المدينة التي هربَت من سكّانها

السيرة: 

باحثة في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية.

اقتباس: 
فاطمة الموسوي. "المدينة التي هربَت من سكّانها ". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 5 عدد 3 (19 أكتوبر 2020): ص. 29-30. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 21 نوفمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/the-city.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.

ليست المدينة اليوم كما كانت منذ سنة وليست كما كانت عليه في الثالث من آب وبتوقيت أدقّ كما كانت عليه قبل السادسة مساءً من الرابع من آب. تشريح الوقت وتفصيله حاضران في أذهان مَن باتوا يؤرّخون الانزلاق في هذا المكان وحاضران في وعي مَن يدركون تماماً أنّه في لحظة واحدة قد يتغيّر كل شيء بالرغم من يقينهم أن اللحظة هي البطانة المعقّدة للعقود الماضية والسنوات الطويلة التي أعقبت إعلان انتهاء الحرب الأهلية. سَيْر الزمن بنسبيّته التي تعلّمناها يوماً والتي اعتدنا أن نقيس بها أعمارنا تغيّر، ربما إلى غير رجعة. فالزمن في المدينة، المدينة التي هي بيروت تحديداً، متوقّف عند الساعة السادسة وسبع دقائق من مساء ذلك اليوم حين انفجر كل شيء. معالم المدينة كما وجوه ساكنيها، هي أيضاً تغيّرت، للأبد. من يعيش في هذه المدينة بات اليوم يدرك تماماً معنى أن تشيخ "فعلاً" في غضون أيام فتتغيّر ملامحُك كما هو، في الأحوال الطبيعية، أثر السنين والزمن. في هذه المدينة وفي هذه البلاد عموماً، تبدأ تدريجياً بالتعرّف على شعور نساء الهند وأفغانستان اللواتي تعرّضن لعنفٍ جسديّ وحشيّ من خلال رميهنّ مباغتة بالأسيد من أجل الانتقام من قوّتهن وخياراتهن في الحياة وأحياناً من وجودهن فقط. تلك اللحظات القليلة التي ينفّذ فيها مجهولون/معروفون القرار بترك تشوّهات عميقة لا تُمحى على وجوه النساء للتأكّد من الإمعان في قهرهن، هو ما أصابنا في الرابع من آب. ثمّة من نثر ما يشبه الأسيد على وجوه جميع سكان المدينة فترك ندبة عميقة لن تُمحى ولن يتمّ تجاوزها. كثيرات من الناجيات من هجمات الأسيد يروين أنهن عشن صدمات عاطفية وجسدية بعد جرائم الأسيد ولجأن إلى العزلة التامّة بفعل الاختلاف عمّا كنَّ عليه، ليس بسبب التقدّم في العمر بل بسبب وجوههن المختلفة. يبدو الأمر مألوفاً في بيروت. 

أخبَرونا عبر أساطير الطفولة وفي حكايات الجدّات أنّ بيروت نجت من سبعة زلازل دمّرتها بالكامل أي أنّ المدينة سبق واستنفدت أرواحها السبع وها هي اليوم تستند على حظّها من أجل البقاء. ولكن حظّ هذه المدينة عاثر، هي رهينة عصابة أطبقت الخناق على كل شيء واتخذت السكان رهائن لديها، فباتوا أرقاماً وحكايات متشابهة تنتظر قدَراً متشابهاً متباعداً في التوقيت. عندما زرت هيروشيما قبل أربع سنوات، انتابتني مشاعر لا تنسى من الغرابة والألم. وعندما أتحدّث عن هيروشيما لا أقصد مطلقاً أن أشبّه جريمتَي مرفأ بيروت وإلقاء القنبلة الذرّية ببعضهما بل أنني أذكرها لأن هناك مقداراً لا يستهان به من السخط لا بدّ وأن يتسرّب إلى دواخلك أثناء وصف ما حدث للمدينتين. سخطٌ يتسرّب في الكلام والشعور والمقدرة على بناء الذاكرة والإقدام على النسيان. هيروشيما التي أقفلت العام الخامس والسبعين من مرحلة ما بعد الكارثة لا تزال تحتفظ بالساعات التي تشير إلى توقيت إلقاء القنبلة، الساعات في بيروت أيضاً توقّفت في علبها لتقول لنا شيئاً. الدمار في هيروشيما يرفض أن يُشفى عبر السنين، لا لشيء إلا لأنه مؤتمَن على ذاكرة الموت ولأن أثر الأمطار السوداء على الحيطان محفوظ بعناية في متحف يحثّك، برغم الدعوة الدائمة للسلام، على الغضب، على الكثير من الغضب. هكذا ببساطة، أنت الذي لا تعرف كيف تقبل أن يحُطّ الغفران ليغطّي الندوب الدائمة. 

هذا هو السخط نفسه الذي يتملّكني اليوم وربما يلتهمني ويلتهمنا جميعاً دونما نهاية. في هيروشيما، كان هناك سيّاح أميركيّون اعتلت وجوههم سمات مَن يشعر بالذنب الأخلاقي، مَن يشعر بالخجل الشديد. يقولون وهم يغادرون إنّهم ليسوا هم من فعلَها وإنّهم ما كانوا ليوافقوا، ثم يشيحون بوجوههم، هم الذين لم يكونوا قد وُلدوا يومها. أمّا في بيروت، ما من سياسي ممّن يمسكون بزمام الأمور منذ عقود وحتى اليوم شعَر بالخجل أو بالذنب الأخلاقي، رأيناهم يتراشقون التهم على الشاشات ويستثمرون الموت والدمار والأوجاع كعاداتهم، هكذا، بلا خجل. رأيناهم يتقاسمون المساعدات وعيّنات الإغاثة. يصطفون بوضاعة أمام مندوب سامي جديد أمرَهم بالحضور فذهبوا طاعةً. هنا، لا تسأل نفسك، أنت الذي ترى الواقع جيداً، عن الحلّ بل تسأل نفسك عن الخجل. 

السؤال الآخر الذي أرّقنا جميعنا منذ ذلك اليوم هو، ما عسانا نفعل في المرّة القادمة التي نشاهد فيها دخاناً؟ هل نهرب؟ بمن نتصل وهل يجب أن نخبّئ وجوهنا أو أجسادنا وبماذا؟ هل سيكون نيترات الأمونيوم؟ مواد أخرى غير معلن عنها؟ قنابل؟ ألغام؟ هل سنخسر أعزّاء؟ هل سيخسرنا أعزّاء؟ أتانا جزء من الجواب في العاشر من أيلول عندما اشتعل حريق في موقع الجريمة نفسه. ابتعد الناس عن النوافذ، هرعوا من المنطقة المجاورة للحريق في أيّما اتجاه، فراراً من أي شيء، من أي قدر، اتصلوا ببعضهم البعض فوراً للاطمئنان، للتنبيه، لكثير من البكاء والشتم واللعن. أنا لا أتحدّث هنا عن الرعب الذي يرافقنا في كوابيس ليليّة، بل أتحدّث عن النمط السائد الذي بتنا اليوم نخاطب به أنفسنا وتُخاطبنا به ردّات أفعالنا، نحن الذين "نجونا" من انفجار مرفأ بيروت. 

لا أعرف كم أخلاقيّ هو، إضفاء الرومانسية على الصدمات والمآسي التي تلحق بالبشر من خلال التغنّي بصمودهم وأساليبهم للبقاء بعد كل ما ألمّ بهم؛ السؤال اليوم هو كيف نجتاز الحياة في فعل مقاومة يوميّ، حقيقيّ وشاقّ وكيف نمتلك القدرة على الحياة بعد أن تنتفي أسبابها ومقوّماتها السويّة وبعد أن يتخلّلنا هذا الكمّ المهول من الحطام؟ سألتُ نفسي مراراً منذ بدأت البلاد بالهبوط الاقتصادي التدريجي مع بداية عام ٢٠١٩ ومن ثم مع السقوط السريع المترافق مع الوباء، هل أوشكنا على نهاية جديدة؟ كيف يمكن لأحد أن يستشرف توقيت البلاد؟ متى تبدأ أو تنتهي؟ وهل تنتهي البلاد والمدن فعلاً أم أنها تبقى ويرحل من فيها؟ فالمدن والعواصم تحديداً هي أطرنا السياسية، الاجتماعية والاقتصادية. هي ديمومة الصراع بين البناء والتهدّم، التقدّم والتراجع، الانتصار والتقهقر، هي الطور النهائي لحضارة الإنسان وعمقه في مواطنته وإنسانيته وكينونته، فإذا انتفى قوامها، هل تنتهي؟ هل ينتهي؟

في الرابع من آب تبّدلت أسئلتي. المدينة لم تنتهِ. في اللحظة التي وقع فيها الانفجار حملَتْ حلقة الدخان الزهريّة المدينة وغادرت بها. عكس كل النهايات المتوقّعة والتي رجّحت أن نغادر نحن بوصفنا متحرّكين عندما تنهار وتنتهي هي بوصفها ثابتة: رحلت المدينة وبقي المكان، بقي هكذا، بلا أعمدة. وبقينا نحن، هكذا، بلا ملامح. 

ملحوظات: