من أجل إعادة كتابة أسطورة التمكين: دروس ما بعد الكوفيد من عمّال صناعة الألبسة في بنغلادش

السيرة: 

البروفيسورة دينا صديقي أستاذة مساعدة في مجال الابحاث الإكلينيكية في كلية الدراسات الحرة لدى جامعة نيويورك. ينضم بحثها ، الذي يركز على دراسة بنغلاديش، إلى جملة دراسات النظرية النسوية العابرة للحدود الوطنية وأنثروبولوجيا الإسلام وحقوق الإنسان. لها منشورات كثيرة عن المنظومة العالمية لصناعة الملابس ومنظومة العدالة بين الجنسين غير الحكومية والسياسات الثقافية للإسلام والقومية في بنغلاديش. تعمل حاليًا ضمن مشروع حول التنمية الاقتصادية وخطابات التمكين وأسفار المقاربة النسوية الحضارية (الليبرالية). منشوراتها متاحة على https://www.researchgate.net/profile/Dina-Siddiqi . البروفيسورة صدّيقي عضو في جمعية الأساتذة الزملاء في جامعة نيويورك و في المجلس الاستشاري للأنثروبولوجيا الجدلية وفي هيئة تحرير سلسلة مجلة روتليدج "النساء فس آسيا". كما أنها عضو في اللجنة التنفيذية للمعهد الأمريكي لدراسات بنغلاديش (AIBS) ، وعضو في المجلس الاستشاري لشبكة جنوب آسيا النسوية ، سانجات. لقد تعاونت بشكل متكرر مع منظمات حقوق الإنسان البنغلاديشية بما في ذلك عين أو ساليش كندرا وناغوريك أوديوغ وصندوق بنغلاديش للخدمات القانونية (BLAST).

اقتباس: 
دينا صدّيقي. "من أجل إعادة كتابة أسطورة التمكين: دروس ما بعد الكوفيد من عمّال صناعة الألبسة في بنغلادش". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 7 عدد 2 (12 نوفمبر 2021): ص. 5-5. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 21 نوفمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/320.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
ترجمة: 

ناقدة ومترجمة لبنانية مقيمة في باريس. حاصلة على دكتوراه في اللغة والأدب العربي الحديث من جامعة السوربون الجديدة. يتمحور عملها البحثي حول الصمت والكلام في سياقات الهيمنة وتجلياتهما الأسلوبية واللّغوية في النصوص السردية. عملت محرّرة ثقافية في جريدة "النهار" اللّبنانية حيث كتبت عشرات المراجعات النقدية في الرواية والشعر. درّست اللغة العربية والترجمة والأدب في جامعتَي باريس الثامنة والسوربون الجديدة وفي السوربون حالياً. من ترجماتها: "بلا عائلة" لهكتور مالو، و"صديقان وقصص أخرى" لغي دو موباسان، و"كانوا بشراً فحسب" للوران موفينييه.

haneen_nazzal_11

حنين نزّال

 

"إن العمل من أجل العدالة الاجتماعية لهو عمليّة إعادة بناء سردية تُنشئ قصصاً جديدة عن وقائع غالباً ما تكون مُتجاهَلة ومُعتّماً عليها ومُسَلَّماً بها بوصفها خصائص للحياة الاجتماعية مقبولة وعاديّة."

- كيمبرلي كرنشو (2020. التشديد من عندي).

 

لا تحتلّ أجساد عمّال صناعة الألبِسة البنغلادشيّين المُجهَدة المشهد العالميّ إلا في لحظات العنف المدهش، وفي ما قد يُسَمّى حالةً طارئة، هذا ما يبدو على الأقلّ. ويمثّل انهيار مبنى "رانا بلازا" في 2013 الذي أدّى إلى مقتل زهاء 1200 عامل وجرح عددٍ أكبر بكثير، الحدث الأكثر دلالة على هذا النوع من اللحظات (صدّيقي، 2017). أما العنف الأخفض صوتاً والمتعلّق بالفقدان الجماعي للوظائف بسبب الجائحة العام الفائت، فيشكّل "حالة طوارئ" أخرى وجد فيها العمّال البنغلادشيون أنفسهم تحت الأضواء العالمية، بدفعٍ من نسويّات شابّات من بلدان الشمال أصَرَرنَ على تحميل المسؤولية لماركات أوروبية وأميركية خاصّة، واتّهامها بأنها أخلّت بواجباتها التعاقدية. رغم كثافة هذا الاهتمام المُستجدّ، فهو في أفضل الأحوال سيفٌ ذو حدّين. فالتركيز على الحدث الضخم يعزّز التعتيم على العنف اليومي البطيء، وعلى التطبيع مع المشاكل البنيوية الشاملة التي يعيشها عمّال صناعة الألبسة في ورشهم وخارجها. ففي النهاية، تفترض أحكام الطوارئ ضمناً أنه في الأيام "العادية" كل شيء يسير على ما يرام.

يُنظَر إلى بنغلادش بوصفها قصة نجاح تنموي مُذهِل و"الوجه الباسم، والأنثوي بلطف في الغالب، للنمو الرأسمالي العالمي" بحسب تعبير ناومي حسين (2017، ص 8، التشديد من عندي). فصورة عاملة الألبسة المستقلّة التي تنتشل نفسها وعائلتها ووطنها من الفقر، تحتلّ مكانة مركزيّة في السرديات الوطنية والعالمية للنجاح البنغلادشي1. وفي اللحظات "العادية"، لا تنفكّ الدولة وأرباب المصانع والماركات العالميّة يكرّرون بشكل مقصود خطاب التمكين بشتّى الطرق، وذلك خدمةً لأجندات متعدّدة لا تتداخل بالضرورة.

فما هي الأمور الإشكالية التي يجري بانتظام "تجاهلها والتعتيم عليها والتسليم بها" (بتعبير كرنشو في القبسة الاستهلالية) في السردية العالمية عن تمكين عمّال صناعة الألبسة في بنغلادش؟ ما هي الأمور التي يُطَبَّع معها وتلك التي يُعتّم عليها ضمن منطق تغذية شبكة التموين بالألبسة؟ يؤثّر المنطق النيوليبرالي (بشكل سياقي ومخصوص) على الطريقة التي تُروى بها قصص صناعة الألبسة في بنغلادش، وعلى اختيار القصص التي تستحقّ أن تُروى وتلك التي ببساطة لا تُتداوَل (أو لا تقدر أن تفعل) خارج لحظات الطوارئ. في هذه السردية، تظلّ السوق بريئةً من علاقات السلطة، ويظل الوصول إلى العمل المأجور يشكّل ضمانة للتمكين، وتبقى شبكة إنتاج الألبسة آليّة محايدة لا يهدّد فعاليّتها إلا انعدام الكفاءة أو الفساد المحلّيين (كما في حالة رانا بلازا) أو أحداث من عمل الطبيعة خارجة عن إرادة البشر (كجائحة الكوفيد – 19).

من هنا، فإن استعادة القصص المكتومة والممحوّة وإعادة ما عُتّم عليه إلى المركز ومنحه دلالة جديدة، كل هذا يبقى المهمّة الأساسيّة لأيّ مشروع يهدف للدفع باتّجاه حقوق العمّال. كما أن إعادة بناء السرديات لهي عملية أساسية من أجل صوغ تضامنٍ نسوي بنّاء عابر للدول.

 

تطبيع الجائحة

في نهاية شهر آذار/مارس 2020، ولمواجهة انخفاض متسارع في طلب المستهلكين، قام المُشتَرون الأوروبيون والأميركيون للألبِسة البنغلادشية بإلغاء أو تأجيل طلبيات بقيمة 1,44 مليار دولار (آنر 2020، ص 5-6). ورفضت ماركات عديدة أن تسدّد قيمة طلبيات أُرسِلَت أو كانت في طور الإنتاج. وفي منتصف السنة، كانت طلبيات مُعَدّة للتصدير بقيمة 3,8 مليار دولار قد عُلِّقَت أو أُلْغيَت، فأثّرت على 2,2 مليون عامل في 1150 مصنعاً. وأشارت تقارير صحافيّة، إلى أن شركة "كولز" قد ألغت طلبيّات بقيمة 50 مليون دولار مع التجّار البنغلادشيّين، كما رفضت التماساتهم بإعادة التفاوض بشأن الدفوعات، لكنّها في الوقت نفسه دفعت 109 مليون دولار من الأرباح للمستثمرين.

في الأوّل من نيسان/أبريل 2020، نشرت "نيويورك تايمز" تقريراً يبدأ بالقصة التالية عن الحياة ما بعد الجائحة كما تعيشها عاملة بنغلادشية في صناعة الألبسة اسمها شهيدة خاتون:

كانت أصابعها تؤلمها من فرط ما حاكت بناطيل وقمصاناً مُعَدّة للبيع في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. ولكن الدولارات الثلاثين التي تتحصّل المرأة عليها كل شهر، وفّرت لعائلاتها للمرّة الأولى وجبات منتظمة وحتى منتجاتٍ مترفة كالدجاج والحليب. وخلال عشر سنوات، تمكّنت من أن تمنح لطفلها حياة أفضل ممّا كان يمكنها أن تتخيّل يوماً. ثم دخل العالم في الحجر، فوجدت شهيدة خاتون نفسها على غرار ملايين العمّال من ذوي الأجور المنخفضة حول العالم، وقد عادت إلى الفقر الذي ظنّت أنها تركته خلفها (أبي حبيب 2020، التشديد من عندي).

