كحل: مشروع نسويّ سياسيّ مستقلّ
منذ سنة بالضبط، في أيلول/ سبتمبر 2016، بدأ فريق تحرير كحل والمجلس الاستشاريّ في التوجيه النّشيط لكحل: مجلة لأبحاث الجسد والجندر نحو الاستقلال والإدارة الذاتيّة. وبدلا من وضع تغيير مفاجئ في نسيج كحل، نبع القرار بالإجماع من عملية معقّدة لإعادة تصوّر ما قد يبدو عليه مشروع سياسيّ نسويّ. ولا يمكن أن تقتصر هذه العملية على لحظة واحدة من الزمن أو اجتماع واحد أو نتيجة واحدة. بدلا من ذلك، فإنها تتداخل بطريقة غير طوليّة مع حيواتنا السياسية، سواء كأفراد أو كمجموعة. لقد كان تحقيق التزامنا بخلق منصّات ومساحات نسويّة مستقلّة أكثر مساعينا عمقا في تشكيل هذا القرار. من خلال الاستقلال، نحن لا نقصد قياس العمل النسويّ، أو إنشاء ثنائيات أو مقياس أفضليّة ودونيّة- كحل لم تتبنّى أبدا هذه المناهج التبسيطيّة. بدلا من ذلك، سمحنا لأنفسنا، كنساء وكنسويات، أن نحلم، ألّا نعتذر عن خيالنا السياسيّ، وأن نحاول تصوّر يوتوبيا نسويّة.
“إستعادة الإرادة هي الطريقة التّي نتقدّم بسبب استعدادنا للذّهاب في طريق خاطئة.” (أحمد 82)1
بالنّسبة لكلّ واحدة منّا، لم يبدأ تصوّر يوتوبيات نسوية ولم ينتهي مع كحل. لقد كنّا ملتزمات دائما بالمشاريع السياسية النسوية، وبـ”ترك المسارات المعروفة جيّدا” حتّى حين عنى ذلك “ترك نظام الدعم” (46)، ببناء “جدران أوسع” (232). عندما أصبح كحل حقيقة على الورق سنة 2014، كانت المعرفة غير المؤسسية بالفعل ما كنا نطمح إليه. وكيف يمكن أن نعمل على المعرفة غير المؤسسية دون تحدي المؤسسات، بغض النّظر عن جودتها واستحقاقها للثّناء؟ إن التحذير من الهروب من بعض أشكال المأسسة عن طريق الاستعاضة عنها بأشكال مختلفة لم يذهب دون أن نلاحظه. غير أن ما نسعى إليه هو مساحة يمكننا فيها أن نتحدى أنفسنا وبعضنا البعض، وأن نفهم مدى انخراطنا في المنظمات غير الحكومية – فكحل، في نهاية المطاف، مشروع مموّل، أن يكون لدينا شركاء وليس حلفاء، أن نبني مشاريع سياسية نسوية في هيكلها وليس مضمونها فحسب، أن نقتل البهجة – حتى عندما تكون بهجة بعضنا البعض، أن نكون على استعداد لأن نظهر الهشاشة والضّعف وعدم الأمان، فقط لنجد بعضنا البعض مرّة أخرى، أن نكون “جزءا من بقاء بعضنا البعض على قيد الحياة” (235).
“كلمة الهشاشة آتية من التّشظّي. شيء ما انكسر. وهو شظايا. بإمكان جسد أن يُكسر. إذا استمرّينا في مواجهة الجدران، نشعر كأنّنا نتكسّر إلى مليون قطعة. قطع صغيرة جدّا.” (أحمد 180)
البقاء على قيد الحياة. لقد استغرقت مع رولى سنة كاملة لنكون قادرتيْن على الخروج علنا مع كحل ككيان مستقلّ. القول بأننا ارتأينا أو توقّعنا العديد من العقبات والجدران التي واجهناها – أو التي واجهتنا – سيكون غير دقيق، بل غير عادل. لكننا كنّا على استعداد لدفع ثمن العصيان النسوي. إنه تاريخ مكتوب على جسدينا. وبطريقة ما، تسلّل تاريخ كحل إلى تاريخنا. أصبح جزءا من تاريخنا. من أجل الهجرة بعيدا عن مكان كنّا نسمّيه بيتنا، لأنّنا لم نعد قادرتين على احتمال هذا البيت. من أجل التّحدث بألسنة لا نجيدها – اللّغات البيروقراطية والقانونية والحكومية والمالية والتكنولوجية. من أجل أن نشاهد مشروع حياة تقع تعبئته في مصطلحات لا نستخدمها ولا نتغاضى عنها. لأن نرهب الصّبغات الزرقاء الملكية في السماء بعد ساعات طويلة من سواد الأكفنة. لأن نضع كحل قبل أنفسنا، ونبقى على قيد الحياة2، ونبقى على قيد الحياة احتجاجا (237). أن نستمرّ في رؤية مدى قابليتنا للصّرف، وأن نستمرّ في تحمّل تلك التكلفة الشخصية. أن نتحطّم.
