تحدي الإنتاج المعرفي، مرتين: بحث العمل التشاركي النسوي وفعاليّة النساء المهاجرات
ناشطة نسوية فلسطينية، مترجمة، ومدّونة على suhmatiya.wordpress.com، مقيمة في بيروت. تخرّجت بإجارة في العمل الإجتماعي والتنظيم المجتمعي من الجامعة اللبنانية الأميركية عام 2016. تعمل حالياً كمنسقة الخط الساخن للجنسانية في مشروع الألف، جمعية معنية بشؤون الجنسانية والجندر والعدالة الإنجابية، كما أنها عضو في تعاونية الضمّة النسوية.
4.jpg
مقدمة
ضمن نطاق مشروع التحالف العالمي ضد الإتجاربالنساء (GAATW)، "الهجرة الآمنة والعادلة من منظور نسوي"، تعمل حركة مناهضة العنصرية (ARM) مع "ميسيوات"/Mesewat، وهي مجموعة من النشطاء من العمال المهاجرين الأثيوبيين، الغالبية منهم عاملات منازل مهاجرات،1 على مشروع بحث عمل تشاركي نسوي (FPAR). الأسئلة التي يطرحها المشروع هي التالية:
- كيف يؤثر نظام الكفالة الذي ينظم العمال المهاجرين على عمل عاملات المنازل والمهاجرات وحياتهن وسكنهن وتنقلهن في لبنان؟
- كيف بني النظام على الاستغلال الجندري والعنصري والاقتصادي والقومي الذي يسكت المهاجرين ويستهدف عاملات المنازل المهاجرات الناشطات والمنظمات المجتمعية؟
- كيف تستمر عاملات المنازل المهاجرات الناشطات بالتنظيم ضمن الدولة (والدعوة إلى إلغائها) وما هي التراكيب الإجتماعية التي تديم هذا الاستغلال؟
- كيف يمكن دعم التنظيم المجتمعي للمهاجرات ومطالبهن بحقوق حرية التنقل والعمل والتعبير والتنظيم واستقلالية الجسد من قبل النشطاء والمجموعات والجمعيات المحلية؟
قليلة هي التقارير التي تركز على أدوار الناشطات ضمن مجتمعاتهن، وعلى لوجستيات وتحديات وإنتصارات التنظيم ضمن نظام قمعي ومجتمع عنصري، وعلى الجوانب العاطفية والمجتمعية للتنظيم وعلاقة المجموعات الناشطة بهيئات الدولة، وبالجمعيات غير الحكومية والمجموعات الناشطة المحلية. في هذا المشروع، تعمل "حركة مناهضة العنصرية" مع "ميسيوات" للإضاءة على تلك الديناميكيات من أجل توثيق ومشاركة المعرفة من منظور الناشطات، كي يتم التنظيم لعمل مرتكز على البحث في النهاية. هذا النص هو بمثابة نظرة عامة على الشروط التي تعمل وتعيش ضمنها عاملات المنازل المهاجرات في لبنان، كما أنّه تأمّل عن كيفية تقاطع بحث العمل التشاركي النسوي مع فعّالية عاملات المنازل المهاجرات في طرق تتحدى الانتاج المعرفي الصادر من الدولة والأبحاث المكتوبة عن عاملات المنازل المهاجرات في لبنان (لكن ليس معهنّ أو من قبلهنّ). نظرا لكوني الباحثة الأساسية في هذا المشروع ولإمتلاكي خبرة في البحث في العلوم الإجتماعية، هدفي هنا هو إعطاء تأمّل مختصر عن كيفية مساهمة كل من المعرفة المرتكزة على التجربة والمعرفة المرتكزة على النظرية في إنتاج بحث غني وثمين وبنّاء. كُتِب النص بناءً على عرض قدمته في مؤتمر " مناهضة استعمار المعرفة عن الجندر والجنسانيّة" الذي نُظِم من طرف "مركز التنمية والتعاون عبر الأوطان" بالتنسيق مع مجلة كحل في 30 من شهر تشرين الثاني، عام 2018.
تعمل منهجية بحث العمل التشاركي النسوي نحو إستصلاح المعرفة وتسيير العمل بطرق نسوية، مما يعني أنّها تأخذ النوع الإجتماعي وتقاطعياته بشكل جدّي وتعطي الأولوية للأصوات المكتومة وتقدّر المعرفة والتجارب التي تحملها تلك التقاطعات. تركز أيضاً على البناء التعاوني للمعرفة والحركات، كما الخطاب النسوي المحلي، والالتزامات التشاركية مع البحث، والعمل حول النظريات المحلية للتغيير. هذا الأسلوب ينافس منهجيات البحث التقليدية التي تدّعي إمتلاكها للمعرفة. هذا ما يحصل عادةً عند استخدام سرديات المشاركين في البحث دون تصويرهم أو الإشارة لهم كمحل معرفة؛ عبر فرض تفسيرات مغلوطة عن تجاربهم لإنجاح أجندة بحث معينة؛ عبر معاملتهم كأدوات مثيرة للدراسة؛ أو عبر حصر نطاق البحث في الأكاديميا، مما يجعل الوصول إليها من قبل المشاركين/ات صعباً ودون فائدة.2 تنبع تلك الأساليب بشكل كبير من التاريخ الإستعماري للبحث النوعي، والذي تُرجِم كـ "باحثين" بيض وغربيين يدرسون "الآخر" – "البربري"، غير الأبيض، القبلي، و"غير المتحضر" – خلال الحقبة الإستعمارية. عبر إعتماد أسلوب بحث العمل التشاركي النسوي، نأمل أن نساهم في البحث الذي يتحدّى تلك الممارسات، أولاً عبر الاعتراف بأن المعرفة هي الأثمن عندما يتم التشارك في إنتاجها، وثانياً عبر السماح للمنهجية بإعطاء مساحة لذلك الإنتاج، وثالثاً عبر جعل البحث مفيداً للمشاركين أنفسهم.
في هذا البحث بالتحديد، تحاول "حركة مناهضة العنصرية" فهم الأبعاد النظرية والعملية لكيف وأين تقابل الدولة فعّالية عاملات المنازل المهاجرات. كما أننا نحاول أن ننظر على كيفية تنقل عاملات المنازل المهاجرات، بالأخص عضوات "ميسيوات"، ضمن نظام مبني على إسكاتهن وكبح أصواتهن ومطالبهن. كجمعية نسوية تعمل نحو بناء الحركات والعدالة من أجل العمال المهاجرين، خاصة النساء المهاجرات والعاملات في المنازل، أحد أهداف "حركة مناهضة العنصرية" هو دعم التنظيم المجتمعي الذي تقوده عاملات المنازل المهاجرات. على هذا الأساس، نحن نقوم بالعمل على هذا المشروع إلى جانب "ميسيوات" من أجل مشاركة إنتاج المعرفة حول نظام الكفالة، مع النية بأن نفهم أهم الحاجات الطارئة لمجموعات هذا المجتمع من الجمعيات والمجموعات والنشطاء والناشطات الذين/اللواتي يساندون عملها.
السياق
تواجه عاملات المنازل المهاجرات والناشطات المهاجرات إسكات صريحا وضمنيّا مستمرّا من قبل الأفراد والمجتمع والدولة. تُرفض حقوقهن الأسياسية وحريّاتهن وحاجاتهن بإستمرار لأنها منظمة من قبل نظام الكفالة الذّي تديره مديرية الأمن العام. تخضع عاملات المنازل المهاجرات لكفالة فرد لبناني من حيث تصاريح إقامتهن وعملهن، وعليهن أن يوظفن من قبل الشخص نفسه فقط. غالباَ ما يتم كفالة مكان سكنهن أيضاً، فيعشن مع المُوَظِف تحت عقد عمل إلزامي، صارم وغير موحد. كما أنّه من الشائع للموَظِف أن يحتفظ بهوية العاملة ووثائق السفر خاصتها، فيقيد حريّتها في التنقل من خارج المنزل/مكان العمل إلى خارج البلد، حسب تفضيله.
كونهن مقصيات بشكل مقصود وصريح من قانون العمل (وزارة العمل، 1946، المادة 7) ذي الـ 73 عاماً، تحرم عاملات المنازل المهاجرات من حقوق العمل وشروطه الأساسية، مما يتضمن الحق في التجمع والتفاوض والتنظيم ضمن نقابة. تندرج مسؤولية الحكم على تلك الانتهاكات تحت سلطة الأمن العام الذي عادةً ما يعرض عن الحقوق الموحدة ويمنع الوصول الى العدالة، مفضلاً عامةً الإجتهاد بالحكم على الحالة. أي فعل يخالف الكفيل وسطوته يمكن أن يجرّم العاملة. الطبيعة "الإجرامية" لتلك الأفعال تحدد بالنهاية من قبل الأمن العام، ويمكنه تجريم أي فعل: من الحق الأساسي لترك المنزل/مكان العمل خارج ساعات العمل، للوقوع ضحية لأذى جسدي أو تعدّي عنيف إذا كانت العاملة غير مسجلة قانونيا (حركة مناهضة العنصرية، 2018)، لكون العاملة المهاجرة منظمة مجتمعية أو ناشطة تعمل على شروط عيش وعمل أكثر أمناً وعدالة للعاملات المنزليات المهاجرات في لبنان.
عاملات المنازل المهاجرات الناشطات قد بدأن وأصبحن نشطات ضمن حركات العدالة المحلية لأكثر من عشرة سنين حتى اليوم، ولطالما قوضن نظام الكفالة وتحديّنه، في صمت أو بصخب، في حيواتهن العملية والإجتماعية. بالرغم من ذلك، إذا رُفِعت المطالب أو شُعِر بالمقاومة، تواجه العاملات المهاجرات والناشطات (سابقا كما الآن) التجاهل أو العقاب أو التهكم أو التعدي أو التجريم أو الاعتقال أو الترحيل أو القتل. تلك هي الحالة لو كنَّ يواجهن المُوَظِفين أو الدولة، أو كنَّ يطالبهن بشروط عمل وأجور أكثر إنسانية أو إشمال في الأماكن الإجتماعية والعامة أو إلغاء النظام العنيف. تُقابل عاملات المنازل المهاجرات بعنف شديد على أيدِ الأفراد – الذين، عبر نظام الكفالة، يملكون سلطة من الدولة – كما على أيدِ مؤسسات الدولة التي تجرّم حريّة التنقل، بالإضافة الى التجمع والتنظيم والتفاوض الجماعي.
نظام الكفالة مبني على ويعيد إنتاج أفكار عنصرية وتمييزية حسب النوع الإجتماعي وطبقية وقومية عن المواطنة والحقوق والمشاركة السياسية. تُقابل المقاومة بالعنف لأن نظام الكفالة مبني ليواجهها. النظام مبني ليبرر لنفسه وينتج الانتهاكات، تحت غطاء سياسات عمل المهاجرين. تُجرّم مقاومة عاملات المنازل المهاجرات وفعّالياتهن لأن فعل ذلك ممكن، لأن موقعهن القانوني والمواطني، وبالتالي أعراقهن وجندرهن وأنواع عملهن، يصنفهن كمهاجرات وعاملات دون أي إمتيازات حتّى يتم اعتبارهن أكثر من ذلك. ذلك التصنيف الحازم يحرمهن من أي وصول للمواطنة والقوة السياسية التي يحتجنها لكي ينافسن تنظيم الدولة لإقاماتهن وأعمالهن وأجسادهن وحيواتهن. لذلك، عندما تُعتبر مقاومة سياسات الدولة (المقصود: انتهاكات الدولة) انتهاكاً (المقصود: تهديد)، يصبح الصوت تحدّيا عظيما للدولة.
تأمل
تجربة "ميسيوات" كمجموعة ناشطة تعرض كمّ التأثير المادّي لتلك الموازين واسعة النطاق على الأرض. عبر بحث العمل التشاركي النسوي، استطعنا أن نظهر تلك السرديات بطرق تذهب لأبعد من مجرّد التأمل بالتجارب. تعطي السرديات أساسا صلبا لتفكيك الطبيعة المعقدة للتفاعلات بين الدولة والفعّالية التي تقودها عاملات المنازل المهاجرات؛ من أجل المشاركة في بناء المعرفة عن المواطنة وقوة الدولة والعمل المقترن بالجندر والعرق والمقاومة؛ من أجل فهم حاجات "ميسيوات" من المناصرين/ات والمساندين/ات بشكل أدق.
كمنهج تأملي، يأخذ هذا المشروع الطرق التي يتقابل بها كلّ من بحث العمل التشاركي النسوي والفعّالية كي ينتجا المعرفة التي تمركز أصوات عاملات المنازل المهاجرات التي تسكتها الدولة، وعادةً الأبحاث، بعين الاعتبار. جلب الفعّالية الى بحث العمل التشاركي النسوي يسمح لهما ببناء البحث والعمل والنتيجة سويّاً وبمساندةً أحدهما اللآخر. بينما يؤخذ بحث العمل التشاركي النسوي بشكل جدّي كبحث أكاديمي ومنصة لانتاج المعرفة ونشرها، الّا ان سياساته النسوية الصريحة لديها إمكانية مسائلة التركيبات التي تحكم انتاج المعرفة أولاً، لأن تلك السياسات تتحدى أفكار "الموضوعية" في البحث. كما أنّها تعتبر المشاركين في البحث كمشاركين في إنتاج المعرفة أيضاً وليس كمواضيع تحليل.
خلال عملها، تسائل "ميسيوات" تركيبات الدولة التي تنظم أجسادهن وحقوقهن – التركيبات التي تعرّف الوضع الراهن وتتسرّب إلى تصرّفاتنا الاجتماعية وعلاقات عملنا وعقلياتنا الفردية. عبر ذلك، يمكننا أن نفهم المطالب التي تضعها "ميسيوات" (وغيرها من الناشطين المهاجرين) كمعرفة متداولة حول شكل نظام هجرة أكثر أمناً وعدالة. تُجسد تلك المعرفة يومياً عبر أفعال فردية من مقاومة وتنظيم مجتمعي وفعّالية اجتماعية صاخبة، ولكنها أيضاً محكية بشكل صريح عبر السرديات الحياتية والتأملات واقتراحات السياسات في سياق مشروع البحث هذا. المقصود عبر بحث العمل التشاركي النسوي هو فهم هذه المعرفة كمعرفة أولية عن شكل النظام وكيف يُختبر وكيف يمكن تحسينه. كذلك، يمكن للمشروع أن يعطي مساحة للمعرفة المأخوذة من تجارب "ميسيوات" لتتمركز ضمن حقل البحوث، متحديّةً القواعد السائدة للبحث في الأكاديميا.
عبر نقل المعرفة التي تغذّي الجانب "البحثي" لبحث العمل التشاركي النسوي إلى الجانب "العملي"، يمكن أيضاً للمشروع أن يصبح منصة لدعم "ميسيوات" في فعّالياتهم ضد الدولة. تُناقش الأفكار من أجل العمل خلال المشروع، مما يعطيها مساحة للتطور ضمن تلك الحوارات والمقابلات والمناسبات التي تم القيام بها خلال عملية البحث. من هذا المنحى، يمكن إستخدام منهجية بحث العمل التشاركي النسوي كتحدّي للدولة بحد ذاتها، تاركةً حقل الأكاديميا والبحث وممركزةً نفسها في العمل. لذلك، الفعّالية وبحث العمل التشاركي النسوي، العمل والبحث، يمكنهما مساندة بعضهما البعض في تحدّي التركيبات المختلفة التي لا تزال تنفي أصوات أولئك اللواتي يحملن معرفة قيّمة جدّا لأنها تُرى كتهديد للنظام.
بناءً على ذلك، يمكن لإدارة مشروع بحث عمل تشاركي نسوي في سياق الفعّالية أن يعمل كطريقة للتحرير من الإستعمارية على درجتين. أولاً، تشجيع الباحثين على مسائلة قواعد البحث المبنية على نماذج تنازلية (من الفوق إلى تحت) مستخرجة من عقلية إستعمارية. وتفعل ذلك عبر الترويج لأسلوب تشاركي يعيد تحديد دور المشارك في انتاج البحث. في هذا المشروع، على سبيل المثال، تأخذ المعرفة المنتجة من قبل "ميسيوات" عن نظام الكفالة والتنظيم ضده كتحدي ضد الطريقة التي تطبّع فيها الدولة تصنيف عاملات المنازل المهاجرات كمواطنات درجة ثانية. بالإضافة إلى ذلك، يجعل بحث العمل التشاركي النسوي من أصوات الناشطين أولوية – وهي أصوات لا تُمركز في البحوث عادةً – من خلال ذلك. ثانياُ، يشجع بحث العمل التشاركي النسوي على عمل متمركز على البحث محدد من قبل المشاركين، ناقلةُ بذلك البحث من مكانه الأصلي في الأكاديميا إلى مساحة المناصرة والعمل الأكثر وصولاُ وإفادة. ضمن هذا السياق، يأخذ ذلك شكل مساندة عمل "ميسيوات" ضد الدولة. لا يعني ذلك أن ميسيوات كمجموعة ناشطة يتم دعمها فقط، عبر البحث، في عملها ضد الدولة، بل أنّ فعّالياتها تعيد تعريف الدور التقليدي للبحث والمساحة اللتي ينتمي إليها.
- 1. عمل "ميسيوات" يتنوع في نطاقه: تعمل على متابعة حالات، خاصة المتعلقة بحاجات طبيّة وماديّة وسكنية؛ تشكل مجموعة ضغط على كلّ من الدولة والقنصلية الأثيوبية للتعامل مع الانتهاكات التي يتعرضون لها؛ تشارك بإستمرار في تنظيم المظاهرات التي تطرح مطالبها من الدولة اللبنانية من خلالها؛ وتعمل على البناء المجتمعي عبر المناسبات والنشاطات الثقافية، كالإحتفال بالأعياد الأثيوبية وتنظيم رحلات حول لبنان.
- 2. يحصل ذلك عادة عندما يفعل الباحثون ما يلقب بـ "الدراسة التنازلية" – أي "دراسة" المجموعات المهمشة اجتماعياً ومعاملة سردياتهم برومنسية وإستخدام لغة الضحية التي تنفي سيادتهم وتستملك أصواتهم.