في طريقة السرد هذه، تبدو ظروف عمل خاتون ("أصابعها التي تؤلمها") خاصيّة عادية من خصائص حياتها، يُفترض أن تبرّرها قدرتها على أن تكسب ما يكفي لتخرج عائلتها من الفقر. فهذا هو في النهاية وعد دولة ما بعد الاستعمار الإنمائية وتبنّيها لخطاب التمكين. إذا قبلنا القصة من دون تمحيص، فإن الثلاثين دولاراً التي تنالها شهيدة شهرياً تكفي للحصول على وجبات منتظمة وحتى على طعام "فاخر" من حينٍ لآخَر. قصتها هي الصيغة الوردية للتنمية الرأسمالية، هي قصة تمكين نساء العالم الثالث من خلال العمل المأجور، قبل أن تأتي الجائحة وتوقف بغتةً كل شيء. أما النقابيون البنغلادشيون الذين يناضلون منذ سنوات لرفع الأجور، فسيتفاجأون على الأرجح عندما يعرفون أن ثلاثين دولاراً، وهو مبلغ أقل بكثير من الحد الأدنى للأجور الحالي والبالغ 96 دولاراً، وأقل كذلك من الأجر المحلّي الكافي لأساسيات العيش، كانت كافية لتعيل السيدة خاتون عائلتها. بعد ذلك، وبنبرة غاضبة، يأتي التقرير على ذكر زوج السيدة خاتون الذي كان هو أيضاً عاملاً في مصنع الألبسة نفسه. لكن ما لا يقوله التقرير هو أن الزوجين قد تمكّنا على الأرجح من أن يحصّلا معاً ما يقارب الأجر الحيوي الذي سمح لهما بأن يحلما بمستقبل أفضل لهما ولابنهما. ومع ذلك، فالتقرير لا يركّز إلا على شهيدة. ذلك أنه بإخراج الزوج من النص، يتفادى التقرير المسّ بقصة تمكين النساء بشكل فردي.

أما لماذا تتبدّى "هذه المساعي لتمكين النساء" شديدة الهشاشة، بحيث تُلغيها بسهولة فائقة "كارثة طبيعية" فهو أمرٌ لا يُتطرَّق إليه. فما يشكّل تنمية فعلية وتمكيناً يجري التعامل معه في البناء السردي للقصة كأنّه بديهيّة، ويصوّر الجائحة كقوّة طبيعيّة لا تخضع عواقبها ونتائجها العرضية لسيطرة البشر. وعندما تُطبَّع الجائحة، فإن مسائل الفعل البشري وتَبِعاته يعتَّم عليها أو تُحَيَّد أو تُمحى كلّياً. ولا يستدعي إلغاء العقود والوظائف الكثيف وتعرّض العمّال لخطر المجاعة أي تفسير. فهذه "وقائع" تُفهم باعتبارها خارجة عن سيطرة أرباب المصانع أو الماركات العالمية، ويُتعامَل معها ككارثة طبيعية.

 

أساطير واهية

أسفرت ظروف الجائحة ولو مؤقّتاً عن بروز أساطير قابلة للنقد حول طرق اشتغال شبكة التموين العالمي بالألبسة، ومكانة العمل الخاضع للأحكام الجندرية والعرقية في بلدان الجنوب. ففي بلدان مثل بنغلادش، كشفت جائحة كوفيد-19 عن ثغرات في سردية تمكين النساء ووعد الرفاهية الوطنية عن طريق سياسات التنمية الاقتصادية النيوليبرالية. فهذه الأساطير الليبرالية والامبريالية والمحوَّلة إلى نوع من الحس العام العالمي لهي مغرية بخطورة، وتُنتج رضى شعبياً عن نُظُم استغلالية هي الأخرى.

الأسطورة الأولى هي أسطورة تمكين الأفراد، النساء خاصّةً، لا سيّما المسلمات منهنّ اللّواتي ينتشلن عائلاتهنّ من الفقر بفضل عملهنّ في المصانع. ليس المقصود أن النساء وعائلاتهنّ لا ينتفعنَ إطلاقاً من العمل المأجور، بل إن ظروف عملهنّ شديدة الهشاشة وغير مضمونة ولا توفّر لأغلب العاملات إلا الحدّ الأدنى من الموارد والمدّخرات، كما تبيّن من اليأس الذي اجتاح العاملات العام الفائت.

وبالنسبة للماركات العالمية، فإن سردية إخراج نساء العالم الثالث من الفقر وإدخالهنّ العمل المنتج يساهمان في تبرير الأجور المتدنّية للنساء الملوّنات. فمعظم هذه الماركات يستند على تفسير للاقتصاد الذكي (المساواة بين الجنسين مفيدة للتنمية) يتبنّاه البنك الدولي وتجسّده حملات إعلانية على غرار حملة "أثر الفتيات" التي تروّجها "نايكي".

أما الدولة البنغلادشية وأرباب المصانع فقد أنتجوا أساطيرهم القوية الخاصة، محشّدين لذلك مجازات متعلّقة بالقومية والجندر. فتصير الدعوات لإنقاذ الاقتصاد، دعوات لإنقاذ صناعة الألبسة وبالتالي إنقاذ سبل عيش النساء البنغلادشيات (الفقيرات) (صدّيقي 2020). وحتى مبادرات خاصّة، ومحمودة، على غرار "مسارات واعدة" الصادرة عن الجامعة الآسيوية للنساء والتي توفّر للعاملات في صناعة الألبسة فرص تلقّي التعليم العالي، إنما تنجح في أن تحجب وتطبّع البنى القائمة2. فالتمكين يشمل هنا فرداً واحداً كلّ مرة ولا يمسّ البتّة ببنى اللامساواة الأوسع. يمكن القول إن البلاغة المستخدمة في موضوع تمكين النساء في ظل ظروف دائمة الهشاشة والإجحاف، لا يمكن الاستمرار بها إلا من خلال ما تدعوه لورين برلنت "التفاؤل المؤذي" (2011) أي المطامح والاستيهامات المتعلّقة بتنظيم العيش الجيّد. إن عدداً ضئيلاً من الثلاثة مليون عاملة ويزيد اللّواتي يكدحن في مصانع الألبسة في بنغلادش، سيستفيد من برنامج الجامعة الآسيوية للنساء على سبيل المثال. أما الأخريات، فإن الحصول على شهادة جامعية وما يرتبط بها من وعود، فسيظلّ يشكّل لهنّ توقاً بعيد المنال3.

ثانياً، ثمة أسطورة الالتزام بالجانب الأخلاقي للأعمال. ففي الشهور الأولى من الجائحة، أوضحت الماركات أولويّاتها: إن حقوق المساهمين بالحصول على حصصهم من الأرباح، تتقدّم على حقوق العمّال بتحصيل أجورهم/نّ غير المدفوعة. إن إلغاء الطلبيات وكسر العقود ورفض تسديد ثمن البضائع التي سبق تسليمها، يبين عن تحلّل من كلّ التزام أخلاقي تجاه حياة العمّال. هذا الأمر ليس حكراً بالطّبع على شبكة التموين بالألبسة. فكما لاحظ آخرون "لطالما كان واضحاً أن رأس المال عندما يكبو ويُخَيَّر بين المحافظة على المردودية ودعم الحياة، يؤثر دائماً للخيار الأوّل" (سامور 2020، ص 54).

ثالثاً، وفي سياق متّصل، ثمّة الأسطورة النيوليبرالية عن التبادل الحرّ والمتعادل. إذ كيف تمكّن التجّار الدوليون، قانونياً، من التنصّل بشكل أحاديّ من واجبهم الملزم بعقود رسمية؟ فعلوا ذلك باستدعاء بند القوّة القاهرة المدسوس في كل عقودهم (والذي كان حتى الأمس القريب غير معروف بشكل جيّد). في الواقع، لطالما تطوّرت الاتفاقيات التجارية الدولية لصالح حماية الأرباح لا العمّال، وذلك في اتّجاه رأسمالي ونيوكولونيالي ومقترن بالانتماء العرقي غير متكافئ. "عنصرية الموضة" هذه كما تسمّيها مينها ت. فام (2019) دُمجت بسياسات لبرلة التجارة في الثمانينيات والتسعينيات التي كانت تسعى إلى توسيع أسواق العمل والاستهلاك أمام الشركات الأوروبية والأميركية.

من هنا، ليس مفاجئاً أن تكون المخاطر موزّعة بشكل غير متكافئ على امتداد شبكة التموين، ذلك أن علاقات القوة بين مختلف الأطراف المعنية غير متساوقة بشكل كبير. وهذا التوزيع غير المتكافئ للقوّة وللمخاطرة يجعل شبكات تصنيع الألبسة العالمية شديدة الإشكالية، إذ أن العمّال الموجودين في أقصى طرف الشبكة هم أكثر مَن يعاني. ففي الوضع الحالي لشبكة التموين بالألبسة، يتحمّل المصنّعون كافّة الأكلاف إلى حين شحن البضائع النهائية. هذا الاتّفاق يصعّب في أحسن الأحوال، عملية الدفع في الوقت المناسب على المصانع الصغيرة التي تتحرّك غالباً ضمن هوامش ضيّقة. فاقمت ظروف الجائحة من هذه الهشاشة تاركةً المؤسسات الصغيرة من دون سيولة نقديّة تقريباً. هكذا أغلقت مئات المصانع بين ليلةٍ وضُحاها من دون إشعار ولا دفع مستحقّات العمّال.

وبذا، باتت رؤية عمّال الألبسة في بنغلادش ما بعد الجائحة وهم يتظاهرون علناً غير آبهين ببروتوكولات التباعد الاجتماعي أمراً مألوفاً بشدّة. خلال شهر كانون الثاني/يناير 2020، سجّلت شرطة الصناعة أكثر من مئة حادث من نوع "عرقلة العمل" في ستّ مناطق صناعية في البلاد، يتعلّق معظمها بأجور غير مدفوعة أو طرد تعسّفي. نادراً ما تُكلّل هذه المظاهرات بالنجاح. بالعكس، يتعرّض المتظاهرون لاعتداءات عنيفة وتعليق عمل ومحاكمات.

إلا أن هذه الحوادث لا يمكن فهمها بوصفها ظواهر ناتجة عن الجائحة حصراً. فالتأخّر بدفع الأجور أو عدم دفعها والإغلاق المفاجئ للمصانع من دون تعويض للعمّال، هي ممارسات شائعة في كلّ مصانع الألبسة لا سيما تلك الضالعة في التعاقد الثانوي4.

تلقّيت في الأسبوع الفائت إيميلاً من الناشطة والمصوّرة الفوتوغرافية تسليمة أختر، وهي أيضاً منسّقة في "التضامن مع عمّال الألبسة" وهي منظّمة شعبيّة غير مسجّلة في داكا في بنغلادش. كانت رسالتها تتضمّن جَديد أنشطتها وضمنها تجمّع قادم يُطلق خلاله رسمياً برنامج يطالب بأجور أعلى ويحتجّ على الأهداف الإنتاجية (الكوتا) الدائمة التزايد التي تُطلَب من العمّال الأفراد. كتبت مشدّدةً: "إنه تجمّع شديد الأهمية بالنسبة إلينا". وأرفقت رسالتها بصورة لأعضاء المنظّمة وهم يرسمون لافتات الاحتجاج ومنها: "كفّوا عن ملاحقة العمّال بدعوى بلوغ الأهداف الإنتاجية".

يشكّل انخفاض الأجور منذ وقت طويل إحدى أهم الظواهر التي يشكو منها عمّال الألبسة في بنغلادش (وهي أجور لا تقارب الحد الأدنى الحيوي المحلّي لكلفة العيش لمعظم العمّال، وهي تحتلّ الترتيب الرابع بين أشدّ الأجور انخفاضاً في العالم). إن تسريع الوصول للكوتا الإنتاجية اليومية للعمّال الأفراد أو رفعها بهدف تقليص الكلفة النهائية لليد العاملة، لطالما كان ممارسةً منتظمة في أوقات الأزمات، رغم أن مقاومتها لم تكن يوماً بمثل هذه القوة. حصل ذلك في 2008 على أثر الركود الاقتصادي وبعد انهيار مبنى "رانا بلازا" في 2013، عندما منح تدهورُ سمعة بنغلادش الماركاتَ العالمية تعليلًا لخفض أسعار شراء المنتجات البنغلادشية. من جهتهم، رفع العديد من الصناعيين المحليين الكوتا الإنتاجية للعمّال وقلّلوا من اليد العاملة. من هنا، كشفت الجائحة إلى أي حدّ لم يتغيّر شيء منذ انهيار "رانا بلازا"، وهي الحادثة التي تُعتبر لحظة قطع حاسمة في الخطاب المهيمن عن العمل الشاق.

 

استثناء بنغلادش

في 2013، تركزّ الاهتمام على العلل المحلّية ورداءة مواد البناء وفساد الحكومات ولامبالاة أرباب المصانع الشاملة. وبالتعامل معه من خلال منظور تأخّر العالم الثالث، تعرّض الفضاء الوطني البنغلادشي للتنميط الثقافي وقُدّم بصفته مصدراً للسلع قاصراً أخلاقياً وبحاجة إلى إصلاح وضبط خارجيّين.

إن تسوير الخطاب المتعلّق بهذه المشكلة داخل الحدود المحلية للدولة، صرف الانتباه عن الارتباطات الدولية وعن الدور البنياني لشبكة التموين بالسلع (مثل مهلٍ للتسليم متزايدة القصر) وحجب الأسئلة المتعلّقة بالمسؤولية. وسمح هذا أيضاً بتركيز الانتباه على "المبنى المتصدّع" حصراً (أشرف 2017). كما أن تأديب "اليد الشاردة" في شبكة التموين بالسلع من قبل مَن هم أعلى منها موقعاً (سن 2020) تمخّض عن اتفاقية بنغلادش الواعدة حول الحماية من الحرائق وضمان أمن المباني (من الآن فصاعداً: "الاتفاقية"). إن هذا الأنموذج للمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات المتعدّدة المساهمين الملزمة قانونياً، والمسمّى "مغيّر اللّعبة"، قد قُدّم بصفته مثالاً يُحتذى في أماكن أخرى، وذلك لا سيّما وأنه حظي أيضاً بتأييد النقابات. بعد التوقيع، تعهّدت الماركات بعدم التزوّد بالبضائع إلا عن طريق مُنتجين مصانعهم محدّثة بما فيه الكفاية لتستجيب لشروط أمن محدّدة.

ثمة سِمَتان اثنتان للاتّفاقية لا قيمة لهما. الأولى هي أن "الاتّفاقية" جاءت بشكل إمبريالي، حيث عُدِّل اتّفاق بين عدّة مؤسّسات ليبدو اتّفاقاً بين كلّ الأطراف المعنيّة. فلا الحكومة البنغلادشية ولا تجمّع أصحاب المصانع الأقوياء (المعادي للعمّال باعتراف الجميع) أُشرِكا في صياغته أو إدخاله حيّز التنفيذ. كانت بنغلادش أشبه بولدٍ يجري تأديبه ولا يُسمح لغير الكبار بالتواجد حول الطاولة. حتى التمثيل النقابي المُتَفاخَر به بشدّة، انحصر بأولئك الذي لديهم ارتباطات دولية مُمأسسة. والسمة الثانية هي أن الاتّفاقية المنحازة للشركات لم تمسّ بديناميات شبكة التموين بالألبسة ولا بتناقضاتها البنائية والمنظومية الأساسية. بُنيَ تصوّرٌ عن المشكلة بوصفها تقنية محضة، فجاء الحلّ تقنياً منزوع البُعد السياسي. وأخيراً، وبما أن "الاتّفاقية" لم تتناول إلا السياق البنغلادشي، فقد تركت المصانع المحلية وبالتالي العمّال في وضع شديد الهشاشة بسبب خطر انتقال رؤوس الأموال الأجنبية إلى بلدان أخرى.

يشير تقرير حديث لـ"الائتلاف من أجل حقوق العمّال"، إلى أن الأسعار التي تُدفَع لمصانع الألبسة لا تعكس الكلفة الحقيقية لليد العاملة ولا تسمح لأصحاب المصانع بالاحتفاظ بنوعٍ من الاحتياط. من الواضح أن أنموذج شبكة التموين بالألبسة الحالي الفاشل يجب أن ينتهي.

لكن منطق الحلّ التقني الذي تبنّاه العديد من التقدّميين الأوروبيين والأميركيين منع قصصاً أخرى من أن تُروى وتنتشر عالمياً. في صيف 2014، باشر عمّال من مجموعة "توبا" إضراباً عن الطعام للمطالبة بأجور ثلاثة أشهر غير مدفوعة واسترجاع وظائفهم. وشاءت سخرية القدر أن يتبدّى مبنى المصنع بمثابة الملجأ الضروري للعمّال المضربين ولو بشكلٍ مؤقّت (صدّيقي 2015). ورغم احتلال الإضراب عن الطعام عناوين الصحف في بنغلادش، فلا الإعلام العالمي ولا أولئك الذين كانوا يطالبون الماركات الأوروبية والأميركية بتوقيع "الاتفاقية" التفتوا إليه بكثير من الاهتمام5.

