داخل الدوّامة
banner_copy.png
هل من المنطقيّ الطلب ممّن هم في عمق الدوّامة التفكير بكيفية الخروج منها وتدوين أفكارهم بشكل مترابط واضح صالح للنشر؟ هل هذا أمر قابل للتحقيق عملياً؟ هل هو إنساني؟ فرَضَ العمل على الملف الحالي خلال الأشهر الماضية وحتى اللحظة هذا النوع من الأسئلة الضاغطة المشكّكة بجدوى كلّ ما نفعل.
فريق عمل نصفه في بلد يشهد أكبر انهيار اقتصادي في تاريخه (لبنان) ونصفه الآخر خارج الحدود يحمل ثقل هذا الانهيار مضاعَفاً مُكبَّل متوتر عن بعد، طرحنا في عزّ أزمة عالمية بائسة على أشخاص مطحونين من بلدان مأزومة اخرى، تساؤلات حول كيفية الخروج من هذا الواقع المأساوي… هل فقدنا صوابنا تماماً في فريق التحرير؟ هل كان الموت قريباً جداً فأطلقنا نداءنا مدفوعات بغريزة البقاء؟ أم بواجب الانتفاض لاستعادة كلّ ما سُلب منّا ويقيناً منّا بأنه علينا الانقضاض لتغيير المسار القائم كفعل ممارسة نسوية كويرية؟
حسناً.
كيف أتواصل من لبنان مع الكاتبة في السودان ومواعيد انقطاع التيار الكهربائي في بلدينا متضاربة؟ ماذا أقول لمَن تأخّرن في الردّ على الرسائل وهنّ موجودات في العراق أو في سوريا أو في الهند؟ رسالةٌ مطَمْئنة على أحوالهن هي جلّ ما قد تطمح إليه بعد اختفائهن فجأة. أردتُ أن أتكلّم لساعات مع عدد من عاملات المصانع والنقابيات في بنغلادش، أن نسجّل الحوار ونبثّه على موقعنا، لكن كلّ عراقيل الدنيا التقنية والنفسية والوبائية تدخّلت لتحول دون ذلك.
نشتغل وسط ظروف عمل هدّامة في جنوبٍ منهَكٍ منهِك منذ ما قبل أزمة كورونا وتداعياتها المُلقية بثقلها على حياتنا حتى اللحظة. الوضع المأزوم الذي أنتجته الرأسمالية العالمية كان مستفحلاً قبل انتشار الوباء وخلال عام 2019 شهدت مدن وبلدان عديدة تظاهرات عمّالية وتحرّكات احتجاجية وإضرابات حول العالم شمالاً وجنوباً نادت معظمها بأسس جديدة للحياة والعمل والمجتمع انطلاقاً من واقع أننا "نحن الـ 99٪ ولسنا بخير". لكن خلال العامَين الماضيين تكثّفت التجارب السلبية على الصعيد الفردي والجماعي وحُشرت الطبقات المسحوقة مجدداً في الزاوية: الموت بعدوى أو الموت من الجوع، حجر صحّي أو صمت وعزلة وتعنيف واكتئاب؟
ليست هي المرّة الأولى التي نصرخ فيها "يجب أن ينتهي كلّ هذا الآن، ماذا نفعل؟"، نقيّم ونراجع تجاربنا السابقة، نرفض ونواجه ونُسحَق وننهزم ثم نرفض ونواجه مجدداً. وبعد؟
تأخّرنا في الانطلاق بالملف وتأخّرنا في الصدور، لكننا كتبنا ورسمنا وتحايلنا على تقطّع شبكات الاتصال وناقشنا قضايانا متحرّرات من عبء تقديم الإجابات الحاسمة والبدائل الجاهزة، حفرنا خرماً في عزلتنا واطمأنينا على أحوال بعضنا البعض، وكان هذا الأهمّ. وَضَعَت المشاركات قلوبهنّ في موادهنّ، تجارب شخصية تروي كيف فكّرن ببناء عوالم موازية أهدأ وسط الخراب، كيف عاينَّ الخلل في كلّ الأنظمة المحيطة المتداخلة حتى في حلقاتها الأضيق وكيف حاولن تغيير واقعهنّ هدماً وبناءً ونقداً واشتباكاً. الغضب موجودٌ واليأس أيضاً ومحاولات الهروب مستمرّة كما الإصرار على البحث، هكذا قالت كلماتهنّ.
مَن يدري؟ قد تأتي الإجابات على شكل نقابات وتيارات راديكالية تتعارك مع من يدّعون الدفاع عن حقوق العمّال والعاملات والمنبوذين والمنبوذات أو على شكل انتفاضة فلسطينية كانتفاضة أيار/ مايو الماضي تعيد لنا أنفاسنا وتعيد الروح للعمل المقاوم ولقضايا التحرّر الوطني. مَن يدري؟ ربما ما فعلناه في الأشهر الماضية وما تغلّبنا عليه ولو جزئياً، ليس فقداناً تامّاً للصواب؟