الدوران: منهجية

السيرة: 

غوى صايغ كاتبة كويرية آناركية، وناشرة مستقلة ومؤرشفة. هي المحرّرة المؤسِّسة لمجلّة "كحل" ومؤسِّسة شريكة لـ"منشورات المعرفة التقاطعية". حصلت على ماجستير في الدراسات الجندرية من جامعة باريس 8 فينسين - سانت دينيس. إنها شغوفة بنظرية الكوير، والمنشورات الدورية العابرة للحدود القومية، والتاريخ المتخيل أو المجهول. أودري لورد وسارة أحمد هما ملهمتاها.

صبيحة علوش محاضرة في سياسات الشرق الأوسط بجامعة إكستر. يهتمّ بحث صبيحة، عموما، بسدّ الفجوة بين الكتابة الأنثروبولوجية والتحليل السياسي. تتموقع صبيحة، بطريقة أساسية، في الدراسات النسوية والكويرية. يتناول عملها المناهج النسوية للعنف والصراع والهجرة والحراك الاجتماعي. تكرّس صبيحة نفسها لإنتاج المعرفة المنهية للاستعمار ولإعادة النظر في الأنظمة الجندرية والجنسانية في منطقة الشرق الأوسط فيما يتجاوز الإطار النظري الأوروبي. لها منشورات في مجلة دراسات النساء في الشرق الأوسط والمجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط.

 

اقتباس: 
غوى صايغ، صبيحة علوش. "الدوران: منهجية". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 6 عدد 3 (14 ديسمبر 2020): ص. 275-279. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 28 مارس 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/258.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (268.66 كيلوبايت)

theod1_copy.jpg

نجمة تنثر جلدها

تيو لوك

هذا العدد، كما المسارات التي تتبعها "كحل"، هو صنيعة حبّ سياسيّ. فهو يستمدّ المواساة والالتزام والإصرار من الجذور العميقة والعابرة للمحيطات للصداقات التي تتحدى الحدود الجبريّة ومعاملات التأشيرات ووقتنا الحاضر.

فالوقت المسلّع والمصمَّم لخدمة الاقتصادات العالمية، والتي تتطلّب التزامًا حدّه الأدنى 8 ساعات في اليوم، 5 أيام في الأسبوع، و52 أسبوعاً في السنة، فقط من أجل تبذير جهودنا على ضرائب لا تحصى وديون ورساميل مُعاد تدويرها، لا زال حتمًا إلى جانبنا.

لا تضيع لحظة من الزمن، وإن بدت عابرة. فعندما تمرّ ثانية من الوقت في بيروت، يعيد إحياءها صديق/ة في مكان ما في فلسطين، القاهرة، لندن، كيتو، أو لاهور.. مع مرور كل ثانية، ننثر صخبنا عبر العالم. نقول لا "للظهور/ الخروج من الخزانة" وللنسوية المستثنية للعابرين/ات. مختبؤنا ليس مغلقًا/ منغلقًا. كما أنّنا نشكّك في مسألة "الأصالة"، ونتبنّى مقابل ذلك زعزعة مفهوم الطبيعي والسوي. نعيد كتابة البهرجة (campiness) كخيال متوارث. ونرى في انتحار الرجال المهاجرين الشباب تمرّداً يخرّب البنى الأبوية للمقاومة الرجولية. رفيقاتنا هنّ عائلتنا – عظامنا ودماؤنا.. وكلّ شيء. نحن نفهم العبور كانتقال في الفكر والجغرافيا والجسد. ونعيد صياغة مستقبل لنا عبر تفكيك الأسى وترميزه من جديد.

عندما التقينا في أوتيل لا بأس به في بيروت قبل عام على كتابة هذه الافتتاحية، لم نكن نعلم ما تخبّئه لنا الأيام القادمة. بالإضافة إلى كوفيد-19، تعرّضت بيروت لأمّ الانفجارات، كما يقال، في آب 2020. فتبعثر معظمنا حول العالم، نحن اللواتي تواطأنا معًا وأردنا إبقاء مقرّ "كحل" في بيروت الحبيبة.

أقرأك، صبيحة، وأسأل لمن هذه الافتتاحية؟ من هم/ن الذين/ اللواتي نريد أن يقرؤونا؟ أجلس بصحبة 6 سنوات من "كحل"، والزمان، والمكان، فيما تتصل وتمتزج حدودهما الزمنية. أراك مربّعًا في أعلى شاشتي، وأرى شعرك الإدواردي وأكواريوم السمك، ولكن عليّ أن أصدّق أنّك هناك، في مكان ما في فالماوث، المملكة المتحدة. أمّا أنا، أستند إلى كرسي "مريح"، في ما يسمّونه ضاحية باريسية. أفكّر في أخواتي في بيروت، وأتخيّل حياتهن في مكان بهذه الكثافة الحيّة، أفكّر بالقهوة المتبخّرة على النار، وصوت الأبواب التي تدعوني لدخول منازلها، وكثافة الضوء على شرفاتهن، كما لو أنني لم أمضي أبدًا. بطريقة ما، لم أرحل/ نرحل؛ نعود باستمرار إلى تلك اللحظات كخطوط حياة، ومضات تربطنا بوجودنا السياسي. ونأمل أنّ رسم خرائط هذه اللحظات سيزوّدنا بما يكفي من القوّة لتجاوز صدماتنا الجمعية والمتوارثة، إلى أن نكتشف أن ذلك أيضًا ما هو إلا فعل الصدمة.

كان يمكن لهذا العدد أن يكون الأول في "كحل". وأسأل نفسي، لماذا لم يكن العدد الأول؟ كان لدينا القدرة على الفرح، لنثور غضبًا على العالم ووسائل إنتاجه كما لو أننا سنغيّرها. ولكن، بطرق أخرى أيضًا، أشعر أن هذا العدد هو استكمال للرؤية السياسية، وتتبّع لخطوط الحياة في مواجهة الصدمات، مجددًا. يجسّد هذا العدد الكويرية النسوية ليس بسبب شكله الملموس، بل نتيجة الزمان والمكان اللذان لاحقاه. كان ذلك في بيروت في تشرين الثاني/ نوفمبر-كانون الأول/ ديسمبر 2019، وكنّا على وشك تغيير العالم، ننثر تعاويذنا في الداخل وفي الخارج وفي الشوارع، وأيضًا في قاعة المؤتمر في الأوتيل المطلّ على المنطقة الصناعية للمرفأ.

ربما كانت حاسّاتنا السادسة الكويرية، طريقتنا الخاصة لمعرفة ما سيحصل، هي من قادنا للاجتماع معًا قبل شهر من تغيّر الحياة نتيجة كوفيد-19. التقينا في أوتيل في بيروت عشية انطلاق موجات الإغلاق ومنع السفر والشوارع المهجورة والسياسيين المتوترين.

كنّا على وشك تأجيل هذه الورشة. تقنيًا، كنّا ملتزمات بالإضراب، تماشيًا مع مطالب الثورة. ولكننا لم نكن أبدًا "مؤسسة" بالمعنى الحقيقي أو الرسمي للكلمةكنّا دائمًا على هامش الاحترامية. لكن، شوّشت ورشتنا بشكل ما على الوضع القائم. فعقدناها بكل الأحوال.

خلال 5 أيام، تطرّقنا إلى الذاتيات الكويرية بكل تفاصيلها. شعرنا بالحبّ. كنّا الحبّ. و"كنّا اللحظة"، كما قالت سارونا.

صمّمنا طاولة الاجتماع كما تمنّيناها أن تكون في أوقات كثيرة لم نكن نحن المنظِّمات فيها، لأننا عرفنا أن ما من أحد سيجعلها تبدو كذلك سوى نحن. لكلّ واحدة منّا بقيت هناك، في بيروت، نرثي من دون علمنا تلك الطاولة كلّ مرّة نقف فيها في صفوف الانتظار في البنوك وفي السوبرماركت ومحطات البنزين. الاقتصادات النيو-ليبرالية التي تحيط بنا ما هي إلا خدعة، وعندما نطالب بإسقاط النظام، نعلم، حتى لو لم نبُح بذلك لبعضنا البعض، بأننا سندفع الثمن. فالنظام قبل أن يسقط، سيسحب كل ما لدينا ويحبسنا في محاولاته الشريرة للبقاء. فتبعثرنا، كما تبعثرنا في الرابع من آب. لكن خلال تلك الورشة، كنّا نحن اللحظة؛ كلّ ما قبلها قادنا إليها، وكلّ ما بعدها يعيدنا إليها. مرّة تلو الأخرى. ننسى عندما نكون في قمّة السعادة للحظات قليلة أن الوقت حلقة وأننا أمواجها.

