الإستقبال اللبناني
تحرير غوى صايغ. هذه الشهادة الشفويّة كانت جزءاً من محادثة مسجّلة بين عاملات منازل مهاجرات مقيمات في لبنان.
أنا إسمي روز، من الكاميرون. نتشارك كلنا – المشاركات بهذا النقاش – نفس القصة، لكن لي أيضاً قصتي الخاصة وهي باللغة الفرنسية.
وصلت إلى لبنان في ٨ شباط ١٩٩٩. ما الذي دفعني للقدوم إلى هذا البلد؟ فعلياً، أتيت لسببين: أوّلاً، أردت مخرجاً من زواج سيء. والثّاني أنّني كنت أغرق بالديون، كنت أعمل في مهنة حرة وقد تعرّضت لخسائر جمة في السنة السابقة لقدومي. وصل بي الأمر إلى الإستدانة لتغطية ديون أخرى، ومن ثمّ الوفاء بكل هذا الدين وإعالة ولدين. كنت مضطرة لإيجاد مصدر أفضل للدخل يُمَكِّنني من الوفاء بإلتزاماتي المادية. في هذا الوقت كانت أختي وقريبتي تعيشان في لبنان وأخبرتاني أنّه من الممكن أن أنضم إليهما لو شئت ذلك.
سارعت إلى اتخاذ القرار من دون أن أفكّر بالموضوع ملياً، جلّ ما كان يشغلني آنذاك هو الهروب، وإلى أبعد بقعة من العالم. هذا كل ما في الأمر، كنت على استعداد للذهاب إلى الصين، أو إلى القمر مثلاً، المهم أن أخرج. كانت هذه أوّل مرة أطير فيها، ووصلت إلى مطار بيروت مساءً. فور وصولي، ساقني غرباء إلى غرفة صغيرة داخل المطار مكتظة بنساء أخريات أتين إلى هذا البلد بحثاً عن عمل. صادر ضابط شرطة المطار جوازي، حاولت أن أسأل عن السبب لكنّه تجاهلني، فالتزمت الصمت وجلست. طلع الفجر علي من دون أي تطورات. أردت دخول الحمام فتوجّهت إلى الحمام المجاور لغرفة الإنتظار هذه، إلى اليسار. لكنّهم لا يسمحون لنا بالدخول إلا لو تبولنا على أنفسنا أولاً. لن أصف لك شناعة الموقف، هذا الإستعراض الفج للسلطة، أن يقوموا بمنعنا من دخول الحمام ما لم نتبوّل على أنفسنا. في نهاية المطاف، اضطررت للتبوّل في ثيابي.
التاسعة صباحاً.
عند الحادية عشرة، وصلت المرأة التي من المفروض أن تقلني من المطار. لم يكن يهمهم أنني غادرت بلدي منذ يومين، أن أكون قضيت كل هذه الفترة من دون أن أغتسل أو أن أتمكّن من تغيير ملابسي الداخلية الملطخة بالبول. سمعتهم ينادون إسمي، فوقفت وخرجت من الغرفة حيث كانت المرأة بانتظاري، والتي سرعان ما قالت :”لا لا لا لا لا” عندما رأتني. لم أفهم ما المقصود بهذه الكلمات، لم أكن أتكلّم آنذاك اللغة المحلية. وهكذا، وقفت ممسكةً بحقيبة اليد الصغيرة التي أحضرتها معي. كان برفقتها سائق أشار إلي أن أركب السيارة قبل أن يعود للدردشة مع المرأة بلغة لا أفهمها. قاد بنا الرجل حتى منطقة جل الديب. وقتها، بطبيعة الحال، لم أكن أعرف إلى أين يأخذني هذا الرجل. عندما وصلنا، طلبت من الرجل إن كان من الممكن أن أستخدم الهاتف، فأتى جوابه باللغة العربية.
في المكتب، وجدت عدداً من النساء، فيليبينيات وامرأة سريلنكية وحتى عدد من الإفريقيات. لم يكن هناك سوى أريكتين، في حين أنّ الغرفة تعجّ بما لا يقل عن ١٥ إمرأة. ألقيت نظرة حولي وداهمني شعور بأنّ قراري لم يكن موفقاً. ما هذا المكان؟ ما الذي فعلته بنفسي؟ جلست هناك بصمت. انتابتني رغبة ملحة بالبكاء لكنّني قاومت. خشيت أنّني لو بكيت سيظن الجميع أنّني ضعيفة. لم أعتد يوماً البكاء، لذا لا يمكنني البكاء، لا يمكنني أن أبكي. كلّا، لا يمكنني أن أبكي؟ مستحيل.
صبرت.
سألت المرأة الجالسة قربي عن الحمام، ثم أخذت حقيبة اليد ووقفت. في الحمام اغتسلت وغيّرت ثيابي قبل أن أعود إلى مجلسي.
في مرحلة ما، دخلت إمرأة من الباب فوقف الجميع. لم أفهم ما الذي يجري فنظرت المرأة إليّ وسألتني لم امتنعت عن الوقوف فسألتها من تكون. تبيّن أنّها سكرتيرة المكتب، “تشرفت بحضرتك” أجبتها قبل أن أضيف “لم أكن أعرف أنّه من المفروض أن أقف في حضورك.” بعدئذٍ، عاودت السؤال عن المدير إذ أردت إستخدام الهاتف. أخذتني السكرتيرة إلى الطابق الأرضي – كانت الغرفة في الطابق العلوي – حيث قابلني رجل مسن لطيف. سألني عن إسمي فأجبته وطلبت فوراً الإتصال بشقيقتي. سجّل الرقم وطلبه لي.
