لسنا بأبرياء، ولن نكون
47465_ca_object_representations_media_723_original.jpg
لسنا بأبرياء.
مايا زبداوي
لم يكن توسّع رقعة الحرب إلّا مسألةً متوقّعة، لكنّ التفاصيل اليوم تحدّد معالم "إعادة الإعمار" وإعادة توزيع السلطة برأس مالٍ ألماني فرنسي – تركي إيراني – قطري سعودي – روسي أميركي. وكأنّنا على شفا اتفاق طائف جديد، "فرصة" تُعطى للبنان لإعادة تعريف دوره في المنطقة.
لن نسبر في أغوار التحليل ها هنا.
إنّ الحرب على لبنان اليوم ليست صكّ براءة من الطبيعة الوظيفية لهذه الدولة "عربية الهوية والانتماء"، وليست معلماً من معالم نهاية الكيانية الصهيونية.
لبنان ليس بريئاً عن فعل المقاومة كما أنه ليس بريئاً عن سياسات طمسها وعزل أركانها ومأسسة بنيانها.
ليس بريئاً من المدّ الصهيوني ولا من اصطفافات حركات التحرير والتحرّر.
ليس بريئاً من فصل التحرير عن التحرّر.
ليس بريئاً من عنفوان الإسلام السياسي ولا من اندثار المقاومة الشيوعية.
ليس بريئاً من الردع ولا من التأخّر في معركة التصعيد. وكما كتبت – أنا الفلسطينية اللبنانية، إنّ شروط نهاية الحركة الصهيونية الاستعمارية ليست مضمَرة في طيّ الدولة الاسرائيلية بذاتها، ليست مسألة انتظارٍ للحظةِ استِعار تناقضات الكيان الداخلية. شروط زوال المشروع الاستعماري كامنة في الخارج الاسرائيليّ، ها هنا في المحيط العربي والمهاجر العالمية.
عليه، إنّ الحرب على لبنان ليست صكّ براءة لجملة من ضحايا الإبادة، ليست عنواناً لمظلومية شعبَين أو أكثر، بل هي إثبات دامغ على أنّ المعركة قائمة والقراءات السياسية خجولة مبتورة متأخّرة، والمسؤولية تاريخية. لم تسِل من أيٍّ من الأقلام الاكاديمية الكثيرة والغزيرة، أية تحليلات متكاملة متّسقة صلبة لسؤال حرب الإبادة هذه التي تتغوّل اليوم على لبنان – لبناننا نحن ولبنانهم هُم مرّة واحدة. نحن الفلسطينيون وهم المواطنون الصالحون – نحن المحيَّدون عن ردهات القرار من عمّال ومزارعين وصيّادين، وهم القابعون في قلاع السلطة، قلاع طالتها ألسنة تكنولوجيا الإبادة الصهيونية.
لسنا بجبهة إسناد، علينا أن نتحوّل إلى جبهة تصعيد. وما لنا سوى أن نقول لأصحاب السلاح في هذا الحاضر الملتهب، ولأصحاب المكانات المؤسسية من الأكاديميين العرب في الداخل الأوروبي والأميركي وكلّ مَن يتمسّك برحا المجتمع المدني العربي التائه: إذا صرختَ فاسمِع كما تفعل حناجر الغزّيين وإذا ضربتَ فأوجِع كما سواعد أهل جنين وجباليا – فإن العاقبة واحدة.
سنُدرك ثاراتِنا
فلأدلي لكم بحجّة الكتابة إذن. أكتُب لأنّ في الكتابة شرطاً من شروط قوتٍ يوميّ، وأكتب لأنني أخاف أن يكتب عن فلسطينَ ولبنان قلمٌ غير قلمي، أنا الفلسطينيةُ اللبنانية التي تربَّت على أيدي من حارب ضد الفاشية اللبنانية بطوائفها الملوّنة والمزركشة. أمّا تلك الـ"أنا"، فليست سوى حرفٍ من أبيات الجَمع الذي يمُدُّها بالمعنى. أكتب لأقول إننا لسنا بأبرياء، أشهد أنّ كلّ من قصَّ عليَّ أقصوصة ما قبل النوم، وكلّ من درَّبني على حبِّ الفُكاهة السوداء، أشهد أنهم قد حاولوا انتزاع لبنانَ عن دولته، واللاجئ عن هويته القانونية، والمخيّم عن دالّته القومية – وسمّوا الانتزاعَ تحريرًا، وما أخطأوا. نحنُ (الفلسطينيون)، لسنا بأبرياء. ذاك المقاتل الذي رابط عند محور السوديكو والدي، وذاك الذي استُشهد وهو يُعِدّ كوادر الدفاع المدني تحت لظى نيران الآلة الصهيونية عشية حصار بيروت عمّي، وتلك التي تفسَّخت يداها من رفع شِوال البصل والسلاح جدّتي، والطفلةُ التي أُعدمت برصاص الجيش اللبناني قُبيل مجزرة المخيم ابنةُ جارتي، والجثّة التي اختفت عند تخوم "الشرقية" اسمٌ في مذكّرات رفاقي، وتلك الساق المبتورة والورك المتهشّم مشهدٌ من يوميِّات صديقي البقاعيّ وأهل حيِّي البيروتي الذي تناسته التيارات اليسارية للمجتمع المدني المتغوّل، وأمّا تلك العين الممزّقة فقصّة من قصص زوجة عمّي الجنوبيّة بُعيد تدريبها الجبهاوي أيام الصِّبا. أولئك هُم، سردية الكيانية اللبنانية المحيَّدة عن العصف الإعلامي اليوم. إنهم المدانون في محاكم القانون الدولي المنسية، وهم لا يُنكرون. نحن (فلسطينيو لبنان) لسنا بأبرياء.
أنا ابنة صيرورة المجازر والمذابح والملاحم التي سبقتها. أنا ابنة أزيز الرصاص في تل الزعتر، أنا مَن حفظت صدى نبيب الماعز التي هُرّبت بحافلات الشيوعيين اللبنانيين نحو أزقة برج البراجنة رغماً عن حصار المخيمات، أنا طالبة معركة كليّة العلوم والباحثة في تفاصيل اشتباكات الجامعة العربية. أنا التي ترجمت عناوين الأبحاث التي أصدرها مركز الأبحاث الفلسطيني سنةً بسنة، بعد ثلاث عقود على نهبه الصامت، بعد أن تناست الذاكرة الجماعية بيتاً لبنانياً معزولاً في أزقة ساسين خبّأ مقاومًا أو اثنين لصالح سرديّة الطائفية والمارونية السياسية المسعورة. وأنا المعتدّة بحربٍ شعبية أُعلنت من فوهات بنادق فلسطينية شيوعية مهزومة رغم صمودها، منسيّة رغم التحرير. أنا – نحن (حاملو السردية الفلسطينية التحررية) لسنا بأبرياء. وفي تكرار الإعلان هذا مسعىً منّي لأقول: لن تُمسي غزة بيروتَ ثانية، لن تتوه سردية القضية في متاهات الثنائيات الأخلاقويّة (البريء والمدان) والحلول المؤسسية (السلطات والسفارات) ما دمنا نحن أحفاد الثورة الفلسطينية في لبنان نجسر كلّ محطات الإبادة من صفد وحولا (1948) إلى جباليا (1987) مروراً ببيروت (1982) بعضها ببعض، رغم عصف السرديات الاختزالية الانسانوية وضجيج الصحوات الأكاديمية – رغم متاهة الاعتراف بدولة فلسطينية. نحن أحفاد الثورة التي جاهرَت بعدائها لشرعة الدولة القومية العربية، نحن منيَّةُ الدولة الأمنية ونحن ذريعة وجودها الوظيفي في المقام الأول.
المكتب الثاني. فخر الصناعات اللبنانية الأولى، أوّل بناءٍ مؤسّسي للدولة بُعيد الاستقلال. فكيف نَقي الدولة الوليدة ما لم نحفر في مدنها وقُراها شبكةً أمنيّةً تنقضّ على أعداء الأمّة: الانتظام الشيوعي والفلسطيني – أعداءُ الدولة – أولئك المعارضين للتوسّع الاستعماري الصهيوني وما يُعينُه من تيارات وأنظمة ولغاتٍ وخرائط. سَكَنَ الدولة الوليدة الفلسطينيون على مدى خمسةٍ وسبعين عاماً على شكل مجتمع سياسي منظّم – علناً أو سرّاً، بوفاق أو تضادّ مع التيارات السياسية الصاعدة حينها داخل النسيج الاجتماعي والسياسي في لبنان. تباعاً، غدَت مخيماتنا مراكز انتظام واغتراب في آن، أمسَت مَقابض أيديولوجية تحرّرية وبندوستانات للاقصاء في آن، باتت في كلّ أحوالها تعبيراً عن جسدٍ في مواجهةٍ مستمرّة ضدّ الدولة… وجسدٍ في انعزالٍ مستمرٍّ عن مشروعها. أجسادنا المحكومة بموجب قوانين هذه الدولة وجغرافيات عزلها وانعزاليّتها المركّبة، ليست إلا إثباتًا على مشروع إبادة لم يتوقف منذ المكتب الثاني وإن تبدّلت وظيفتنا (نحن الفلسطينيون) المختارة والمفروضة، من فاعلٍ مواجهٍ إلى تعدادٍ سكّانيٍّ في مشروع محوٍ بيولوجي أيديولوجي لا يتوقّف وإن علَت طبول الحرب وتصاعدت أعداد شهداء الضفة وغزة. لبنان امتدادٌ للقبّة الحديدية وامتداد للفعل الفدائي مرةً واحدة. لبنان لغزٌ بَيِّن المعالم، واستثناءٌ استُنزفت نُسَخه على شاكلة 22 دولة من الخليج إلى المحيط. إنّ أيّ محاولة لقراءةٍ سياسيةٍ جدّيةٍ لمعالم الإبادة لا بدّ وأن تُغرَس في قراءة صيرورة تلك الإبادة وتفاصيل أشكالها، لهذا نزور لبنانَنا في عزّ الإبادة. لبنان الكيان الوظيفي ولبنان ساحة التناحر بين الفدائيّ والغازي.
اختُلقت الكيانية اللبنانية لقتل الثورة ضدّ النازية الصهيونية وقبّتها الحديدية العربية الفارسية العثمانية، وأعدَّ الفلسطيني المقاوم مع رفاقه العدّة ليُجهز على أدوات الاحلال أينما كان – الفلسطيني يُعِّرف نفسه بموقعه النقيض من آلة العسكرة والقمع – نحن النقيض، من أصغرنا إلى حامل أولى ذكريات المعركة. ليس بيننا جسدٌ بريء واحد.
عليه، يضعنا كُتّاب هذا العدد أمام معالجات مختلفة لسؤال التاريخ الفلسطيني اللبناني – أو لبنان من مجهر الفاعل الفلسطيني المقاوم. يركّز بعضٌ من كتّابنا على خصوصية واحدة ضمن المشهد اللبناني، ثم يسبرون غور أدبيات فلسطينية لتفكيك مكوّناتها، والبعض يؤرّخ مدينةً مثل طرابلس وكيف جُبلت معالمها بفعل التحرّر الوطني، في حين يختار كتّاب آخرون زيارة أدب الثورة والمقاومة الذي أنتجته الجماعات المسلحة الفلسطينية المنظمة في السياق اللبناني، ويتأمّل آخرون الأطر الاقتصادية التي طاردت حركة المقاومة الفلسطينية واحتكاكها بأغلال جهاز الدولة اللبنانية، والبعض الآخر يحاول التذكير بالمدرسة الأيديولوجية التي وحّدت الهويات الوطنية الفلسطينية اللبنانية في زمنٍ كانت الطائفية تحاول فرض مذاهبها كإطار تحليلي لسببية الوجود اللبناني، أما مقالات أخرى فتركّز على المشهد الفلسطيني اليوم (باستخدام بعض الأدبيات الجندرية)، وكيف تُلقي بظلالها على مسألة الهوية الوطنية اللبنانية.
سنكتب إذاً، لأن ليس في مسعانا ما يكفي لكي نجتاز مواقعنا، نحن الكتّاب والباحثون وطلاب الجامعات والأساتذة، سنراوح مكاننا وسنلهو في تغيير معالم هذا المكان علّ في لهونا تَرِكة لغويّة تفسح للمشتبك الذي قد يأتي من بعدنا مزيداً من الوقت ليعدّ للواقع ما استطاع من حُججٍ ومن نقدٍ ومن مناورةٍ يُرهِب بها العدوّ بأشكاله الكثيرة المتبدّلة المتكاثرة. سنكتب وسيقرأ بعضٌ ممَّن سيخرُج منّا من تحت الرماد وبين الخِيام أحياءً. سنكتب عن إبادة ارتُكِبَت بحقّ جَمعٍ جاهَرَ منذ الأزل بأنّه لن يكون بريئًا، لأنّ في النجاة – على عكس الهروب اللامتناهي – إرادة فاعلة عارفة مقاوِمة. نحنُ براءٌ من براءتكم.
لا مفرّ من كتابة هذه الكلمات
زهور محمود
"أصابت نكبة 1948 الفلسطينيين بحالةٍ من الصدمة، لم يتعافوا منها إلا في الستينيّات، مع ظهور المثقفين والمفكّرين والفنّانين والمناضلين والسياسيين.
تكرار هذا يعني أننا لم نتعلّم أيّ شيء.
إذا كان السؤال، متى هو الوقت المناسب؟ الجواب دائماً هو: الآن."
@eslamq1
إنّ نَشر هذا العدد في خضمّ حملة إبادة مستمرّة ضدّ موضوع العدد بحدّ ذاته، سواء من الفلسطينيين أم اللبنانيين، ليس بالأمر السهل. بعد مرور أكثر من عام وشهر على الحرب – حربٌ استمرّت لفترة أطول من أكثر التوقّعات تشاؤماً، وارتقى فيها من الشهداء أكثر من أي لحظة أخرى في تاريخ القضية – أدركنا كمنصّة كويرية راديكالية عربية، أن سؤال "الوقت المناسب" للولوج في مساحات الإنتاج المعرفي عبثيٌّ لكنّ جوابه بسيط. ليس هنالك من وقتٍ غير مناسب للعب دورٍ ما. ومع ذلك، مع كلّ اجتماعٍ لفريق التحرير، وبعد كلّ محادثة، وفي كلّ لحظة تفكير، يعود سؤال الطبيعة السياسية لهذا العمل الانتاجي وعلاقته بالشبكة العالمية من الدعم المادي والقانوني المقدَّم بشكل مباشر وغير مباشر للقوى المعرفية والقانونية والعسكرية. يفرض واقع الإبادة المستمرة نفسه في كلّ إجابة. كانت المحادثات حول ما يجب فعله وما يجب قوله دون الغرق في متاهات الرمزية واجترار الشعارات المشوّشة، أمراً يشوبه الغموض أو الصمت النابع من غضبٍ ويأسٍ وشيءٍ من الذنب. "لا! الحرب في مكانٍ آخر." في نهاية المطاف إنّ هذه المجلّة مكان عمل، وفريقها يدرك جيدًا ما يعنيه ذلك. إنه فضاء انتاجي لا يجمع العاملين فيه جهةُ تنظيمية أو نقابة، والمادة المعرفية المنتَجة مشروطة وبين هذا وذاك لنا أن نعترف بأن هذا الميدان لن ينتج ما يحتاجه الحاضر من زخم ثوري يساند مسيرة التحرّر.
ومن ثمّ وبلحظةٍ وجيزة تنجلي الأمور وتأتي مرحلة الإدراك، إدراك عدم قدرتنا ببساطة على إنقاذ أنفسنا من المسارات الاقتصادية والسياسية التي اتخذناها ومن المساومات التي قمنا بها مقابل مقدرتنا على القيام بالإنتاج المعرفي الذي نؤمن به. إنقاذ أنفسنا عبر اتخاذ قرار المتفرّج من على مقاعد ملوّثةٍ بعنف الحيادية ونزع التسييس والخضوع لابتزاز مموّلينا. هذا على فَرَض أن الجملة الآنفة تحمل في طياتها موقفاً محقّاً، عُذرٌ ساذجٌ نواجه به تواطؤنا مع الحرب الدائرة على الأرض في غزة وفي لبنان بل وفي العالم كلّه. فكان إعادة تموضعنا في مجالات نفوذنا ومعرفتنا، أي إلى مكانتنا كمنصّة، ليس سوى قرار لفعل ما يجدر بنا فعله. نتلقّف اللحظة لنؤكّد أنّ النسوية والكويرية ومنهجيات الإطاحة بالاستعمار ما هي سوى أدوات في حربنا الدائمة مع العدو الحقيقي، وليست هدفاً نتطلّع له بحدّ ذاته. أدوات تأخذ تارةً شكل رسائل حُبّ، ولكن لا بُدَّ من استخدامها كأسلحة فتّاكة، سواء ماديًّا أم معرفيًا، ضد الأنظمة التي تتسبّب بآلامنا وبؤسنا وإذلالنا وفقداننا.
لم نكن مستعدّين قط لمعارك اليوم – الصدمة هي عنوان الحاضر. ولكن مئة عام من النضال الفلسطيني علّمتنا أن نعدّ لحروب الغد دومًا. قد يكون "الوقت المناسب" لإطلاق هذا العدد قد مرّ منذ سنوات، إن لم يكن منذ عقود. واستناداً إلى المعرفة التاريخية بإشكالية "الوقت المناسب"، فكلّ مرّة يأزف فيها ستعمل القوى المهيمنة على التنكيل به بشكل منهجي، إما من خلال قطع التمويل أو من خلال الضغوط القانونية أو الغزو العسكري. وإذا نظرنا في الأسئلة التي طرحناها في هذا الملف سنرى الإشكالية بوضوح: ما هي هذه الدولة التي تخوض حربًا مع عدونا من جهة وتحاصر شعبنا بإحكام في مخيمات، جاعلةً التحرير والعودة من حدودها إلى فلسطين أمرًا ملتبسًا؟
علينا إذن، أن نكتب هذه الكلمات.
انهمكَت أقلام هذا العدد في محاولةٍ لاستعراض تاريخٍ مليءٍ بالخيانة والعنصرية المنظّمة والنسيان. إنّها محاولةٌ لفهم معنى غياب أي جهودٍ تضامنية من منظمات المجتمع المدني والسياسيين التقدّميين والحركة الكويرية والنسوية، محاولةٌ لفهم التخاذل في صفوف الطلّاب والفنّانين والعمّال. هي أيضاً محاولة لإلقاء نظرة خاطفة على تاريخ الثبات الفلسطيني في مواجهة مشروع الدولة اللبنانية ضدّهم، ومسعى لتبيان وحدة حال جمعت جغرافيا الجنوب اللبناني بامتداده الفلسطيني المهيب. في هذا العدد، نجوب في التاريخ المنسي للعمل النقابي المقاوم وانكسار اليسار في وسط معركة التحرّر الوطني ضد الصهيونية وعملائها. سيرافقكم كتّابنا في وقائع الموت والمحو التي تجمع مصائر اللاجئين في لبنان. لبنان ليس موضوع العدد بقدر ما هو وجهٌ من أوجه المعركة.
إجراء الحوارات مع كتّابٍ متألّمين ومُتعبين، تشكيكنا الدائم بأخلاقيات كلّ متابعة عبر الرسائل الإلكترونية بسبب عبثية توقّع انخراط الكتّاب الفلسطينيين واللبنانيين مع موضوعٍ في غاية التعقيد والحساسية، في الوقت الذي نُجرجر فيه جميعاً أنفسنا بهذيان تحت وطأة ما يُرتكَب من إبادة جماعية إلى حدّ فقدان المعنى والإحساس… بدا كلّ ذلك عملية شاقّة جداً. لكنّ هذا العدد الخاص خرج إلى النور، محمَّلاً بصور ضبابيةٍ متناثرة لآثار حربٍ في مكان آخر، في مكانٍ أقرب، ها هُنا. حربٌ تبدو بتوسّعيتها أقرب إلى الحرب التي يخوضها الفلسطينيون واللبنانيون جنباً إلى جنب لأجل التحرّر طوال عقود، يخسرون المعارك والأوراق ويخسرون اللغة نفسها التي يعبّرون من خلالها عن حروبهم، ومن ثم يتخطّون الصدمة وينهمكون بالتحضير لحروب الغد.
المقالات الواردة في هذا العدد لا تقدّم أي إجابات أو دروس لفهم مجريات الفاجعة في غزة. إلا أن كلّ مقال يثير العديد من الأسئلة، تهمس كلّ منها للقارئ المنصت بمسارات الفعل السياسي الممكنة أو الواجبة. قد تبدو للبعض مقارنة بيروت الأمس ببيروت اليوم تكراراً لا نفع منه، لكننا هنا لنقول إنّ في التكرار منافذ للتغلّب على العدمية واللامبالاة التي طغت على حاضر هذا الشعب، شعبٌ شلّت قواه العاملة شوارع عاصمته بيروت – حين أعلن خمسمائة ألف غاضبٍ وفاءهم لثلاثةٍ من مقاتلي المقاومة الفلسطينية اغتيلوا تحت نير الاستعمار.
فلننظر إلى الداخل – إلى الحاضر– حيث مكامن الصدع.