أودري لورد في فلسطين: بين مسار المعرفة التوليدية والاقتلاع المعرفي
غَرَضي أن يكون هذا مقالاً عن الحياة في فلسطين.
هنا، أسأل عن الكيفية التي تستطيع من خلالها العواطف والتفكير من خلال العاطفة – كما علّمتنا أودري لورد – أن يصوغا معناً جديدًا للمستقبل في خضم فعل رفضنا المستمرّ للاستعمار في فلسطين. كان هذا الرفض ولا يزال راسخًا في مفاهيمنا للكرامة في معترك أكثر من قرن من النضالات التحريرية. بدلاً من التطرّق إلى وحشية الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، ما أريده هو أن أطرح تحدّيًا – دعوة للتفكير فيما بيننا.
يأتي الدافع وراء هذا المقال من رفاقي أمّا المادة فتجاوز هاجس البلاغة، إذن إنّ هذا النص يشكّل بالنسبة لي فرصة. سأفترض هنا أن حروب الاستيطان الاستعماري المستمرّة والرغبات الصهيونية في القضاء على الفلسطينيين لا تحتاج إلى شرح – وأنّ حياة الفلسطينيين وحيوية الشعب الفلسطيني المستمرّة لا تحتاج إلى من يدافع عنها.
من الواضح أنّ التأمّلات في الحياة هي صنيعة رحلات طويلة وقصص ذات تألّق كامن. ولكن بحلول عام 2022، بدت تناقضات الحياة الجماعية لا تطاق مع تعمّق الانقسام بين الأمل الجريء والواقع اليومي. يبدو أن أمل الوحدة الجمعية يصطدم دومًا مع خيبات الأمل المتأصلة في واقع الدمار المستمرّ، بما في ذلك واقع تدمير الذات.
نظرًا لأن هذه تأمّلات شخصية، يجب أن أعترف بأن الرحلة العاطفية ما بين الغضب المحقّ والحزن غير المُتأمَّل كانت صعبة. في عالم تحلّ فيه "الاقتباسات الملهمة" محلّ السياقات العسيرة والأسئلة الصعبة، أشعر بالقلق، حتى في تأمّلاتي، من أنني سأعيد إنتاج ثقافة الاقتلاع1 المعرفي القائم..
هذا ليس تمرينًا أكاديميًا، بل محاولة للتفكير بصوتٍ عالٍ إيمانًا وإدراكًا منّي أنني لست أفكّر وحدي حول كيف نحيا في فلسطين وسط التناقضات الكائنة بين الحياة اليومية والمقاومة. إن وحشية البطش المستمرّ والعنف الذي لا يلين اللذين شهدهما العام الماضي لا يطاقان، وأريد أن أكون قادرة على التحدّث عن الشعور بالضياع والارتباك دون خوف. أريد أن أكون قادرةً على الإفصاح عمّا توارى عن أحابيل الكلام وأن أفعل ذلك من موقع المقاومة والانتماء الجماعي والحبّ.
إن تاريخ الرأسمالية الاستعمارية ووحشية الاستعمار الاستيطاني يشكّلان إرثًا يمتدّ لقرنٍ من العنف المستمرّ ضدّ الفلسطينيين، لذلك من المهمّ قراءة الحاضر – رغم وعورة المهمّة – في سياق ذلك الماضي المستمرّ. إن هذا المشهد هو جزء من أكثر من خمسة قرون من الرفض. فلسطين نموذج من نماذج الرفض الكثيرة في طي الردح الزمني ذاك.
في 10 أيار/ مايو 2021، اجتاح الجيش الصهيوني الحرم الشريف في القدس، فتردّد صدى وحشية الحاضر في هذه الواقعة. إنها شكلٌ آخر من أشكال النكبة المستمرّة عادت بنا إلى ذاكرة عام الـ 1920 وإلى سلوكيات المستوطنين التي تستمرّ بزعم الأرض بالقوة.
لقد شعرتُ أنّ العيش في صيف عام 2021 وما بعده كان بمثابة نقطة فاصلة من حيث جِلف العنف الاستعماري الاستيطاني وموجة الانفجارات الفلسطينية الداخلية. قدّم الاستهلاك الرأسمالي البارز في العقد الماضي لطبقة معيّنة من الفلسطينيين إحساسًا زائفًا بالاستقرار، إلا أنه أيضًا كان عاملاً في تأجيج هذا الاضطراب. بدا المشهد وكأنّ ما كان يغلي بصمت انفجر أخيرًا.
أنتجَتْ اتفاقيات الـ"سلام" أوسلو، التي فُرضت على سياقنا السياسي في التسعينيات، السلطة الفلسطينية. إذن ما يسمّى بعملية أوسلو هو جزء من النكبة المستمرّة، هو واحد من العديد من المحاولات لكسر الفلسطينيين كشعبٍ ووجود. إنها سردية أعمّ وأشمل لكن أمكننا القول إن العقدين الأخيرين يختصران حالنا اليومي.
بالرغم من البيروقراطية المتضخّمة للكيانات غير السيادية، بل وبالرغم من التصفية الممنهجة لـ"منظمة التحرير الفلسطينية"، نظلّ فلسطينيين نحمل قضية محقّة ضد ظلم الدولة الاستعمارية الاستيطانية وأولئك الذين يذعنون لطلباتها – كلّهم معنيّون بالقضاء علينا. لقد سلَبَ منّا تحوّل "منظمة التحرير الفلسطينية" إلى السلطة الفلسطينية ما كان في السابق أملًا بكيانٍ تمثيليٍّ لحركة تحرّر وحوّله إلى مهزلة هيكلية. لكننا نبقى فوق كل هذا، نتحرك على أساس هويّة جماعيّة قوميّة.
لا بدّ من أن تصلي إلى أعماقك، إلى كلّ ما يغلي في رحمها وتوظيفها فيما قد يفيد. (أودري لورد، "صلاة من أجل البقاء")2
رغم توجّسي من هذه الفكرة إلا أنني أريد أن أقول إنّ الحاجة إلى خلق الأبطال الأسطوريين هو بمثابة تعويضٍ عن انعدامٍ للحبّ بيننا وتجاه أنفسنا. هذه فكرة تركتُها تغلي بصمت في داخلي. لقد جرى الاستحواذ على خطاب المقاومة من خلال سردية تكرّس شعوراً مجرّدًا لا ركيزة مادية واضحة له.
تقدّم قوى الأمر الواقع مشهديات رمزية كبديل للسياسة القاعدية، في السياق نفسه تلعب ثقافة تبجيل فعل البطولة ظاهرة بديلة لبلورة إحساسنا بالمسؤولية الجماعيّة. ساهمت كلمات لورد بتغذية فهميَ لغضبي منذ أن بدأت تعلّم كيفية احتضان الغضب السياسي كإحساس توليديّ للمعرفة، وعليه سأستمر في الاعتماد على نصوصها في سياق هذه التأمّلات.
لا أريد إزاحة لورد من سياقاتها الاجتماعية والسياسية كنسوية مثلية سوداء وعلينا توخّي عدم إزاحتها عن خصوصية "المساحة المكانية" التي نبَعَتْ منها أو فيها، على حسب وصف أدريان ريتش. بعبارة أخرى، لا أريد أن أحوّل لورد الى رمزٍ فلسطيني. ما أريده هو أن تساعدني أعمالها في فهم مواقعنا الخاصة كفلسطينيين. أريد أن أبيّن الحوار الذي من الممكن أن يقوم ما بين واقعنا وأفكارها.
ساعدتني قراءة لورد من خلال عدسة الواقع في فلسطين على بلورة تفكيري وتعليمي حول "من نحن" نحو "مَن يمكننا أن نصبح" مع أملٍ جريءٍ بالقيام بذلك معًا. كيف تساعدنا المحادثة التأمّلية على فهم الحياة في ثنايا نصوص لورد والحياة في فلسطين؟ كلمات لورد تؤطر وتردّد وتغذّي هذه المقالة لأنني حملت كلماتها معي كمنهجية وجودية.
تساعدنا لورد على القراءة من خلال مشاعر الغضب. يصبح الغضب منطلقاً في تحليل طوفان مشاعر السخط وتفكيكها الى مشاعر خصبة ومولّدة للمعرفة وأخرى هدّامة. في اللغة العربية، تحمل لفظة "غضب" معنى ودلالة المفهومين: السخط والاستياء على أنهما جزئين من طيفٍ مشاعريٍّ واحد. قراءة الواقع من خلال أفكار لورد ودمجها بـ"مشاعر الغضب" كمنهجية معرفية سيدشّن لنا معالم رحلة تكون فلسطين فيها وجهةً وهمزة وصل في آن.
الغضب ثوريّ إذا تمّ تسخيره في رفض الظلم، ولكن إذا انقلب على نفسه، فهو يغدو احساسًا مجرّداً بالسخط، يشبه النار التي تحرق كلّ من يلمسها. تعلّمنا لورد أن السخط والاستياء (أي الغضب) يمتزجان والحبّ مولّدان دلالة مشاعريّة عارفة، في القالب الآخر فإن الخوف والضعف مكوّنان لوقائع قائمة، والصمت في أحيانه الكثيرة ليس إلا حرفة المخاتلين.
الكراهية هي حنق من لا يشاركوننا أهدافنا، وغرضها الموت والدمار. الغضب غمٌّ مجتثٌّ من غابر الاضطرابات التي تشوب العلاقة بين الأقران، وغرضه التغيير. (أودري لورد، "استخدام الغضب: مواجهة النساء للعنصرية").
في فلسطين، كغيرها من أصقاع العالم، كان صيف عام 2021 صيف الغضب. في خضمّ رفضنا المستمرّ للتمرّد الحرفي ضد الاضطهاد الاستعماري الاستيطاني في جميع أنحاء فلسطين، استيقظنا على خبرٍ من نوعٍ آخر. في 24 حزيران/ يونيو، قتلت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية نزار بنات، الناقد الصريح للسلطة الفلسطينية وسياستها.
لم يكن القمع من جانب السلطة الفلسطينية كجهاز أمني في خدمة الاستعمار الاستيطاني جديدًا ولا حتى صاعقًا، لكن العنف البنيوي ممنهج، ما بثّ فيّ شعورًا بأنه أمر شخصي. من خلال استهدافهم المباشر لبنات وقتله الوحشي، أصبح الفيديو الملتقط لجسده الميت المجرجر على الأرض رمزًا. لم يعد بإمكاننا محاولة إجراء محادثات حول النقد التوليدي مقابل النقد الاقتلاعي أو حول اللحظة والمكان الذين سقطت فيه ثورتنا.
شعر البعض منّا أنه يتعيّن علينا الاحتجاج وأنه لم يكن هناك وقت للولوج في تباينات نسقية ضمن المشهد. كنّا على طريق إما نحو هاوية غير معروفة، أو منعطف فاصل نحو طريقة ثورية جديدة للوجود، أو كليهما. في حين أنه كان من الممكن اعتبار مقتل بنات لحظة "خارج الزمن"، إلا أن الواقعة أُبعدت بطريقة ما عن مشهدية الرفض الجماعي، وما عاد في وسع الانطباع العائد للجماعة الصمود.
كان الارتباك المفتعل حيال من علينا أن نحارب هدفه خلق إحساس بالخسارة. لم يكن القصد من وراء الواقعة خلق حالة متجاوزةٍ للآنية الزمانية بل على العكس من ذلك كان المرجو من الواقعة سرقة سيرورة الرفض الجماعية. إن التباينات المفتعلة تهدف في أساسها إلى خلق شعور باليأس والخسارة من خلال تشظية السيرورة الزمانية. هذه التشظية هي تكتيك كلاسيكي لعرقلة أو طمس الرفض المناهض للاستعمار. إنها تعويذة سياسية لكيفية استبدال الغضب بالحقد.
في حين أن عنف السلطة الفلسطينية ليس جديدًا على الساحة المحلية – فلطالما اعتُبرت السلطة جهازا متعاقدًا باطنياً مع المشروع الاستيطاني الاستعماري الإسرائيلي – إلا أن تلك الواقعة بدت بحلّة جديدة ومدمّرة تمامًا. الغاية كانت تقسيم إحساسنا بالـ "نحن"، وتغريبنا عن مفهوم المسؤولية الكامنة في الوجود الجماعي.
على مدى السنوات العديدة الماضية، اعتُبر العنف في خدمة أمن المستوطنين الدلالة الحاسمة للجدوى الهيكلية لوجود السلطة الفلسطينية، طمست هذه السببية الوجودية الوظيفية حاجة الأجهزة الحاكمة إلى الاستثمار في الخدمات التي لا بدّ أن تقدَّم لسكّانٍ تحت الاحتلال. عليه، فإن صخب واقعة القتل المقصود وفجاجة مشهديتها في وسط ربيع/ صيف ولّد أفقًا جديدًا في التعبئة الفلسطينية ضد العنف الصهيوني من الشيخ جراح في القدس إلى المدن والبلدات في جميع أنحاء فلسطين إلى حرب أخرى على غزة. هذه التتابعية التوليدية كانت أمرًا فاق الخيال.
بالرغم من كل ذلك كان أثر الأحداث فاتكاً جدًا بجسمنا السياسي كشعب، إلا أن هذا الإرهاص مرتبط في بادئ الأمر بالقوى المهيمنة علينا. لكن كل ذلك جعلني أدرك أننا كنّا بأمسّ الحاجة إلى ما لم وليس متوفراً بيننا من وقت وصبر، لإعادة بناء الأمل – الأمل الجماعي. السلطة الفلسطينية ثمرة عملية "سلام" عبثية في التسعينيات – السلطة ابتكار المستوطنين ومن يدعمهم.
لكن الناس – الكثير من الأشخاص الفعليين الذين يعملون لصالح السلطة الفلسطينية – ليسوا داعمين للمشروع الاستيطاني. السلطة الفلسطينية ليست حكومة دولة ذات سيادة، حتى لو ادّعت ذلك، وحتى لو كان الناس يتعاملون معها في كثير من الأحيان على هذا النحو. هذه مفارقة أساسية في فلسطين. في بعض الأحيان، قد يصعب رؤية ما وراء السلطة الفلسطينية وأجندة المستوطنين التي تستحكم بها، لكن مهمّتنا تبيان هذا الواقع ومعالمه المعتَّمة.
حرفة الرؤية الـ"ما وراء"يّة تنتج فرصة، ليس فقط من أجل رؤية ما وراء تواطؤ السلطة الفلسطينية، ولكن أيضًا لرؤية ما وراء هياكل السيادة التي تقدّمها الرأسمالية الاستعمارية ضمن ومن خلال أدوات وحدود الدولة القومية. رؤية ما وراء الظاهر من المشهديات أساسٌ في استعادة إحساسنا بمن نكون كجماعة. النضال ضد الاستعمار في فلسطين فيه من الإمكانية وعليه من الواجب أن يتحدّى الأهداف القديمة لمفهوم "الإعتراف". الهوية الجماعية الفلسطينية هي فعلٌ حيويٌّ لا بدّ من أن يتخطّى أفخاخ الـ "استقلال" الملتصقة بالدولة القومية. الهوية الجماعية الفلسطينية لا بدّ وأن تكون فعلًا تحرريًا بحتًا.
رداً على مقتل بنات، نزل بعض الناس إلى الشوارع احتجاجاً (تحديداً في رام الله وهو مقر السلطة الفلسطينية وصلاحياتها الممنوحة من قبل القوى الاستيطانية) وردّ جهاز "الأمن" التابع للسلطة الفلسطينية بالعنف والقمع. ما من جدل في أن شدّة بطش رجال الأمن كانت منحازة جندريًا، فقد باشرت القوات في استهداف أجساد النساء عمدًا وبقوة فظّة. أصبحت أجسادنا محفوظات لهذه القوّة بعد أن وُسمت حرفيًا بضرباتهم.
غالبًا ما تبدو الاحتجاجات في رام الله هذه الأيام وكأنها فعل أدائي: نحن لا نواجه ولا نُتحدّى حتى الآن من قبل جيش المستوطنين. لم يكن هذا هو الحال دائمًا في رام الله ومن النوادر إن لم نقل محال أن يستنسخ خارج أعتاب المدينة، حيث لجيش المستوطنين حضورًا دائمًا. بعد كل شيء، نحن أمام احتلال عسكري وحصار مستمرّ. وربما لهذا السبب بدت وبالفعل كانت الاحتجاجات ضد السلطة الفلسطينية مختلفة جدًا.
يبدو خطاب الوحدة أجوفًا بين عواصف كل هذه التناقضات. تعني جغرافيا فلسطين المجزّأة بشكل عنيف أنه في عام 2021، قمنا بالاحتجاج في المساحات التي يمكن أن نصل إليها. وكرّست هذه الاحتجاحات فكرة أننا نتحرّك في أصقاع جغرافيّة مختلفة بدافع من هويتنا الجماعية. يمكننا تحدّي التشرذم من خلال الاحتجاج المشترك.
بالنسبة لي، مثل كثيرين آخرين ممّن تقتصر حركتهم على جيوب متواضعة من جغرافيا من الواقع، كان موقع الاحتجاج هو رام الله سيرًا على الأقدام وأمّا بالصيغة المعنوية فكان الموقع هو فلسطين. لكن الكثير من رام الله هو في الوقت نفسه موطن مستويات سخيفة من الاستهلاك – المحرك السياسي الذي يقود هذه المرحلة من الرأسمالية الاستعمارية.
مع الانتقال من الربيع إلى الصيف، استمرّت الاحتجاجات، لكن ما الذي تغيّر؟ هل جرت إزاحة مساحة الاحتجاج في رام الله بطريقة ما عن بقية فلسطين؟ للتوضيح، جيش المستوطنين لا يلتزم بالحدود الداخلية – إنهم يصولون ويجولون مع خرابهم في أرجاء رام الله كما يفعلون في أماكن أخرى. لكن في صيف عام 2021، هل كانوا سيعتبرون أن حضورهم العنيف والمادي والمستمرّ غير ضروري للحفاظ على عنفهم، وأدوات هيمنتهم، واحتلالهم المستمرّ؟
كون السلطة الفلسطينية كهيكل، قد جاءت لتوفير خدمات أمنية للمستوطنين وتمرير الضروري من سياسات الاستهلاك الرأسمالي، سبب أساس من أسباب تواري جيش المستوطنين عن المشهد. لكن الأشخاص الذين يعملون من أجل السلطة الفلسطينية/ داخلها/ حولها – لا يمكن أن يكونوا نفس الشيء، أليس كذلك؟ لكن السؤال هو التالي: هل استحوذت الأحزاب السياسية التي شاركت في صنع السلطة الفلسطينية، جنبًا إلى جنب مع المتاهة الكبيرة لشراك "المنظمات غير الحكومية" المحلية والدولية على إحساسنا بالانتماء إلى الجمع واحتلّته؟
هل سقطنا جميعًا، عن قصد أو عن غير قصد، في تسوية جهنّمية تبدّي الحياة البرجوازية على المآلات التحررية؟ حتى لو رضخنا لهذا التواطؤ، حتى عندما نتبيّن لأبعاد الهيكلية وقيود الحياة في ظل العنف الاستعماري الاستيطاني، فقد يكون التأمل الذاتي ضرورة لازمة لاستعادة إحساسنا بمسؤولياتنا الجماعية. لا يمكن أن نفصل السخط عن الاستياء، بل علينا أن نتشبّث بشمول الغضب الطبقي العارم.3 الأنامل المشذّبة التي تحتجّ، لا يمكنها وحدها تفعيل الإمكانات التوليدية الخلّاقة لفعل الغضب الطبقي.
هذا النوع من المفاهيم هو خطأ سائد بين الشعوب المضطهدة. إنه يقوم على فكرة خاطئة مفادها أنه لا يوجد سوى قدر محدود ومحدّد من الحرية يجب تقسيمه بيننا، حيث يذهب أكبر جزء من الحرية وأكثرها إثارة كغنائم يظفر بها الفائز أو الأقوى. لذا، بدلاً من الانضمام معًا للقتال من أجل المزيد، نتشاجر فيما بيننا للحصول على شريحة أكبر من الفطيرة الواحدة. (أودري لورد، "حَكّ السطح: بعض الملاحظات حول العوائق أمام المرأة والمحبّة").
رام الله ليست حالة استثنائية، ولا هي فلسطين. ماذا حدث؟ كيف أمست رام الله معزولةً إلى هذا الحدّ؟ كيف سمح بعض المتظاهرين في الشوارع لفلسطين بأن تقولَب إلى قضية منفكّة عن القلق الوجودي لصون الهوية الجمعيّة؟ السياسة دائما فوضوية. لم نخلق مجتمع تعبئة أو عناية ما لم نواجه تحدّيات فوضانا.
لماذا انفكّ بعض الأشخاص من حولي في هذه الاحتجاجات – بأناملهم المهذّبة – عن أرق هذه الأزمة الوجودية؟ في كل لحظة من الاحتجاجات، شعرتُ بالاغتراب بقدر ما شعرتُ بحسّ الجماعة. لم تكن هذه الاحتجاجات شعبية. لم تُدعَ جموع الجماهير إلى الشوارع.
لم يكن كلّ المحتجين متشابهين، لكنني لم أستطع أن أصرف عن ذهني فكرة أن القليل من الأيدي من حولي كانت تحمل ندوب العمل أو كفاح الفقر أو العوز المادي. بعد 24 حزيران/ يونيو، أصبحتُ أكثر هوسًا باليدين. ربما أكون مخطئة. ربما يكون الاغتراب عاطفة منتجة ذاتيًا ولا يشكّل انعكاسًا عامًا للاحتجاج. أريد أن تكون مخاوفي محض ترّهات.
بات الأمر وكأننا نحمل الكراهية أكثر من الغضب. انقلبنا على أنفسنا. من السهل أن يُكرَه أولئك الذين يحملون السلاح تجاه المحتجّين، ولكن كيف تركنا ذلك يحدث؟ الكراهية لا يمكن أن تحلّ محلّ الغضب.
عندما نتآلف معها ونتقبّل حقيقتها تصير مشاعرنا والسبر الصادق لأغوارها ملاذاً وأسسًا لتفريخ الأفكار الأكثر راديكالية وجرأة. تصبح ملاذًا آمنًا لأي تباين وأمل ما هو ضروري للتغيير ولوضع تصوّر لأي عمل ذي معنى. (أودري لورد، "الشعر ليس ترفاً")
بنهاية صيفَي الغضب، من عام 2021 وحتى عام 2022، وجدت نفسي تائهةً أخشى أفكاري الخاصة وأكثر من ذلك، أجد نفسي مرعوبة من مشاعري. ماذا لو، بنهاية فصول الصيف هذه، فقدنا كل الاحساس بدافعٍ نابعٍ من تمسّكنا بأحقّية وجودنا ولم يتبقَّ لنا سوى تعاليم التعالي القبيحة؟
أخشى الشلل النابع من الخوف الذي هو خوفٌ من المعلوم بقدر ما هو خوفٌ من المجهول. العزاء الوحيد الذي أملكه شخصيًا في الحياة – التعليم بهدف التعلّم والقدرة على التحدّث مع جيل جديد من مجتمع المحاربين لدينا – هل يمكن أن يضيع هذا أيضًا؟ الطلاب والمعلّمون في آنٍ واحد، الأناس الجميلون الذين أتشرّف بمعرفتهم كأشخاص وليس فقط كأساطير عن المقاومة الفلسطينية والبقاء، من سنكون إذا توقّفنا عن التعلّم من بعضنا بعضاً؟
بدا الأمر كما لو كنّا نتحدّث نحو بعضنا بعضاً. كما لو أننا فقدنا أقوى أداة لدينا – سجالنا. توجيه الكلام إلى آخر دون نيّة التفاعل هو أسوأ أنواع الإسكات، إسكات خانق. لا يمكن للأداء الاستهلاكي أن يحلّ محلّ الالتحام الجماعي. يستمرّ الأمل في التدفّق، إذ إنّي أعلم أنه سيظل كذلك في فلسطين، لكن خيبة الأمل تبدو وكأنها قفصٌ لا أعرف كيف أتجوّل فيه.
واقع أننا هنا وأنني أتحدّث بهذه الكلمات هي محاولةٌ لكسر هذا الصمت وإقامة جسر يعبر بعض الاختلافات بيننا، فليس الاختلاف هو ما يجمّدنا، بل الصمت. وهناك الكثير من الصمت الذي يجب كسره. (أودري لورد، "تحويل الصمت إلى لغة وعمل")
ليس الأمر أننا توقّفنا عن التحدّث والسجال، ولكن يبدو وكأننا لم نعد نعرف كيف نستمع أو نشارك في حوار. هذا نوع فريد من نوعه من الصمت. هل يمكن أن تؤدّي هذه الأزمة بطريقة ما إلى اتفاقنا بشكل جماعي على أننا بحاجة إلى إعادة زيارة مفهوم التفاهم من جديد؟
ماذا لو تعلّمنا كيف نسأل: كيف نتجه الآن في فلسطين كفلسطينيين بدلاً من إخبار بعضنا بعضاً أين أخطأ الآخر؟ هل يمكن للأمل وخيبة الأمل أن يجدا ويصوغا محادثة؟ نحن مجروحون بأملنا بقدر ما نتغذّى به. إما أن نعاني من خيبات الأمل معًا أو نستسلم لها فرادة.
إن تاريخ فلسطين والهوية الجماعية الفلسطينية أكبر بكثير من هذا العام وأكبر بكثير من إحساسنا الحالي بفقدان التفاعل الفكري. التحرّر والانعتاق مفاهيم وأساليب حياة في حاجة ماسة إلى التجديد في فلسطين. لا يمكن أن تظلّ جامدة، ولا هي خطاب يغطّي الظلم الاجتماعي والاقتصادي المطلق. إذا استخدمنا هذه اللحظة للاستماع والتعلّم فيمكننا اختراق الخطاب والرحلة إلى الجوهر ومعه. إذا لم نفعل ذلك، وضاعفنا التعاليم المترفعة عن الذات والواقع، إلى أين نذهب بعد ذلك؟
أعلم أن التدريس أسلوب نجاة. بالنسبة لي، وأعتقد كذلك أنه بشكل عام، الطريقة الوحيدة التي يحدث بها التعلّم الحقيقي. لأنني شخصياً كنت أتعلّم شيئًا أحتاجه لمواصلة العيش. وكنت أقوم بفحصه وتعليمه في نفس الوقت الذي كنت أتعلّمه فيه. كنت أعلّمه لنفسي بصوتٍ عالٍ. (مقابلة: أودري لورد وأدريان ريتش)
وهكذا، نسافر عبر الارتباك والامكانات المحتملة وهذا الأمل الدائم. ربما فقدنا إحساسنا بالـ"نحن" – أو ربما نحتاج إلى اعتبار أنه سُرق منّا. وقد استمرّت هذه السرقة لفترة طويلة لدرجة أننا نشعر بإحساسٍ بالفقدان دون أن نكون متأكدين مما فقدناه أو كيف ومتى فُقدنا من خلال الفقدان.
ربما وضعنا الإدراك الحاد والمنطق السياسي لغضبنا في غير محلّهما؟ هل يجب أن نفكّر في سبب عمل القوى الإجرامية بجدّ للسرقة ومَن وماذا يستخدمون كغطاء؟ لن تستمرّ السرقة إن كانت السرقة قد حدثت دون رادع. وإذا سُرِق بالفعل كلّ ما فينا بالكامل، فنكون قد وصلنا إلى مرحلة تنتفي فيها ماهية الغضب.
إذا علّمنا لنتعلّم، سنكتب لنفكّر. ربما ضعنا مؤقتًا الآن حتى لا نسمح لأنفسنا بالانقلاب على أنفسنا بالكامل. في حين أنّ شعراءنا الذين يكتبون عن الأبطال يتحدّثون أيضًا عن الشفاء من الفرح والحبّ كحالة آسرة، فإنهم يواصلون على الأقل التفكير في الكرامة والحبّ والفرح، حتى لو أنهم فقدوا التماهي معها.
وهكذا، قد نستمرّ في الانقلاب على أنفسنا والاحتفاء بتضحيات أبطالنا، نعيشهما كتناقضات وليس كمكمّلات. إن غضبنا موجّه إلى الداخل بشكل مؤقت وهو موجّه، بلا شك، بأجندات عدائية. إننا في هذا المكان الآن: تناقضٌ حيٌّ وحيويّ. إذا لم نؤمن بالفرح أو الحبّ، فلن يكون لشعرائنا ما يؤلّفونه في البحث عن الأبطال. إذا لم يكن لدينا غضب، فلن نعد بحاجة إلى التعليم من أجل التعلّم. الغضب موجود فينا وسيوجّهنا إذا تعلّمنا كيف نسترشد به:
من خلال التوجيه الممنهج يتحوّل الغضب إلى مصدر قوي للطاقة التي تخدم التقدّم والتغيير. وعندما أتحدّث عن التغيير، فأنا لا أعني تبديلًا بسيطًا للمواقف أو تخفيفًا مؤقتًا للتوترات، ولا أعني القدرة على الابتسام أو الشعور بالرضا. أنا أتحدّث عن تغيير أساسي وجذري في تلك الافتراضات التي تهيكل كواليس حياتنا...
لكنّ الغضب المترجَم إلى أفعال لخدمة رؤيتنا ومستقبلنا هو عمل تحرّري ومعزِّز للوضوح، ففي العملية المؤلمة لهذه الترجمة نحدد مَن هم حلفاؤنا الذين لدينا خلافات جسيمة معهم، ومَن هم أعداؤنا الحقيقيون. (أودري لورد، "استخدامات الغضب: استجابة النساء للعنصرية")
- 1. وهنا يصحّ ترجمة extraction بالإستلاب (محررة الترجمة).
- 2. https://antolgy.com/%D8%A3%D9%88%D8%AF%D8%B1%D9%8A-%D9%84%D9%88%D8%B1%D8%AF-%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%A9%D9%8C-%D9%85%D9%86-%D8%A3%D8%AC%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%82%D8%A7%D8%A1/ (المترجم)
- 3. ترجمة بتصرف لدواعي التفكيك اللغوي في النص الأصلي وعسر إعادة توجيهه في البنية العربية (محررة الترجمة).