هذا ما حدَثَ ولا يستطيع أحدٌ إنكار ذلك: مقابلة مع فاطمة جمعة
في ظهيرةٍ هادئةٍ في مكتبها المنزليّ الصغير في ضاحية بيروت الجنوبية، قضيتُ بضع ساعات مع فاطمة صلاح جمعة، المصوّرة وصانعة الأفلام التي تكرّس عملها لتوثيق تبعات الحرب وتشييعات مَن استشهدوا على الجبهة الجنوبية اللبنانية خلال معركة "طوفان الأقصى". تحدّثنا عن مواضيع مختلفة وتعرّفنا على بعضنا من خلال عملها، تبادلنا تأمّلاتنا وإحباطاتنا، ضحكنا وتوقّفنا بصمت، وقارنّا تجاربنا حول لحظاتٍ محورية في تاريخنا الحديث المشترك؛ شعرنا بالقشعريرة وحبسنا دموعنا في حناجرنا أحيانًا.
تعتبر المصوّرة البالغة من العمر 24 عامًا، عملها أداةً مصمَّمة وموظَّفة لخدمة مجتمعها لا كوسيلة للهروب منه. الرقّة والعناية التي تنظر بها إلى العدسة تعكس علاقةً صادقة ومنعشة مع كلٍّ من الآلة وما تلتقطه.
لقد تمّ توثيق رقعتنا من العالم بشكل مُرهِق إلى حدّ الضجر، من مصوّرين وصانعي أفلام وصحفيين وباحثين. ولكن عمل فاطمة يتميّز بخصوصية مختلفة، كاميرتها تلتقط من الداخل، تنظر للداخل وتلتحم به. ليست أول ولا آخر مصوّرة من الجنوب؛ بل تنتمي إلى تقليدٍ طويل من المصوّرين العرب المناضلين الذين استخدموا التكنولوجيا للانخراط في مقاومة شعوبهم ضد الاحتلال، محوّلين الكاميرا إلى سلاح. ما يجعل عملها مميّزًا هو تلك الحميمية، الملتقطَة عن كثب، ولكن باحترام: هذه صور لا تؤخَذ للعرض، بل تقدّم نفسها كدعوة. فأفضل البروباغندا هي تلك التي تثير الروح الجيّاشة التي لا تُقهَر، في كراهيتها الشرسة تجاه العدو وحنانها الدافئ تجاه الصديق، والمخصصة لأولئك الذين لا يضمن بقاءهم كشعوب إلا الصمود والعناد. ولا شيء يعكس هذه الروح بوضوح أكثر من مجتمع يجتمع لينعي أحبّاءه ويحتفي بهم قبل توديعهم إلى الخلود، بينما يَعِد العدو بالانتقام والألم.
تمّ إجراء هذا اللقاء في شهر تموز/يوليو من هذا العام، أي قبل نحو شهرين من تصعيد إسرائيل الوحشي حربها على لبنان وتدميرها قرىً كاملة في الجنوب والبقاع؛ واغتيال السيد حسن نصرالله، وتهجير مئات الآلاف من الناس. اليوم، أصبحت طقوس تشييع الشهداء في تحشّدات عامّة نادرةً ومحفوفةً بالمخاطر. الصور المعروضة أدناه تجسّد عامًا كاملاً من الصمود والإصرار وتوثيق ما حدَثَ خارج السردية السائدة وتحديّاً لاستراتيجية المحو الاسرائيلية.
أنا لا أعتبر نفسي على هامش هذه الحرب أجلس في الزاوية وأنتظر حدوث حدثٍ ما لأذهب وأصوّر. أنا جزءٌ دائمٌ من هذه الحرب، والتي لم تبدأ في السابع من أكتوبر 2023. لديّ تراكم لوعيٍ سياسيٍ يساعدني على التوصّل لقناعة بأنّ الآلة التي بين يديّ هي وسيلة لخلق صورةٍ عن نفسي أو لرواية السردية الخاصة بي. حتى مفاهيم المقاومة والاحتلال هي، بالنسبة لي، مسألة بسيطة تتعلق بالحقّ. ماذا يحقّ لي؟ يحقّ لي أن أزور تاتا، إطلع عَ ضيعتي… وخبِّر قصّتي بكلّ تفاصيلها، ولا يحقّ لأحدٍ غيري أن يخبرها. إحنا ولا مرّة منحضر حالنا، منحضر كلّ أنواع التلفزيونات بس ولا مرّة منحضر حالنا كمجتمع من الجنوب بقلب حرب.
