الطّريق إلى الانشقاق
تحرير غوى صايغ. هذه الشهادة الشفويّة كانت جزءاً من محادثة مسجّلة بين عاملات منازل مهاجرات مقيمات في لبنان.
أتيت إلى بيروت في عام 1993. ولكن قبل ذلك، كنت مدرّسة في الفلبّين. انا مدرّسة. لقد كنت أدير مركز رعاية نهارية، وكنت الرائدة في القيام بذلك في بلديّتي. وكان ذلك أحد مشاريعي. ما دفعني حقا إلى أن آتي إلى هنا، أي إلى لبنان، هو التفكير البشري في أنّ الجانب الأكثر خضرة يقع دائما على الطّرف الآخر من السياج. نحن نميل دائما إلى أن نفكر بهذه الطريقة. خلال ذلك الوقت من عام 1987، بدأت مشروعي ونجحت، ولكن كنت أكسب 80 $ في الشهر، ولدي ثلاثة أطفال. كان لديّ ولدى زوجي مزرعة. إنها حياة صعبة أن تكوني أم ثلاثة أطفال وألّا يوجد مرافق لمساعدتك في أعمال المنزل. كان عليّ الاهتمام بالأطفال الثلاثة، والقيام بالأعمال المنزلية، ومساعدة زوجي في المزرعة. كان ذلك كثيرا. أعطيت كلّ ما يمكن أن يتصوّره المرء، قمت بكل وظيفة صغيرة فكّرت فيها. أي عمل من شأنه أن يجلب قرشا، فعلته. كنت وكيلة لPlaytex، خطّ الملابس الداخلية، وكنت وكيلة لTupperware، كما أدرت مطعما صغيرا … ليست لدي أي فكرة كيف قسمت وقتي عندها. كان عليّ أن أستيقظ في الخامسة صباحا لإعداد كل شيء من أجل أولادي، طبخ طعام غدائهم، وفي الثّامنة، كان علي أن أكون في المركز. لم يكن لديّ سيارة في ذلك الوقت، لذلك اضطررت إلى السير إلى المركز والعودة منه على الأقدام، وكان المركز بعيدا قليلا – كانت المسافة بينه وبين بيتي كالمسافة تقريبا من الأشرفية الى الدورة 1. كان جسدي الفعليّ متعبًا جدا. سألت نفسي: “هل هذه هي الحياة التّي ستكون لي حتى أموت؟” كان ذلك صعبا جدا، وكنت متعبة جدا. لذلك قلت لزوجي ذات يوم: “ماذا لو غادرت هذا البلد للبحث عن وظيفة أفضل، وعن دخل أفضل؟” قال لا. لكن لما لا؟
كنت محظوظة – لا، لم أكن محظوظة. كانت أمي في لبنان. وهي سن “مالا،” 2 وهي أيضا، هاجرت إلى لبنان في وقت حرب، لكنها كانت محظوظة أن أرباب عملها أخذوها معهم إلى أوروبا خلال الحرب. هذه هي الطريقة التي تمكّنّا بها من التواصل الدائم معها أثناء شبابي، لأنه في ظروف أخرى، كان التّواصل قد يستوجب منّا ستة أشهر للحصول على رسالة منها. سألت أمي عما اذا كانت تعتقد أنني يمكنني الحصول على عمل جيّد إذا جئت إلى لبنان، لأنني أعرف، وأعلم أن العمل المنزلي ليس صفقة كبيرة. أنا معلّمة، متخرّجة من الجامعة، وأنا أدير مشروعي، لكنّني أعرف عن العمل المنزلي لأنّه أثناء طفولتي، لم يكن لدينا أمّ. كان عمري 12 سنة عندما غادرت أمّي، عندما هاجرت إلى السعودية، ثم إلى لبنان. لذلك، لم يكن العمل المنزلي غريبا بالنسبة لنا، لأننا قمنا به في طفولتنا. لم يقم أحد بالغسيل، والكوي، والطّهي بدلا عنّا. كان علينا أن نفعل ذلك بأنفسنا. كان علينا أن نغسل الأطباق، وكان أن نذهب لجلب الماء لأنّه لم يكن لدينا مضخة ضغط المياه، على عكس الحالة الآن. في ذلك الوقت، كان علينا نقل المياه وتخزينها في المطبخ. لذلك سألت أمي إذا كان بإمكانها أن تجد صاحب عمل لي في لبنان. وأعربت أمّي لي عن قلقها حول تركي لأطفالي الثلاثة، ولكن كنت مقتنعة أنهم سيكونون بخير مع والدهم وأنه سيرعاهم بطريقة جيدة. أختي، التّي تخرجت لتوّها من الجامعة، أرادت أن تأتي معي. وقالت: “إذا أنت ذاهبة، أنا ذاهبة.” سألتها عما إذا كانت لا ترغب في ممارسة مهنتها في الفلبين بدلا من ذلك، فأجابتني: “أنت لم تمارسي مهنتك.” لذلك انطلقنا الاثنيان على حد السواء إلى بيروت.
صاحب عمل أمي قام بكفالتي، لأنه في عام 1993، كان التوظيف المباشر لا يزال ممكنا. لم تكوني بحاجة الى وكالة. وكان راعي شقيقتي ابن عم العائلة. وقبل الوصول، لم تكن المعالجة الأولية للأوراق إشكاليّة في الفلبين، كما كان لدينا وثائق قانونية. ذهبنا إلى وكالة حكومية وقدّمنا إسمينا، وقدّموا لنا ندوة توجيهيّة قبل الرحيل: ما يمكن توقعه هنا في بيروت، ما الذّي تعنيه الوظيفة المسمّاة عاملة منزليّة. علّمونا كيفية تشغيل غسالة الملابس، وغسالة الصحون، ما هو الكوي المسطح، ما هو الميكروويف …
وصلنا إلى بيروت. كان علينا أن ننتظر كفلاءنا أن يأتوا لأخذنا. بقينا في تلك الغرفة. تلك الغرفة شديدة القذارة، حيث تتكدس جميع جنسيات عمال المنازل معا. ثم جاء أرباب العمل لأخذنا. وكانت الصدمة، لدى الخروج من المطار. جميع المباني في طريق المطار في حالة من الانهيار. إن الحرب الأهلية لم تنته إلا منذ بضع سنوات مضت. عند مرورالسيارة جنب المباني، كان يولد لديك الانطباع بأنها سوف تسقط عليك. بدت المدينة وكأنها غابة من الاسمنت المحطم والقضبان الحديدية المعلقة بغير إحكام. كنا محظوظتين لأنّ أمي كانت موجودة هنا. أبقتنا عندها ذلك اليوم، وطبخت لنا، ودلّلتنا. لم ننم طوال الليل للحديث، ولتلخيص حيواتنا. عملت أمي في السعودية لمدة عامين، وخلال ذلك الوقت، لم نتلقّى سوى رسالتين. وعندما عادت، قالت إن حياتها هناك كانت مروّعة. هي شخص نيّق في أمور الطعام، قالت أنّها نجت على أكل البطيخ لسنتين كاملتين. ثم، بقيت في لبنان لمدة 18 عاما مع أرباب عملها. كانوا جيّدين، ولكن هي نفس القصة كما في كلّ وقت – مسألة المال. لا يمكن لأصحاب العمل أن يطوك زيادة في الأجر، هم لن يعطوك الزّودة. هناك هامش يقول “أنت عاملة منزلية، وهذا هو مقدار ما يمكن أن تصلي إليه من حيث الراتب.” إذا، وبعد 18 عاما من العمل، تلقّت أمّي 400 دولار فقط.
18 سنة، 400$.
عندما جئت إلى بيروت، رأيت كيف كانت أمي تعمل معظم حياتها. عاشت مع صاحب عمل لديه منزل من ثلاثة طوابق، وكانت تفعل كل الأعمال المنزلية بمفردها. يمكنك فقط تخيل كمّية هذا العمل. وكانت عائلة تقوم بدعوات العشاء مرتين في الأسبوع، وكانت أمّي تطبخ، وتنظف الطّوابق الثلاثة، وتعتني بالطفل. لم يكن بإمكاني تصور كيف عاشت أمّي، وكيف أنها كانت لا تزال تعيش بنفس الطّريقة، إلّا أنّها لم تعد شابّة بعد الآن. وقد تم تعييني لرعاية والدة صاحب العمل مقابل 300 $ في الشهر. اهتممت بالسيدة، ولكننا لم نكن نفهم بعضنا البعض بسبب حواجز اللغة. في ذلك الوقت، لم أكن أفهم العربية – ما زلت لا أفهمها. قررت العثور على وظيفة أكثر ملاءمة لي، وربّ عمل يناسبني، واحدا بإمكاني أن أفهمه. كتبت 4 صفحات على ورقة صفراء واصفة ما أردت، وذهبت إلى صاحب العمل، أي “السّيد،” 3 مع مبادئي التوجيهيّة.
– سيّدي؟
– نعم؟
– هل من الممكن ان اخبرك شيئا؟
– نعم. كتبت ما تريدين أن تقولي لي؟
– نعم، لأنني لا أريد أن أفوّت أي شيء.
شرحت كل شيء، وكان يستمع. قلت أنّ الأمر لم يكن عدم كوني سعيدة معه، ولكن أنّني أردت أن البحث عن عمل آخر، عن شخص ما يمكنني أن أفهمه، ويمكنه أن يفهمني، شخص ما بمقدوره أن يعمل معي جنبا إلى جنب. وافق، ولكن طلب مني أن أسدّد ما دفعه من أجل أن آتي إلى لبنان. وكانت الصفقة. كانت أمي عصبية وقلقة أنّه قد يحدث لي شيء في الخارج 4، لأنها قد سمعت الكثير من القصص عن الناس الذين يعملون لحسابهم الخاص والصعوبات التي يمرّون بها.
أمي، لقد جئت إلى هنا من أجل المال. أنا لم آت الى هنا من أجل أهل الخير. أرجوك افهميني. أنا لا أتركك يا أمي لأنني لا أريد أن أبقى معك. على العكس من ذلك، أنا أحب أن أبقى معك. ولكن أريد، في مجرى الزمن، وربما بعد سنة أو سنتين، عندما أكون بخير، أريد لك أن تعودي إلى البيت، وأن تبقي مع أبي، وأن تبقي مع أخي وأطفالي لأنه قد مر وقت طويل. لم تكوني هناك لمدة 18 عاما، ولقد اشتقنا إليك كثيرا. اذهبي والحقي بعض الوقت. أبي مريض، وأنت لا تصيرين أصغر سنا.
وتفهّمتني.
وبقيت مع صديقة لي في الرابية، وهي صديقة كانت تشتغل مربية أطفال، وعاملة منزلية، وكل المسميات الوظيفية في قطاع الرّعاية، وذلك لأن مخدومتها كانت امرأة مطلقة. لكنها كانت تسكن في غرفة لوحدها.
لقد تمّ الايصاء بي إلى صاحبة عمل رأت شغلي. على ما يبدو، كنت جيدة – وأعجبتها. عندما أجرت معي ربّة العمل المقابلة، سألتني ماهو المرتّب الأساسي الذي أرغب به. قلت لها: “أنا لست هنا لأقول لكم، يا سيدتي، كم أريد. والأمر متروك لكم لدفع مقابل الخدمات التّي أقدّمها. سوف تدفعون لي وفقا لأدائي.” وكانت صفقة. بدأت العمل لديها، وكنت قد سمعتها تقول بالفعل انها سوف تدفع لي 350 $ في الشهر. على ما يبدو، لقد نلت إعجابها، وأحبّتني. وكانت ابنتها البالغة من العمر 5 سنوات قد تعلّقت بي بالفعل بطريقة لا تصدّق منذ اليوم الأول. إذا، في نهاية الشهر، أعطتني مغلفّ فيه مرتّبي. لم تعطه باليد، فقد كانت مهنية. كانوا ناسا طيبين. عندما فتحت المغلف، كان هناك 500 $ في الداخل. لم يكن هناك أيّ عامل منزليّ يكسب 500 دولار هكذا في الشّهر سنة 1993، باعتباره راتب الابتداء. فجأة، صرت أعتني بكلّ شيء في بيتها.
وتفاقم الأمر أكثر فأكثر.
ولكنّني كنت المشكلة. كنت أشعر بالحنين والشوق لشيء آخر. لم يكن ذلك مجرّد العمل الذّي كنت اقوم به كعاملة منزليّة. بعد عامين، كنت أرغب في العودة إلى بلدي. وفي الوقت نفسه، كنت قد أرسلت أمي إلى الفلبّين بالفعل بما أنني كنت أكسب كثيرا. أرسلتها إلى البيت لتكون مع والدي. غادرت إلى الفلبّين وقلت ل”سيدتي” أنّني لم أكن أريد العودة. خلاص. لكن تمّت الرشوة بالمال. سلألتني “ماذا تريدين؟.” “سأقدم كل ما تريدين طالما عدت.” وكانت الطفلة الصغيرة تبكي، ورجتني أن أعود وقالت لي أنّني أمها الثانية. زادوا راتبي 200 $. من الذي لا يريد هذا المال؟ وخصوصا عندما يكون المال هو السبب الذي تركت من أجله بلدك وأولادك في المقام الأول. ولكن لم يزل هناك فراغ في داخلي لم أتمكّن من تفسيره. ذهبت “سيدتي” بقدر أن تجلب زوجي إلى لبنان لكي تخفّف عنّي الوحدة. لسوء الحظ، لم يتحمّل خوض كفاح الحياة معي، وتركني من أجل امرأة أخرى. لا بأس. بكيت بالطبع. لم أكن على ما يرام، ولكنّني الآن بخير.
ذلك الفراغ الذي تسلّل داخلي.
أصبحت منظمة المجتمع الفلبيني لكي أحارب ذلك الفراغ. بدأت التنظيم في حيّي واستخدمت أيام العطل لهذه الغاية. رأيت أن الكثير من النساء تتعرّضن لسوء المعاملة – كان لا بد من القيام بشيء ما. كان هذا هو الشّيء المفقود. كان ذلك ما كنت أفتقده. لذلك بدأت تعبئة المجتمع الفلبيني. ومرت السنوات. أنا وزميلاتي خلقنا PhilBall، وهو فريق كرة السلة الفلبينية في لبنان – أنه يشتغل لمدة 16 عاما حتى الآن – وفرق الكرة الطائرة للرجال والنساء. قمنا بتشجيع العاملات المنزيليات الأجانب الأخريات، وخلقنا قادة يمكنهنّ تولّي العمل عندما نغادر. في عام 2006، خلال الحرب التي شنتها اسرائيل على لبنان، كنت جزءا من فريق الإنقاذ، وقمنا بنقاذ عاملات منازل من جنسيات مختلفة – بنجلادشيّات، سريلانكيّات وفلبينييّات … أينما ذهبنا، شاهدنا العاملات المنزليّات اللّواتي قد تركهنّ أرباب العمل ورائهم، محبوسات في المنازل ومتروكات للموت. أخذناهنّ معنا إلى الملاجئ، وقمنا بالاتّصال بالقنصليات والسفارات المعنيّة. قلت، هذا هو ما أبحث عنه. هذا هو ما أريد. كان هذا عندما بدأت العمل في مجموعة عابرة للأقطار- لقد مرّت 10 سنين بالفعل. كان هذا عندما فهمت حقا أن الفلبينيّات لسن عاملات المنازل الوحيدات. أن العمالة المنزليّة هي نفسها. أنّ العاملات المنزليّات لا توصفن بكونهنّ فلبينيّات أو كاميرونيّات أو مدغشقريّات أو سريلانكيّات، ولكن كعاملات منزليّات. هنّ عاملات منزليّات أولا وقبل كل شيء. عندما أدركت ذلك، عرفت أنّه بإمكاننا أن نفعل شيئا. أنّه يمكننا أن نفعل شيئا للخروج من هذا معا. وهذا هو ما نحن عليه اليوم.
- 1. الأشرفيّة والدّورة حيّان من أحياء بيروت، يفصل بينهما ما لا يقلّ عن كيلومترين.
- 2. بإمكانكم/نّ قراءة شهادة مالا على: http://kohljournal.press/ar/migrating-to-civil-war-2/
- 3. “سيّدي” و”سيّدتي” هم المفردتان اللّتان يُطلب من العمّال الأجانب المنزليّين أن ينادوا أرباب العمل بها. من النّادر أن ينادى أرباب العمل بأسمائهم.
- 4. بالنسبة للعمال المنزليين الأجانب، العمل في الخارج يعني عدم العيش مع العائلة التّي يعملون عندها، وامكانيّة العمل لدى عائلات متعدّدة، أي أنّهم يستأجرون غرفهم الخاصّة ويقبضون حسب ساعات العمل في منازل مختلفة.