ما تفعله الحكايات بقلوبنا
Islamkhatib.png
عندما تتشكل الأحرف على اللّسان لتعبر عن حكايتنا من خلال القصّ، تفقد القلوب صممها، إذ تحمل الكلمات بين طياتها مشاعر وذكريات قد لا تكون لي، ولكنّها تتضافر وتتشابك لتخبرني أنّ الألم يوحدّنا جميعا.
منذ تواجدي في “مشروع بصي”*، مرّت عليّ الكثير من القصص منها ما تشابه مع قصّتي وحكاها على لسان بطلة أخرى، ومنها ما بدا قصيّا وقرّبته التّجربة.
“المكان ده” هو مساحة زمنية للتأمل في قصص 11 سيدة. العرض هو نتاج ورشة حكي لمدة ثلاثة أشهر نظمتها بصي بالتعاون مع جمعية رعاية أطفال السجينات مع مجموعة سجينات سابقات. العرض يحكي قصصا عن الحياة داخل السجن والوصم الاجتماعي وتأثيره على السجينات السابقات. تعتمد فكرة العرض على محاكاة الحضور لتجربة السجن من خلال المكان والقصص.
عملت خلال الثلاثة أشهر الخاصة بالورشة على تجميع القصص وسماعها وتدوينها. عادةً لا نخرج من ورش الحكي كما دخلناها، إذ أنّنا نمتزج مع الحكايات وأصحابها، فنخرج من الورشة وقد حُملت أرواحنا بالكثير من المشاعر المختلطة التي لا تُعيدنا إلى أنفسنا السّابقة، كأنّ أعيننا اتسعت لترى مساحات أخرى لم نكن نراها من قبل، وكأن قلوبنا تلامست مع كل القلوب المحيطة بها فامتلأت بالمحبة وفاضت.
لم يسبق لي من قبل التواجد مع سجينات أو التعامل معهن، اكتسبت كل معلوماتي عن السجن والسجينات من الكتب والتلفاز، واختلفت المعايشة كثيرا عن الصّور النمطيّة التّي تشرّبناها. تسمح المعايشة أن يسمع المرء البعد المخفيّ والمسكوت عنه من القصة، فيتعاطف مع راويها بغض النظر عن الأحكام المسبقة عليه – وهذا ما حدث معي بالفعل – إذ لا تحمل الصورة بعدا واحدا فقط كما اعتدنا رؤيته في الإعلام، فذلك البعد الأوحد هو لضيق إدراكنا ولتحكّم القوى المجتمعيّة المهيمنة فيه. ما فعلته الورشة بي، هو أنّها جعلتني أرى أبعادا أخرى للصورة الحاملة في ظاهرها للذّنب والتكفير عنه، وفي باطنها رحمة أو تضحية أو صرخة وجود واستحقاق. لكل إنسان حق في أن يجد الدعم الذي يحتاجه بشكل غير مشروط، إن سمّيناه “مجرما” أو “بريئا”.
تستخدم أنظمة الحكم مؤسسة السجن كعقاب لردع المواطنين/ات، وكأن الإنسان يتلذذ بقهر غيره حين تحين له الفرصة. فالمنظومة العقابية لا توفر الاصلاح، ولاتوفّر الرعاية الصحية للمسجونين/ات وتزيدهم/نّ أمراضا جسديّة ونفسيّة لا تنقضي لدى إطلاق السراح. فتدهور الحالة الصحية يؤثر على جودة حياتهم/نّ بعد إنقضاء مدة السجن، خصوصا لدى النساء، إذ أنّ صحتهنّ تعتبر هامشية خارج قضبان السجن ووراءها سواء. كانت معظم المشاركات في الورشة يشتكين من هشاشة العظام وآلام المفاصل ويرجعن تلك الأمراض إلى الفترة التي قضينها في السجن.
أخبرتنا المشاركات بالورشة أنهن لم يفقدن صحّتهنّ وسمعتهنّ فقط، بل أخبرتني إحداهنّ أنها فقدت بيتها وحضانة ابنتها، فقد طلقها زوجها بمجرد القبض عليها، بالرغم أن بعض الجنيهات كانت كفيلة بحلّ مشكلتها، لكن من خالته أقرب الناس إليها تخلّى عنها وقضت سبعة أشهر في السجن وخسرت كلّ ما تملك. وأخبرتني ثانية أنّها خرجت بعد قضاء عقوبتها في السّجن لتجد زوجها قد تزوج عليها وحرمها من ابنها. وقالت ثالثة أنّها حصلت على البراءة بعد قضاء خمس سنوات من مدّة الحكم في السجن، خمس سنوات بتمامها وكماها قضّتها وهي فاقدة لحريتها، خسرت خلالها بيتها لكي تتمكّن من دفع أتعاب المحامي. في السجن، لا تخسر السجينات أعمارهنّ فقط، بل تنال الخسائر من صحّتهنّ ومن ثقتهنّ في أنفسهنّ ومن قدرتهنّ على الإندماج مرة أخرى في مجتمعاتهنّ، إذ أنّ المجتمع لا يتقبلهنّ ك”مواطنات صالحات”، بل يتفنن في تذكيرهنّ بتجربتهنّ طوال الوقت لدى بحثهنّ عن عمل أو زواج أوغيرها من الأمور الإجتماعية.
تحتفظ ذاكرتي بتلك اللحظة التي احتضنتني إحدى المشاركات وأخبرتني أنها في تلك المساحة التي تصنعها بصي -في تلك المساحة فقط- لا تشعر بأنها موصومة وتشعر أنها إنسانة مثلها مثل غيرها، إذ أنّ المجتمع يتمادى في عقاب من انقضت فترة عقابهنّ الفعلية. وأخبرتني أخرى أنها لا تريد سوى أن تعيش في سلام مع أولادها دون أن تضطر لأن تختلق الأعذار. وأخبرتني ثالثة أنها لا تريد أن ترى نظرات الشفقة والحسرة مرّة أخرى في أعين من حولها. وأخبرتني رابعة عن إبداعها في إخفاء قصتها عن أزواج بناتها حتى تُنجيهم من حمل تلك الوصمة معها، وقالت لي:
“أنا بـ حس إن عيالي بـ يقلقوا مني عشان كنت محبوسة
بـ حس إنهم مش بـ يعاملوني كـأمهم لأ كـواحدة عادية بالنسبة لهم
وأخواتي بـ يقولولي: “آه ما انت دخلتي السجن”
“انت أسلوبك بقي أسلوب السجن”
مع إني ولا بـ شتم ولا بـ عمل حاجة من الحاجات دي خالص
وبـ حس ناس كتير خايفين مني”
جميعهن يردن الحياة دون الوصمة، إذ أخبرتني إحدى المشاركات أنها تكرس كل مساعيها لتفوز بقضية رد الاعتبار.
“أنا هـ عمل رد اعتبار عشان ولادي، لكن رجوع تاني لجوزي لأ
هو السبب في كل اللي أنا فيه، كان مضيقها علينا جامد
وكل ما كنت أقوله علي حاجة كان يقولي: “اتصرفي”
كنت بـ تمرمط انا وعيالي”
عندما حان وقت عرض حكاياتهن على الجمهور، كنا نتطلع لأن نسمع آرائهن عن الآداء، لذلك اصطحبناهن لمكان العرض في يومه الثاني، وبدأنا نقرأ عليهن تعليقات الجمهور، وحينها اختلطت المشاعر بين دموع لا تتوقف ولمعان أعين قاوم سنين الحزن والألم، كنّ يردن فقط أن يشعرن أن هناك من يعذرهن ويتلامس مع حكاياتهن ويرى أنهن بشر يخطئن أحيانا ويصبن أحيانا أخرى، كن يردن من يعترف بضعفهن أو قوّتهنّ ويتقبلهما الاثنين ليس أكثر، فربما ساعدهنّ ذلك على التخلص من إحساسهن الدائم بالذنب والوصمة. إذ عند الوهلة الأولى تخال تلك النساء سيدات القهر والعوزة، ولكن بعد سماع قصصهن تشعر أنهن بطلات معركة حقيقية، يُخضنها بمفردهن دون كلل أو ندم.
تتقاطع الحكايات وتنفصل أيضا لكن يبقى شئ واحد ثابت أنها تحملنا إلي عوالم أخرى لم يخطر لنا في يوم أننا سنمضي بعض الوقت فيها. نقلنا عرض “المكان ده” لمساحة مختلفة من المساحات التي يتناولها الفن، فهو أعطى الصوت لحكايات كانت تدفن بمجرد أن تخرج صاحباتها من بوابة السجن، فهنّ يحاولن الهرب من تذكر مرارة التجربة.
بصي هو مشروع فني يهدف إلى خلق مساحة حرة للسيدات والرجال في مصر لحكي التجارب الشخصية المسكوت عنها في المجتمع. تقوم بصي أيضًا بتوثيق وعرض القصص الحقيقية في شكل عروض مسرحية، في مجتمعات مختلفة في مصر.
بصي تحاول مقاومة القيود المجتمعية من خلال المسرح. تقف السيدات والرجال في مختلف المجتمعات والمدن المصرية على خشبة المسرح لمشاركة حكاياتهن/م عن التحرش والاغتصاب، والتمييز، وجرائم الشرف، والزواج القهري، والختان، والأمومة، والعنف الأسري، والاعتداء الجنسي على الأطفال، والاعتداء الجنسي الجماعي، وغيرها من الموضوعات التي يصنفها المجتمع كتابوهات ممنوع الكلام عنها. ينظم المشروع ورش حكي لأفراد من خلفيات وأعمار مختلفة، ويقوم بتدريب المشاركين على الحكي ودعمهم وتشجيعهم على حكي قصصهم الشخصية على المسرح.
لمزيد من المعلومات عن مشروع بصي: www.bussy.co
فيسبوك: TheBuSSyProject