– وصلت الليلة الماضية، كنت في المطار ولم أجدك. كنت في مكان لا أعرف فيه أحد.
– غريب، كان من المفروض أن تذهبي مباشرةً إلى بيت السيدة التي ستعملين لديها.
– وهذه المرأة أيضاً، لك أجد لها أثرا. أنا أساساً لا أعرف من تكون. أخذتني إمرأة ما من المطار لكنني لا أعرف إن كانت هي المعنية أم لا.
– معنى ذلك أنّ السيدة غيّرت رأيها ولم تعد تريدك.
– إذاً فليحجزوا لي تذكرة عودة إلى بلدي.
– كلا. لا تسير الأمور بهذه الطريقة في هذا البلد. لا بد لك من الإنتظار. أمهليني دقيقة سأعاود الإتصال بك.
أعاد الرجل المسن الهاتف إلى مكانه.
انقضت ساعتان من الزمن قبل أن تأتي إمرأة مسنة لطيفة بصحبة ابنتها. وقفت عندما سمعتهم ينادون على إسمي، “هذه أنا.” اقتربت مني المرأة اللطيفة وقبّلتني، فتفاجأت. سألتني عن إسمي وتبادلنا أطراف الحديث بعض الوقت. ثمّ أخذوني إلى المختبر المقابل للمكتب، من الجهة الأخرى من الطريق، حيث خضعت لفحص دم وأشعة للرئتين. طلب مني فتح فمي وخلع ملابسي، تم التدقيق في كل جزء من جسمي، لكنّني كنت بصحة جيدة.
في مساء اليوم عينه عادت السيدة اللطيفة وذهبت معها إلى البيت، حيث أمضيت ١٣ سنة من عمري. صحيح أنّ الحياة لم تكن وردية على الدوام، أبداً. لكن، إذا أردت الحصول على شيء ما، لا بد لك من المثابرة على الصعاب والتضحيات. أمّنت المال، لكنّ اضطررت للتضحية بحريتي. كنت أغرق بالدين، كنت بحاجة للمال للخروج من هذا الوضع. هذا هو الهدف من وجودي في هذا المكان.
في السنوات الـ١٣ تلك، لم يزد معاشي ليرة واحدة. عملت في هذا المنزل مقابل نفس القدر من المال طيلة ١٣ عام. طلبت أكثر من مرة زيادة في المرتب، لكنّ الجواب كان دائماً بالرفض. في مرحلة ما، نظرت إلى وضعي وقلت لنفسي أن العقد القديم انتهى وآن الأوان للتفاوض على عقد الجديد. لم أعد غريبة عن البلد، ولا عن مجال العمل هذا. أنا الآن أفهم اللغة. كما أنّني أعرف ما لي وما علي قانونياً. فلمَ عساي أعمل بنفس المعاش؟ إذا استحال رفع معاشي، نجد حلاً آخرا. جلست مع السيدة وقلت لها بصراحة: “إذا سافرت إلى بلدي وعدت. أنا بحاجة لزيادة في المعاش بما يتناسب مع ازدياد مسؤولياتي. لم تعد صحتك كما كانت عليه منذ ١٣ عاماً. عندما بدأت بالعمل لديك كنت قادرة على الإعتناء بنفسك. أمّا الآن، فأنا أعتني بك وأهتم بالمنزل. بالتّالي، من المنطقي أن أطلب معاشاً أعلى.” أجابتني أنّها غير قادرة على زيادة معاشي، إذا وجدت فرصاً أفضل فلا مانع لديها.
وافقت، بكل بساطة وافقت.
لكنّها طلبت مني الإستمرار بالعمل معها ثلاثة أشهر إضافية ريثما تجد بديلة لي. وضّبت أشيائي يوماً بعد يوم، بعد يوم. بعد شهر من الزمن أتت الفتاة الجديدة ووجدت نفسي في الشارع. بصراحة، لم يكن لدي مكان ألجأ إليه، لم أعمل يوماً على حسابي ولم يعد لدي أحد في هذا البلد بعدما غادرت شقيقتي البلد.
غادرت المنزل في الصباح الباكر وفي بالي فكرة واحدة: لا بد أن أجد مكاناً أبات فيه، أقلّه ليلة واحدة. كيف؟ لا أعرف. وهكذا انطلقت ولم أتلفّت ورائي. مررت بامرأة نيجيرية فسألتها إن كانت على علم بتوفّر أي غرف للإيجار. نصحتني بالذهاب إلى إنطلياس حيث يمكنني إيجاد غرف للإيجار. ذهبنا سوياً، ومنذ ذلك اليوم وأنا أعيش في نفس الشقة. أعتاش منذ ذلك الوقت بالعمل في أكثر من مكان. وهذه هي قصتي، ابتداءً من ٨ شباط ١٩٩٩ وحتى اليوم، ١٩ تشرين الثاني ٢٠١٦. طريق وعر مليء بالمطبات، كالأرجوحة.