"الأكتيفيسم" وشيطنة العمل السياسي: مشاهدات من "17 تشرين"

السيرة: 

خرّيجة كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية. عملت في الصحافة المكتوبة والرقمية في لبنان. مهتمّة بالسرديات المعادية للهيمنة وبالشؤون النسوية والعمّالية.

اقتباس: 
ريم طراد. ""الأكتيفيسم" وشيطنة العمل السياسي: مشاهدات من "17 تشرين"". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 7 عدد 2 (05 نوفمبر 2021): ص. 2-2. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 28 مارس 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/318.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.

picture_1.png

تحرّك وشعار لم يقوَ عليهما "الأكتيفيسم": لافتة تحمل شعار "الوطن للعمّال، تسقط سلطة رأس المال" رفعتها مجموعة من "قطاع الشباب والطلاب في الحزب الشيوعي اللبناني" بعد اقتحام الاتحاد العمّالي العام لتذكيره "بمهمّته وواجبه بأن يكون سلاح العمّال". (تشرين الأول/ أكتوبر 2019، تصوير حسين بيضون، "العربي الجديد") 

أجلس في القاعة مع أكثر من عشرين شابّاً وشابّة خلال ورشة عمل في ألمانيا. تهدف الورشة إلى جمع الشباب من بلدان مختلفة للخروج باقتراحات "من أجل بناء السلام وحلّ النزاعات في العالم"، وذلك بمناسبة مرور مئة عام على نهاية الحرب العالمية الأولى. بعد سلسلة من ورش العمل، تُرسَل الاقتراحات التي خرج بها المشاركون إلى الرئيسين الألماني والفرنسي "كمقترحات للتنفيذ من شأنها أن تساهم أو تؤدّي إلى السلام العالمي".

ذروة "الأكتيفيسم"، الأبيض منه تحديداً المُصدَّر شكلاً ومضموناً إلى بقاع مختلفة من العالم، مؤتمرات وورش عمل توهم الشباب بأنّ صوتهم مسموع وبأنّ رأيهم مؤثّر في قرارات "بناء السلام". حتى أن معظم هؤلاء قد يخرجون من تلك الورش باكتفاء ذاتي: لقد قمنا بما يتوجّب علينا لجعل هذا العالم مكاناً أفضل.

لم يكن عنوان "بناء السلام وحلّ النزاعات" بحاجة إلى كلّ تلك الاقتراحات، وهو بالتأكيد ليس بحاجة إلى الحلّ الذي اقترحه الشاب الأوروبي المشارك في الورشة والذي اقترح "تقوية حلف شمال الأطلسي (الناتو)". ما الذي نحتاجه لنبني السلام العالمي؟ أن نوقف الحروب، الامبريالية، الرأسمالية، أن نضع حدّاً للسياسات الاستعمارية وسياسات ما بعد الاستعمار وكلّ ما أفرزته النيوليبرالية المهيمنة على مجتمعاتنا وما فرضته في السياسة والاقتصاد على "الدول الفقيرة/ الضعيفة". دعم الأنظمة القمعية، الشركات متعددة الجنسيات، والجمعيات غير الحكومية، تشكّل بعض مفاصل ديناميكية الهيمنة تلك. الجمعيات غير الحكومية مثلاً، غالباً ما تفرض أجنداتها على المجتمع، معزّزةً نظرة المموِّل التلصّصية على "زبائنه". والأخطر، أنها تخلق سطوةً لـ"الأكتيفيسم" النيوليبرالي الفردي بديلاً عن النضال الجماعي، ما يجعلك تصدّق في كلّ مرة تتبرّع فيها بدولار لجمعية خيرية ما، أنك فعلاً "ستغيّر حياةَ طفلٍ في أفريقيا".

لبنان ليس استثناءً، وانتفاضة ١٧ تشرين الأول/ أكتوبر 2019 بيّنت مدى سطوة الخطاب المعادي للعمل السياسي وشيوع الممارسات التي تشيطن السياسة وتزدريها. ففيما شكّلت هذه الانتفاضة نقطة تحوّلية في الوعي السياسي لدى الكثيرين، عزّزت أيضاً وعياً سطحياً حول العمل الثوري جعل من العديدين يكرّرون شعار "أنا قائد الثورة".

 

1 بالإضافة إلى تشويه منطق العمل السياسي، تصبّ شيطنة التنظيم أيضاً في صلب الثقافة الليبرالية. بذلك، يصبح الفرد صانع التغيير لوحده عبر تبرّعٍ أو تطوّعٍ أو حتى بمشاركة بوست على "فيسبوك". تتعزّز كذلك النظرة الرومنسية تجاه الثورات والتغيير كعمل أنانيّ سهل، بدل أن يكون نضالاً جماعيّاً تراكميّاً متفانياً.

 

2 إفراغ العمل السياسي (الانتفاضة) من الفعل السياسي بما في ذلك المفاوضة والتنظيم والقيادة (ليس بمعناها الاختزالي الذي سمح لأشخاص أن يفوّضوا أنفسهم تمثيل الناس)، يولّد شعاراتٍ سياسية مجرّدة من السياسة.

 

3 حتى المطالب السياسية، تتلوّن بصبغة ليبرالية "إصلاحية" تعيد إنتاج النظام لنفسه تحت وَهْم التغيير وخديعة الديمقراطية البرجوازية.

 

4 تترافق اللاسياسة مع اللاعنف من حيث ابتداع وسائل اعتراض مُستنسخة أو استحضارها والتغنّي بها كـ"صورة حضارية" للانتفاضة. لكن مَن يحدّد معايير "التحضّر" وما الذي تعنيه تلك الجملة؟ أليست المطالبة باللاعنف في وجه عنف السلطة السياسي والأمني، رهاناً خاسراً سلفاً؟

 

5 تضع الثقافة الليبرالية هذه الممارسات في قالب المساعي الجدّية للتغيير فيما لا تعدو كونها مظاهر ثقافوية معاصرة تحتكرها نخبة معيّنة من المجتمع، تحيد عن فهم طبيعة وجوهر الصراع كصراع طبقي، وتغرّر الناس ببديل كاذب.

 

6 كذلك تتناسى "السلمية" أو الـ pacifism موقع الأطراف من الصراع فتساوي غالبًا بين المعتدي والمعتدى عليه تحت راية السلام. وهذا يعني، تَذَلُّل المعتدى عليه للمعتدي بغية إحقاق العدالة من أجل هدف السلام الأسمى. وفي هذه المعادلة، غالباً ما يأتي السلام لصالح المعتدي ووفق شروطه هو. تُسطّح المطالبات السلمية الطوباوية، عن خبث أو عن جهل، طبيعة الصراع وجوهره لتجعل من تحقيق العدالة عملاً فرديّاً أيضاً.

 

7 في الثقافة الليبرالية كلّ شيء ممكن. يمكنها مثلاً أن تعيد تقديم (Rebranding) مصادر القمع، كالسلطات الدينية، على شكل إنجازات ومظاهر فخر وتغنّي. التغنّي برجال المؤسسة الدينية كرموز لـ"العيش المشترك" في ثورةٍ، لو حدثت فعلياً، لكانت جزّت جذور السلطات الدينية كإحدى ركائز النظام الأبوي القمعي للمجتمع والضامنة لاستمرارية المنظومة الحاكمة والمستفيدة منها.

 

8 يتغذّى "الأكتيفيسم" الليبرالي على بيع الوهم وتحميل الآخرين ذنوباً شخصية لأنهم لم يتبرّعوا بدولار لإيقاف مجاعة ولم يثوروا ليغيّروا واقعهم في الشوارع أو عبر صناديق الاقتراع. تتفشّى في لبنان مقولة "ماذا ينتظرون ليثوروا؟"، والتي تحمل في طيّاتها واقع انتظار البرجوازية أن تثور الطبقة العاملة عنها لتحقّق إصلاحات تناسب موقعها الطبقي وتعزّزه (المزيد من السياسات النيوليبرالية، كالخصخصة مثلًا).

 

9 هكذا تسحق الرأسمالية القضايا بتحويلها إلى مادة ربحية، إعلاميّاً أو تسويقيّاً أو انتخابيّاً. تحوّل المأساة إلى وسيلة للكسب. تبرّئ فيها بخبث المعتدي عبر تذنيب ولوم الضحايا. تماماً كما يفعل ويقول الناشطون المناخيون/ النباتيون الليبراليون، فيصبح التغيّر المناخي نتيجة "طمع البشر" أو "تزايد الاستهلاك" وليس نتيجة سياسة الشركات الربحية التي تتلاعب بالأسواق وتراكم الأرباح عبر استغلال العمّال والاستيلاء على الموارد الطبيعية والحيوانية.

 

10 من أبرز أدوات "الأكتيفيسم" والجمعيات غير الحكومية تجزئة النضالات، وسلخ القضايا عن علاقتها بالنظام الرأسمالي كمحتّم لكل الأمور الأخرى التي تدور في فلكه. فتصبح قضايا حقوق النساء أو القضايا الكويرية أو المناخية مثلاً قضايا قائمة بذاتها ولذاتها لا تتقاطع مع بعضها البعض، وسرعان ما تنجرّ إلى التسليع وإلى فخ التمثيل (representation) من دون أي سعي لتغيير حقيقي.

 

11 تسليع النضال يخلق أصناماً كـ"قبضات الثورة"، ويفرض بالقوة مصطلحاتٍ كـ"الثورة" على التحرّكات ويحمّلها أكثر مما هي عليه إرضاءً للإعلام، خدمةً للسياسة، وتلبيةً للإيغو. وهذا بحدّ ذاته فخّ من أفخاخ النظام، يجعلنا نظنّ مرة أخرى بأننا "قمنا بما يتوجّب علينا لجعل هذا العالم مكاناً أفضل".

 

  • 1. جدارية تحمل شعار "أنا قائد الثورة"، الذي استخدمه البعض خلال تحركات 17 تشرين/ أكتوبر، مع رسومات لمجموعة أشخاص تتبنّى الشعار. (تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، تصوير نبيل اسماعيل)
  • 2. لافتة تحمل شعار "لا قيادة للثورة الشعب يطالب ولا يفاوض" من مسيرة في طرابلس. (تشرين الأول/ أكتوبر 2019، تصوير ابراهيم شلهوب، "أ.ف.ب")
  • 3. لافتة لشعار "لا ثقة! نعم لانتخابات نيابية مبكرة"، خلال تحرّك في ساحة ساسين في الأشرفية. (شباط 2020، الوكالة الوطنية للإعلام)
  • 4. جزء من "سلسلة بشرية" نُظّمت من شمال لبنان إلى جنوبه ضمن التحركات في "17 تشرين". (تشرين الأول 2019، من الويب)
  • 5. احتجاجات سلمية عبر "تمارين يوغا" على جسر الرينغ في بيروت. (تشرين الأول 2019، من الويب)
  • 6. شعار "دولتي فعلت هذا" الذي كُتب على حائط مطلّ على مرفأ بيروت بعد انفجار 4 آب 2020، طُلي بالأبيض من قبل إحدى عضوات جمعية "التواصل اللاعنفي" وذلك "تمهيداً لنشاط دعت إليه الجمعية يتضمن أن يَرسم ذوي ضحايا الانفجار على الحائط بشكل لا يتعارض مع مبدأ التواصل اللاعنفي". (هنا توضيح العاملة في الجمعية، نيسان 2021 https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=10157735402496856&id=590866855)
  • 7. رجال دين من طوائف مختلفة يمسكون أيدي بعضهم خلال الاحتجاجات في وسط العاصمة بيروت. (تشرين الأول/ أكتوبر 2019، تصوير جاد غريب)
  • 8. لافتة تحمل شعار "الشعب قرّر. التغيير بلّش" ضمن سلسلة لافتات أخرى في سياق الحملات للانتخابات النيابية المقبلة في عام 2022. (تشرين الأول/ أكتوبر 2021 تصوير ريم طراد)
  • 9. إعلان لحقيبة يد ضمن مجموعة حقائب أخرى صنعت من زجاج انفجار مرفأ بيروت. سُحِبَت الحقيبة من البيع لاحقًا بعد الجدل الذي دار حولها. (كانون الأول/ ديسمبر 2020)
  • 10. غلاف جريدة "النهار" اللبنانية التي نشرت نصّ النشيد الوطني اللبناني معدَّلاً وذلك بإضافة كلمة "للنساء" على إحدى جمله لتصبح "منبتٌ للنساء والرجال"، ضمن حملة مشتركة مع وكالة إعلانات شهيرة "إكراماً للأنثى في الثورة والحياة ويوميات الإنسان منذ ولادة البشرية"حسبما أعلنت الصحيفة. (تشرين الأول/ أكتوبر 2019)
  • 11. لائحة علّقت في وسط بيروت خلال تحرّكات 17 تشرين/ أكتوبر وفيها "قوانين الثورة والممنوعات" مثل "منع الخروج عن مطالب الثورة المتّفق عليها" ومنع "الشتائم والكلام السوقي". (تشرين الأول/ أكتوبر 2019، تصوير ريم طراد)
ملحوظات: