حقوق النساء في العراق: تحديات قديمة وحديثة
المطالبة بحقوق المرأة لم يكن بالقضية السهلة، حتى وبعد مرور أكثر من قرن على ظهور البوادر الأولى لحركة نسوية عربية تطالب بحقوق المرأة/ الأنسان، التي تزامنت وقاربت في مطاليبها وأشكال نضالها الحركة النسوية العالمية.
إن التغيرات السياسية التي شهدتها المنطقة وخصوصاً العراق جعلت تحليل الواقع النسوي معقداً ومتشابكاً، أرتبط بدرجة كبيرة بما يعرف بنسوية الأنظمة السياسية وما أحتوت عليه من صراعات أيديولوجية رافقت مرحلة الأستقلال الوطني وما بعد الأستقلال، صاغت شكل العلاقة بين الدولة الوطنية والنساء. أصبحت حقوق ومصالح النساء مرهونة بموقف الدولة وتوجهها حول إشراكهنً أو إبعادهنً في المشروع الوطني للدولة. يظهر ذلك جلياً عبر التناقض في تشريع القوانين الخاصة بالمرأة ومدى مقاربتها لمبدأ المساواة والعدالة، ويعتبر قانون الأحوال الشخصية من أهم المحددات الناظمة لعلاقات السلطة بين الرجال والنساء.
أن التحليلات التأريخية للحركة النسائية في العراق وباقي المجتمعات العربية، ترصد الكيفية التي تحركت بها مجموعات النساء وأرتباطاتها بحركات التحرر الوطنية، التي نضالت في سبيل الأستقلال السياسي، وتأكيد الهوية الوطنية وتحديث المجتمع. فحركات الأستقلال الوطني ضمت الى جوانبها جهود النساء ومشاركتهنً، بنفس الوقت اسُتخدمنً كرموز وأصبحنً معاني وقيم للتماسك والترابط للرجال. فالأمة شبهت كإمرأة تحتاج الحماية والتضحية في سبيلها. في النهاية، لم تجد النساء انفسهنً ضمن مواقع قيادة الدولة الوطنية الحديثة التي قامت على أثار تركة الأستعمار، ولم تستطع الدولة الوطنية الجديدة استيعاب النساء كمواطنات متساويات في الحقوق – حقوق النوع - ظهر ذلك جلياً حينما تركت المجال الخاص "الأسرة" على حاله، وأحتفظت برؤيتها الخاصة عن أدوار النساء المنزلية التقليدية، وحافظت على إستحقاقات الرجال السلطوية "المشروعة" عبر قوانين الأحوال الشخصية.
الوضع في العراق كان مختلفاً نوعاً ما، والتناقض كان اقل حدة، حيث أستطاعت ناشطات نسويات وبمباركة قادة السلطة أنذاك، أن يقدمنً مشروع قانون للأحوال الشخصية عدً من أفضل القوانين أنذاك في مقاربة علاقات المساواة في النوع، وأعتمد أحكام المذاهب الخمس ما يناسب هذه المقاربة. كان ذلك في سنة 1959. ومنذ ذلك الوقت تعرض القانون لتجاذبات النظم السياسية التي توالت على حكم العراق، ومدى قربها وبعدها عن التيارات الأسلامية التي رفضت القانون جملة وتفصيلا، بحجة مخالفته للشريعية الأسلامية. فتارة تحذف أو تعدل إحدى المواد وتارة آخرى تضاف مادة جديدة.
تعتبر الحركات النسوية قوانين الأحوال الشخصية مؤشر مهماً يحدد وضع المرأة داخل المجتمع، وبنفس الوقت يوفر الضمانة والحماية لأي حقوق مكتسبة، حتى وان كانت خجولة أو جاءت بغفلة من الزمن. الا أن تأطير الحقوق بالقانون لا يعني بالضرورة تطبيقها على ارض الواقع، ورغم أن القانون العراقي جاء بنية التطور والإصلاح – وما يزال هو الأفضل من بين قوانين المنطقة - فهو لم يحرك ساكناً أمام التغييرات المستمرة في حياة وواقع والنساء أحتياجاتهنً. فالعراق من أكثر دول المنطقة عاش عقوداً من أضطرابات سياسية ونزعات وحروب وحصار أقتصادي لم يشهده بلد في التاريخ الحديث. وهو أول فَرَطَ عقد النظم السياسية الدكتاتورية في المنطقة، حيث إنهار النظام السياسي الشمولي الدكتاتوري في العراق سنة 2003، لكن بإرادة دولية، حيث قررت قوات التحالف الدولية بقيادة الولايات المتحدة، وضع حداً لهذا النظام لإسباب مازالت في دائرة الجدل. وبذلك دخل العراق مرحلة ربيع إجبارية مازالت تلقي بظلالها على البلد بأنهيار آمني وصراعات مسلحة وحرب طائفية.
