مذكّرات الحرب

السيرة: 

لمى طالب نسوية تقاطعية من صور، لبنان. تُصارع مع تعقيدات الكتابة مُستعيدةً لنفسها لقب هاوية الكتابة. تهيم لمى متجولّةً عبر النفس البشرية وفي أرجاء العالم الفسيح الذي نعيش فيه.

اقتباس: 
لمى طالب. "مذكّرات الحرب". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 11 عدد 2 (16 تشرين الأول/أكتوبر 2025): ص. 3-3. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 16 تشرين الأول/أكتوبر 2025). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/war-journal.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
ترجمة: 

مدير الترجمة في مجلة "كحل". تمارس الترجمة المكتوبة والتعاقبيّة مع تخصص في مجال السياسة والإدارة العامة وموضوعات الهجرة / اللاجئين والعلوم التربوية.

درست أمل الأدب الروسي ومارست عمل الترجمة لأكثر من 20 عامًا غطت خلالها طيفًا واسعًا من الموضوعات بما في ذلك الرياضة وأفلام الكرتون للأطفال والأفلام الوثائقية التاريخية والمسلسلات الدرامية والبحوث الإجتماعية والانثرويبولوجية وأما أبرز أعمالها فكانت في ترجمة البرامج السياسية التلفزيونية.

 

war_journal_ar.jpg

ميرا المير

يعلو طنين الطائرة، وتُعانقنا أمّي بلمساتها الدافئة، وكأنّنا نلفظ أنفاسنا الأخيرة. تسقط قنبلة لتهتزّ معها الأرض فأختبئ مُحتميةً بظهر أمّي كدرع. تؤكد لنا قائلةً: "كلّ شيء سيكون على ما يرام"، وتؤكد لنا بأننا سننجو من هذا الانفجار. نُضيء شموعنا متتبّعين الخيالات أمامنا، متوجّهين نحو الملجأ الأقرب لنا وسط الفوضى ووسط صدى القنابل الذي يلاحقنا كطيفٍ مرعب. أتعلّق بحبلٍ ما بين الحلم والواقع، إنني في السادسة من عمري.

لم أفهم حينها تماماً ما الذي كان يجري، لم تكن حياتنا مستقرّة. لقد اعتدت على فكرة التنقّل من أماكن مختلفة لأخرى، ولم يكن منزل جدتي الصغير المستأجر في مخيم البرج الشمالي للاجئين مستثنى من تلك الحالة. كنّا قد تركنا شقتنا في صور عام 2006 بسبب موقعها الخطر، كان الإسرائيليون يقصفون المدن ويسيطرون على القرى. لم يكن للناس في صور مكان يلجأون إليه، كانوا يمكثون عند الشاطئ بكونه المكان الأكثر أمناً في الجوار. أمضوا النهارات والليالي بالقليل من الطعام حيث كادت تنعدم مصادرها، جاهلين تماماً ما يخبئ لهم اليوم التالي.

***

استوعبت في عام 2024 كيف تُطبِق الرأسمالية الخناق على أنفاسنا وتُجهِز على أرواحنا. كما الآخرين تماماً، اقتُلِعتُ أنا وعائلتي من الجنوب بشواطئه ذات الرمال الذهبية لينتهي بنا المطاف في عكّار في قريةٍ تدعى ببنين. السماء في صور محجوبةٌ بضبابٍ أزرق رقيق أمّا في ببنين فإنها تسدل ستاراً رمادياً يختلط مع ظلال المباني، قبل أن يجثم بحياء فوق المدينة بأسرها. اكتظّ منزلٌ واحد بعائلتنا الممتدّة كلّها، لنتمكّن من تحمّل أعباء البقاء مع الزيادة الشرسة في الإجارات والتكاليف. كنت أعمل عن بُعد وكان عليّ بذل قصارى جهدي كي لا أُطرَد من العمل، لأنني كنت مصدر الدخل الوحيد للعائلة.

لم يكن أحدٌ مرتاحاً، كانت تندلع بضع اشتباكات جديدة كلّ يوم، والضغط النفسي كان مروّعاً. في أحد الصباحات، وسط العمل والاشتباكات، انهارت أعصابي. لم يكن بإمكاني طلب إجازة من العمل لأن ساعات عملي كانت على وشك البدء والوقت لا يسمح. كانت الدموع تنساب على وجهي ولا أعرف ما الذي عليّ فعله، لذا تابعت عملي وسط الدموع والأصوات المزلزلة التي كانت تحاصرني.