“من الشّظايا، نبدأ مجدّدا. نلتقط الشّظايا. نعتني بأنفسنا: يجب أن نعتني بأنفسنا، لأنّ التّاريخ حدّد حوافّهم، وحدّد حوافّنا. نجمع الشّظايا، ونبدأ مجدّدا. “في وقت ما، في مكان ما، سوف أنفجر،” وسيكون ذلك انفجارا نسويّا.” (أحمد 211)
ما كان أقوى شيء عنّي وعن رولى، أنّنا لم نتحطّم في نفس الوقت. كانت إحدانا دائما واقفة في ثبات. كنّا قد التقينا عبر سكايب، وعلى الرغم من الجوّ المحروس لمقابلة العمل ومن الأشياء التّي ظلّت غير محكيّة، فقد تواصلنا مع شعورنا الغريزيّ. كم من المرّات أكملت إحدانا جملة الأخرى. كم من المرّات، حين بدت الجدران غير قابلة للتّحريك، لمحت نظرتها الكثيفة عليّ – كلحظة من الفهم والاعتراف. إذا كنّا مشكلة، فقد كنّا المشكلة معًا. وفي هذا التكاتف وجدنا طمأنينة ولحظات من الراحة. هكذا قرأنا أودري لورد وسارة أحمد3 الواحدة منّا للأخرى. وجدنا طريق العودة بأن ترقّع إحدانا الأخرى، في حين كانت قلوبنا مكسورة من الحركات، من قبل قاتلات البهجة الأخريات، لأنّه تمّ تصريفنا. ومع ذلك، فقد تآمرنا عمدا ودون اعتذار من أجل تحقيق رؤية سياسية نسوية.
“لكنّ الحياة النّسويّة هي أيضا العودة، استرجاع أجزاء منّا لم نكن نعرف أنّها موجودة، لم نكن نعرف أنّنا وضعناها قيد الانتظار. نستطيع أن نحتضن بعضنا البعض من خلال عدم وضع أنفسنا قيد الانتظار.” (أحمد 267)
عندما كانت كحل في مراحلها الأولى، غير مثقلة بتاريخها الخاصّ، سُئلنا عمّا إذا كان المشروع سياسيّا أو “مجرّد” منصّة لإنتاج المعرفة. في الوقت الحالي، ليست هذة الثنائيّة مفهومة. إذ أنّ منصّة للمعرفة النسوية هي بالضّرورة مشروع سياسيّ وأرشيف ومستودع. تعرّضت مشاريع مثل كحل في أوقات عديدة إلى عدد لا يحصى من الانتقادات نظرا لعدم تحديدها لمعالم تقدّم خطّيّ، ولعدم عرض نتائج كمية على نطاق عالمي للنجاح، ولعدم خلقها أجواء احتفالية. ولكن لا يمكن قياس التغيير الجذري كمسار خطّي – بل هو بحدّ ذاته مشروع يشمل حيوات متعدّدة وخطابات ومجتمعات عبر فترات زمنية.4 وعلى الرغم من تعدّديّتها، أو نتيجة لذلك، فإن التغيير الرّاديكاليّ غير قابل للتجزئة وتقاطعيّ في نضالاته. وبعيدا عن صفة السلبية، فإنّ أرشفة بعض من صراعاتنا المتعددة هو فعل من تاريخ نسوي.
“أيّ منّي
ستنجو بعد كلّ هذه التّحررات.” (لورد 92)5
نحن لا نحتفل بالمعالم. نحن نحتفل ببعضنا البعض، كنساء، كأفراد غير ثنائيّي الجندر، كمغايرات/ين للجندر، أو كويريّات/ين، أو أشخاص يمارسون الكينك، أو مهاجرات، أو عاملات، أو نسويّات، أو مرضى من النظام، أو بسببه. نحن لا نحرّر بعضنا البعض. نحن نتآمر معا. وفي نفس السياق، نحن لا ننتج المعرفة؛ نحن نأرشفها. قبل أن تكون لنا اللغة المختصّة بذلك، نأت كحل بنفسها بالفعل من مفهوم التّحالف ومجمّعه الصّناعي.6 لا يكون التّحالف مجرّد استجابة عابرة في شكلها الحاليّ فقط، بل إنّه يعمل على إعطاء مزيد من الشرعية للهياكل المؤسسية السلطويّة. يصبح القمع بضاعة – مهمّة أخرى على قائمة المهام، نشاط آخر يُضاف إلى اقتراح التمويل. ويعني المجمّع الصناعي للتّحالف الوقوف مع ما هو واضح، لأنّه يقف، ليصبحوا دليلا على نجاح بعضهما البعض7، ليتّخذوا جانبا برفضهم اتّخاذ جانب. ولذلك، فإن أكثر آمال كحل راديكاليّة، هو ضمّ السّواعد وتحدّي الخطاب في شبكة من الشركاء المتضامنين الذين يحتضنون الهشاشة والصّراعات الصّامتة والبناء “من الخراب” (أحمد 232). وتحقيقا لهذا الغرض، نحتاج إلى فصل المنهجيّات عن المؤسسات؛ نحن بحاجة إلى النظر إلى الأرشفة كمسعى جماعيّ لشركاء؛ نحن بحاجة إلى الكتابة مع بعضنا البعض بدلا من الكتابة عن بعضنا البعض.
“عندما أجرؤ على أن أكون قويّة، استخدم قوّتي في خدمة رؤيتي، ثمّ يصبح أقلّ وأقلّ أهمّية ما إذا كنت خائفة.” (لورد 9)8
من السّخافة أن يتظاهر فريق تحرير كحل بملكيّة سياساتها. لقد كان التّحدي الشخصيّ بالنسبة لي هو التوقف عن اعتبار كحل امتدادا لنفسي. لقد شاهدت كلّ من أنفاسها، كلّ فاصلة، كل منعطف من العبارة، كلّ انتقال، كلّ خطأ، ولكنّها لم تكن أبدا ملكي لكي أطالب بها. كحل دائما ما كانت تنتمي إلى مئات النسويّات اللّواتي شكّلنها بكلماتهنّ وأفكارهنّ وعملهنّ. الكثير من هذا العمل غير معروف، مدفون تحت وطأة البيروقراطية، ممّا يزيد من إسكات تاريخنا. ديمة قائدبيه، التّي وجّهت كحل معي في سنتها الأولى، وضعت أسسها في النظريّة والممارسة النسوية، بكرم وسخاء وفير. كحل لم تكن لتوجد دونها. كلّ نسوية نشرت في كحل قامت بتوسيع قالبها ودفعت حدودها بشجاعتها ومثابرتها وتعدّدها. العمل الهائل الذّي قامت به المساهمات/ون، وعضوات المجلس الإستشاريّ، والأقران المراجعات/ون، والمترجمات والفنّانات/ون والمصمّمات والمتطوّعات/ون، ونظم الدّعم لا يمكن أن يقاس. يمكننا فقط أن نركب الموجة التّي تجعل من كحل كيانا مستقلّا. يمكننا فقط أن نُؤتي التاريخ غير الموثق العدالة.
كحل، هذا المستودع من التاريخ المسترجع، لا تحتاجنا أن نكون يوتوبيا نسوية.
- 1. Ahmed, Sara. Living a Feminist Life. Durham and London: Duke University Press, 2017. Print.
- 2. حسب سارة أحمد، “النّجاة لا تعني فقط البقاء على قيد الحياة، بل البقاء في معناه الأعمق أي الاستمرار مع الالتزامات الشّخصيّة” (235).
- 3. الكثير من المفردات المستخدمة في هذا الاعلان مأخوذة من كتاب عيش حياة نسويّة لسارة أحمد ومن مدوّنتها. أتت هذه الموارد النّسويّة في وقت كنّا بحاجة إليها وأهدتنا لغة جديدة، منهجا جديدا، والمعرفة أنّنا لسنا وحيدات.
- 4. ديمة قائدبيه، محرّرة من محرّرات صوت النّسوة، وواحدة من مؤسسات ورشة المعرفة، اشتغلت بكثافة على ما تسمّيه نسويّة الظلّ والزّمن الدّائريّ في لبنان، متحدّية “المفهوم الخطّي للوقت والتّاريخ.” بإمكانكم/نّ أن تجدوا البعض من أعمالها هنا وهنا
- 5. Lorde, Audre. “Who Said It Was Simple,” in From a Land Where Other People Live. Retrieved from The Collected Poems of Audre Lorde. New York: Norton, 1997, 92. Print.
- 6. Indigenous Action Media. “Accomplices Not Allies: Abolishing the Ally Industrial Complex.” Taking Sides: Revolutionary Solidarity and the Poverty of Liberalism, edited by Cindy Milstein. Edinburgh, Oakland, and Baltimore: AK Press, 2015, pp. 85-96. Print.
- 7. باستخدام كلمات سارة أحمد، “العمل النّسويّ في الحديث عن الإخفاق المؤسّسي، يتمّ الاحتكار عليه كدليل على النّجاح المؤسّسي. ينتهي الأمر بالنّقد النّسويّ إلى مساندة الشّيء الذّي ينقده. ألعمل الذّي تقومين به لتفضحي الأشياء التّي لم تحصل، يستخدم كدليل على حصولها” (111).
- 8. Lorde, Audre. “The Cancer Journals.” The Audre Lorde Compendium: Essays, Speeches and Journals. Pandora, 1996, p. 9. Print.