وثّقنا ورشتنا ومساهمات أخرى في عدد "الكويرية النسوية" هذا. شكّل التنظير والترميز والفهرسة والتجوال والتأريخ وإعادة الاكتشاف ومحاولات الكتابة وسائل إنتاجنا لتوثيق جسدنا/ أجسادنا. كانت تلك الوسائل الأعمدة التي بنينا عليها هذا العدد. لا نميّز ولا نقلل من قيمة مقالات الرأي بالمقارنة مع النصوص النظرية. نكتشف منطقتنا كما اكتشفناها في طفولتنا وسنوات مراهقتنا، ولاحقًا مع مرور الوقت. نشبه منطقتنا. ونجد، كما في مختبأ أحمد، التوكيد في المساحات العنيفة التي في منطقتنا: الشارع، العائلة، الجيران الثرثارين، غرفة نومنا، وبنى الدولة. منطقتنا هي مصدر كتابتنا. وهي ليست متلقيًا سلبيًا للنظرية/ النظريات التي تنتظر التطبيق.

لكن الأهم، أن هذا العدد بالنسبة إلينا، يلخّص مسارات "كحل" تمامًا: نعيد ترميم الحكايات الضائعة، ونواسي الأجساد المعزولة، ونتطلع نحو مستقبل يغذّي مخيلاتنا الكويرية الجذرية. نبني عالمًا لنا ومنّا، حيث ننزع المركزية عن الدولة والبطاركة. ونختبر حدود الأمل أمام المنطق والبراهين.

في هذا العدد، نأتي كدائرة مكتملة. أردنا أن

نمحو الأسطورة عن مركزية أوروبا، وأردنا أن نسأل من وما الذي يجعلها مركز العالم، مركز مناهجنا الدراسية، وأساليب حكمنا ونسبنا، وعملتنا، وذوقنا، والأشجار والبذور التي نختار زراعتها. فعندما نفهم الأبيض كنمط هيمنة على الوجود والرؤية ونشعر أن العالم يسير وفقًا لمحدّدات تطوّر واستهلاك هائل ترتكز إلى أوروبا، وتتنكّر غالبًا بخطاب التنمية النيو ليبرالي، نصبح على يقين أن أوروبا سلبت كلّ مكان وكلّ ثغرة وكلّ مورد.

لكننا لن نقع مجددًا في فخ الأبيض كأساس ومصدر ورائد، ولا بأننا في موقع الهامش والتابع والمتأخّر عن الالتحاق باللعبة. نحمل تاريخنا في أجسادنا. وفي الوقت نفسه نقاوم تسلية شبح أوروبا البيضاء، حتى وإن جلس على طاولاتنا من دون دعوة.

لذا، نحن دائرة مكتملة في هذا العدد. أردنا أن نسيطر على وسائل الإنتاج لننظّر بشأن حياتنا الكويرية؛ أردناها "حقيقية" عبر جعلها مرئية، عبر ترك أثر، فتتبّعنا الآثار التي تركها لنا الزمان والمكان. نقرأ عن نضالات غيرنا في أزمان وأماكن مختلفة، وننسى أنهم/ن عاشوا في داخلنا؛ كانوا جزءًا منّا، وكنّا جزءاً منهم/ن. لهذا عُدنا إلى حياتنا الكويرية كنظريةتلك الحيوات التي تخرّب النظرية الكويرية بلا-مقروئيّتها. لم نعد نريد ما بُني من خلال محونا؛ نريد أن يكون الكويري بحدّ ذاته/ا وسيلة الإنتاج، النظرية، والأكاديمية.

ولذا، عملنا كدائرة مكتملة في هذا العدد، وتقبّلنا تصدّعاتها. ومن ثم حُجرنا و م  د  د  ن  ا حدود الوقت، و  أ  ب  ط  أ  ن  ا أنفسنا. بعد أيام قليلة على انفجار بيروت، انتقلتُ إلى فرنسا، وتولّت صبيحة المتابعة فيما يخص الورشة خلال شهر آب. بعد ذلك، أصبح الواتساب عبارة عن تدفّق من رسائل كـ: "ماذا حصل مع فلان/ة.." و"ماذا عن.." و"هل هناك أخبار عن.."، بينما كنت أتنقّل بين مداخلات الورشة والنصوص التي تلقيتها، والتي غالبًا ما كانت تقاطعها عمليات نشر أخرى، دراسة، عنصرية فرنسية، مهمّة إدارية، البيروقراطية الفرنسية، إغلاق آخر، اضطراب ما بعد الصدمة، وعبء اللا-استقرار. آلياتنا الداخلية تدور حول بعضها: أرسل نصّاً إلى هبة، فترسله بدورها إلى المترجمة. تتلقّاه من جديد، ومن ثم ترسله إلى صباح، التي ترسله إليّ، ومن ثم إلى صفا، التي تجد له مكانًا في العالم. ومن خلال فعل العجن هذا، نعطي حياة للتواريخ التي تعيش فينا.

بيد أن هذه الحلقة ليست حلقة شريرة. إنّها محاولة، وربما محاولة فاشلة، للابتعاد عن الدوافع غير النافعة في عالمنا المعاصر، والتي تدور إلى ما لا نهاية، لكنها لا تصل أبدًا إلى السعادة الوهمية التي تبشّر بها الرأسمالية.

الدوائر أصبحت منهجيتنا: أنا/ نحن أريد/ نريد التوثيق ممارسة مولودة من دوائر راسخة. أنا/ نحن نريد أن نتخلّص من المقدّمات التي تبدأ والخلاصات التي تنتهي والمنهجيّات التي تتبع معايير "أخلاقية" أصبحت مبادئ توجيهية، لأنه بشكل ما كان مقبولًا أن يُدرّس ناس مثلي/ مثلنا كما لو كانوا أشياء. ولذلك، هم/ن

الدول، البطاركة، الأطباء، المدراء

اضطرّوا أن يضعوا في الكتب أنّه ما من مجال للتعامل مع مواضيعهم، وفكّروا وصمّموا وطبعوا ووزّعوا مؤلّفات مستخدمين الموارد التي أخذوها من الجنوب، منّا.

يعكس الشعر والترميز والأعمال الظرفية أيضًا المنهجيات المتشابهة التي تتيح لنا إيجاد الترابط والاتساق في سردياتنا الكويرية.

تبدأ نصوصنا من صلب مشاهداتنا، وتتخذ كويريتها من حيواتنا الواقعية منها والمتخيّلة والسحرية أيضًا. وهي إذ تدرك إتجاهها وتتشتت في آن واحد، تتبع حركة عبورنا وتكسر الرموز التي قالوا لنا إنها الطبيعي. فيما بعد، يصبحون على الورق عندما تتحول المشاهدة إلى رؤية وعندما يكون مسار إنتاجها مغلّفًا بالفرحليس بالمعنى الرأسمالي، بل انطلاقًا من تحرّرنا الجمعي، وأجسادنا التي تصير مصدر تعطيل لهذا النظام، وتصدّعات أوقاتنا وشكل صفحاتنا إلى أن تندمج مع بعضها البعض، من جديد.

قريبًا جدًا ستُبعث الحياة في خيالاتنا، وبذلك سنسقط لا محال، وسنتحرّر من، الاقتصادات الحالية التي تعيد بلا هوادة إنتاج اللامساواة، التدمير البيئي، الكوارث المالية، والمجتمعات الفردانية الكثيرة الاستهلاك. وفي حين أن هذه المفاهيم ليست ممثَّلة تمامًا في هذا العدد الخاص، نُبقي على الاحتمالات اللامتناهية للفضاءات المتخيّلة. نفعل ذلك عبر اتباع المكان، الاستهزاء بالحقائق، نسرق نظرة من هنا وابتسامة من هناك، وأحيانًا بسكويتة. نجمع جسدنا الذي يومًا كان متشظيًا باسم العلوم والتفكير المنطقي. العقول والقلوب والشعر والبطون والأيادي تصبح واحدة. كلّ منّا وكلّنا نفعل تفكيرنا وشعورنا.

فرحُنا مولود من الـ "أنا" التي تشرح نفسها/ نفسنا من أجل "نحن".

أجسادنا هو/ هم الأرشيف، والآن-هنا هو قصّته /قصصه.

 

ملحوظات: