شذرات من الحرية وإيقاع نسوية مغامرة
أود أن أشكر جونا جارديه على القراءة المعمقة لمسودتي أولية. شكراً جزيلاً أيضًا لنورا صلاح الدين ونماء القضة لما شاركتاه معي من قراءات وتصورات حول مستقبل ما بعد التحرر. امتنان خاص لسارة سالم لمشاركتها التفصيلية والشاملة في كتاباتي، وتقديري للمحررين ألينا ساجد وسارة سالم على النقد المستثير للتفكير لحرصهما على انجاز هذا العدد، وشكرًا لكحل وغوى صايغ على خلق فضاء لهذا التفاعل.
asadtryptich11.jpg
يدا جميلة مقيَّدتان خلف ظهرها خلال استجوابها: "مين كان معاكي؟ لازم تقوليلنا مين كان معاكي؟" بقيت جميلة صامتة. حرس المعتقل الفرنسي يهدد جميلة: "ماذا تختارين؟ الحرية أم التعذيب؟" ضحكت جميلة. أحضروا شقيقها الأصغر، وأغرقوه في برميل مياه، ضاغطين بذلك على جميلة للاعتراف. رفضت جميلة الاعتراف بأسماء رفاقها. تقترب اللقطة من وجه جميلة بالأبيض والأسود وينتهي الفيلم الطويل، جميلة الجزائرية1 (1958). المعلّمة تسأل، "شو تختاروا؟ الحرية أم التعذيب؟ تخونوا قضيتكم أو عائلتكم؟" يحدّق 20 تلميذاً من الصف الخامس الأساسي (الثاني المتوسط) الشعبة "أ" بالمعلّمة في مدرستهم، على أطراف عمّان.
آخذ هذه اللقطة من فيلم جميلة كنقطة بداية للتفكير بالعلاقة المعقّدة بين أحلام التحرّر، والسياسات المناهضة للكولونيالية، والدول (ما بعد) الكولونيالية، وأريد تخيّل هذه السيرورة كـ"مسار مغامر تسلكه مجموعة من دون قيادة بحثاً عن مكان [أفضل]" (هارتمان، 2019، ص. 227). أتساءل، عند مزج الانعكاسات الشخصية وشظايا الذاكرة مع التنظير النسوي، ماذا تعني الحرية؟ أين تتموضع؟ هل نحن نخلقها؟ هل ورثناها؟ أي حرية وتحرّر نتحدّث عنهما في مطابخ وشوارع عمّان؟ تناقض المقاومة والحبّ، وفوضى العلاقات بين النضال والحنان، لم تكن يوماً مجرّدة. بدأ هذا المقال بسؤال حول ماهية النسوية المناهضة للكولونيالية بين وعلى النقيض من تشابكات الدولة الهاشمية المعاصرة (ما بعد) الكولونيالية، وعاصمتها عمّان التي يسكنها تقريباً نصف سكان الدولة وحول ممارسات وقوانين الجنسية المجندرة فيها.
تظهر ذكرى جميلة في أواسط عقد التسعينيات في الصف بعمّان بشكل غير متوقّع وأنا أكتب وأعيد كتابة النص حول النسوية المناهضة للكولونيالية في هذه المدينة. ربما أتذكر هذا اليوم لأن غياب الإجابات الأحادية هو أحد الموضوعات الناقصة الكثيرة التي تتضمن الفوضى في تحليلاتي ورغباتي باتجاه الحرية والتحرّر. كانت، وما زالت، احتمالات التحرّر مجزّأة ومتوتّرة ومعقّدة.
مع استمرار تردّد أصداء الانتفاضة (1987-1993) في الشوارع والمعتقلات على الجانب الآخر من النهر تسأل المعلّمة من جديد: "فإذاً، شو تختاروا؟ تخونوا رفاقكم وتحموا أخوكم؟ أو تشوفوا وتتحمّلوا إنو أخوكم يتعرّض للتعذيب لأجل بلادكم تتحرّر، متل ما عملت جميلة؟ شو الأهم؟ تتحرّر فلسطين، أو حماية أسرتكم؟". أعيدُ مشاهدة الفيلم لأول مرة منذ عدّة سنوات، متفاجئة بمدى عمق وتفاصيل ذاكرة هذا المشهد الواحد المغروس في وعيي، كما تفاجأت بمدى عنفه، عنف تجاوزته ذاكرتي. يناقش الصف السابع (الثاني المتوسط) وبصوت مرتفع فيلم جميلة: جميلة تضحك بوجه الحارس: جميلة بطلة، لأنها بقيت صامتة، ستكون جميلة خائنة إذا كشفت عن رفاقها. جميلة ضحّت بأخيها عندما كان من واجبها حمايته. تراقب المعلمة المناقشة في حين كتّفت يديها، وتقول: كلّكم على خطأ، وتنتهي الحصة الدراسية. تكتب ألينا ساجد وسارة سالم (2022) "تهدف هذه المجموعة إلى إعادة النظر وتخيّل موقع السياسات الجندرية والسياسية في النضالات الثورية المناهضة للكولونيالية": لماذا كان من واجب جميلة حماية شقيقها ورفاقها؟ هل نتوقع الأمر عينه من الرجال؟ لماذا عرضت هذا الفيلم في المدرسة؟ أتذكر ضحكة جميلة، وتوترات المعلمة التي تجعل التمييز البسيط بين الخطأ والصواب مستحيلاً في حين تتركنا مع رغبة غامضة ولكن مصرّة على الثورة، وعدم الخوف كما كانت جميلة. أتساءل إذا كان غياب الجواب من المنهج المدرسي الرسمي المبني على الولاءات القومية والإجابات المحددة سلفاً والهادفة إلى إنتاج مواضيع مُقادة عبر أداة تربوية مقصودة أو كان ذلك بسبب غموض المعلمة. ما هي السبل التي قد تكون مهمة لذلك؟
مكان وزمان محدّدان
إذا كانت النظرية استجابةً لوضع اجتماعي وتاريخي محدّد (سعيد، 1983، 2000)، فكيف يمكن استعادة النظرية النسوية بشكل جذري في عمّان؟ إذا كنت كائنة أقلّ مرتبة بالنسبة لدولة تجعل مني مواطنة، هل يمكن أن أكون إنسانة في تفاعلاتي بما خص أولئك المعتبرين بشراً بالكامل؟ فَهم المكان كعلاقة اجتماعية متجذرة في المادية (لوفيبفر، 1991، ص. 31) يتطلب مناقشة السياق الاجتماعي والتاريخي للأسئلة التي يطرحها هذا المقال. غالباً ما يُصوَّر إنشاء المملكة الأردنية الهاشمية على أنه عملية كولونيالية فُرضت من فوق، على الرغم من أن إقامة الأردن لم تحصل عن طريق مقاومة شعبية مناهضة للكولونيالية، كانت إقامتها عملية ديالكتيكية شكّلتها سيرورة بناء الدولة البريطانية الهاشمية بمقدار معارضة تلك العملية2. لا يمكن فصل النسوية المناهضة للكولونيالية عن النضالات التحرّرية الأوسع. ويتطلب البحث عن بقايا النسوية المناهضة للكولونيالية في عمّان اعترافاً أنه، لكي نفهم النسوية باعتبارها مناهضة للكولونيالية، على النسويات أن يدمجن في خيالهن السياسي: تحرّر غير الأردنيين/ات، خاصة العمّال غير الأردنيين/ات المجندرين والمستغلّين – بحسب فهمي أن الحركة النسوية التي ترعاها الدولة الكولونيالية الجديدة المعتمدة على استغلال العمالة تكون ناقسة ومحدودة. تحتاج النسوية المناهضة للكولونيالية إلى أن تكون تحررية بشكل حاسم بحيث تتوسع ضد الحدود خالقة مساحة لما يمكن أن يكون، بدلاً من انصياعها الطيِّع مع النيوليبرالية وما هو سائد. في سياق "الإصلاحات" النيوليبرالية التي انطلقت منذ الثمانينات، بات النضال من أجل الحقوق السياسية غير مسيّس. من خلال الحركة النسوية النيوليبرالية المرعية من الدولة، أُدرجت المواضيع المعتبرة نسائية ضمن الهيئات الخيرية والمنظمات غير الحكومية، ما أدى إلى نزعة نسوية مشوّهة ومفصولة عن أصلها الجذري والمناهض للكولونيالية.3 في هذا المقال، أحاجج أن النسوية بحاجة إلى امتلاك اللحظة المناهضة للكولونيالية وصياغتها والتمسك بها حتى تشمل الحاضر والمستقبل. من خلال الاستيلاء عليها من الإصلاحات النيوليبرالية، تنفصل النسوية عن ماضيها الثوري.
كباحثة في العلوم الاجتماعية، أتتبّع آثار وتأثيرات المواطنة المجندرة في وعبر أماكن محدّدة، لفهم تحوّلاتها وتغيّراتها المقصودة وغير المقصودة. أفهم المواطنة على أنها واحدة من أكثر المجالات الملموسة لفهم بنية سلطة الدولة و"على الرغم من الميل الحتمي تقريباً للتحدث عن الدولة كما "هي"، إلا أن المجال الذي نسمّيه الدولة ليس شيئاً، أو نظاماً أو موضوعاً إنما مجال غير محدود من القوة والتقنيات" (براون، 1995، ص. 174). ضمن هذا المجال، كيف يتفاعل المواطنون وغير المواطنين المجندرون؟ المواطنة ليست حاملة ليبرالية للحقوق، إنما علاقة إقطاعية للمُلكية والسلطة. المواطنة تقييد كولونيالي وامبريالي وعنصري وجندري. تُوظَّف خطابياً للمطالبة بدعم الهوية الفلسطينية والتحرّر، وتحرم قوانين الجنسية الأردنية وقوانين الأحوال الشخصية المرأة من الجنسية الكاملة والشخصية – تجعلها قاصرة قانونية – أشياء تُمتلَك وليس كائنات لها كلّ الحق. هناك ادّعاء متواصل هو أن السماح للأردنيات بنقل جنسيتهن من شأنه إضعاف القضية الفلسطينية لأن ذلك يقلل من فلسطينية الأولاد.4 ويحافظ بذلك على الممارسة القانونية الكولونيالية حيث يتبع الأولاد جنسية الوالد فقط، وذلك ليس فقط حرمان لأولاد الأردنيات المتزوجات من زوج غير أردني الجنسية، إنما كذلك إنقاص من مواطنة النساء. وفي وقت تمنع هذه المجموعة من القوانين جميع الأردنيات من نقل جنسيتهن، إلا أنها تستهدف في الواقع الأردنيات المتزوجات من فلسطينيين. وبحسب المحامية الأردنية هالة ديب، هذه الحجة معيبة(ديب، 2016)، ونظراً إلى العلاقات الديبلوماسية الأردنية مع [الاحتلال] [الـ]إسرائيل[ـي]، هي في أحسن الأحوال متكالبة. من المهم التركيز على هذه القوانين لأنها تعمل كمحور5 أساسي بين الأشكال السابقة والمعاصرة للحكم البطريركي (والكولونيالي). تتدخّل قوانين المواطنة في حياة المواطنين بشكل مباشر في شكل جواز السفر، الحدود التي نحملها كلنا في جيوبنا. لا يعني غياب حدود الجيوب غياباً للحدود الوطنية أو المجتمعية. الحدود يعاد خلقها في كل لحظة – في العلاقة بين الممارسات الحكومية، أو الروايات الرسمية للانتماء إلى المدينة، والممارسات اليومية وتصورات سكان المدينة. في التقنيات والسلطة في نصوص القوانين والعادات. في حين هذه النصوص نفسها ليست موثقة، يمكننا محاولة استنتاجها من التركيز على الأداء المجندر للممارسات اليومية وتجارب المواطنة. كيف تتفاعل القوانين والأجساد، ما هي احتمالات الثغرات التي تحصل في النصوص الوطنية الرسمية، في النصوص المتناقضة، وكيف يفتح ذلك الانفتاح لبدائل الفوضوية في خلق وتخيّل عمّان. ما هي النسوية المناهضة للكولونيالية؟ كيف ستبدو النسوية المناهضة للكولونيالية في هذا السياق؟
إعلان متردّد – نسوية مترحّلة أم مدارس نسوية مسافرة؟
لماذا لستِ نسوية؟! سألني زميل طالب في الأسابيع الأولى من دراستي في اختصاص العلوم السياسية والقانون الدولي في جامعة ألمانية. لا أعرف إذا كنت نسوية. النسوية الكلمة لا تعنيني. رفضتها أكثر مما رفضتني. ما يخطر على بالي مع الكلمة كان خليطاً من العنصرية المعادية للعرب والفلسطينيين. لم أرغب أن أكون نسوية حتى تحتويني النسوية النيوليبرالية البيضاء، حتى قبل أن يصبح هذا خياراً واعياً من الناحية النظرية. قبل أن أقرأ لغات النسوية السوداء، والسكان الأصليين والراديكاليين، لم تكن النسوية تتحدث لغتي، ما زلت أناضل وأتعلم بهذه اللغات ومن تلك اللغات.
كيف تنتقل الطرق التي نفهم فيها "مناهضة الكولونيالية"، و"الحرية" و"النسوية" بين الأزمنة والأمكنة؟ تكتب فيرغيس، أن السِيَر الذاتية لا تفسر كل شيء، وفي الكثير من الأوقات، لا تشرح الكثير إطلاقاً. ولكن في كتاب عن النسوية، تدين لنفسها بأن تقول شيئاً ما عن مسارها، ليس لأنه أنموذجي، إنما لأن النضال النسائي قد لعب دوراً هاماً في ذلك (فيرغيس، 2021). كانت نضالية النساء وكفاحهن أساسية في تعليمي، ولكن أصبحتُ مناهضة للامبريالية قبل أن أصبح نسوية. رغم ذلك، إذا كانت النسوية معادية للكولونيالية هي عمل عادل، فهما واحد والأمر نفسه. ربما، خارج الحدود الضيقة للأكاديميا، ليس هناك شرط لتجاوز التوترات بكلمة: كيف أترجم ذلك؟ هل أنا بحاجة لذلك؟ هل يمكن أن أكون نسوية باللغة الانكليزية ومناهضة للامبريالية في اللغات العامية النازعة للكولونيالية؟
علّمتني جدّتي النسوية. لكنها لم تفعل ذلك عن قصد، فجدّتي غير معنية بالمصطلحات المعرفية الغربية أو الأكاديمية. لم أفكّر يوماً أن أكون نسوية، لقد واجهت هذه الكلمة لأول مرة في جامعة بأوروبا. سواء أعلنّا عن نسويتنا أم لا، أن نسمّي أنفسنا نسويات، ليست مسألة هوية إنما عمل، ما هي الأدوات المتوفرة لنا، وأي واحدة منها نخترعها أو نتخلى عنها في كيفية تحركنا في العالم في مسار مغامر، وساعيات بكل جهد لتفكيك بنى السلطة بشكل متضافر. سيكون الأمر دوماً مجزّأً ومسافراً. كيف يمكننا تنمية العائلات والصداقات والحب في "دولة بطريركية رأسمالية" تجعل من بعضنا أنصاف مواطنات وغير مواطنات في عالم يعتبر أن حقوق الجنسية هي من حقوق الإنسان؟ هل توجد مساحات بديلة، أم أن السلطة منتشرة في كل شيء؟ هل يمكن خلق مساحات وأجساد مسامية؟ كيف يمكننا استعمال هذه المسامية؟ هل جدتي نسوية إذا لم تصف نفسها كذلك؟ أي نوع من النسوية يجعل مني ذلك إذا تعلمت منها النسوية؟
هناك نوع من الكتابة يلصق كلمة "نسوية" بالجدّات، وفي حين أن الاستماع إلى حكاياتهن ونضالاتهن ممكن أن يكون مسار تحوّل إلى النسوية، ولكن هذه ليست نظرة رومانسية لجدّتي؛ لا يوجد جرعات سرّية أو وصفات موروثة أو معرفة نسوية قديمة قد نقلتها لي. لا يوجد ممارسات تحتاج إلى التعريف أو إعادة التعريف على أنها نسوية، لا يوجد نسوية بدائية أحاول استخراجها، وجعلها ملموسة، وتقديمها باللغة الانكليزية. جدّتي ليست "أول نسوية" في حياتي، ولكن النظرية النسوية علّمتني أن أكون متيقنة لحياة جدّاتي، إلى الصمت في حياتهن، إلى أدائهن اليومي للضعف والقوة "الأنثوية"، إلى توظيفهن الاستراتيجي للضعف والقوة، إلى حدود وحواجز هذه الاستراتيجيات، إلى الأقنعة المبتسمة التي تخفي الابتسامات الحقيقية، وتخفي، في بعض الأوقات، كذلك الاحتقار الواضح. كيف يحدَّدن بموجب المساحات والقوانين المعنية؟ كيف يتجسد غير المواطنين/ات غير المتساوين/ات في تلك المساحات بشكل مختلف؟ التحدث مع جدّاتي، النضال معهن وضدهن، أن أكون محبطة منهن وأن أحبطهن، محاربة التقاليد التي قبلنها والتي أشعر بالغضب لأنهن قيّدن أنفسهن بها. الشعور بالدهشة، أو بالعار، لإدراك كيف يمكن لانحدارهن الهادئ عبر التوقعات أن يكون شكلاً من أشكال الرفض. وكيف يمكن أن يكون الرفض منتجاً. كيف أتبنّى هذه الأشكال من الرفض، أحياناً من دون قصد. إن تحليل وفهم العالم العنيف الذي نَجوْن منه والذي ينجون منه ويتكيّفن معه بحسب عدسة النظريات النسوية المناهضة للكولونيالية يسمح لي بالتخيّل والمطالبة بأن العوالم الأخرى ممكنة، ويجب أن تكون كذلك، فهي ضرورة مادية.
نحو نسوية مغامرة
من أين تأتي الرغبة بأن تكوني متماسكة وكاملة، عندما تكون النسوية معقدة وفوضوية؟ كانت جميلة مقاتلة من أجل الحرية. بالنسبة للدولة الكولونيالية التي كانت تحاربها، كانت إرهابية. حتى اليوم في الجزائر ما زالت [تعتبر] مناضلة. بالنسبة إلى النسوية البيضاء والليبرالية، على ما يبدو إنها غير موجودة. صنّفتها النسويات النازعات للكولونيالية مثل فرانسواز فيرغيس ضمن فئة النسويات البطلات. شيء ما يضيع في تلك الكلمة، ويختفي. هل يجعل منها ذلك مقبولة حين تُسمّى وتُعتبر نسوية؟ هل تستولي النسوية على المقاتلة من أجل الحرية؟ هل كلمة نسوية هي أكثر قبولاً على العكس من المقاتلة المناهضة للكولونيالية من أجل الحرية؟6 أن تصبحي مقبولة يعني أن تصبحي قابلة للاستيعاب، والتصنيف والشفافية تقريباً، وبالتالي أقلّ خطورة. أن تصبحي، أو تُجبَري على أن تكوني، شفافة في ظروف انعدام الحرية المستمرة يعني غالباً مقايضة الجذرية من أجل البقاء. إذا جرى تحديدها والإدعاء بأنها نسوية فإن ذلك يخفف من حدة المعارِضة الأساسية من أجل الحرية، إذ تدعى النسوية إلى قاعات المؤتمرات الأكاديمية التي توافق عليها الدولة، في حين تبقى المناضلة مقصية، ماذا يعني ذلك بالنسبة إلى النضالات المناهضة للكولونيالية؟ تصف سارة عبابنة في بحثها بالأردن وفلسطين، كيف كان يُنظر إليها على أنها أقل تهديداً عندما ظهرت وكأنها تبحث في قضايا النساء غير السياسية بدلاً من الإضرابات النقابية التي ينظر إليها على أنها تنتقد بشكل رئيسي طريقة عمل الدولة. مع ذلك، وبدلاً من قبول أن المقاومة ممنوعة، ربما يمكن لهذه البنية الاستشراقية والتمييزية أن تنقلب على نفسها عندما احتفظت الناشطات في مجال حقوق النساء، اللواتي يفترض أنهن غير مسيَّسات، تحت ستار الترويض بالنقد المعارض. كتبت فرانسواز فيرغيس في كتابها نسوية نازعة للكولونيالية: "ليس سهلاً المطالبة بمصطلح النسوية دائماً"؛ "إن خيانة النسوية الغربية هي عائقها الخاص بها". وتسأل: "لماذا تسمّين نفسك نسوية، لماذا الدفاع عن النسوية، عندما تكون مثل هذه المصطلحات فاسدة جداً بحيث حتى أن اليمين المتطرف يمكن له الاستيلاء عليها؟" (2021، ص. 5).
في قرنٍ وبلدٍ مختلفين، تضحك جميلة بوجه التهديدات والاعتقال والتعذيب. الضحك، حين نقرأ مع أرندت، هو مقاومة ضد الأيديولوجيا والإرهاب (كنوت، ميير وأرندت، 2017). الضحكة هي ردة فعل عندما يصل التفكير العقلاني إلى حدود ما يمكن قوله. يهرب الضحك، ويفتح شقّاً للحرية، ويغضب حراس المعتقل. السخرية هي سلاح. التقيت بجميلة بو حيرد، المناضلة الجزائرية المناهضة للكولونيالية، في صف أردني، ومعها تعرفت إلى التشابكات الفوضوية والمشاهد المجندرة للنضالات المناهضة للكولونيالية. في ذلك الوقت، قد تكون الجهود التربوية كانت موجهة نحو الانتفاضة وجماليات المقاومة، ولكن بعض التعقيدات في المشهد الذي ذكرته في بداية المقال بقيت في أعماقي. الرعاية والمقاومة ليستا متناقضتين. ما هي نتائج ذلك في إصرار أمة بطريركية تعتبر أن مَلِكَها هو والدي وعاصمتها هي أمي؟ قد ينقلنا الضحك إلى أبعد من "شلّ الشر في العالم" (بولس والكر، 2021) نحو مقاومة لا تراجع فيها. إذا كانت النسوية تريد أن تكون مناهضة للكولونيالية، فما هي اللغة التي تتكلّم فيها النسويات؟ عملياً ومعرفياً؟ هل المغامرة هي خيار؟ الضحك هو لغة المغامرة، والتحدّث عبر الحدود، والتمكّن من المفردات الجديدة؟ المغامرة هي ممارسة لإمكانية في وقت "تكون فيها كل الطرق محظورة ما عدا الطريق التي تُشَقّ عن طريق التدمير" (هارتمان، 2019، ص. 227). تجلس مجموعة صغيرة من الفلسطينيين إلى مائدة غذاء في مؤتمر أكاديمي يتشاركون قصصاً عن كيفية تعرّضهم لإطلاق النار تقريباً عند نقاط التفتيش في لحظات عديدة من حياتهم، وقد ضحكوا. الضحك بالقرب من الموت يزعج المتفرّجين. الضحك كاستراتيجية لحلّ المغامرة وإعادة ترتيبها لوقت قصير باعتبارها استكشافاً لما يمكن أن يكون. تناقضات الصمت والتحدّث. الاثنان متناقضان. ورغم ذلك، قد يؤمّن الضحك الشقّ المطلوب للعودة إلى كلٍّ من الصمت والكلام.
- 1. أطلق فيلم جميلة الجزائرية عام 1958، بعد عام واحد فقط على اعتقال وتعذيب جميلة بوحيرد. فيلم جميلة هو قصة حرب [تحرير] الجزائر (1954-1962)؛ وقد أنتجته ماجدة صباحي التي تظهر في دور جميلة وأخرجه يوسف شاهين. فيلم جميلة هو ربما الفيلم الأول الذي يعالج خاصة مسألة دور النساء/المقاتلات في حرب استقلال الجزائر. يمكن أن يعود الفضل في ذلك إلى ماجدة صباحي، التي بحثت عن كتّاب للسيناريو. كما لعبت ماجدة دوراً هاماً في الدفاع عن النساء في الأفلام (المصرية). أنتج الفيلم بدعم من الحكومة المصرية وتعرض للرقابة في الجزائر، على الرغم من أنه جلب دعماً للجزائر في الدول الناطقة بالعربية. على الأرجح أن تصوير النساء كمقاتلات في المقاومة المسلحة لم يتلاءم مع الرواية الرسمية التمييزية بحق النساء التي جعلت منهن بموقع المتفرجات عوضاً عن موقعهن كمشاركات بفعالية في التحرير.
- 2. للمزيد من النقاش حول السيرورة الجدلية في إنشاء الأردن إقرأ/ي على سبيل المثال العمل التالي: Tariq Tell, Jillian Schwedler, and Eugene Rogan (Rogan and Tell, 1994; Tell, 2013; Schwedler, 2022)
- 3. في السبعينيات خلال أيلول الأسود، حصلت لحظة تطور بديلة. في تخيل عكس ذلك، أقترح النظر بالتخيلات المكانية التي كانت موجودة وقتها.
- 4. يستند قانون الجنسية/المواطنية الأردني الحالي الصادر عام ١٩٥٤ إلى قانون الجنسية البريطانية وقتها، وقد اعتمد تقريباً بحرفيته. لطالما ارتبط قانون الجنسية الأردني بتبدلات الأراضي والحدود الناجمة عن ذلك في ظل الحكم الهاشمي. ينبغي النظر إلى تطوير الدولة الأردنية وقوانين المواطنة في سياق انحسار قوة السلطنة العثمانية طول القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين- والكولونيالية الأوروبية- وخاصة الفرنسية والبريطانية، فضلاً عن الفهم المحلي المتعدد للانتماء والتخيلات المكانية. لفهم المعايير والحدود المجندرة الناجمة عن هذه القوانين، من المهم الانتباه إلى هذه الاختلافات المكانية القانونية والجغرافية.
- 5. أشكر ألينا ساجد على صورة المحور.
- 6. المقاتل من أجل الحرية، باعتباره وجوداً، يشكك بشكل رئيسي بالوضع السائد. الشخص المشكك جذرياً بالعالم كما هو، هو خطر، ومن ثم اعتبارهم بمنزلة الإرهابيين ووضعهم خارج منطقة الوجود، في منطقة العدم. إن النسوية المناهضة للكولونيالية لا تختلف كثيراً عن المناضل من أجل الحرية.
Ababneh, S. (2022) "The Fear Factor: Fieldwork Away from the Safety Blanket of Depoliticized Notion of Gender and Women’s Issues," in S. Joseph, L. Meari, and Z. Zaatari (eds), The Politics of Engaged Gender Research in the Arab Region: Feminist Fieldwork and the Production of Knowledge. London: I.B. Tauris.
Boulous Walker, M. (2021) "The laughter of Hannah Arendt," ABC Religion & Ethics, 20 June. https://www.abc.net.au/religion/the-laughter-of-hannah-arendt/13401584
Brown, W. (1995) States of Injury: Power and Freedom in late Modernity. Princeton, N.J: Princeton University Press.
Deeb, H.A. (2016) "Qanun Al-Jinsiyyah Al-Urdoni: Al-Tamyeez did Al-Maraa 'Difa’an 'an Filastin'," 7iber, 14 January. https://www.7iber.com/politics-economics/jordanian-citizenship-law-discr...
Hartman, S.V. (2019) Wayward lives, beautiful experiments: intimate histories of social upheaval. First edition. New York: W.W. Norton & Company.
Knott, M.L., Meyer, N. and Arendt, H. (2017) Verlernen: Denkwege bei Hannah Arendt. Erweiterte Neuauflage. Berlin: Matthes & Seitz.
Lefebvre, H. (1991) The Production of Space. Malden, MA and Oxford: Blackwell Publishing.
Olufemi, L. (2020) Feminism, interrupted: disrupting power. London: Pluto Press (Outspoken).
Rogan, E.L. and Tell, T. (eds) (1994) Village, Steppe, and State. The social Origins of Modern Jordan. London and New York: British Academic Press.
Said, E.W. (1983) The world, the text, and the critic. Cambridge, Mass: Harvard University Press.
Said, E.W. (2000) Reflections on Exile and Other Essays. London: Granta.
Sajed, A. and Salem, S (2022) "Anticolonial Feminist Imaginaries," Kohl: a Journal for Body and Gender Research vol. 9, no. 1, pp. 1-8.
Schwedler, J. (2022) Protesting Jordan: geographies of power and dissent. Stanford, California: Stanford University Press (Stanford studies in Middle Eastern and Islamic societies and cultures).
Tell, T. (2013) The social and economic origins of monarchy in Jordon. First edition. New York, NY: Palgrave Macmillan (Middle East today).
Vergès, F. (2021) A Decolonial Feminism. Translated by A.J. Bohrer. London: Pluto Press.