يستبعد منطق الإصلاحات التقنية أسئلة أساسية أخرى. فلماذا في يوم 24 نيسان/ أبريل المصيري، شعر عمّال الألبسة بأنهم مُرغَمون على الحضور إلى العمل رغم أن السلطات الرسمية البنغلادشية كانت قد أعلنت في اللّيلة الفائتة أن المبنى خطير؟ لأن ذلك حدث في نهاية الشهر ولم يكونوا قد حصلوا على أجورهم بعد. أمام تهديد عدم الدفع أو ما هو أسوأ، لم يكن للعمّال خيارٌ آخر: إما الموت صدفةً أو التعرّض لاحتمال الجوع.

إنه سلوك عاديّ لا يقتصر على أوقات الأزمات. فعندما أعادت مصانع الألبسة فتح أبوابها في الشهور الأولى من الجائحة، مع بروتوكولات تباعد اجتماعي قليلة أو معدومة في الوِرَش، انتاب عمّال الألبسة شعورٌ مماثل: نحن مخيّرون بين الموت جوعاً أو التعرّض لاحتمال الموت بالفيروس. وهم في هذا الأمر يحتلّون مساحة سياسية "موتيّة" مُكَبّلين بـ"الإكراهات القاسية للرأسمالية التي لا تترك لهم خياراً آخر سوى العمل من أجل العيش تحت تهديد الموت" (سامور 2020، ص 56).

 

من أجل بناء تضامن نسوي عالمي

في الوقت الذي تبلغ فيه صناعة الألبسة في بنغلادش عقدها الرابع، لا تزال تخذل عمّالها بشكلٍ حاد. فإذا كان العمّال لا ينالون أجوراً تسمح لهم بالادّخار، وإذا كانوا لا يزالون بلا ضمانات لنيل أجورهم في موعدها، وإذا كانت الحكومة عاجزة عن تأمين شبكة ضمان اجتماعي متّسقة في أوقات الأزمات، فمن الواضح إذن أن قصص التمكين الفردية والازدهار الوطني الناتج عن تطوّر الصناعة المعدّة للتصدير تبدو كلّها فارغة.

فكيف يمكننا توسيع التضامن النسوي في هذا الوضع الصعب؟ بعد التحليل السابق، يجب أن يصبح بديهياً لدينا أن لا حلول سريعة وفردية لمشاكل متجذّرة شاملة. والمبادرات الحسنة النية التي تستهدف ماركات الألبسة بشكل مخصوص، على غرار حملة #PayUP، لا تقدّم إلا حلولاً جزئية ولا تمسّ بالخصائص المنظومية لشبكة التزوّد بالألبسة.

ثم إن هذا النوع من المبادرات يكشف عن سذاجة في مقاربة كيفية اشتغال رأس المال العالمي. فمعاهدات مثل "الاتفاقية" هي في أفضل الأحوال إجراء مؤقّت. بالإضافة إلى أن هذا النوع من التدابير لا يأخذ بعين الاعتبار مبادرات العمّال أنفسهم. وهو يستند إلى فرضية أن عمّال بلدان الجنوب عاجزون عن تحديد أسباب الممارسات الاستغلالية التي يعانون منها وإيجاد حلول لها (بوناسيك وآخرون 2008، ص 11). لا تفعل طريقة التفكير هذه إلا تعزيز هرمية عرقية عالمية، وبناء تصوّر عن العمّال بوصفهم ضحايا.

فماذا يمكن أن تفعل النسويات "هناك"؟ علينا أن نبدأ بالاهتمام بإعادة بناء السردية – من خلال تفكيك القصص الموضوعة في إطار الأخلاقيات التي تتحرّك ضمنها شبكات التموين بالألبسة. ذلك أن رفض مغريات نظرية التمكين المهيمنة التي تقع ضمن الاستيهامات الاستشراقية حول إنقاذ الأجساد السمراء "هناك"، يستدعي نوعاً آخر من المعرفة والعمل. خلال السنوات الماضية، صدر العديد من الكُتب والتقارير السياسية حول عمّال الألبسة في بنغلادش وحول تعنّت أرباب المصانع ولامبالاة الدولة وفسادها. نعرف الكثير عن تعاسات العمل في المصانع (وملذّاته العَرَضية أيضاً)، لذا فقد حان الوقت لنفهم سياسات الاتفاقيات التجارية العالمية على سبيل المثال، وندرس الهرميات الاجتماعية العرقية والاستعمارية بدل القبول بها.


         
  • 1. لا تتعارض هذه الحجّة مع التحسّن المذهل في المؤشّرات الاجتماعية المحقّق في العقدين الأخيرين. ويتضمّن ذلك المساواة الجندرية في المرحلتين الابتدائية والثانوية من التعليم المدرسي. لكن هذا التحسّن هو نتيجة مباشرة لسياسات الدعم التي تقودها الدولة، لا لسياسات السوق الحرّة النيوليبرالية.
  • 2. أنظر أخبار NBC 31/12/2020: "كيف يؤهّل برنامج جامعي في بنغلادش عمّال الألبسة للوصول إلى التعليم العالي".
  • 3. أنا ممتنّة لراكشنادا سليم لحوارنا حول خطاب التمكين في آسيا الجنوبية وأهمية عمل برلنت في هذا المضمار.
  • 4. التعاقد الثانوي: ترجمة لمصطلح subcontracting، الذي يصف عملية تعاقد يلتزم بموجبها شخص أو مؤسسة تنفيذ تعهّدات نصّ عليها عقد شخص آخر أو مؤسسة أخرى (المترجمة).
  • 5. اللّامبالاة التي استمرّت حتى وقت طويل حيال إضراب توبا في دوائر الأكاديميين والناشطين في الولايات المتحدة الأميركية، أمر محيّر بشدّة ويشير إلى عملية الإسكات التي تنتج عن الجهود العالمية "التقدمية" الحسنة النية.
ملحوظات: 
المراجع: 

Abi-Habib, Maria. 2020. “ Millions Had Risen Out of Poverty. Coronavirus Is Pulling Them Back.” New York Times. https://www.nytimes.com/2020/04/30/world/asia/coronavirus-poverty-unempl...

Anner, Mark. 2020. Abandoned? The Impact of Covid-19 on Workers and Businesses at the Bottom of Global Garment Supply Chains. Workers’ Rights Consortium with Pennsylvania State University Center for Global Workers’ Rights. https://www.workersrights.org/wp-content/uploads/2020/03/Abandoned-Penn-...

Ashraf, Hasan. 2017 “Beyond Building Safety: An Ethnographic Account of Health and Well-Being on the Bangladesh Garment Shopfloor.” In Geert de Neve and Rebecca Prentice (eds.), Unmaking the Global Sweatshop: Health and Safety of the World's Garment Workers. University of Pennsylvania Press.

Berlant, Lauren. 2011. Cruel Optimism. Duke University Press.

Bonacich, Edna, Alimahomed, Sabrina, and Wilson, Jake B. 2008. “The Racialization of Global Labor.” American Behavioral Scientist, 20(10): 1-14.

Crenshaw, Kimberle. 2020. “Under the Blacklight: Narrating the Nightmare and (Re)Imagining the Possible.” Intersectionality Matters, 18. Podcast. https://soundcloud.com/intersectionality-matters/18-under-the-blacklight-narrating-the-nightmare-and-reimagining-the-possible

Hossain, Naomi. 2018. The Aid Lab: Understanding Bangladesh’s Unexpected Success. Oxford University Press.

Moeller, Kathryn. 2018. The Gender Effect: Capitalism, Feminism, and the Corporate Politics of Development. The University of California Press.

Murphy, Michelle. 2017. The Economization of Life. Durham: Duke University Press.

Pham, Min-Ha T. 2019. “How to Fix the Fashion Industry’s Racism.” The New Republic, April 18. https://newrepublic.com/article/153596/fix-fashion-industrys-racism

Sen, Prii. 2021. “Saving the Factory, Not the Workers: The Garment Industry in Bangladesh.” The Funambulist, 33(1): 24-31. https://thefunambulist.net/magazine/spaces-of-labor

Siddiqi, Dina M. 2015 “Starving for Justice: Bangladeshi Garment Workers in a ‘Post-Rana Plaza’ World.” International Labor and Working Class History, 87: 165-173.

Siddiqi, Dina M. 2017. “Before Rana Plaza: Toward a History of Labor Organizing in Bangladesh’s Garment Industry.” In Crinis and A. Vickers (eds.), Labour in the Clothing Industry in the Asia Pacific. Routledge.

Siddiqi, Dina M. 2020. “What the Pandemic Reveals: Workers' Rights in Bangladesh and Garment Supply Chains.” Georgetown Journal of International Affairs, September 3. https://gjia.georgetown.edu/2020/09/03/what-the-pandemic-reveals-workers-rights-in-bangladesh/

Samour, Sobhi. 2020. “Covid-19 and the Necroeconomy of Palestinian Labor in Israel.” Journal of Palestine Studies, 49(4): 53-64