر الأمر على القصة والفيلم بحد ذاته، إنما شمل الفريق الذي قام بالعمل أيضًا.

          ليليان: أُدرك أن الاشتراك في المهرجانات الكبيرة أفضل، لأنها تُقدّم الفيلم لجمهور واسع. لكن، أنا شخصيًا، أفضّل أن يُصار إلى عرضها في مهرجان، حيث يلقى كُلٌ من القصة والعمل الإنتاجي التقدير على حدّ سواء. وأصارحك القول أني قد أقدّم بعض التنازلات للاشتراك في مثل هذا النوع من المهرجانات.

           

          أجرت هذه المقابلة دانيال دايفي و أناييس فارين في 14 كانون الثاني/ يناير، 2022

          ملحوظات: