حرّية نساء "التيك توك" من حرّيتنا
speak_no_evil-page-001.jpg
أجسادنا بين الجندر والطبقة
في شهر نيسان / أبريل الماضي، بدأت موجة قمع ممنهجة استهدفت نساء صانعات محتوى على تطبيق "تيك توك" في مصر. بدأت الموجة بمجموعة من الرجال صانعي المحتوى على "يوتيوب"، أشهرهم ناصر حكاية، يختارون بعضاً من النساء صانعات المحتوى على "تيك توك" ويقومون بالتشهير بهن والتحريض ضدهن، ثم يتطور الأمر لتقديم بلاغ من قِبل بعض المحامين ومن ضمنهم المحامي الأشهر أ.ف الذي أطلق حملة على منصّات التواصل الاجتماعي بالتوازي مع حملات القبض على النساء بعنوان #خليها_تنضف. بعد تقديم البلاغ تصدر النيابة بمنتهى السرعة أمر ضبط وإحضار للنساء المستهدفات ويُقبض عليهن. قُبِض أوّلاً على كلٍّ من حنين حسام ومودة الأدهم، تلتهما منة عبد العزيز ثم شيري هانم وابنتها زمردة، ثم منار سامي وريناد عماد ثم هدير الهادي وبسنت محمد. أُحيلت قضايا ثلاث من النساء التسع للمحكمة حيث حُكم على حنين حسام ومودة الأدهم بالسجن سنتين وغرامة 300 ألف جنيه، وعلى منار سامي بالسجن ثلاث سنوات وغرامة 300 ألف جنيه وكفالة 20 ألف جنيه لوقف تنفيذ الحكم لحين الاستئناف.
ما يحدث مع نساء "التيك توك" هو محاولة لجعلهن عبرة. تحاول قوى الأبوية المتشابكة والمتعاونة فيما بينها إيصال رسالة واضحة: إن لم تفرضي على نفسكِ الرقابة الذاتية اللازمة وإن لم تراقبكِ عائلتكِ، سنراقبكِ نحن، سنستخدم كلّ الأسلحة والخطابات والمفاهيم المُرسّخة للتنكيل بكِ. هذه القوى في حالة نساء "التيك توك" ليست قوى الدولة فقط، ولكنها تشمل كلّاً من رجال صانعي محتوى، وإعلام مُحرّض، ومحامين مستعدّين لتقديم البلاغ، ونيابة تستجيب للبلاغ وتصدر أوامر الضبط والإحضار، وقانون هُلامي مطعون في دستوريته، وقضاء يحكم بمنتهى السرعة وبأغلظ العقوبات، وشركات مثل "يوتيوب" تحقّق الأرباح من المحتوى التحريضي، ونسوية دولة متمثلة بـ"المجلس القومي للمرأة" لا تتسع اهتماماته لنساء "التيك توك". تستخدم مؤسسات الأبوية أجسادنا كنساء مساحةً لفرض الهيمنة والسلطة، تجعل الأبوية أجسادنا عبئًا علينا بكل الفروض والحدود المرسومة التي يجب أن نحافظ عليها متى نتكلم أو نسير في الشارع أو حتى نجلس في منازلنا مع آبائنا وإخواننا الذكور. وتعاقبنا مؤسسات الأبوية بطريقة ممنهجة إذا تعاملنا مع أنفسنا وأجسادنا من منطلق مغاير. في هذا الإطار، العنف الجنسي هو فعل ممارسة الهيمنة والسلطة، نابع من استحقاق ذكوري يعطي للرجال الحق في ممارسة السيطرة على كلّ الأجساد الغير رجولية الموجودة في فضاءاتهم، كما يحتوي على رغبة في العقاب بالإيذاء، واستخدام "الجنس" كأحد أنماط العنف الممارَسة على النساء. ينطلق العنف الجنسي من الطريقة التي يُرى بها الجنس في ظل النظام الأبوي ذو المعيارية الغيرية، فالجنس لا يُرى باعتباره فعل إنبساط أو متعة بل كفعل إثبات فحولة الرجال وخضوع أجساد النساء. من هنا، يبرز العنف الجنسي كأحد تجسيدات الأبوية العنيفة والمسيطرة ولكنه ليس الشكل الأوحد لها.
ما حدث مع منة عبد العزيز (آية) هو تجسيد لهذه الديناميكية: استيقظنا يوم الجمعة، 22 أيار / مايو 2020، لنجد فيديو لفتاة تبدو صغيرة في السن، وجهها مليء بالكدمات ومنهارة في البكاء، تحكي فيه ما تعرّضت له من اغتصاب على يد شخص يُدعى مازن ابراهيم، بالتعاون مع رجال ونساء آخرين، اعتدوا عليها وصوّروا واقعة اغتصابها وهدّدوها بنشر مقاطع الاغتصاب على الانترنت. تستكمل منة شهادتها وتستغيث مُطالبة المجتمع والدولة بدعمها قائلة "أنا عايزة حقي". لا يمكن إغفال حقيقة أن ما تعرّضت له منة حدثَ مباشرةً بعد القبض على حنين حسام ومودة الأدهم، وبعد نشر منة شهادتها قام مازن ابراهيم (مغتصبها) بكتابة منشورات تدّعي أن منة عبد العزيز لم تكن "بنت" - أي عذراء - ودعا الناس لمشاهدة المحتوى الذي تقدّمه على "تيك توك"، بطريقة جعلت من هذه الدعوة ومن مقاطع منة على "تيك توك" وكأنها دليل براءته ومبرّر كافٍ لاغتصابها، باعتبارها تستحق الاغتصاب. لم تتعرض منة فقط للاغتصاب، بل أتى قرار النيابة بالقبض عليها وتوجيه اتهامات لها بسبب المحتوى الذي تنشره على "تيك توك" في نفس القضية مع المعتدين عليها ومغتصبها كعنف مضاعف. وبالرغم من إحالة المعتدين عليها للمحكمة، ما زالت منة مقيّدة الحرية، حيثُ استبدلت النيابة حبسها الاحتياطي بأحد التدابير الاحترازية الأخرى واحتجزتها في دار إيواء للنساء المعنّفات، وكما جاء في بيان النيابة العامة، أخذت النيابة هذا القرار لأن منة تحتاج "للإصلاح".
في مجتمع يهيمن عليه الوعي الأبوي والذكوري، تُرى النساء كغاويات، هنّ مصدر الإغراء والفتنة، والانتهاكات المرتكبة بحقهن نتيجة منطقية لسلوكهن، فهنّ سبب الوقوع في الخطيئة؛ على سبيل المثال يقول ناصر حكاية في أحد فيديوهاته المحرّضة ضد مودة الأدهم "الشباب الصغيرين لما بيتفرجوا على الاشكال دي أكيد غرايزهم بتتحرك!"، بالتالي ومن وجهة نظره تدمّر نساء "التيك توك" قيم ومبادئ مجتمعنا، وواجب على رجال هذا المجتمع ومؤسساته أن "يعرّفوهم غلطهم". بالإضافة لذلك، يتعامل الوعي الجمعي السائد في مجتمعنا مع الجنس باعتباره مصدراً للعار نظرًا لكل التعقيدات المحيطة به. وبما أن النساء هنّ السبب في الخطيئة، فعليهن الاختباء والتصرّف بحذر طوال الوقت على أن يُنظر إليهن دائمًا كمتّهمات بارتكاب الخطيئة بل والتحريض عليها أيضاً. يظهر هذا جليًا في صياغة الأخبار المأخوذة عن البلاغات التي يتقدم بها المحامي أ. ف. الذي يستهدف ويتحرك بمنتهى الهمّة للإبلاغ عن كلّ مرأة مستهدفة، فيُقبض عليهن واحدة تلو الأخرى. يعكس المحتوى التحريضي والبلاغات الطريقة التي نظر بها هؤلاء الرجال للصورة، ربما تعكس خيالاتهم الجنسية، فجاء في أحد الأخبار التي تزفّ خبر تقديم بلاغ جديد ضد إحدى النساء وتُدعى مي محمد أنها "تلتف بعلم الولايات المتحدة الاميركية على جسد عاري"، كيف علم المحامي أو اليوتيوبر أو كاتب الخبر أنها تلتف بالعلم على جسد عاري؟ أم كان هذا ما تخيّلوه عندما شاهدوا الصورة؟ هل هذا ما تمنّوه عند رؤية الصورة، أن تكون ملتفة بالعلم على جسد عاري؟ أتصور أن هؤلاء الرجال، سواء المحرّضين أو المبلّغين، قد استثاروا جنسيًا عندما شاهدوا الصور والفيديوهات، وشعروا بالعار تجاه هذه الاستثارة، ولم يعلموا ماذا يفعلون، فقاموا بإلقاء مسؤولية هوسهم على النساء اللاتي يقّدمن محتوى لا يتعاملن فيه مع أجسادهن كعبء كما هو مقرر لهن من قبل النظام الأبوي.
لم تحذُ نساء "التيك توك" حذوًا مخالفًا فقط للأنماط المقبولة اجتماعيًا للنساء بوجه عام في مصر، والتي تحتّم على النساء بذل كل المجهود اللازم من أجل عدم الظهور والاختفاء والمواراة، بل أيضًا خالفن النمط الأخلاقي المقبول لنساء طبقتهن الاجتماعية. وهنا يجب علينا تفكيك معنى الطبقة، فلقد أشار البعض أن من بين نساء "التيك توك" المحبوسات حاليًا مَن يمتلك قدراً من الاموال أو الممتلكات وبالتالي لسن جزءً من الطبقات الشعبية أو الوسطى. ولكن الطبقة لا تتحدد فقط بالرأسمال المادي أو بقدر الأموال التي يمتلكها الشخص في لحظة معينة، فجزء آخر من تجسيدات الطبقة هو رأس المال الاجتماعي؛ قد تمتلك النساء القادمات من طبقات اجتماعية متوسطة أو فقيرة رأسمال اجتماعي متمثل في الأسرة أو أهل حيّهن السكني أو الأصدقاء الذين يقدّمون لهنّ الرفقة والدعم في حياتهن اليومية... بكلمات أخرى يتجسّد رأسمالهن الاجتماعي في شبكة علاقاتهن التي توفر لهن احتياجاتهن الاجتماعية، ولكن تختلف قيمة الرأسمال الاجتماعي بناءً على الثروة المتوارثة في العائلة التي ينتمي لها الفرد والتي تعطيه شبكة علاقات لأشخاص ومؤسسات أكثر نفوذًا وسلطة في المجتمع، وعندما تكونين إبنةً لعائلة ذات ثروة متراكمة، تصبح شبكة العلاقات التي ترثينها هي الأخرى متراكمة على مدار أجيال وينتج عنها وضع اجتماعي يسمح بهوامش حرية أوسع، وبقدر أعلى من الدعم متى احتجتِ له.
ففي نفس الوقت الذي قُبض فيه على نساء "التيك توك"، قامت مجموعة من نساء الطبقات الوسطى العُليا والعُليا في المجتمع بإثارة قضية #المغتصب_أحمد_بسام_زكي. في الثاني من تموز / يوليو، بدأ نشر شهادات مُجهلة عن وقائع عنف جنسي تتهم المغتصب أحمد زكي بالتحرش والاعتداء واغتصاب أكثر من مئة امرأة وذكرت الشهادات أنه هدّد ولاحق الكثير من النساء الكترونيًا أيضًا. جاء تفاعل النيابة العامة و "المجلس القومي للمرأة" على النقيض من تفاعلهم مع ما تعرّضت له نساء "التيك توك" ومن بينهن منة عبد العزيز. وفي مداخلة هاتفية لرئيسة "المجلس القومي للمرأة" مع الإعلامي عمرو أديب قالت "تواصلت مع إحدى السيدات {الضحايا/الناجيات في قضية المغتصب أحمد زكي} (...) بنتحرك مع مكتب النائب العام، اذا البنات ماقدمتش بلاغات إلى هذه اللحظة، المجلس هايقدم بلاغ (...) بنشجع البنات، احنا واقفين معاهم وهانعمل كل المساندة القانونية، ومش عايزينهم يخافوا، نناشد البنات قدموا بلاغات" وتستطرد متجاهلة تمامًا ما تقوم به النيابة من استهداف وحبس لنساء "التيك توك"، "سيادة النائب العام مش هاقدر اقول قد ايه مساند لملف المرأة وقد ايه بيتحرك بمنتهى القوة" وتستكمل مطمئنة النساء الضحايا/ الناجيات في هذه القضية مؤكدة على "الحفاظ على بياناتهن ومعلوماتهن في سرية كاملة". ومع تقديم أول بلاغ ضد المغتصب أحمد زكي، قالت النيابة لأول ناجية تتقدم بالشكوى "حتى لو كنتي في منتصف فعل جنسي مع الشخص دة وقررتي إنك مش عايزة تكمليه وهو أجبرك تكمليه بالغصب، فدة برضه اغتصاب". لأن نساء "التيك توك" لسنَ نساءً من طبقات اجتماعية عالية، وأهاليهن ليسوا من أصحاب النفوذ والسلطة، لم يُكلّف "المجلس القومي للمرأة" نفسه حتى بإصدار بيان للتعليق على الحملة الممنهجة التي تتصيدهن، ولم يوفر الدعم القانوني لأيّ منهن، ولم يلتفت المجلس لأي من الأصوات التي طالبته بدعم أولئك النساء، بل هلّ علينا بمنشورعلى صفحاته الرسمية على انستجرام وفيسبوك يوعي فيه النساء بضرورة الانتباه للقوانين التي تعاقب على "الاعتداء على قيم الأسرة المصرية". وبالمثل، نكّلت النيابة العامة في بياناتها بكل النساء اللاتي قُبِض عليهن على خلفية المحتوى الذي يُقدمونه على "تيك توك"، وطُعن في شرفهن وسُمعتهن، باعتبار سمعة النساء هي أسهل طريق لتدميرهن اجتماعيًا.
في مجتمعنا، جزء من رأسمال النساء اللاتي بلا رأسمال مادي وبلا رأسمال اجتماعي ذو قيمة عالية هو "الشرف" الذي يمثل بدوره مفهومًا فضفاضًا وعبئًا على النساء حمله وحدهن، واذا تهاونت إحدانا في حمله يصبح على رجال عائلتها تقويمها ومعاقبتها، وإذا تهاون رجال عائلتها في هذه المهمة يقوم رجال شارعها أو حيّها بتنفيذها. والشرف عادةً ما يرتبط بالسمعة، والسمعة تُبنى من خلال أحكام المحيطين وكلامهم، وفي أغلب الأحيان ترتبط بسلوكنا كنساء وبمدى التزامنا بالفروض الاجتماعية الموضوعة على عاتقنا. وهنا أودّ الإشارة لمصطلح الـ مقايضة "trade off" الذي أطلقته عايدة سيف الدولة في سياق عملها على الحقوق والصحة الجنسية والانجابية في أعقاب "مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية" سنة 1994، على عمليات التفاوض اليومية التي تقوم بها النساء حيثُ يتنازلن عن بعض من حقوقهن الجسدية في سبيل الحصول على حقوق أكثر محورية وأهمية بالنسبة لهن، و أعطت مثالًا على ذلك بقطعة القماش الملطخة بالدماء التي غالبًا ما تشهرها العرائس في صباحية زفافهن، وسألت لماذا تقبل النساء الخضوع لممارسة مهينة ومذلّة كتلك؟ وكانت إجابات النساء تتمحور حول حرية الحركة وحرية التواجد في الشارع في أوقات متأخرة من الليل التي تكفلها لهن هذه المقايضة. ومن هنا يمكننا رؤية "الشرف" و"السمعة" كرأسمال تمتلكه النساء - خاصةً نساء الطبقات الشعبية والوسطى - لمقايضة بعض من حقوقهن في مقابل الحصول على حقوق أخرى ربما تكون أكثر أهمية بالنسبة لهن. وبما أن السمعة والشرف ليسا مبنييّن على معطيات مادية أو محددة، فهما لا يمثلان رأس مال صلب يمكن للواحدةِ منا الاعتماد عليه، فسمعتنا هي دائمًا رهن لنظرة المحيطين بنا، ويمكن تشويهها بكلمة أو بادعاء، وبالتالي فالسمعة لا تمثل رأس مال يُمكن الاعتماد عليه بل هي رأسمال هش، وجوده يعطينا قدر من المكتسبات الاجتماعية، ومعارضة أمزجة المتحكمين فيه يجلب لنا العقاب.
كان الطعن في سمعة نساء "التيك توك" من أهمّ سمات التغطية الصحفية لقضاياهن التي عكفت على رسم شخصيات أولئك النسوة بعناية من خلال مداعبة كل ما هو مُحافظ واستثارة أي نمط سلوكي منبوذ اجتماعيًا وعلى النساء تجنّبه، فعلى سبيل المثال، ذُكر في أحد الأخبار أن مودة الأدهم "انفصلت عن أسرتها منذ 3 سنوات"، وهي نفس النقطة التي أثارها ناصر حكاية في أحد فيديوهاته قائلًا "بتقدم محتوى وبتقلع هدومها، وسايبة أهلها وراحت القاهرة عشان تشتغل في المجال دة".
ذواتنا بين الأسرة والمجتمع والدولة
وُجّهَت تهمة "الاعتداء على قيم أسرية في المجتمع المصري" لغالبية نساء "التيك توك"، وحُكم على اثنتين منهما بالحبس سنتين وغرامة 300 ألف جنيه بموجب هذه التهمة. وفي الوقت ذاته أصدرت النيابة أمر ضبط وإحضار للمُغتصبين في واقعة اغتصاب الفيرمونت1 بعدما تمكّن سبعة منهم من الهروب خارج مصر بالرغم من المطالبة المستمرة بالقبض عليهم على مواقع التواصل الاجتماعي لمدة شهر ونصف. ومن الجدير بالذكر أن واقعة اغتصاب الفيرمونت أُثيرت على مواقع التواصل الاجتماعي في شهر تموز / يوليو 2020. لا ترى المؤسسات القضائية أو "المجلس القومي للمرأة" التي تدعو إلى مناهضة العنف الجنسي في مصر أن "قيم الأسرة المصرية" التي هددتها نساء "التيك توك" هي نفس القيم التي تسمح بانتهاك أجساد النساء واستباحتها؛ إذ لا يهدد الختان أو الاغتصاب الزوجي أو زواج القاصرات أو الضرب أو الحبس أو كشوف العذرية التي تخضع الأسر بناتها لها قيم الأسرة المصرية، بل تلك ممارسات قادمة بالأصل من هذه القيم. قيم الأسرة المصرية هي التي تُنشئ الذكور على أحقّيتهم في امتلاك أجساد المحيطين بهم من النساء، وفي السيطرة عليها وتقويمها. الأسرة هي المساحة الأولى التي تعيد النظم الاجتماعية القهرية إنتاج نفسها من خلالها، وهي المساحة الأولى التي ندرك فيها أن أجسادنا ليست ملكنا بل هي ملك آبائنا وأمهاتنا وأقاربنا وجيراننا، وأن أي انتهاك نتعرّض له نكون نحن السبب فيه. فالأبوية يلزمها مؤسسات تعيد إنتاج مفاهيمها وتراتبياتها حتى تعمل. وفي هذا الإطار الأسرة هي مؤسسة أولية في ماكينة الأبوية، فيها يتمّ التأسيس للأنماط السلوكية التي يجب علينا الالتزام بها خارج المنزل. على سبيل المثال، داخل الأسرة يُقال لنا ما المسموح ارتداؤه، ما المسموح التفوّه به، الطريقة التي يجب علينا السير بها في الشارع، الطريقة التي علينا التعامل بها مع الغرباء .. إلخ
واهتمام الدولة بالإبقاء على مؤسسة الأسرة والتأكد من إحكام الأسرة قبضتها على أفرادها ليس بالأمر الجديد؛ تاريخيًا استخدمت الدولة المصرية - مثلها مثل باقي الدول - الأسرة كمساحة لفرض هيمنتها على أجساد النساء من أجل توجيهها ناحية السلوك الإنجابي الذي يتماشى مع سياسات الدولة السكانية ومع متطلبات الإنتاج، فكانت الأسرة هي الوحدة الأولية التي تستطيع الدولة الوطنية الحديثة من خلالها حصر وتصنيف السكان، ورصد الأنماط الإنجابية المختلفة باختلاف الطبقات الاجتماعية ووضع سياسات محددة للسيطرة على إنجابية النساء. من هنا، فالأسرة تمثل مفاصل المجتمع، التي إذا أحكمت الدولة سيطرتها عليها تستطيع بالتالي إحكام سيطرتها على المجتمع ككل، وبالتالي ليس من مصلحة الدولة أن تكون للنساء السلطة الكاملة على أجسادهن. تعاملت نساء "التيك توك" مع ذواتهن وأجسادهن بخفّة، ما هدّد بشدّة هذه البنى وجعلها تستنفر كل جهودها حتى تجعل منهن عبرة. على مرّ السنين، احتوت الدساتير المصرية على المادة التي تفيد بأن "الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية". ترسم هذه المادة ملامح الأسرة النموذجية كما تراها الطبقة الحاكمة وفي قلبها الدولة، فالأخلاق تعبير مطاطي ليس له حدود تعرّفه، الأخلاق تختلف باختلاف موقع الأشخاص داخل المجتمع على أساس خلفياتهم الاجتماعية وطريقة نشأتهم وطبقتهم وعملهم والمحافظة التي يسكنون فيها، وحتى الدين في حد ذاته ليس له تعريفات محددة، بل تختلف تفسيراته على مر السنين باختلاف طوائفه وباختلاف المواقع الاجتماعية لمفسّريه ومصالحهم. وهنا أودّ التساؤل، أي دين؟ وأية أخلاق؟ وبالطبع تأتي الوطنية لتستكمل ثالوث السلطوية، وهو ما لا يمكن لنا بأي حال فصله عن الطريقة التي تُرى بها النساء باعتبارهن يمثلن "صورة مصر"، وهو ما أشار إليه ناصر حكاية في أحد فيديوهاته قائلًا "الناس {نساء التيك توك} اللي بتشوه صورة مجتمعنا وبتعر اسم مصر". ومن هنا، فالقوانين التي تُعاقَب نساء "التيك توك" بموجبها هي امتداد لتاريخ تتعامل فيه الدولة مع الأسرة باعتبارها مفتاح لإحكام سيطرتها على المجتمع.
هذه السيطرة أصبحت مهدّدة نتيجة مساحة جديدة خُلقت تستطيع النساء التواجد فيها بهوامش أوسع من الحرية، فارضات على أنفسهن رقابة ذاتية أقل. المساحة الجديدة هي الإنترنت، فالآن أصبح وجودنا كنساء ممتدًا بين واقعين واحد مادي والآخر إلكتروني، كلاهما جزء من كينونتنا، يغذّيان بعضهما البعض ويؤسسان لأطر جديدة للوجود. ولأن الواقع الإلكتروني هو واقع جديد، لم تكن له حدود واضحة وكانت به مساحات أوسع للتعبير والتواجد، تفرض النساء وجودهن فيه بطرق مختلفة لا تخضع بالضرورة للمعايير الاجتماعية المرتبطة بأنماط السلوك "المقبولة" اجتماعياً من النساء. في الواقع الالكتروني قد تكون النساء أكثر صخبًا مما هنّ عليه في الواقع المادي، وذلك لأن الرقابة - سواء كانت رقابة الدولة أو رقابة الأسرة - أخفّ في الواقع الالكتروني، كما هو الحال مع احتمالية العنف البدني. بالإضافة لذلك، يلعب الانترنت دورًا كبيرًا في إذابة الحدود الفاصلة بين الحيّزين العام والخاص، فعلى الانترنت يمكنك رؤية مقطع مصور لامرأة من داخل منزلها واقفة في المطبخ مرتدية ملابس البيت تشارك أفكارها العشوائية عن العيشة بينما تحضّر الغذاء لأولادها. أحد أسس الأبوية هو الفصل القاطع بين الحيّزين، وإحالة النساء - ذواتًا وأجسادًا وأفكارًا - إلى الحيّز الخاص، وتصوير أن الحيّزين لا رابط بينهما، وهو ما كان يعزز ويعيد إنتاج إخفاء النساء الذي تفرضه علينا الأبوية. بالإضافة لذلك أصبح الواقع الالكتروني مجالاً جديداً للعمل، مجالاً لا يتطلب مؤهلات محدّدة، أو عدد سنوات خبرة، وأدوات العمل فيه في متناول يد الكثيرين؛ هاتف بكاميرا وإنترنت، وبالتالي اتخذ الكثيرون من الانترنت مكاناً لعملهم، منهم أولئك الذين لن يستطيعون الحصول على فرص عمل برواتب شبيهة في أسواق العمل التقليدية. وجود النساء على الانترنت بصور غير تقليدية وانتشار استخدامه وقدرة النساء على جمع المتابعين وعلى الحصول على مقابل ماديّ لقاء عملهن على الانترنت أشعر رجال المجتمع المصري -اليوتيوبرز والمحامين ووكلاء النيابة والقضاة - أن كل ما كان قائمًا ومرسخًا أصبح على وشك الانهيار. يظهر هذا جليًا في جملة ناصر حكاية في أحد فيديوهاته مستاءً من غياب الرقابة الأسرية الذي تسمح به منصات التواصل الاجتماعي الجديدة قائلًا "طبعًا الأم برة، الأم قاعدة في الانتريه ماتعرفش حاجة وبنتها بتقولها يا ماما اقفلي عليا بقى انا عندي شغل، أصل انا شغالة يا ماما وانا قاعدة في البيت، والأم لا حول لها ولا قوة ماتعرفش ايه اللي بيحصل جوة، والبنت بقى بتقلع بتلبس بقى لبس خفيف وممكن تداري وشها وتطلع بجسمها بس ". ومن اللافت للانتباه أن ناصر حكاية يتفوه بهذه الكلمات بينما يُعدّ مقطعًا من داخل غرفة نومه وخلفه سريره مع إضاءة زرقاء خافتة! كما أشارت النيابة العامة في بيانها عقب القبض على حنين حسام للإنترنت باعتباره "حدود رابعة خلاف البرية والجوية والبحرية (...) حدود جديدة سيبرانية مجالها المواقع الالكترونية، مما يحتاج إلى ردع واحتراز تام لحراستها كغيرها من الحدود"، جاء هذا في إطار دعوة النيابة العامة من أجل الحفاظ على "الأمن القومي الاجتماعي" لأن حنين اعتدت على "قيم الأسرة المصرية".
بعد إذن الأسرة المصرية
في هذا السياق أطلقت مجموعة مُجهّلة من النساء المصريات حملة بعنوان #بعد_اذن_الاسرة_المصرية، يستخدم هاشتاج الحملة لهجة ساخرة في محاولة لعكس خفة ظل نساء "التيك توك" المُلاحقات. كما يعبّر الهاشتاج عن عبثية التهمة التي تُحاكم نساء "التيك توك" بموجبها، ولا يتجاهل الرابط بين الأسرة والدولة. وفي العريضة التي أطلقتها الحملة لجمع التوقيعات على مطالب الإفراج عن نساء "التيك توك" وتقديم الدعم القانوني لهن من قِبَل "المجلس القومي للمرأة"، ركّزت المجموعة على الطريقة الممنهجة التي تُستَهدَف بها نساء "التيك توك"، كما أشارت إلى الجانب الطبقي للتمييز والقهر الذي تعرضت له نساء "التيك توك" المتمثّل في الطريقة التي تعاملت بها مؤسسات الدولة كالنيابة العامة و "المجلس القومي للمرأة" مع قضاياهن بالمقارنة مع قضايا أخرى كقضية #المغتصب_أحمد_بسام_زكي. وحتى كتابة هذه السطور، وقّع على العريضة أكثر من 140,000 داعم/ة، كما توسع استخدام الهاشتاج على منصات التواصل الاجتماعي كـ "تويتر" و "فيسبوك". على الهاشتاج يوجد أنواع مختلفة من المحتوى؛ تصميمات لا تربطها هوية بصرية موحدة مما يشير إلى أن هذه التصميمات صُنعت بطريقة عضوية ونابعة من رغبة صانعيها في المساهمة من خلال إنتاج محتوى للحملة، محتوى مكتوب في شكل منشورات على "فيسبوك" وتغريدات على "تويتر" يتناول موضوع القضية من زوايا متعددة سواء من زاوية الوصاية المفروضة على أجساد النساء، أو علاقات القوة داخل مؤسسة الأسرة وما يترتب عليها من أعباء وانتهاكات تحدث بحق النساء، وربط بين قضايا العنف الجنسي المثارة لاحقًا وقضية نساء "التيك توك". ركزت الحملة في إحدى دوراتها التدوينية على "المجلس القومي للمرأة" من خلال الإشارة له على موقع "تويتر" ومطالبته بتقديم الدعم القانوني لنساء "التيك توك"، ولكن لم يُصدر المجلس أية بيانات بخصوص حملة الاستهداف الممنهجة حتى الآن. كما قامت مجموعة واسعة من المتضامنات/ين بنشر بروفايلات عن النساء التسع على مدار أسبوع للتعريف بظروف قضية كل واحدة منهن. بالإضافة لذلك، نشرت بعض النساء فيديوهات لهن وهن يرقصن وأضفن عليها #الرقص_مش_جريمة.
لماذا أنا مهتمّة؟
نساء "التيك توك" ينتزعن مساحات أنا لم أقوى على انتزاعها، الآن أصبح وجودي على منصات التواصل الاجتماعي أقرب لدور المراقب، بالرغم من أنني، في مرحلة ما، كنت فاعلة وأشارك أفكاري للعلن بلا مواراة. أرهقتني الصراعات والتعليقات، ذقت توتر وقلق أن تُشنّ عليكِ حملة الكترونية وأن تُرسل لكِ تهديدات بالقتل أو بالاغتصاب لمجرد أن رأيك لم يناسب من مرّوا على منشورك من الرجال. أعلم جيدًا ان وجودي كامرأة على الانترنت ليس بالسهولة المتوقّعة، مثله مثل الوجود في الشارع. الآن أصبحتُ لا أرغب في التمشية في الشارع ولا أقدر على التعبير عن نفسي بسلاسة في الواقع الالكتروني. ومع كل ذلك، وبالرغم من نسويتي، في المرحلة التي كنت أشارك فيها أفكاري على الانترنت، بقيت سلاسل المظهر المناسب والمدخل التنظيري المنمّق تقيّدني، لم أتحرّر من كلّ ما هو مفروض عليَّ كامرأة لأنني أعلم التكلفة. وبالنسبة لي ما تفعله نساء "التيك توك" بمنتهى العفوية وبدون حساب للعواقب يفتح لنا جميعًا كنساء مساحة جديدة للتعبير، هنّ لم يضعن على عاتقهن مسؤولية "تحرير" أحد ولكن عفويتهن وتلقائيتهن ومرحهن وخفّتهن الظاهرة في مقاطعهن المصوّرة تحرّرني، وتساعدني على تخيّل انترنت نسوي وشارع بلا أبوية، ومساحات نستطيع أن نكون حاضرات فيها بكلّيتنا بلا إخفاء أو مواراة.
حرّية نساء "التيك توك" من حرّيتي.
-
- 1. تُشير واقعة اغتصاب الفيرمونت إلى جوانب أخرى لتجسيدات الطبقة كأحد العوامل التي يجب أن نأخذها في اعتبارنا أثناء تحليلنا للأشكال المختلفة للعنف الواقع على النساء في مصر، فمثلما توفر المواقع الطبقية لنساء الطبقات الوسطى والعليا هوامش أوسع من الحرية والدعم إلا أنها أحيانًا تجعل مواقعهن الطبقية ومقاومتهن للعنف الجنسي أكثر تعقيدًا بسبب مواقع رجال طبقاتهن وعلاقتهم بالدولة والسلطة. فبينما لا تتعرض نساء الطبقات العُليا للتحرش اليومي الذي تواجهه نساء الطبقات الوسطي والدنيا في الشارع وعند ركوبهن للمواصلات العامة على سبيل المثال لا الحصر، إلا أن الموقع الطبقي لرجال طبقاتهن المغتصبين والمتحرشين وما يترتب عليه من امتيازات اجتماعية ونفوذ وسلطة يساعدهم على الفرار بفعلتهم ويصعّب عملية محاسبتهم ومساءلتهم قانونيًا. ما يحدث الآن في قضية الفيرمونت هو امتداد لما حدث مع نساء "التيك توك" (تحويل المجني عليها إلى متهمة وهو نفس ما حدث مع منة عبد العزيز وأيضًا تسريب البيانات لتشويه سمعة الضحية/الناجية والشهود في واقعة الفيرمونت وهو نفس ما حدث مع نساء التيك توك جميعًا)، القهر والعنف الذي مورس على نساء التيك توك - وهن نساء قادمات من مواقع أكثر هشاشة في المجتمع - كان قهرًا يؤسس لواقع أكثر عنفًا بحق النساء وسيمتد ليشمل الجميع! نساء "التيك توك" كن فقط البداية بسبب هشاشة مواقعهم الاجتماعية والطبقية.