كثيرة هي القضايا التي اثارت الحيرة والأستغراب في العراق ما بعد 2003، وما ألت اليه أوضاع النساء، كونهنً المستهدفات بشكل خاص في الإزمات والصراعات. وكان محاولة الغاء قانون الأحوال الشخصية رقم (188) لسنة 1959 هو اغربها واقساها على النساء والحركة النسوية العراقية. هذه المحاولات بدأها بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي لسلطة قوات الأئتلاف، بالتواطؤ ونزولاً لرغبة وإرضاء لبعض الشخصيات الدينية نفسها التي كانت معارضة لقانون الأحوال الشخصية 1959. الأ أن مجموعة من الناشطات النسويات تصدينً وبشراسة لبقاء قانون (188) لسنة 1959 والغاء قرار (137) لسنة 2003 الصادر من مجلس الحكم - أول هيئة وطنية تتولى السلطة بعد الأحتلال - الذي جعل المذهب والطائفة هي المرجع الأول للأفراد في أحوالهم/نً الشخصية، والغى مفهوم الدولة المدنية والمساواة بين العراقيين/ات أمام القانون، وبنفس الوقت كل الحقوق التي أكتسبتها المرأة الموجودة في قانون الأحوال الشخصية (188)، وقد نجحت هذه المجموعة من الناشطات من الغاء قرار (137)، والأبقاء على قانون الأحوال (188).
الا ان المعركة لم تنهي عند هذا الحد. فمحتوى القرار السيء الصيت وضع كمادة دستورية (41) تعطي الحق للعراقيين/ات بالرجوع الى طوائفهم/نً في تنظيم أحوالهم/نً الشخصية. وعادت مرة أخرى الناشطات النسويات بأثارة الرأي العام عن طريق حملات المدافعة - والتي تعد بحق تجربة فريدة في تاريخ النضال النسوي العراقي - على ألغاء المادة (41)، وفعلا تم تجميد هذه المادة، وهي الآن ضمن المواد الدستورية الخلافية من أجل التعديل.
في 2014 أحال مجلس الوزراء مشروع قانون (الأحوال الشخصية الجعفري) من قبل وزراة العدل، وزيرها ينتمي لحزب سياسي إسلامي، أو ما يعرف بالاسلام السياسي. كان الهدف من هذا المشروع هو تنظيم أحوال من يتبعون/نً المذهب الشيعي، لذلك فهو غير ملزم لبقية المذاهب حسبما يدعون. لن أدخل في تفاصيل هذا القانون الذي ضم (253) مادة، لكني سوف اذكر بعض المواد التي لا تحتاج الى شرح او توضيح الى أي مدى تحكم دائرية الزمن قضية المرأة وكأننا عدنا لبدايات القرن العشرين:
المادة (50) زواج الأطفال حيث نص القانون على أن: "الأب والجد من طرف الأب العاقلان المسلمان لهما الحق حصراً ولاية التزويج على الطفل الصغير والصغيرة وعلى المجنون المتصل جنونه بالبلوغ"
المادة (62) تعدد الزوجات: "لا يصح نكاح المرأة الخامسة ما دامت الأربع باقية في عصمة الرجل" وبذلك يجوز للرجل التزوج باكثر من زوجة الى اربعة زوجات، وله التزوج باخرى ما دام لم يجمع اربع زوجات في نفس الوقت.
المادة (63) الزواج من خارج الدين الأسلام: " لا يصح نكاح المسلمة من غير مسلم مطلقاً، ولا يصح نكاح المسلم نكاحاً دائماً من غير المسلمة مطلقاً والمرتدة عن الدين الأسلامي" لا يجوز للمسلمة أو المسلم الزواج من خارج الدين الأسلامي بشكل دائمي، لكن القانون أجاز للرجل الزواج من غير المسلمة زواج مؤقت.
المادة (101) حق الزوج على الزوجة أمران هما : "اولاً- أن تمكنه من نفسها للمقاربة وغيرها من الأستمتاعات الثابتة له بمقتضى العقد في اي وقت شاء وأن لا تمنعه الا بعذر شرعي، وان لا تفعل اي فعل ينافي حقه في الأستمتاع. ثانياُ – أن لا تخرج من بيت الزوجية الآ بأذنه".
المادة (108) متى تكون الزوجة ناشز: " أذا نشزت الزوجة بمنعها زوجها حق الأستمتاع بها مطلقاً يسقط حقها في النفقة وحقها في المبيت والمواقعة، أما امتناعها لاحيان قليلة وكذلك الخروج من بيتها بغير أذن الزوج فلا تسقط النفقة" اما الزوج فلا يعد ناشزا - لنفس السبب - الا اذا امتنع عن مقاربة الزوجة لاكثر من اربعة اشهر (نفس المادة).
المادة (118) الحضانة: " أذا أفترق الأبوان ثم تزوجت الأم من شخص آخر سقط حقها في الحضانة وتكون للأب خاصة ولا يعود حق الزوجة بالحضانة حتى ولو فارقت زوجها الثاني"
المادة (126) النفقة: " لا يكون الزوج ملزماً بالانفاق على زوجته اذا كانت الزوجة صغيرة غير قابلة لأستمتاع زوجها بها".
المادة (147) الطلاق: "الطلاق البائن وفيه لا يكون للزوج الرجوع الى المطلقة سواء أكانت لها عدة أو لا وينقسم الى: أ- طلاق الصغيرة التي لم تبلغ (9) التسع من عمرها، وأن دخل بها عمداً أو أشتباهاً"
هذه بعض الأحكام التي تناولها القانون الجعفري الجديد، ومعظمها بعيد كل البعد عن النصوص المتضمنة في قانون الأحوال الشخصية النافذ (188) لسنة 1959. أخطرها هي تزويج وتطليق الفتاة الصغيرة، رغم أن المشرع في القانون الجعفري لم يحدد أو يضع الحد الأدنى لزواج الأطفال، هذا يعني أنه للولي تزويج الأطفال حتى ولو كان عمر الطفل/ة يوما واحداً!! الا أنه ذُكر عمر (9) تسع سنوات للزوجة الطفلة – أو كما أسماها الصغيرة - في المادة 147، وأصبحت مشكلة عدم نضوج الجهاز التناسلي للطفلة الذي يمنع الرجل من "الأستمتاع بها" مدعاة لوضع تشريع فقهي لهذه الحالة الشاذة اللأنسانية.
جُمدت مسودة مشروع قانون الأحوال الجعفري بعد حملات المدافعة والضغط من قبل الناشطات والحراك المدني على الحكومة والبرلمان، الا ان هذا لا يعني بعدم وجود إرادة سياسية مازالت تسعى لإقراره. هنا تظهر التحديات الكبيرة التي توجه النساء في العراق وبشكل خاص النساء الناشطات، فهي تحديات قديمة جديدة، وأنجازات تقابلها إشكاليات. فنسبة المشاركة السياسية للنساء لا توجد في أكثر البلدان ديمقراطية، حيث أقر الدستور العراقي نظام الكوتا النسائي، وحدد نسبة للنساء في البرلمان لا تقل عن 25%. بنفس الوقت ترتفع مستوى الأمية الى درجة كبيرة توصف بالخطرة. وهناك حضور واضح وكبير للنساء في المجال العام يأخذ أشكالاً متعددة سياسية وأجتماعية وثقافية ودينية ومشاركة في منظمات المجتمع المدني، لكن أيضاً يُسجَل ارتفاع مخيف بنسبة العنف الموجه ضد النساء، في ظل غياب سلطة القانون بسبب تردي الأوضاع الأمنية، وضعف أجهزة إنفاذ القانون.
قسم من هذه الإشكاليات مفتعل بإرادة سياسية تريد تحقيق مصالحها السلطوية وتحاول اشراك المرأة بشكل محوري في خطابها الأيدلوجي/الإسلامي في إطار الأختلاف عن باقي التوجهات والتيارات "العلمانية"، والقسم الآخر ناتج عن الظروف السياسية والأجتماعية التي مر بها المجتمع العراقي.
لكن رغم كل التحديات قديمها وحديثها، الا أن الحراك النسوي العراقي كان له حضور واضح على الساحة السياسية، فرضت أرادة نسوية تقودها مجموعات من النساء الناشطات، أثبتنً أن عجلة الزمن تسير بأطراد مع كل العراقيل التي تضعها السلطة الأبوية.