النسويّة الإمبريالية
kohl-3-sexualities-ar.jpg
تحت ذريعة "الدفاع عن حقوق المرأة" تدعم أو تتماهى بعض التوجهات النسوية، عن غير قصد أحياناً، مع الأيديولوجيات الإمبريالية فتأتي مدرسة النسوية الإمبريالية (imperialist feminism) كنقد لهذه التيارات النسوية. يُستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى نقاط التقاطع بين النسوية والإمبريالية، حيث تُفرض قيم النسوية الغربية ومعاييرها على المجتمعات غير الغربية (موهانتي 1988). برز مفهوم "النسوية الإمبريالية" في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين بين الأكاديميين والنشطاء الذين انتقدوا الطرق التي تمّ بها استغلال الخطاب النسوي من قِبل الحكومات والمؤسسات لتبرير التدخلات العسكرية، لا سيما في الشرق الأوسط وجنوب آسيا. تُصوَّر هذه التدخلات على أنها محاولات لـ"إنقاذ" النساء من الممارسات أو الأنظمة القمعية، ما أدى إلى تهميش الحركات النسوية المحلية وفرض معايير غربية للـ"مساواة الجندرية"، تتجاهل السياقات الثقافية والاجتماعية المحلية.
تتجلّى النسوية الإمبريالية من خلال سماتٍ بارزة تعكس تعقيد تفاعلها مع الحركيّات السياسية والاجتماعية الأوسع. ومن أهمّ هذه السمات النزعة المركزية الإثنية (ethnocentrism)، حيث يُفترض ضمنيًا أنّ القيم والمفاهيم النسوية الغربية قابلة للتطبيق عالميًا. يؤدي هذا الافتراض إلى تهميش أو تجاهل التنوّع الغني لتجارب النساء ونضالاتهن عبر الثقافات والمجتمعات المختلفة. بالإضافة إلى ذلك، يتّضح موقف قد يوصف بالـ"أبويّ" (paternalistic attitude) من خلال الطريقة التي يتمّ بها تصوير النسويات أو صانعي السياسات الغربيين على أنهم "منقذون" للنساء المضطهدات في مختلف أنحاء العالم (سبيفاك 1988). هذا الموقف غالبًا ما يعجز عن التفاعل الحقيقي مع هؤلاء النساء أو تمكينهن، مما يؤدي إلى إسكات أصواتهن وتجاهل إرادتهن التقريرية. علاوة على ذلك، غالبًا ما تكون النسوية الإمبريالية متواطئة مع الأجندات الإمبريالية ذاتها، حيث تتماشى معها وتدعمها. تستغل هذه النسوية خطاب حقوق المرأة لتبرير التدخلات في البلدان الأخرى، وهي تدخلات تُصوَّر على أنها جهود لتعزيز المساواة الجندرية، لكنها في الواقع تخدم في المقام الأول المصالح السياسية أو الاقتصادية للقوى الإمبريالية.
يجادل منتقدو النسوية الإمبريالية بأنها تقوّض استقلالية النساء في المجتمعات غير الغربية من خلال فرض حلول خارجية على نضالاتهن. تسلّط هذه الانتقادات الضوء على ما يُعرف بـ"الجندرية الاستعمارية" (Colonial Gender Continuum)، أو الأسس الاستعمارية للحلول المؤسسية، مع التأكيد على أهمية التضامن الذي يحترم الاختلافات الثقافية ويدعم الحركات النسائية المحلية. علاوةً على ذلك، يشير النقّاد إلى أن النسوية الإمبريالية يمكن أن تعزز الصور النمطية عن المجتمعات غير الغربية باعتبارها قمعية بطبيعتها تجاه النساء، مما يؤدي إلى تعزيز ثنائية تبسيطية بين "الغرب التقدّمي" و"(العالم) الآخر المتخلّف"، دون الأخذ في الحسبان تعقيد مفهوم الإرادة السياسية التقريرية لدى الأفراد والجماعات في السياقات غير الغربية (محمود 2005).
تحثّ هذه الانتقادات على إعادة تقييم الممارسات النسوية لضمان عدم دعمها بشكل غير مباشر لأجندات استعمارية جديدة. كما تدعو إلى تبنّي نسوية شاملة وتقاطعّية تُدرك تعقيد قضايا القمع الجندري وتسعى إلى تعزيز الرؤى على اختلافها داخل الحركة النسوية العالمية.
يُعَدُّ الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001 مثالاً جليّاً على استغلال الخطاب النسوي لتبرير التدخلات العسكرية. فقد جرى تصوير هذا التدخّل على أنه محاولة لتحرير النساء الأفغانيات من قمع نظام طالبان. ومع أن الظروف التي عانت منها النساء في ظل حكم طالبان كانت قاسية، إلا أن النقّاد يرون أن الغزو لم يُحدِث تحسّناً جوهرياً في أوضاع حقوق المرأة، بل أفضى إلى تداعيات مدمّرة على المجتمع الأفغاني بأسره. ويجسّد هذا المثال المخاطر الكامنة في استغلال الخطاب النسوي لتحقيق أهداف عسكرية وإمبريالية (أبو لغد 2013).
في سياق حقوق الفلسطينيين الكويريين والعابرين جنسياً، تظهر النسوية الإمبريالية والدعوات الغربية الأوسع شكلاً من أشكال التدخلية التي تتجاهل الواقع المعقّد على الأرض. يتجلّى ذلك بوضوح عندما تركّز السرديات الغربية على حقوق الفلسطينيين الكويريين والعابرين من منظور الاضطهاد من قِبل المجتمع الفلسطيني أو السلطات المحلية فقط، دون الاعتراف الكامل بالتحديات المركّبة التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي والإبادة المستمرة. هذا التناول المجتزأ لا يُلقي الضوء على التداعيات المتداخلة للاستعمار والاحتلال، الذي يزيد من تعقيد قضايا التحرّر والعدالة الاجتماعية. وبهذا، يتمّ تهميش السياقات المحلية وسلب قدرة الرازحين تحتها على معالجة هذه القضايا بوعي واستقلالية، ما يُفضي إلى خطاب يخدم الأجندات الإمبريالية ويعرقل النضال الفعلي من أجل حقوق الإنسان والكرامة.
في حين يُشار غالباً إلى الجوانب المحافظة للمجتمع الفلسطيني كعائق أمام حقوق الكويريين والعابرين جنسياً في المجتمع الفلسطيني، من الضروري فهم أن الاحتلال الإسرائيلي والإبادة المستمرة يعيقان المجتمع الفلسطيني عن الانخراط في النقاشات المجتمعية التي يمكن أن تفتح المجال لمعالجة قضايا الجندر والجنسانية. يفرض الاحتلال قيوداً مادية وقانونية واجتماعية تُصعّب إجراء حوارات حول حقوق الكويريين والعابرين جنسياً. تحلّل حنين معيكي بعمق كيفية عمل هذه العوائق، موضحةً أن الاحتلال لا يكتفي بخنق الخطاب العام، بل يحدّ أيضاً من تطوير مساحات يُمكن للمجتمع الفلسطيني من خلالها أن يعالج هذه القضايا بشروطه الخاصة. لذا، وبدلاً من إرجاع عدم التقدّم حصرياً إلى المحافظة الاجتماعية، يجب الاعتراف بكيفية قيام الاحتلال بشكل منهجي بإعاقة ظهور مثل هذه النقاشات وتطوّرها.
بالإضافة إلى ذلك، تُعقّد ممارسة "الغسيل الوردي" (pinkwashing) النقاش حول حقوق الكويريين والعابرين جنسياً الفلسطينيين، إذ تُسوّق إسرائيل نفسها كمنارة لحقوق "مجتمع الميم" بهدف التغطية على عنفها الاستعماري ضد الفلسطينيين. غالباً ما تشير منظمات ونشطاء "مجتمع الميم عين" في الغرب إلى موقف إسرائيل التقدّمي نسبياً فيما خصّ حقوق "مجتمع الميم" كنموذج يُحتذى به، متجاهلين التأثير العميق للاحتلال على الكويريين والعابرين جنسياً الفلسطينيين. يتيح الغسيل الوردي لإسرائيل تحسين صورتها على الساحة الدولية من خلال الترويج لسياساتها المتعلقة بحقوق "مجتمع الميم عين"، بينما تواصل قمعها للفلسطينيين. يتحدّى ناشطون مثل حنين معيكي ومنظمات مثل "القوس للتعددية الجنسية والجندرية في المجتمع الفلسطيني" هذه الرواية، مؤكدين أن النضال من أجل تحرير الكويريين والعابرين جنسياً في فلسطين لا يمكن فصله عن الكفاح الأوسع من أجل التحرّر الوطني وحق تقرير المصير.
يسلّط الناشطون الكويريون والعابرون جنسياً الفلسطينيون الضوء بإصرار على أهمية التقاطعية والتضامن، مؤكدين أن نضالهم من أجل التحرّر الجندري والجنسي مرتبط بشكل جوهري بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي. تعمل منظمات مثل "القوس للتعددية الجنسية والجندرية في المجتمع الفلسطيني" ضمن الفضاء الثقافي الفلسطيني وتحاول تبيان ماهية الظروف التي يخلقها الاحتلال، ساعية إلى خلق سرديات ومساحات شاملة تحترم الهوية الوطنية وتنوّع الجندر والجنس. تقاوم هذه المجموعات الإطارات النسوية الإمبريالية التي تنظّر إلى التدخّل الغربي كضرورة لتحرير الشعوب. وكما أظهرت باحثات وناشطات فلسطينيات مثل أنجيليك عبود وحنين معيكي، فإن الحركات الكويرية والعابرة جنسياً في فلسطين متجذّرة بعمق في الجهاد الأوسع ضد الاستعمار، ولا يمكن فصل نشاطها عن هذا السياق.
اليوم، لا تزال النسوية الإمبريالية قضية خلافية داخل الأوساط النسوية والنقاشات الاجتماعية والسياسية الأوسع. ومع صعود حركات التضامن النسوي العالمية والدور الذي يلعبه الإنترنت، أصبحت النقاشات حول احترام الفروقات الثقافية مع السعي لتحقيق حقوق الإنسان العالمية أكثر تعقيداً وتنوّعاً. تسعى النسويات بشكل متزايد إلى إيجاد طرق لدعم نضالات بعضهن البعض على نحو عابر للحدود دون فرض رؤى خارجية، مع التركيز على التعاون والإنصات والتعلّم من وجهات النظر النسوية المختلفة لتكييف الأفكار النسوية بما يتناسب مع السياقات الثقافية المتعدّدة (أونغ 2006).
Abu-Lughod, Lila. 2015. Do Muslim Women Need Saving? Sage Journals, 15(5), 759–777.
Mahmood, Saba. 2005. Politics of Piety: The Islamic Revival and the Feminist Subject. Princeton, NJ: Princeton University Press.
Mohanty, Chandra Talpade. 1984. Under Western eyes: Feminist scholarship and colonial discourses. Boundary, 2, 333–358.
Ong, Aihwa. 2006. Neoliberalism as Exception: Mutations in Citizenship and Sovereignty. Durham, NC: Duke University Press.
Spivak, Gayatri Chakravorty. 1988. Can the Subaltern Speak? In Marxism and the Interpretation of Culture, eds. Lawrence Grossberg and Cary Nelson. Urbana: University of Illinois Press, 271–313.