فالسؤال هنا ليس لماذا أصوّر بل لماذا قد لا أصوّر؟ وجدتُ نفسي في التشييعات ووجدتُ الكاميرا كأداة للتعبير عن نفسي وتوثيق وجودي هناك. أعتبر الصور وثيقة مرئية للمجتمع بأكمله بما عاشه في هذه الحرب.
علاقتنا بالحرب الحالية هي علاقة مباشرة، نعيش تبعاتها مباشرةً. التشييعات كمراسم ليست أمراً استجدّ خلال هذه الحرب، فالتشييع، خاصة بالنسبة للمقاومة، هو فرصة للتعبئة ولإعادة تذكير المجتمع بنفسه حتى لو لم يكن الشهيد معروفًا أو تربطنا به أي علاقة. التشييع بمثابة إلقاء التحية والقول "أنا معك" من خلال وجودي. ففي النهاية الميّت ميت، إحنا يلّي منحتاج هذه المراسم.
لم أكن لأسمح لنفسي أن أبقى مجرّد مشاهدة للحرب، خصوصاً أنه بصرياً في التغطيات الاعلامية مثلاً، يتمّ وضع المجتمع الجنوبي المؤيد لحزب الله ضمن إطارين جامدين: الأول إطار مقدّس يجعل من شخصيات أحداث تلك المنطقة أبطالاً لا تبكي ولا تشتكي ولا تتألّم (!) في حين أنّ تقديس الشخصيات والأحداث لا يسمح لمَن هم من خارج هذه البيئة أو ما يشابهها (مثل فلسطين مثلا) أن يتقبّلوها أو يفهموها أصلاً. والإطار الثاني، هو إطار تنميط هذا المجتمع. إذ لا يسعى إعلام التنميط إلى تصوير/ الاعتراف بهذا المجتمع بصرياً خارج نطاق حدثٍ أو خبر، الأمر الذي يجعل من وجود مجتمع بأكمله يقتصر على أحداث أو أخبار عاجلة فقط، ثم يختفي بصرياً من بعدها.
لذا، فمراسم التشييع، بنظري، تقدّم طرحاً جديداً لهذا المجتمع من قلب الواقع. قد ترين أم الشهيد تبكي فقيدها وتندبه، ثم فجأة في اللحظة التالية، تتوقّف عن البكاء وتعلن ملء صوتها: "أنا فدا الأرض وفدا المقاومة…"
التشييع هو من أصدق اللحـظات، إذ إنه لحظة موتٍ ودفن، ولا يستطيع أحد في تلك اللحظة أن يكون غير نفسه. فأم الشهيد أو زوجته أو ابنته لا تقول "ما يجب عليها أن تقول"، هي تعبّر عن كلّ معتقداتها في لحظة صدقٍ وحميمية.
كيف يتعامل الناس معك ومع كاميرتك؟ لجهة عنصر الحميمية الذي تخترقه العدسة من جهة والمآخذ الأمنية المحيطة بطبيعة المكان تحت نيران العدوان من جهة أخرى؟
كما ذكرت، أنا أرى في الموت لحظة صدق. يتصرف الناس بتلقائية أمام الكاميرا في معظم الأحيان، إذ يرونها كآلة لمخاطبة العالم. فالمرأة التي تريد تهديد إسرائيل تهدّدها عبر الكاميرا، والتي تريد مخاطبة المواطنين تخاطبهم عبر الكاميرا... تطوّرت علاقتي بهؤلاء الناس على مراحل. عندما بدأت تصوير المراسم، كنت أصوّر عن بُعد، بخجل، أُبقي مسافة بيني وبين أهل الفقيد والحاضرين. لكن، تشييع بعد تشييع، قررت أنني أريد البقاء مع النساء أكثر. أوّلاً، لأنّ كاميرا الرجل لا تدخل تلك المساحات فاعتبرتُ ذلك امتيازًا جعلني فضولية حول هذا المجتمع في شقّه النسائي. فبدأت بالاقتراب.
عند رؤيتهنّ للكاميرا، قد تباشر بعض النساء بالحديث مع العدسة فورًا إذ لديهنّ ما يقلنه من خطابات وأدعية، وكأنهن يتكلّمن مع العالم الخارجي خلف هذه الآلة.
البعض الآخر يسأل بحذر أولاً "أيّ إذاعة؟" فأجيب أنني أصوّر لفيلم خاص بي، لا لإذاعة معيّنة. بعدها ينطلق بعضهن بالكلام فيبدأ التهديد والوعيد، خاصة في الجنوب حيث نكون غالباً بجانب الحدث أي بجانب المنزل المقصوف أو الموقع الذي استشهد فيه الفقيد، فيتكلّمن وفي الخلفية ركام منزل وأصوات غارات وانفجارات. مشهد حربٍ كامل والمرأة تقول: "هيدا الدمار اللي هون، هيدا بيزيدنا قوة ضد اسرائيل، منتمنّى هيدا الصوت يوصل من أصغر واحد لأكبر واحد… منقلّها لاسرائيل انزلي عالارض ورجينا مراجلك نحنا عنّا رجال، إنت عم تحاربينا بالطيران".
التشييع في بيروت عادةً ما يكون في "روضة الشهيدين" في الضاحية الجنوبية. عندما أغيب عن تشييعٍ ما، تسأل عنّي النساء المنظّمات: "عم بتقصّري، وين كنتي الأسبوع الماضي؟" كلّ تشييع هو لشخصٍ مختلف، ولكن كلّ تشييع يراكم على ما سبقه، فيخلق مجتمعًا جديدًا يعود لحضور التشييع بعد أن كان دفَنَ أحد أبنائه في تشييع سابق. المرأة التي قمتُ بتصويرها في التشييع الأسبوع الماضي، أراها مجددًا، وأتحدّث إليها، وتطلب منّي الصور. فتصبح وجوه معيّنة مألوفة لك وأنت مألوفة لها.
لم أصادف أن طلبت منّي إحداهنّ عدم التصوير. وفي الوقت نفسه، أعرف جيدًا متى يجب عليّ أن أُنزل الكاميرا وأتوقّف عن أخذ الصور.
نعم، وكاميرتي ليست بيضاء! فأنا أقوم بتصوير أهلي وناسي، ونتبادل أطراف الحديث، ويسألونني عن مسقط رأسي ومن أين أتيت. في بعض الأحيان يكون شكلي غريبًا، خاصة إذا لم أرتدِ الأسود. هناك لحظات طويلة في التشييع، ساعات، فيصبح الحديث لا مفرّ منه. المراسم ثابتة لكن الوجوه وتفاعلها يتغيّر. أصبحت لدي مجموعة من الصداقات وُلدَت من هذه التشييعات. تعرّفت ببعضهنّ في "روضة الشهيدين" في بيروت ثم التقيت بهنّ مجدداً في قرى الجنوب. فالمرأة النازحة من ضيعتها، ترينها في تشييعات الضيع الأخرى، وهذا يخلق نوعًا من الألفة ومجتمعًا حميميًا مصغّرًا. هكذا اكتشفت أنني صوّرت نفس النساء في أماكن ومراسم مختلفة، وأنني لست الوحيدة التي تلحق التشييعات من منطقة إلى منطقة ومن ضيعة إلى ضيعة.
ينقسم التشييع وجمهوره إلى قسمين، الحزبي والشعبي، ويكون هذان الطرفان حاضرين في كل تشييع.
مراحل التشييع تتدرّج بين الحزبي والشعبي أيضاً، والجمهور بطبيعة الحال هم أهل الشهيد، والضيعة والمؤيدين وطبعاً ممثلين سياسيين.
وعندما أقول "الحزبي"، لا أقصد حزب الله فقط، فهناك أحزاب ومجموعات عديدة تشيّع شهداءها باستمرار. يتغيّر ويتحوّل التشييع، يبدأ في النهار، كطقسٍ حميميٍّ في حسينية الضيعة، مع عائلة الشهيد وبيئته المقرّبة. بمجرد خروج الجثمان من الحسينية، يصبح الشهيد شهيد الضيعة بأكملها ولا يعود يخصّ العائلة فقط. فتعتبر الضيعة نفسها جزءاً من هذا الإحياء. ويرتبط هذا الأمر أيضاً بمكان التشييع، فعندما يذهب الناس إلى ضيعة حدودية مثلاً يكون في ذلك تعبير عن مواقف سياسية عديدة، أبعد من مجرد إلقاء السلام على الشهيد، موقف تحدّي للعدو الاسرائيلي. بعد الطقوس العامة هذه، يعود المشهد العائلي الحميمي، خاصة بعد لحظة الدفن.
هل ترين كاميرات إعلامية في تشييعات الضيع؟
نعم، لكن بقلّة. المرّات النادرة التي رأيت فيها تغطية إعلامية "كبيرة" كانت عندما استشهدت عائلة بأكملها من آل البرجاوي في النبطية إذ نُظّمت مراسم رسمية تحدّث فيها سياسيون وأحزاب، ومرّة اخرى خلال تشييع قيادي كبير في حزب الله، يعني في حسابات الإعلام ما يشكّل خبراً محرزاً يستحق التغطية. لكن بعد المراسم، حين يؤخذ كلّ شهيد إلى ضيعته للدفن يختفي الصحافيون وتختفي كاميراتهم، لأنه بالنسبة لهم، الخبر انتهى.
بالنسبة للنساء، أرى أنهن يتعاملن مع التشييع أحياناً كعرس. تتغيّر المراسم وتتحوّل في قلب التشييع، تسمعين أصواتًا عديدة ومشاعر متداخلة. تقول إحدى النساء "هذا عرس، هذا عرسه". بالطبع هناك تقديس للشهادة، لكني أرى الأمر أبعد من ذلك، كما لو أنّ شخصاً جديداً يخلق في لحظة التشييع. الأم مثلاً، لم تعد والدة الشهيد أمّه وحده أصبحت "أمّ الشهيد"، وأمّ الشهيد لا تصبح أمّ شهيد فجأة. يسقط عن أمّ الشهيد دورها الفردي في قلب العمل المقاوم، فهي التي ربّت وعلّمت وهي التي زرعت روح المقاومة في ابنها، هي التي قبلت بدوره. وإذا لم نستوعب هذه الحقيقة، قد نرى تصرفاتها أثناء تشييع ابنها غريبة. قد نستغرب مشاعرها ونستغرب قوّتها. هي تعتبر أنّ هذا الأمر جزءٌ من واجبها، واستشهاد ابنها يعني انتقال مهمّة ابنها لها. يذهب الشهيد وتبقى أمّه. وهذه مسؤولية هي تختارها لنفسها.
ففي لحظة الموت لا نرى إلا الحقيقة والوضوح. أرى انتقال هذه الأدوار بارزًا عند النساء خاصة. هذا الابن أو هذا الزوج انتهى من مهمّته وانتقلت تبعات هذه المهمة إلى أمّه أو زوجته. حتى منزل المرأة يتحوّل إلى منزل شهيد. ما الذي يعنيه ذلك؟ يعني أننا نرتاد هذا المنزل ونجلس لمناقشة تطورات الحرب ونحلّل ونتساءل عن دورنا. نرى هذا التحوّل خصوضاً في مجالس عاشوراء، إذ يتحول هذا المنزل إلى مركز للتعبئة. وهكذا تُكمل الحياة. ومَن لا يستطيع رؤية الشهادة كجزءٍ لا يتجزّأ من الحياة وليس هدفاً بحدّ ذاته، لن يفهم. لا رغبة لنا بالموت، بعكس الخطاب السائد.
أذكر أيضاً أحاديث سمعتها في ضيعتي حومين عن شهداء دُفنوا فيها كانوا من سجد ومن الريحان، لم يستطع أهلهم دفنهم في ضيعتهم أثناء الاجتياح الاسرائيلي، فدفنوا في ضيعتي. تذكّرت هذه المعلومة جيدًا، لأن ما يختلف اليوم – في هذه الحرب – هو أنّ كل شهيد يُدفن في ضيعته، في وضح النهار، في منطقة تُعتبر منطقة عسكرية، في ضيع حدودية تُقصف يومياً، ولا يقتصر التشييع على شخص أو شخصين، بل ترين أهل الضيعة جميعهم يمشون في تشييعه. أرى هذا تعبيرًا واضحًا وصارخًا عن حقّنا في الأرض، وعن حقّ الشهيد أن يُدفن في أرضه. عندما تنظرين إلى الموت من هذا المنظار، ترين أن هذا هو خطاب المقاومة – كلّ أركان وأحزاب وفصائل المقاومات والتحدّي في وجه أي عدو: "ورجيني أذا رح تعمل شي!"
شنّت اسرائيل بعض الغارات أثناء التشييعات في الضيع، شهدتُ إحداها في العديسة. ولو أردتُ رمنسة الحدث لقلت إن الشهيد في هذه الحالة ما زال يؤدي دوره حتى بعد استشهاده. لماذا أذهب إلى الضيعة لتشييعه متحدّية العدو؟ لأني أشعر بأمان، وهذا الأمان هو بفضل تضحيات هذا الشهيد وغيره. وهذا ينطبق مثلاً على أهل الضيع الحدودية، هؤلاء نازحون في مناطق أخرى من الجنوب، يعودون لحضور التشييع ولتفقّد منازلهم وجيرانهم وأراضيهم. من يومين رأيتُ الناس في عيتا الشعب يحملون الأراجيل وأكياس المخلوطة ويجلسون أمام بيوتهم المدمّرة، يبقون هكذا حتى انتهاء التشييع.. وذلك يعود للشعور بالأمان الذي ذكرته. التشييع أمان.
أنا أول مرة أشعر بمعنى الاحتلال كان أثناء حرب 2006، عندما أردتُ ببساطة الذهاب إلى قرية اخرى في الجنوب ولم أستطع. هذا هو الاحتلال. أن يمنعك المحتلّ من "ما يحقّ لك"، الذهاب من مكان إلى آخر داخل بلدك مثلاً. في حرب تموز كنت أبلغ من العمر سبع سنوات. أمي ليست من الجنوب، هي من قرية لاسا في قضاء جبيل. خلال الحرب نزحنا إلى لاسا وكان البيت يضمّ عدداً كبيراً من النازحين من الجنوب، هناك عشت تجربة الحرب. كنت أرى كيف يعيش الناس بعيداً عن القصف، كانت عطلة صيفية، وبحر وحفلات من حولنا، ونحن داخل البيت الذي يأوي الكثير من العائلات النازحة. هذا التناقض أعيشه الآن في بيروت. أتذكّر حينها عماتي النازحات إلى الحمرا يقلن لي إنّ أصوات الحفلات والسهر من حولهن تلهيهنّ عن التفكير بمصير أولادهن ومنازلهن وكلّ ما تركنه خلفهن: "لم تتوقف الحفلات، كأننا كنّا في عالم آخر، فهل نصغي لصرخات عقولنا الخائفة على الحجر والبشر؟ أم نُسكتها فنسمع من شبابيك البيوت التي احتوتنا أصوات الاحتفال؟ أي صوت نريد أن نسمع؟"
لم يكن الأمر سهلًا في البداية. كانت هناك تساؤلات من نوع "هل أنا أستغلّ المشهد؟ هل أخلق منها شيئاً لا يجب عليّ خلقه؟ هل أتطفّل؟" هذه الاسئلة لا تبقى معي، لكن الفرق هو ماذا أفعل بهذه الأسئلة؟ كيف تتحكّم هذه الأسئلة في كيف أصوّر المشاهد؟ ما يسهّل العملية عليّ ويرضيني هو أوّلاً حاجة الناس للصور والأرشفة، وثانياً أنني لا أتعامل معهم كخبرٍ عابر، لا أصوّر ٥ أو ٦ صور وأذهب، بل أمضي ساعات طويلة معهم، وأريهم الصور، وأعطيهم الكاميرا ليروا أنفسهم. وكما كنت قبل الحرب أصوّر بغرض أرشفة حياة العائلة، كبرَت هذه العائلة خلال الحرب وباتت تضمّ أهل الضيع، أهل الجنوب.
هناك العديد من المشاهد التي أصوّرها (فيديو أو صورة) وأنا أعلم جيداً أنني لن أنشرها ولن أريها لأحد، خاصة تلك التي تحتوي على أصوات. في بداية تصويري للتشييعات، خاصة في مجالس النساء، كنت أعيد سماع الفيديوهات وكنت أشعر أنني أتطفّل على حرمة الموت وعلى لحظات حميمية لا يجب التطفّل عليها. كنت أسأل نفسي "كيف فتِت هيك؟ كيف قرّبت هالقد؟ كيف قرّرت إنو الكاميرا تضلّ دايرة؟" بعدها، عندما استمعت إلى الأصوات فقط من دون الشقّ المرئي، اكتشفت أنها مرتبطة بمجتمعٍ بأكمله، وليست بأشخاص معيّنين. فتقبّلتها أكثر لأنني أرى أنها تصبّ بالهدف الرئيسي من قيامي بالتصوير. وفي اللحظات التي أتساءل فيها عن جدوى هذا العمل، ألجأ إلى العيّنة السمعية التي تجسّد تجربة هذا المجتمع بأكمله، من بكاء وصريخ إلى زغاريد واحتفال، وأدرك أن ليس كلّ ما أقوم بتصويره هو للنشر.
ربما عند انتهاء الحرب وأخذ مسافة منها، قد أعود إليها لأُقيم الحجّة أنّ هذا ما حدث، ولا يستطيع أحد إنكار ذلك.
مع أنني لا أحبّ استخدام هذه المصطلحات التي تفصل لبنان مناطقياً، فلبنان كلّه في حرب مع اسرائيل، لكن أدرك أن هناك جمهوراً لبنانياً لا يرى الحرب وتبعاتها، وربما لا يريد أن يرى. وهناك شقّ متعلّق بكون المعرض في كلية الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، فالتعامل مع الصور يكون من منطلق جمالي أكثر ما هو توثيقي.
كان المعرض أول خطوة وكان في منطقة فرن الشباك. كانت لدي هواجس عديدة قبل المعرض، وترتبط هذه الهواجس بغزة. فهناك فيضٌ من التوثيق والصور والمواد المرئية التي تأتينا من غزة، لكن لا شيء يحدث لإيقاف الإبادة. ولا شيء يضاهي ثقل الذي نراه. فالسؤال "هل أنّ صوري من الجنوب، من حربٍ محصورة وقواعدها مضبوطة، ولا تقارَن بأي شكل من الأشكال بالإبادة الحاصلة في غزة، هل ستؤثّر؟". برأيي الصورة لا تؤثّر، الصورة فقط تلقي حجّة على المتلقّي: "ليك شو شفت، وليك شو قررت تضلّك تفكّر"، لكن الصورة لا تغيّر من رأي أحد. لا أحد ينظر إلى صورة من غزة أو من الجنوب لإدراك الإجرام الإسرائيلي أو لإدراك تضحية أهالينا. هي حجة تلقى عليهم. فكان الهدف من المعرض هو خلق نقاش ما بعد الصورة وعن المسؤولية التي يمكن للصورة أن تفرضها على كلّ من رآها.
إنه شعور غريب جدًا، فمثلاً إذا كنتِ في كفركلا، ترين جدارًا من الإسمنت وترين من خلفه أرضًا مطابقة لأرضك، وتتذكرين أنه قبل 1948 كان هناك ملّاك من كفركلا لتلك الأراضي، وأناس من تلك الأراضي ملّاك في كفركلا. في تلك اللحظة، تختفي فكرة المساندة لفلسطين وتأييدي لهذه القضية. تصبح الأمور أبسط وأقلّ تعقيدًا. وتدركين ما معنى أننا شعب واحد. فعندما تمطر في الجنوب، أجلس وأفكر بالطقس في غزة، كيف يعيش النازحون في خيمهم في هذا الطقس. هذه العلاقة أقرب بكثير من فكرة "مناصرة فلسطين". نحن شعب واحد.
الأمان الذي أشعر به وأنا آخذ صورة معيّنة سببه صورة أخرى لا أستطيع التقاطها. فتصوير شيءٍ مرئيّ لتوثيق تبعات الحرب يعود سببه إلى ما هو غير مرئي، أي الشباب المقاوم. هناك شيء ما ورائي يدفعك إلى الأمام. هناك أيادٍ لا تصوّر. أفكّر بالموضوع كثيرًا. مَن هو هذا الشخص الذي أطلق هذا الصاروخ، والأسبوع القادم سيكون جالسًا على مقهى في الشارع. هذه الصورة غير المرئية هي التي تدفعني إلى أخذ الصورة المرئية. وتدركين أنّ الحرب لم تبدأ الآن ولن تنتهي الآن. ستتوقف الصواريخ والطلقات النارية وستكمل الحرب.