تحرير الجنسانية من البنى الاستعمارية
kohl-3-sexualities-ar.jpg
تحمل عبارة تحرير الجنسانية من البُنى الاستعمارية (decolonizing sexualities) دلالات غنيّة، وتحتوي على خيوط نظرية وامتدادات عملية تتشابك مع بعضها. غالبًا ما تُستخدَم للإشارة إلى تصحيح الأضرار الناجمة عن الاستعمار، وخصوصًا تلك المتعلّقة بفهم الجنس والجنسانية لدى الشعوب التي تعرّضت للاحتلال، وما يترتّب على ذلك من آثار على هويّاتهم وعلاقاتهم وممارساتهم. ومع ذلك، يجب أن نتبنّى رؤية فرانز فانون (1968؛ 2001) التي تتيح لنا إدراك الاستعمار ليس كفعلٍ بسيطٍ يمارسه المستعمِرون تجاه المستعمَرين، بل كعلاقة متشابكة تُنتج تأثيرات تمتدّ لتشمل الجميع وكل شيء ذي صلة، بما في ذلك المستعمَر نفسه. يتشكّل المستعمَر والمستعمِر ككيانات متباينة في فضاء الاستعمار وعبر تفاعلاتهم المعقّدة. يشدّد فانون على ضرورة التأمّل في عمق العلاقات الاستعمارية التي تتجاوز الثنائية التقليدية بين المستعمِر والمستعمَر. من جهته، يسلط ميشيل فوكو (1976) الضوء على أن "الجندر" يمثّل مفاهيميًا حلقة وصل غنية على نحوٍ خاص في علاقات القوة. تُعتبَر الهويات الجندرية مراكز حيوية يعمل الاستعمار على تسليعها في سياق فعل الاستعمار نفسه، للأسباب عينها تُعتبَر هذه الهويات أداة مهمّة لمحاربة الاستعمار.
تعتبر الجنسانية محورًا حيويًا يتجلّى في النقاشات والممارسات ضمن العديد من أشكال الاستعمار المتنوعة. سواء كان ذلك في الاستعمار الاستيطاني الذي نشاهده في جزيرة السلحفاة وأبيا يالا، أو ما أطلق عليه المستعمرون أميركا الشمالية واللاتينية، أو في فلسطين وكشمير، أو في أوتياروا، التي يسمّيها المستعمرون نيوزيلندا، وغيرها من المناطق. يتجلّى الاستعمار الإداري في المغرب خلال فترة الحكم الفرنسي، بينما يعكس الاستعمار التجاري وجود شركة الهند الشرقية الإنجليزية. أما الاستعمار العسكري، فيتمثّل في الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، في حين يكشف الاحتلال الاستعماري عن مآسي فلسطين وكشمير. كما يتجلّى الاستعمار الداخلي من خلال سيطرة غير السكان الأصليين على أراضي المحميات الأصلية، في حين أن الاستعمار الخارجي يتضح في أنابيب النفط التي تمرّ عبر أراضي السكان الأصليين ونزعات الانفصال كما هو الحال في البرازيل، مما يبرز التداخل بين هذه الأنواع من الاستعمار (باكيتا 2023). تشمل الجهات الاستعمارية التي تعمل على تعبئة الهويات الجنسية ما يلي: الدول وأجهزتها، والمؤسسات، والجيوش، والرأسماليين، والمبشّرين، والمستوطنين (المزارعين، والعمّال، وغيرهم)، والمعلّمين، والأكاديميين، والكتّاب، والفنانين. لقد أنتجت الجهات الفاعلة الاستعمارية عددًا هائلاً من الخطابات والممارسات التفاضلية التي تشكّل فيها الجنسانية محورًا مركزيًا. وتتراوح هذه الخطابات والممارسات بين التسبّب في الأمراض، والتجريم، والتهميش، إلى تقسيم المجتمع المستعمَر وابتزاز المثليين داخله كما هو الحال في فلسطين اليوم (عبود 2024)، إلى القتل الفردي والجماعي الصريح لموضوعات محدّدة من الجنسانية المُشَيطَنة والمُخضعة للتمييز. تتجلّى الجنسانية كعنصر محوري في العديد من الاستراتيجيات والتكتيكات الاستعمارية الأخرى، حيث تساهم في الإبادة الجماعية والإعاقة والتهجير، بالإضافة إلى سرقة الأراضي وتدمير البيئة الأصلية واستبدالها بأخرى استعمارية. كما تشمل هذه الاستراتيجيات التسميم والاستخراج وإعادة توجيه الاقتصاد لصالح المستعمر، فضلاً عن الاستعباد والاتجار بالبشر. ولا تتوقف الأمور عند هذا الحدّ، بل تمتدّ لتطال الإبادة المعرفية وتدمير الثقافة الأصلية واستبدالها، بما في ذلك نظام الغذاء والعمارة واللغة والمساكن والدين والروحانية والعلاقات مع العالم. إن محو التاريخ ما قبل الاستعماري والذاكرة الحاضرة والمستقبلية يظلّ من سمات هذا التوجّه الاستعماري، مع الاستمرار في "التهميش" كجزء من "منطق الإزالة" (وولف 2006)، والاستيعاب، بالإضافة إلى تكتيكات "الدمج القاتل" (هاريتاورن وآخرين 2013؛ باكيتا وهاريتاورن 2011).
حاليًا، تركّز معظم الدراسات حول الاستعمار إلى حدّ بعيد على "المغايَرَة الجنسيَّة"، ومؤخرًا، على المثلية الجنسية لكن بحدٍّ أقلّ. ومع ذلك، فإن أشكال الجنسانية المرتبطة بالسياقات ما قبل الاستعمارية والاستعمارية وما بعد الاستقلال تشمل العديد من الأجناس والهويات الجنسية الأخرى التي تحمل أسماء تتجاوز تلك المعروفة حاليًا باللغة الإنجليزية، أو التي لا تتطلّب وجود إسمٍ في السياقات التي تظهر فيها.
في الوقت الحالي، تتوفر أدبيات علمية عالمية حول كيف عبّأ الاستعمار ودمّر بنى الجندر والجنسانية في المواقع المستعمرة داخلاً عليها بقوالب لغوية متعددة: الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية، البرتغالية، الإيطالية، الألمانية. على سبيل المثال، يكشف عمل ماريا لوغونيس (2008) كيف أن النظرية الاستعمارية غير النسوية أعادت إنتاج تصوّرات النسوية البيضاء حول الجندر، بينما سادت مفاهيم الجندر والجنسانية في المستعمرات على نحوٍ صريح. كما تبرز كيف تُفرض الثنائية الجنسية الاستعمارية على تلك المواقع. وفي سياق موازٍ، تتساءل أويرونكي أوييوومي (1997) عن افتراضات النظرية النسوية والكويرية البيضاء السائدة في الشمال العالمي بشأن الجندر كفئة عالمية، وتتبع كيف فرض المستعمرون مفهوم الجندر في نيجيريا. تستعرض هورتنس سبيلرز (1987) كيف أُجبر الأفراد المستعبدون على عملية "إلغاء الهوية الجنسية" في أثناء تهريبهم عبر المحيط الأطلسي من غرب إفريقيا إلى جزيرة السلحفاة وأبيا يالا، وهي النقطة التي أبرزها سي رايلي سنورتون (2017) بشكل بالغ الأهمية. من جانبها، تسلّط مابولا سوماهورو (2020؛ 2022) الضوء على أثر النوع الاجتماعي والعنف الجنسي الاستعماري، الذي ساهم في تشكيل "كراهية النساء"، كنوع محدّد من التمييز الجنسي. يتضمّن هذا التمييز الجنسي التمييز ضد السود وكراهية المثليات والمثليين، وعليه نجد أن النساء السود يتعرّضن لتمييز مضاعف. وتوضح الأبحاث المتعددة كيف أن هويات الشمال العالمي، التي تُصنَّف على أنها أكثر تقبّلاً للمثليين جنسياً، قد ساهمت في المستعمرات، بتدمير حياة الأفراد الذين اعتُبرت هوياتهم الجنسية غير تقليدية. على سبيل المثال، قام الاستعمار البريطاني بحظر المثلية الجنسية وتهميش العابرين جنسياً في أكثر من 50 دولة خضعت لسلطته. ولا يزال تأثير هذا العنف الاستعماري يمتدّ ليؤثّر في المجتمعات حتى يومنا هذا.
إن البحث الدؤوب في مجالات الجندر والجنسانية والاستعمار قد أظهر دورًا بالغ الأهمية في تشكيل آليات البقاء والمقاومة، سواء كانت معارضة أو غير معارضة، والتحوّلات الجذرية التي تتضمّنها عمليات إنهاء الاستعمار عن الهويات. ومع الحرص على عدم التعميم أو الاحتفاء بالعلاقات بين النوع الاجتماعي والجندر في الحقبة ما قبل الاستعمار بشكل موحّد (راو 2015)، فإن هناك تناميًا ملحوظًا بين الحركات الأكاديمية والفنية والنشاطية في الجنوب العالمي، بما في ذلك الجنوب في الشمال، التي ترفض بشكل نقدي الافتراضات الأساسية للنظرية الكويرية السائدة في الشمال العالمي، مستندة إلى أسس استعمارية، وتؤكد على مفاهيم وأساليب جديدة للوجود، مقترحةً آفاقًا بديلة لم يكن من الممكن تصوّرها.على سبيل المثال، يقدّم العمل الرائد لـ بي جي ديبيترو (2020) تحولا جذريًا في الفهم السائد للموضوع من منظور شمالي عالمي، متجاوزًا المفهوم التقليدي المحدّد والمتّسق في الزمن الخطّي. هذا المفهوم، الذي يتغلغل بشكل غير نقدي في النظرية الكويرية السائدة، يفتح آفاقًا جديدة للمفاهيم الأصلية للموضوع في أزمان مختلفة في الأرجنتين، ويبرز التداخل المعقّد مع الحيوانات. من جهة أخرى، يشير حنين معيكي (2012) ومفكرون ونشطاء فلسطينيون آخرون إلى أن إنهاء الاحتلال الاستيطاني لفلسطين يُعتبر شرطًا أساسيًا لتحرير الكوير الفلسطيني. كما يُبرز سانديب باكشي (2024:44) بأن "الكويرية الاستعمارية تستمدّ قوتها من الروايات التقليدية للكويرية، مُظهِرةً طرق الوجود التي تتجاوز مجرد تشكيلات ونقد الجندر والجنسانية". ويعتبر كوو لي دريسكيل (2004) أن تحرير الجنسانية من أحكام الاستعمار يجب أن تُفهم ضمن إطار السيادة الإقليمية الأصلية و"الإيروتيكا السيادية"، مما يفتح آفاقًا جديدة لفهم العلاقة بين الهوية والجغرافيا. ماسينيسا غاراون (2022) يفتح بابًا لغويًا ومعرفيًا بالغ الأهمية نحو فكّ أسر الجنسانية وهوياتها عن منتظمات الاستعمار، حيث يسعى إلى إحياء وتوثيق اللغات الكويرية والعابرة جنسيًا، سواء كانت تاريخية أو معاصرة، والتي نشأت في كنف الأشكال المغاربية من اللغة العربية. ومن منظور سانديب باكشي، سهرايا جفراج، سيلفيا بوسوكو (2016)، وعدد من الكتّاب الذين شاركوا في تحرير المجلّد، فإن هذه الأساليب تمثل طرقًا حيوية لا غنى عنها. بإيجاز، إن الترابط بين الاستعمار والجندر والجنسانية متعدّد المداخل والاشكال، عليه فإن التخلّص من سلطة الاستعمار على الهوية الجنسانية يتطلّب تعدداً في أساليب البقاء والمقاومة والتبدّل.
Abboud, Angelique. 2024. Feminist and Queer Solidarities with Palestine. Panel Talk. The Department of Gender and Women’s Studies, University of California, Berkeley, May 6.
Bacchetta, Paola. 2023. What Does It Mean to Decolonize? In Decolonizing Europe, eds. M. Faye-Rexhepi, M. de Groot, E. Inghelbrecht, A. Narsee, A. Oleart, J. Pankowska, L. Strehmann. Amsterdam: Common Grounds, 2023. decolonial.eu/booklet
Bacchetta, Paola, Sandeep Bakshi and Silvia Posocco. 2020. Decolonial Sexualities: Paola Bacchetta in conversation with Suhraiya Jivraj and Sandeep Bakshi. Interventions: International Journal of Postcolonial Studies, 22(4), 574–585.
Bacchetta, Paola and Jin Haritaworn. 2011. There Are Many Transatlantics: Homonationalism, Homotransnationalism and Feminist-Queer-Trans of Color Theories and Practices. In Transatlantic Conversations, eds. Kathy Davis and Mary Evans. United Kingdom: Ashgate.
Bakshi, Sandeep. 2024. Theorising Decolonial Queerness: Connections, Definitions, Articulations. In Essays on Decoloniality, eds. Ben Fletcher-Watson, Lesley McAra and Désha Osborne. The Institute for Advanced Studies in the Humanities, University of Edinburgh, Scotland, 35–50.
DiPietro, PJ. 2020. Ni humanos, ni animales, ni monstruos: la decolonización del cuerpo transgénero. Eidos: Revista de Filosofía, 34, 254–291.
Driskill, Qwo-Li. 2004. Stolen From our Bodies: First Nations Two-Spirits/Queers and the Journey to a Sovereign Erotic. Studies in American Indian Literatures, 16(2), 50–64.
Fanon, Franz. 2001. L’an V de la révolution algérienne. Paris: La Découverte.
Fanon, Franz. 1968. Les damnés de la terre. Paris: Maspero.
Foucault, Michel. 1976. Histoire de la sexualité, vol. I : La volonté de savoir. Paris: Gallimard.
Haritaworn, Jin, Adi Kuntsman and Silvia Posocco. 2013. Introduction: Murderous Inclusions. International Feminist Journal of Politics, 15(4), 445–452.
Lugones, María. 2008. “The Coloniality of Gender.” The Worlds & Knowledges Otherwise Project, 2(2), On the De-Colonial (11): Gender and Decoloniality. https://globalstudies.trinity.duke.edu/sites/globalstudies.trinity.duke.edu/files/documents/v2d2_Lugones.pdf
Maikey, Haneen and Chief editor. 2012. Queer Politics & Haneen Maikey (Interview). alQaws Blog. http://www.alqaws.org/articles/Queer-Politics-Haneen-Maikey?category_id=0
Garaoun, Massinissa. 2022. A wīl-i žṛāhīm! An Introduction to a Moroccan Queer Language: Həḍṛāt əl-Lwāba. Decolonizing Sexualities Research Journal. https://decolonizingsexualities.org/researchjournal/a-wl-i-hman-introduction-to-a-moroccan-queer-language-ht-l-lwba
Oyěwùmí, Oyèrónkẹ́. 1997. The Invention of Women: Making an African Sense of Western Gender Discourses. Minneapolis: University of Minnesota Press.
Rao, Rahul. 2015. Global Homocapitalism. Radical Philosophy, 194(Nov/Dec), 38–49.
Snorton, C. Riley. 2017. Black on Both Sides: A Racial History of Trans. Minneapolis: University of Minnesota Press.
Soumahoro, Maboula. 2020. Le Triangle et l'Hexagone. Paris: La Découverte.
Soumahoro, Maboula. 2022. Black Is the Journey, Africana the Name. Cambridge: Polity Press.
Spillers, Hortense J. 1987. Mama’s Baby, Papa’s maybe: An American Grammar Book. Diacritics, 17(2), 64–81.
Wolfe, Patrick 2006. Settler Colonialism and the Elimination of the Native. Journal of Genocide Research, 8(4), 387–409.