تساؤلات حول حراك الشارع اللبناني في ظلّ الحرب على غزة
مظاهرة احتجاجية على مذبحة صبرا وشاتيلا، 1982
*كُتب هذا المقال قبل تصعيد العدوان الإسرائيلي وتوسع نطاق الحرب في لبنان، مما أتاح مساحة للتأمل في السياق اللبناني وقتها.
تظهر بعض إشكاليات الهوية اللبنانية وانقسامات الواقع السياسي-الاجتماعي في لبنان بوضوح أمام معركة "طوفان الأقصى" وما تلاها من حرب إبادة يشنّها الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر، منذ شهر تشرين الأول/أكتوبر 2023. وبينما خرجت تظاهرات حاشدة رافضة للعدوان الاسرائيلي ومساندة لغزة وفلسطين في العديد من مدن العالم، كان هذا المشهد في لبنان خجولاً رغم دخوله المعركة عسكريًا منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023 خصوصًا في جنوبه الذي يتعرّض أهله للعدوان الصهيوني بشكل متواصل. على الرغم من هامش المساحة التي يتيحها النظام اللبناني للتحرّك والاحتجاجات، ورغم تاريخ اللبنانيين الحافل بالمظاهرات الشعبية، وارتباط جزء من لبنان بالقضية الفلسطينية تاريخياً وحاضرًا، بقيت التظاهرات الداعمة والمساندة لغزة والتحركات الرافضة للإبادة الوحشية قليلة جداً ولم ترتقِ إلى مستوى اللحظة التاريخية الاستثنائية التي نشهدها.
بما أن مشهد استمرار الحياة بشكلها شبه الطبيعي في المناطق اللبنانية التي لا تتعرّض للقصف يعزّز شعورنا بالاغتراب، وبما أن المقاومة الشعبية لا تقلّ أهمية عن المقاومة المسلّحة، ومع استمرار تهديد إسرائيل بتدمير لبنان، أحاول في هذه الورقة قراءة بعض جوانب الشارع من زاوية الواقع اللبناني السياسي- الاجتماعي بما فيه واقع المخيمات الفلسطينية، وذلك من خلال التركيز على الاحتجاجات الشعبية في ظلّ الحرب على غزة.
فلسطين في السياق التاريخي للبنان ما قبل السابع من أكتوبر
مهّدت الحرب العالمية الثانية التي هيّأت الظروف لاستقلال لبنان،1 الطريق الأمثل لنكبة فلسطين من قبل المشروع الصهيوني المدعوم من الغرب على الرغم من العمق التاريخي المرتبط بفلسطين.2 وثّقت الدولة اللبنانية علاقاتها مع الغرب تحت حكم نظام قائم على هوية تحاول سلخ اللبنانيين عن عمقهم ومحيطهم العربي وتتغنّى بكونهم "استثنائيين" لا علاقة لهم بالجوار ولا بأزماته. أدّى هذا الأمر إلى انقسام المجتمع اللبناني إلى كتلتين هما في حالة مجابهة دائمة، بين قوى اجتماعية حريصة على توثيق علاقاتها الاقتصادية والسياسية والثقافية مع البلدان الغربية، وأخرى متجهة تقليدياً وتاريخياً نحو الشرق.3
كان عام تقسيم فلسطين 1947، عام إضرابات وتظاهرات واعتصامات في لبنان حيث شكّل هذا الموضوع محور الاهتمام السياسي والوطني والقومي آنذاك، تبعه عام النكبة والتهجير حيث عمّت التظاهرات الشوارع مطالبة الجيوش العربية بالدخول إلى فلسطين.4 اتسمت فترة الستّينات بالإضرابات والاحتجاجات الطلابية والعمّالية، من أجل بناء جامعة رسمية لبنانية من جهة واعتراضًا على الأوضاع الاقتصادية المتردّية واستغلال الطبقة العاملة من جهة أخرى، ومناديةً للتجنيد والتسليح دفاعًا عن فلسطين وردع الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، بحسب مقالة بعنوان "طاولة مستديرة (ومغلقة الاستدارة)" التي ناقشت عام 1969 التضارب بين مصالح وتوجهات الطبقة الحاكمة وتطلّعات ومعارك "جماهير الشعب في لبنان" اليومية، فإن "المواطن العادي في الجنوب يطالب ببندقية".5
بعد سنوات عديدة وفي عهد رئيس الجمهورية اللبنانية شارل حلو، كانت القوى السياسية اللبنانية متمثّلة برئيس الجمهورية والأحزاب اليمينية تنادي ببناء الدولة الحديثة والمجتمع الحديث والحفاظ على استقلال وسيادة لبنان وعدم زجّه في الصراع. حيث شاركت القوى الفاشية في قمع المظاهرات الطلابية، وفي قتل قوى الثورة الفلسطينية واللبنانية بعدما "بدأت الجماهير تتعاطف مادياً ومعنوياً مع الثورة الفلسطينية ورفعت الحركة الوطنية في لبنان شعار "دعم العمل الفدائي"".6
اتسمت مرحلة الستينات باتخاذ تدابير قمعية ومهينة بحق الفلسطينيين لجهة تقييد حرياتهم ومنعهم من التجوّل ومن الاستماع إلى الراديو وقراءة الصحف وعقد تجمّعات، كما مُنعوا من زيارة المخيمات الأخرى دون تصاريح كان يتعذر عليهم الحصول عليها، إضافةً إلى المضايقات اليومية والابتزاز والاعتقالات والتعذيب. عاش الفلسطينيون حينها تحت سيطرة الشرطة ومكتب الاستخبارات العسكرية المعروف "بالمكتب الثاني". أدّت تلك الضغوط إلى تمرّد الفلسطينيين فاندلعت ثورة غير مخطّط لها داخل المخيمات عام 1969،7 إذ قام اللاجئون خلالها بطرد "المكتب الثاني"، الأمر الذي مهّد الطريق لـ"منظمة التحرير الفلسطينية" لبدء عملها المسلّح من لبنان. ناضل فلسطينيو لبنان داخل حركة فلسطينية جماهيرية، إلى جانب الحركة الوطنية اللبنانية، فكان بذلك لبنان قاعدة رئيسية للثورة الفلسطينية. تمّ استغلال العامل الطائفي من قبل القوى المعادية وخاصة اسرائيل، واندلعت الحرب الأهلية على إثر ذلك، ودُمّرت خلالها ثلاثة مخيمات فلسطينية بالكامل.8 بحسب صلاح خلف، فإن التهديد لم يكن من قبل قوى محلية فحسب، وإنما دولية أيضًا، "فقد كان ثمة أسلحة تباع ما لبثت أن تتحول سرّا وخفية إلى ميليشيات مسيحية".9
شكّلت الحرب الأهلية خسارة فادحة للفلسطينيين في لبنان على الصعيدين السياسي والشعبي، لكنها أيضًا اتسمت بتلاحم المقاومة اللبنانية مع الفلسطينية، التي حاربتها المليشيات المسيحية إلى جانب إسرائيل. "كانت الجماهير اللبنانية والفلسطينية وكذلك المقاتلون يعبّرون عن مشاعرهم وأفكارهم بالكتابة على الجدران التي امتلأت بالشعارات التي تعبّر عن الشعور بالامتنان للشعب اللبناني الذي ساند الثورة وبعودة المقاومة للاستمرار في النضال معًا".10
توالت حركة الشارع في لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية، إذ شهدت مرحلة الحريرية السياسية وهي فترة إعادة الإعمار التي اتسمت بالإدارة الحضرية النيوليبرالية، عدّة إضرابات ضد مشاريع الخصخصة مثلاً لما لهذه المشاريع من انعكاسات مدمّرة على الاقتصاد المحلّي. في أيلول عام 1993، واعتراضًا على توقيع اتفاق أوسلو بين "منظمة التحرير الفلسطينية" وحكومة كيان الاحتلال، خرجت تظاهرة سلمية في منطقة الغبيري عند جسر المطار القديم، كانت تهتف ضد الكيان الصهيوني، وانتهت بمجزرة ارتكبها الجيش اللبناني بحق المتظاهرين سقط نتيجتها تسعة شهداء وعشرات الجرحى.11
تصاعدت قوة حزب الله خلال الحرب الأهلية وبعدها، ورغم رفعه شعار ربط لبنان بالنضال الفلسطيني على الصعيد العسكري، إلا أنّ الحرب قتلت الوجود الفلسطيني في لبنان سياسيًا، وذلك كان هدف إسرائيل الرئيسي، "مع استمرار المصادمات، أصبح واضحًا أن هناك مخطط كبير وطويل هدفه اجتثاث المقاومة الفلسطينية وتطويع الوجود الفلسطيني المدني".12 على مدى سنوات، تمّت تصفية العمل الفلسطيني المقاوم في لبنان بالتزامن مع تراجع دور القوى اليسارية وانسحاب أحزابها من الحياة السياسية وإضعاف مقاومتها المسلّحة ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب اللبناني.
قبل "الحرب الأهلية" وبعد انتهائها شهدت الشوارع اللبنانية، على اختلافها، تحرّكات شعبية عند منعطفات سياسية أو أخرى مطلبية ونقابية. لجأ النقابيون إلى الشارع في بعض الأحيان كما جماهير الأحزاب في مراحل مختلفة من التغيّرات السياسية في المشهد اللبناني.
بعد عام 2011، بدأ تصاعد قوى سياسية جديدة خارجة عن الأحزاب التقليدية بفعل تنامي عمل منظمات المجتمع المدني، فشهدت الشوارع اللبنانية تظاهرات تضامناً مع ثورات "الربيع العربي"، وصولاً إلى حراك "طلعت ريحتكم" عام 2015، حتى انتفاضة 17 تشرين/أكتوبر عام 2019. وبعد أن كان لبنان مساحة لتشكُّل الأحزاب السياسية لفترة طويلة، أخذ شكل العمل السياسي فيه بُعداً آخر إذ تشكّلت مجموعات مستقلة يغلب عليها طابع الناشطية الحقوقية النيوليبرالي وحملت شعارات تغييرية، ولدت من رحم منظمات المجتمع المدني التي تربطها صداقات مع سفارات أجنبية وتحصل على تمويل منها. وبعد أن استقطبت هذه المنظمات بعض كوادر اليسار حلّ مفهوم التضامن والناشطية محلّ النضال، وتفتّت العمل السياسي إلى هويات فرعية.
اكتفى الحراك المدني في لبنان بطرح الشعارات والتظاهرات السلمية والظهور الإعلامي. في عام 2019، اندلعت احتجاجات شعبية واسعة شملت كافة المناطق في لبنان، على خلفية تدهور الوضع الاقتصادي، حيث نادت الانتفاضة بتغيير الطبقة السياسية الحاكمة. ورغم استعادة الناس الأمل بإمكانية تغيير وضعهم المعيشي خاصة بفعل سرعة تدهور الاقتصاد، إلّا أنّ الشارع كان مقسوماً مرّة جديدة، ,وغابت عنه نسبيًا حركة الطبقة العاملة. فكان الانقسام بين من حمّل مسؤولية الأزمة للنظام الطائفي ورفع شعارات ليبرالية، وبين من رأى أن الصراع في جوهره طبقي. في نهاية المطاف، لم ينتج الحراك المدني أكثر من نواب أطلقوا على أنفسهم اسم "تغييريين" فيما معظمهم ينتمون إلى المنظومة الحاكمة الراعية للأزمة.
طوال كل تلك السنوات، كان اللاجئون الفلسطينيون يعيشون استفحالًا في انعدام الأمن وتهميشًا إضافيًا، سواء من قبل السلطة اللبنانية أو الفلسطينية ما بعد سلطة أوسلو، فظلوا يعانون حرمانًا من الحقوق الأساسية ومن الخدمات. كما تمّ إبعاد اللاجئين الفلسطينيين من الجوانب الرئيسية للحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلاد، وعزلهم عن محيطهم داخل مخيمات مكتظة تتحكّم بمداخلها ومخارجها حواجز أمنية للجيش وأحياناً جدارات فصل كما هو الحال في مخيم عين الحلوة. تتعامل الأجهزة الرسمية مع المخيمات كبؤر أمنية تتأجج فيها الصراعات بين الحين والآخر، وبذلك، دُفع اللاجئون الذين كانوا محور الحركة الوطنية في فترة سابقة إلى الهامش.13
في تموز/يوليو عام 2019، أصدر وزير العمل اللبناني قرارًا كان من شأنه أن يزيد القيود المفروضة أصلاً على عمل الفلسطينيين في لبنان وذلك ضمن ما أسمته الوزارة حينها "خطة مكافحة اليد العاملة الأجنبية غير الشرعية"، فانتفض اللاجئون مرة أخرى في حراك عمّالي تاريخي رفضًا لحرمانهم من حقوقهم الأساسية، في ما عُرف بـ"حراك المخيّمات". اندلعت مظاهرات عفوية في كافة المخيمات تبنّت مطالبها الفصائل الفلسطينية فيما بعد، شدّد خلالها الفلسطينيون على أنهم ليسوا "أجانب" واستخدموا تكتيك المقاطعة الشعبية في بعض من المخيمات، حيث قاطعوا البضائع اللبنانية. شاهدنا الخضار المزروعة والخبز المنتج في مخيم الرشيدية ينتقل على ظهر شاحنات إلى مخيم عين الحلوة في مشهد كَسَرَ سنوات طويلة من القمع والتطويع. رغم ذلك، لم يستطع الحراك الخروج خارج حدود المخيم، ولم يحظَ بالتضامن والدعم الكافي من الجوار اللبناني. استمرّ الحراك حتى انتفاضة 17 تشرين/أكتوبر من العام نفسه.
"طوفان الأقصى" وركود الشارع
تعاطى اللبنانيون مع أحداث 7 أكتوبر وما تلاها بتباينات واضحة، فبينما عبّر البعض عن عدائهم المطلق لاسرائيل، نأى العديد بأنفسهم سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي واعتبروا أن ما يحصل للفلسطينيين ليس من شأنهم والمهمّ أن لا يؤثر ذلك على لبنان بأي شكل من الأشكال. يرى البعض أن دخول المعركة عسكريًا كافٍ، ويخاف البعض الآخر من هذا الانخراط.
أما بالنسبة لغير المنتمين إلى أحزاب من النشطاء فما حسمته معركة "طوفان الأقصى" هو فشلهم في صياغة خطاب سياسي يدعم الحق الفلسطيني ولو شفهيًا. فإلى جانب القوى التقليدية التي لا زالت تنادي حتى اليوم، في ظل الإبادة الجماعية، بتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، هناك معسكر آخر مستقلّ ناقم على نظامه وحالم بالتغيير لكنه يخاف دعم المقاومة الفلسطينية المسلّحة ويرى تعارضاً بين المحافظة على "استقلال" بلده وواجب التضامن مع الفلسطينيين ومساندتهم.
بعد ثلاثين سنة على انتهاء الحرب الأهلية، تبقى المارونية السياسية قوة مؤثرة في بلورة الهوية اللبنانية الوطنية. وتبقى سياسات الهوية مسيطرة على التفاعلات المتبادلة بين الفرد ومحيطه الاجتماعي القريب والبعيد. نشاهد هذا التناقض بين من يقدّم الدم الآن وبين من يدّعي "النأي بنفسه" إلى حدّ شنّ حملة مموّلة عنوانها "لبنان لا يريد الحرب"14 حمّل مطلقوها مسؤولية الإبادة للفلسطينيين ولحزب الله ووقفوا "على الحياد من إسرائيل"، ليتبيّن لاحقاً أن تلك الحملة منظمة الكترونياً أيضاً وتعتمد على نشر محتوى يدعو إلى اعتماد المواقف الداخلية والقرارات الدولية التي تخدم مصلحة الاحتلال وتشلّ العمل المقاوم من لبنان.
نشهد هذا الانقسام سواء في التصريحات والمواقف السياسية للمسؤولين والإعلاميين اللبنانيين أو في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، التي عزّز منها خطاب النأي بالنفس، إلى حدٍّ تضامَن البعض مع الإسرائيليين أو ساووا بين الفلسطينيين الواقعين تحت الاستعمار والإسرائيليين المستعمِرين، أو اعتبروا، انطلاقًا من لبنانيتهم، أن اللبناني هو الضحية الأكبر في هذا الصراع!
داخل هذا السياق المتناقض، تنشط في لبنان حراكات داعمة لغزة، أبرزها ما تنظمه جبهة فلسطين حرة التي تشكّلت من ناشطين مستقلين كردة فعل على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وجنوب لبنان. تنظم الجبهة تظاهرات مستمرة ومتواصلة في بيروت منذ بداية العدوان، تخللتها تظاهرات أمام السفارة الفرنسية والبريطانية والمصرية والسعودية والألمانية وصولاً إلى تظاهرات أمام شركات على لوائح المقاطعة مثل "ستارباكس" و"ماكدونلدز" ومنظمات دولية متواطئة والصليب الأحمر الدولي وغيرها. تتخذ الجبهة مواقف جذرية، نلاحظها بوضوح من خلال بياناتها وتحركاتها، لجهة دعم المقاومة الفلسطينية المسلحة ورفض الاستعمار بكافة أشكاله المباشرة وأدواته غير المباشرة والتبعية والتواطؤ مع الغرب، إلا أنّ تظاهراتها لم تستطع حشد الكثير من المشاركين.
وبينما تشهد المخيمات الفلسطينية تظاهرات في داخلها تتصاعد وتيرتها وتخفّ بين فترة واخرى، يستمرّ سكّانها بالمقاطعة ومنع دخول البضائع التي تدعم الاحتلال. من جهة اخرى نظمت بعض الأحزاب اللبنانية بالتعاون مع التنظيمات الفلسطينية تظاهرات خجولة من حيث عددها لكن كبيرة لناحية حشدها. في العموم، لا تشكّل هذه التظاهرات مشهدًا كبيرًا مقارنة بالدول الأخرى ويعزّز ذلك شعور العجز والإحباط لدى الكثيرين، إذ إن مشهد استمرار الحياة على طبيعتها في معظم المناطق اللبنانية وعدم القدرة على حشد الشارع أمر يستفزّ معظم الأشخاص الذين تحدّثت معهم. لفهم هذا الواقع بشكل أعمق، أجريت عدّة مقابلات مع عدد من المهتمين في الشأن العام والعاملين في المجال السياسي الاجتماعي في لبنان.
يؤكّد ربيع، ذو الخلفية الماركسية والذي كان ناشطًا خلال انتفاضة 2019، أنّ الناشطين اللبنانيين، وخصوصاً المجموعات التي تشكّلت عقب انتفاضة 17 تشرين، فشلت في فهم التناقضات والتقاطعات، وصياغة خطاب ديكولونيالي ثوري واضح يعادي إسرائيل علناً وينادي بالمصلحة الاجتماعية الاقتصادية الطبقية، وذلك رغم اصطفاف العديد منهم إلى اليسار. يرجّح ربيع أسباب غياب التظاهرات عن الشارع اليوم إلى البروباغندا الإعلامية العنصرية التي تزيد من تطرّف الناس وعزلتهم وتركيزهم على همومهم الضيقة، ويرجّح أن أزمة الخطاب تكمن في أنها انعزالية تنطلق في نقدها وتحليلها من اتفاق الطائف، والخوف من احتمالية تكرار الحرب الأهلية. يرى الناشط اليساري أن التقوقع في الهوية اللبنانية هو إرث استعماري وأنّ شكل المعركة عند مَن هم داخل القوقعة الهوياتية هو في تكريس طاقاتهم وجهودهم لمعاداة حزب الله وتهميش الخطر الإسرائيلي، إضافة إلى طغيان ثقافة الفردانية والليبرالية وغياب أي قوى يسارية ماركسية فاعلة قادرة على التأثير.
لا يهمّش ربيع أحد أهم الأسباب التي تؤثر على واقع المقيمين في لبنان، وهو الانهيار الاقتصادي الأعنف منذ تاريخ تأسيس الدولة، حيث زاد معدل الفقر ثلاثة أضعاف في عقد واحد حسب البنك الدولي. "الناس تعبانة، ومش شايفين في أفق ولا أمل، وفي قوى عم تأجج دائمًا العنصرية ضد اللاجئين لمنع أي شكل من أشكال التضامن مع السوريين أو الفلسطينيين، هذا إضافة إلى انعدام الوعي بإمكانية التأثير سواء في المقاطعة أو في ضرب المصالح الغربية"، حسب قوله.
هذا التعاطي السياسي البارد حيال إبادة جماعية تحصل على الحدود مع لبنان، أو حيال تهديد لبنان من قبل عدوّه الاستعماري، أو حيال خطابات وممارسات فاشية تمارَس ضد اللاجئين السوريين، يشعرنا باستسلام المجتمع لهوية النظام الحاكم. فحتى اللبنانيين المعارضين للنظام السوري مثلأ، إن لم يكونوا هم أنفسهم عنصريين، فشلوا في صياغة خطاب مناهض للعنصرية ضد السوريين في بلدهم.
في سياق الحديث عن موقع اللبنانيين من الصراع العربي الإسرائيلي، يرى خضر، من "الاتحاد الطلابي العام"، أنّ هويته تحتّم عليه "أن لا يكون في موقع تضامني فقط بل في قلب الصراع"، كونها ليست معركة الفلسطينيين وحدهم بل قضية المنطقة بأكملها، "إذ إن الاستعمار ينظر إلينا ككتلة واحدة يرغب في السيطرة عليها". ويُرجع أسباب غياب التحركات وتهميش الطرح الذي يربط الأزمات داخل مجتمعاتنا بطبيعة النظام السياسي الاقتصادي اللبناني وبالسياسات الاستعمارية ككلّ، إلى الهيمنة الثقافية الليبرالية من جهة وخطاب الإسلام السياسي من جهة أخرى الذي يعتمد على المنطق الديني لا المادي لقراءة الثوابت والمتغيرات داخل المجتمع، والذي ينطلق من الهوية اللبنانية ذاتها، فلا يهتمّ بالصراع الطبقي والمعايير الاقتصادية التي تشكّل المجتمعات.
الملفت أيضاً أنه حتى في البيئات الداعمة لفلسطين لم نرَ تظاهرات وتحرّكات جدّية لمساندة غزة، وهو ما يجعل الواقع الذي نعيشه اليوم "أسوأ من الحرب الأهلية على صعيد الخطاب والشارع"، حسب خضر.
تلعب الهيمنة الثقافية الليبرالية دورًا أساسياً في عزل القضايا والمجتمعات عن بعضها البعض، وتعزّز ثقافة الفردانية، التي تمثّل بالأساس الأيديولوجيا الحاكمة للغرب الحديث، الأمر الذي يؤدي إلى غياب التضامن المجتمعي والانصهار الاجتماعي، وبالتالي نواجه الليبرالية في لبنان ليس فقط كسلطة بل كنظام مجتمعي وأسلوب حياة.
مثلما تمّ عزل المخيم الفلسطيني عام 2019، عُزل الجنوب اللبناني أيضًا في ظل ما يتعرّض له من اعتداءات إسرائيلية يومية منذ العام الفائت. يرى خضر أن خلفية عدم التضامن مع الفلسطينيين في المخيمات "تأتي من موقف عنصري ضدهم في كثير من الأحيان"، لكن التعاطي المماثل مع اللبنانيين في الجنوب يطرح العديد من علامات الاستفهام.
يرى خضر أنه يجب بلورة خطاب في وجه الخطاب السائد، والعمل على خلق نقاشات وجلسات معرفية داخل البيئات المختلفة تحاول ربط الأزمات التي تحصل في حي صغير في لبنان بما يحصل في فلسطين. وانطلاقًا من ذلك، عمل "الاتحاد الطلابي العام" على مواجهة سرديات عديدة تروّج للاحتلال الإسرائيلي من خلال النقاشات والكتابات، كما شارك الاتحاد "جبهة فلسطين حرة" في حراكاتها التي شملت إيقاف ندوات لبعض سفراء غربيين أو صهاينة داخل جامعات، إلا أن التفاعل من قِبل عموم الطلاب كان خجولًا أو "صامتًا".
الشارع الذي لا نراه في الإعلام
يرى خضر أن الدولة القومية ومؤسساتها انتصرت على المجتمع، فأدّت إلى تفكّكه. ربما ينطبق هذا التحليل على الواقع في لبنان لكنه مستبعد في الحالة الفلسطينية، إذ لا يعاني المجتمع الفلسطيني داخل المخيمات من التفكك أو من غياب الهوية الجمعية بقدر ما يعاني من العزل التاريخي الممنهج. يترابط المجتمع الفلسطيني بين بعضه ويتّسم بالتكافل الاجتماعي والتفافه حول همومه المشتركة وهويته وقضيته، وبذلك يبدو مجتمعه الأبعد عن ثقافة النيوليبرالية السائدة، إلّا أن تأثيره في الشارع اللبناني يكاد يبدو معدومًا.
تقول لينا، وهي ناشطة سياسية عاشت طفولتها في مخيم برج البراجنة، أنها في طفولتها كانت تشارك في مظاهرات فلسطينية داخل الشوارع اللبنانية، وأن اليوم بات هذا الواقع شبه معدوم وهو ما يثير الغرابة حسب اعتقادها. "المخيم مفصول عن المدينة تمامًا، انتبهت مؤخراً قدّيه هوي مفصول، ولا مرّة كان هيك، حسب ذاكرتي وحسب ما ورثته من ذكريات جدتي".
يصعب على الفلسطيني كسر الحواجز الموجودة خارج إطار المخيم، ليس فقط بسبب المخاطر الأمنية وخطابات النأي بالنفس، بل أيضًا بسبب الخطابات العنصرية المستمرة والمتزايدة منذ اليوم الأول للتهجير. تقول ساندي إنها شاركت في مسيرة رافضة للإبادة في بيروت، وخلالها تعرّضت للسبّ والشتم من قبل المقيمين في منطقة ذات أغلبية مسيحية حيث ترددت على مسامعها عبارات مثل: "اطلعوا من هون، روحوا على مخيماتكم، وسّختولنا البلد". وأشارت ساندي أن التهديدات الشفهية والتخويف باستدعاء القوى الأمنية استمرّت طوال المسيرة. وقد تكرّرت المضايقات والتهديدات العنصرية في معظم المسيرات التي خرجت دعماً للفلسطينيين.
بذلك، نجد أن غياب التضامن بشكله المطلوب في الشارع اللبناني ليس مستغربًا، بل متوقّعاً. خلال عملها على حملة مقاطعة البضائع الداعمة للاحتلال، وجدت فاطمة (لاجئة فلسطينية من مخيم مار الياس) أن الانقسام الهوياتي إضافة إلى تعدد الجنسيات وخلفيات المقيمين في البلد يصعّب الوصول إلى تحقيق حركة مقاطعة واسعة النطاق. "أرضية البلد يلي نحنا فيه والمناخ العام ما بيعطينا مجال نعمل تحركات واسعة متل باقي البلدان، أكتر شي فينا نعمله هون إنه نبحّ حناجرنا"، حسب قولها.
تبقى التظاهرات التي تستطيع حشد العدد الأكبر من الناس هي تلك التي تدعو إليها الفصائل الفلسطينية، والأخيرة حسب فاطمة ولينا لا تقوم بدورها كما يجب. تقول فاطمة: "طالما الحرب على غزة مستمرة، فعلى الفصائل أن تكون معنيّة أكثر بحشد الشوارع بشكل مستمرّ" وتضيف لينا: "الناس يلّي شغلتها تحكي عن فلسطين، التنظيمات والمؤسسات والأكاديميين والباحثين والصحافيين غايبين ومش عم يقوموا بدورهم بشكل كافي".
في المقابل، من الجهة اللبنانية، يرى البعض أنه من واجب اللبنانيين كسر العزلة مع الفلسطينيين وإعادة الارتباط بالمخيم وحشد الجهود في هذا الاتجاه.
النظرة إلى الشارع تعطينا إشارات كثيرة لتحليل الواقع. ففراغ الشوارع من التظاهرات لا يعكس رأي المجتمع ككلّ. في بعض شوارع مدينتي طرابلس وصيدا مثلاً أو حتى في الجزء الغربي من بيروت، عُلّقت صور أبو عبيدة الناطق الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام، كما نجد لافتات وجداريات دعم لغزة، والحديث عن الإبادة موجود بين عموم الناس. هذا إضافة إلى حملات التبرعات التي نشهدها رغم تردّي الأوضاع المعيشية. وبحسب فاطمة، إنّ حملات التبرعات التي انطلقت من لبنان توسعت لتشمل متبرعين من دول مختلفة.
ترى لينا أن هناك أشكالاً من التضامن لا تستطيع التعبير عن نفسها بشكل واضح مثل تضامن السوريين المقيمين في لبنان والذين لا يستطيعون المشاركة في التظاهرات بشكل كبير نظراً للقيود المفروضة على حركتهم كلاجئين، وهم أيضاً يعانون من عنصرية شديدة تجاههم في بعض المناطق.
قد تعود أسباب غياب التظاهرات أيضًا إلى الإحساس العام لدى الناس بعدم جدوى التظاهر. معظم الشباب الذين تحدّثت إليهم يفضّلون مثلاً الانخراط في القتال على الحدود اللبنانية الفلسطينية أكثر من المشاركة في الاحتجاجات السلمية. وهذا ما ينادي به الفلسطينيين في جميع مظاهراتهم "سلّحونا، سلّحونا عالحدود ابعتونا"، في وقت يشارك فيه جزء من الفلسطينيين في المعركة في جنوب لبنان منذ بدايتها. تقول فاطمة: "يا ريت فينا نطلع على الجنوب ونجتاز السياج الحدودي.. شو بدو يصير؟ نموت؟ نموت وعنّا شوية كرامة أحسن". وتضيف غادة من مخيم مارالياس: "الناس غاضبة لدرجة نفسهم يطلعوا على الجنوب، وابني واحد منهم".
بينما يترقّب الناس في المخيمات تصاعد الحرب على الجبهة الشمالية، يحفظون صور القتل والدمار التي تخرج من غزة، يتذكرون معها معاناتهم مع سنوات اللجوء والمجازر والحصار التي عاشوها، يشعرون كذلك أنهم مستهدفون وأنّ مشروع التصفية الصهيوني سيطالهم عاجلًا أم آجلاً. "اليوم أهل غزة، بكرا إحنا، وما رح يتطلّع فينا حدا"، تقول فاطمة.
في ظل الظروف الاستثنائية التي تمرّ بها المنطقة، نتمعّن بالتاريخ كأنه يعيد نفسه حاضراً في انقسامات الناس وتكرار الخطابات الهوياتية والانعزالية مقابل الخطابات المعادية لاسرائيل لكن هذه المرة من دون أي قوى شعبية قادرة أو مستعدة للتحرك والمساندة فعلياً على الأرض. فكلّ هذا الدم المسفوك لم يحرّك النقابات العمّالية في لبنان ولا الأطر الطلابية أو الأحزاب اليسارية التقليدية أو الحراك المدني أو ناشطي الحركة النسوية.
- 1. سليم الأسمر، "المارونية السياسية: أسطورة التأسيس وفرادة لبنان عربيًا"، موقع 180 درجة، 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2020. https://180post.com/archives/14211
- 2. "جذور المشكلة الفلسطينية وتطورها"، لمحة تاريخية، الأمم المتحدة. https://www.un.org/ar/situation-in-occupied-palestine-and-israel/history
- 3. كلود دوبار وسليم نصر، الطبقات الاجتماعية في لبنان، مقاربة سوسيولوجية تطبيقية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1982.
- 4. جورج حبش، "صفحات من مسيرتي النضالية: مذكرات جورج حبش"، مركز دراسات الوحدة العربية، 2019، ص. 50.
- 5. "طاولة مستديرة (ومغلقة الاستدارة)"، مجلة الهدف، العدد 6، 30 آب/أغسطس 1969، ص. 6. https://palestine-memory.org/sites/PalestineMemory/Pages/DocumentDetails.aspx?DocumentName=12
- 6. سليم أمين، "أزمة الطبقة الحاكمة في لبنان"، مجلة الهدف، العدد 19، 29 تشرين الثاني/نوفمبر، 1969، ص. 8-9. https://palestine-memory.org/sites/PalestineMemory/Pages/DocumentDetails.aspx?DocumentName=1965
- 7. بيرلا عيسى، "اللاجئون الفلسطينيون في لبنان مجتمع مستضعف إنما نابض بالحياة"، الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية. https://www.palquest.org/ar/highlight/9587/%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%A6%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D9%91%D9%88%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86
- 8. دُمّر مخيم النبطية بالكامل عام 1974، ومخيم تل الزعتر عام 1976، و مخيم جسر الباشا عام 1976.
- 9. صلاح خلف، "فلسطيني بلا هوية"، دار الجليل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية، 2016، ص. 191.
- 10. حبش، ص. 264.
- 11. محمد نزال، "المجد لأيلول الشهداء…"، جريدة "الأخبار"، 14 أيلول/سبتمبر 2017. https://www.al-akhbar.com/Politics/237726
- 12. حبش، ص. 228.
- 13. عيسى، الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية.
- 14. ڤيڤيان عقيقي، "«ميتا» تكشف حملة «لبنان لا يريد الحرب»"، مجلة الصفر، 23 آب/أغسطس 2024. https://alsifr.org/lebanon-does-not-want-war