أدركت تماماً حينها أنني مقيّدةٌ فعلياً بالرأسمالية، لستُ سوى آلةٍ تحاول إنهاء مهام عملها في الوقت المحدّد في بلدٍ بالكاد أشعر فيه بأنني على قيد الحياة. إنها كذبةٌ كبيرة، ما الذي يعنيه أن تحصل على عملٍ جيّد؟ أن ندع تلك التسلسلات الهرمية ترسم حدود كينونتنا استناداً إلى مرتّباتنا وتسلسلنا الهرمي وخلفيّاتنا؟ ما التالي؟ ما الذي يُفترَض بي أن أفعله؟

***

لا أعلم من أين أبدأ. كنت قد انتقلت إلى بيروت قبل بضعة أشهر، ولم أشهد بنفسي عن كثب، كما شهدت عائلتي، رعب كمين أجهزة البايجر. كان بإمكانهم رؤية كلّ التفجيرات من صور بسبب قربها الشديد من الحدود مع فلسطين.

ما إن اقتربت الضربات، كانت الحرب رسمياً قد بدأت وقرّرت عائلتي الرحيل. علِقوا في الزُحام طوال اليوم وبجعبتهم أكبر قدرٍ من الذكريات التي اتسعت لها أمتعتهم، تاركين المكان دون علمٍ بما قد يحدث لاحقاً. 

في الوقت ذاته كنت في مخيم مار الياس، ومالك الشقة التي كنت أستأجرها قرّر استعادتها. بعد تفاوض وتوسّلات، قَبِل أخيراً وتركنا نبقى بشرط عدم استضافتنا لنازحين آخرين. غير أنه وفي نهاية المطاف طردنا من الشقة وجدّدها، ولم يسكن بها أحد حتى يومنا هذا.

مكثت إحدى صديقاتي مع أصحاب عملها في ديرٍ في مونو. بالكاد توافرت شقق للإيجار بأسعار معقولة، لذا ذهبت للمكوث معها. كان الدير ممتلئاً بالغرف، تماماً كما النُزُل. لكلّ ثلاثة طوابق كان هناك مطبخ. كانت هناك غرفةٌ للغسيل على السطح حيث كان المطَلّ مبهراً.

في الدير كنّا ثلاثة أصدقاء، فاف وهيلدا وأنا، هناك خلال الحرب توطّدت علاقتنا أكثر، هناك كشفنا عن الكثير من الأشياء التي ما كنّا لنكشف عنها في أي وقت آخر. بكينا وضحكنا وحضنّا بعضنا الآخر. تطوّعنا للمساعدة في الكنيسة المجاورة، حيث مكث عمّال المنازل المهاجرون، ووفّرنا لهم القدر الممكن من المساعدة.

كان لـ فاف تعريفها الخاص للأمور والذي ضحض المنطق بكلّ المعايير. كانت انتقائيةً جداً في تناول الطعام، ما كانت لتأكل الثوم أو البصل وأرادت اللحم أن يكون مطهواً بطريقةٍ خاصةٍ جداً. سألتها مرّةً: "ماذا عن التبّولة، كيف لك أن تأكليها من دون بصل؟" فأجابت: "البصل الأخضر لا يُعَدّ بصلاً". لم تكن تعتبر صيدا أو النبطية جزءاً من الجنوب. كان الجنوب برأيها يبدأ من نقطة تفتيش القاسمية.

عَلِقنا في دوامة روتين الحرب. كنّا نذهب إلى عملنا وما إن نعود نتوجّه نحو المطبخ المشترك لنحضّر الغداء. كنّا نحرص على أن يكون الطعام ملائماً للجميع. في بعض الأيام كنّا نطلب الطعام من "تشيكين واي". كنّا نجلس مرّةً حول المائدة المربّعة نتناول طعامنا، متبادلين سير مجريات العمل ومنفّسين عن أنفسنا. للمفارقة، نظّمت لنا الحرب حياتنا وسط الفوضى.

كنّا نجتمع في الليل لتناول فنجان قهوتنا الثاني، كنّا نتناوله أثناء شجارنا حول غش إحدانا في لعبة طاولةٍ ما بهدف الفوز. تسبّب التوتر المتصاعد في إقلاعنا عن اللعب في معظم الأحيان لعدم تمكّننا من ضبط الأمسية.

في أيامٍ أكثر هدوءاً كنّا نقرأ الكتب، كنّا نجلس سوياً نقرأ ونناقش أي شيء نجده مثيراً للاهتمام.

***

أخذتُ فرصةً من العمل، أردت أن أفكّر في كلّ مجريات الأمور التي تحدث حولي. ينتهي أول أسبوع، حيث زرت عائلتي في عكار. كان يستغرقني الوصول إلى هناك من ثلاث إلى أربع ساعات. ادّعت شقيقاتي بأنني أعيش في عالم خيالي، لم أكن معهم خلال القصف في صور، ولم أكن معهم عندما علقوا في زحام السير طوال يوم قبل وصولهم إلى بيروت. بالرغم من ذلك كنت أسمع كلّ يوم القصف الذي استهدف بيروت. كان مقدار التوتر الذي كابدناه يفوق كلّ التصوّرات. 

في الثامن والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر من عام 2024، حذّر الصهاينة من الضربات الوشيكة لمنطقةٍ في صور تضمّنت منزلنا. كنت أعمل، لكن صديقاً اتصل بي وطلب منّي متابعة الأخبار. كان صوته يرتعش من الخوف، لأن والديه رفضا مغادرة منزلهما وكانا لا يزالان في صور. كنّا نعدُّ حرفياً الثواني بشكل تنازلي، وكان الدم يسير بارداً في عروقنا. كنّا نتنفّس بين الفينة والأخرى عندما نتذكّر ضرورة ذلك. بدأ الصهاينة بإطلاق الصواريخ بكثافةٍ فوق المدينة. خلال البثّ التلفزيوني المباشر شاهدنا المباني تتهاوى مستويةً مع الأرض، لا يبقى منها سوى ضباب من الغبار. في ذهننا المستعدّ دوماً لتوقّع الأسوأ، تخيّلنا وداعنا لمنازل لن نعود إليها مجدداً… أبداً. بعد بضع ساعات، تواصلنا مع أناس كانوا ما زالوا في صور. نجى صديق والديّ، لكن والدته كانت قد أُصيبت في ساقها أثناء الهرب باتجاه الشاطئ. أمّا بالنسبة إلى مبنى شقّتنا فقد كان لا يزال في مكانه، غير أن المبنى المجاور كان قد تهاوى.

***

عندما سمعنا في الأنباء عن وقفٍ لإطلاق النار، لم نصدّقه بدايةً. أيَعني هذا أنّ بإمكاننا حقّاً العودة؟ أيَعني هذا أن بإمكاننا السير على الرمال الساخنة، وأنني سأتمكّن من رؤية شاطئ صور المكتظّ بالناس مجدداً؟ وأن أسير على نفس الطريق الذي كنت أسلكه كلّ صباح لأشاهد شروق الشمس كاشفاً البحر أمام ناظريّ؟

في الليلة السابقة لوقف إطلاق النار، أردتُ أن أنام بعمقٍ تفادياً للانتظار، لكنني كنت أستيقظ بين الفينة والأخرى على صوت الصواريخ التي كانت تستهدف بيروت وضواحيها. هيلدا التي لم يغمض لها جفن طوال الليل، اقتحمت غرفتي لتخبرني بأنهم سيستهدفون منطقتنا. كان الهلع والذعر يسيطران عليها، أمّا أنا فكنت بالكاد أستوعب ما يدور حولي بسبب قلّة النوم. اقترحَت أن نحتمي في الكنيسة المجاورة لنا. أمسكتُ بها وقلت: "لا مانع لديّ إن كان ذلك سيهدئ من روعك قليلاً"، قلت لها بأننا على وشك أن نسمع أصوات عالية جداً، لكنني أكّدت لها بأنني سأبقى لأدعمها وإلى جانبها.

كان الانفجار قريباً جداً، لكن لم يحدث شيء لنا في تلك الليلة التي أمضينا ما تبقّى منها سوية. من السطح كنّا نرى الانفجارات تضيء السماء كالنجوم. شعرنا بالخدر، حتى أننا أخذنا نتفحّص على الخارطة أين يمكن أن يسقط الصاروخ التالي، ونشير إليه بالمقارنة إلى المكان الذي كنّا فيه. لا أعلم إن كان ذلك تصرّفاً مُريباً! ربّما. لكن لم يكن لأيّ ممّا يحدث أيّة علاقة بالمنطق. مات الزمن، وأذعنا لمعنى الزمن بالنسبة للمُعتدي: التفجيرات والدمار والموت وصراخ الأطفال والآباء. إنها حربٌ نفسية يسودها الرعب.

ما إن أيقظتنا أشعة الشمس حتى رحّب بنا يوم جديد. لقد بدأ وقف إطلاق النار رسمياً وكان الصمت صاخباً. حدّق بنا رعبٌ جديد، الخوف من المجهول. قررت فاف العودة إلى منزلها في الضاحية. سارعت إلى السيارة جلست في المقعد الأمامي بينما هيلدا جلست في الخلف، وأدارت فاف أغنية "راجعين"1 دون توقف حتى وصلنا. 

"مفتاح البيت بقلبي وانا راجع بإيدي ولدي"

كان الهواء ثقيلاً، الشوارع كانت مليئة بالسيارات والناس والأنقاض. كانت رؤية الأنقاض على الشاشة أمراً، ورؤيتها في الحياة الفعلية أمراً آخر. كان الرجال يطلقون النار بنحوٍ جنوني احتفالاً بانتهاء الحرب بـ"النصر". ما إن وصلنا منزل فاف، حتى خرجت من السيارة وحدّقت بشرفة المنزل مذهولةً، امتلأت عيناها بالدموع وأشارت قائلة: "ها هو! مازال هنا". كان المبنى محاصراً باللاشيء سوى الأنقاض والدمار. هرعَت مسرعةً إلى الداخل وصعدَت السلالم. وما إن وصلَت مدخل شقتها حتى بدأت تُفرغ جيابها بحثاً عن المفاتيح غير أنها لم تجدها.

لقد نسيَت مفاتيح منزلها.

***

من المُذهل كيف تعمل أدمغتنا، ذكرياتنا تربط كلّ الأشياء ببعضها كخارطة طريق تُحفّز كلّ عصب. هكذا تحديداً تعمل ذاكرتنا المعرفية المكانية. أرى ذكريات الحرب في كلّ مرّة تطأ فيها قدماي منطقة الضاحية، وفي كلّ مرّة أرى فيها الناس الذين أمضيت معهم الحرب، عند كلّ منعطف مكثنا وعشنا فيه. بقيت أسأل نفسي، هل انتهت الحرب فعلاً؟ أهذا كلّ شيء؟ الموت المحتوم يحيط بنا من كلّ مكان. منذ وقف إطلاق النار ونحن نسير على قشور البيض، نراقب الأنباء باستمرار، متوقّعين الانفجارات في أي وقت، في كلّ لحظة. ما الذي يعنيه وقف إطلاق النار عند هذه المرحلة؟ إننا نسارع في تعليب الأحداث، مانحين سلطة إنهاء الحرب لمستعمرينا. يشُلّنا منطقهم في تعريف الأشياء، ذلك المنطق نفسه الذي تتلاعب ضمنه وسائل الإعلام. بإمكان الصهاينة في أي وقت إعلان انتهاء وقف إطلاق النار، تماماً كما يفعلون في فلسطين، وسنكون بلا حول ولا قوة. لم نتهيّأ لأمرٍ كهذا.

تجمّد الوقت، الأماكن التي كانت موجودة لم تعد كذلك، بالرغم من كلّ هذا… هل تغيّر أي شيء؟ يحوم البحر حول المدينة بعمقه، وتلتقط الرطوبة أنفاسنا والشمس تغمرنا بوجودها. لقد عدتُ إلى صور الآن والزمن بيّن لنا بأن شيئاً لم يُصلح، وبأن لا شيء يبقى على حاله. لقد سُلبنا رفاهية الوقت بحدّ ذاته. الآن ليس لنا سوى الانتظار، حتى وإن كان شكل الانتظار مختلفاً. نستمرّ كبشر في زيارة المستويات المختلفة القابعة تحت كلّ ذاكرة لنصنع منها ومن أنفسنا شيئاً جديداً. نرتطم كالغيوم وتلتحم أجسادنا بعضها ببعض مهمومين بهذا العالم وغير آبهين به في الوقت عينه.

 

ملحوظات: