"مائة طريقة للموت": إثنوغرافية ذاتية عن هواجس انتحارية

تحذير‬ ‫المحتوى: 

تحذير عن‬ ‫المحتوى‬‫!

محتوى جنسي صريج، لغة حادة، تصوير للعنف.
مناسب لجماهير ناضجة.

السيرة: 

جوانا أبي اللّمع طالبة دراسات عليا في ماجستير الدراسات الجندريّة في الجامعة اللبنانية الأمريكية. كما أنها حائز على بكالوريوس في علم النفس من الجامعة الأمريكية في بيروت وماجستير في العلاج المسرحي / الدرامي من جامعة ولاية كانساس بصفتها باحثة في برنامج فولبرايت. حاليًا، تعمل جوانا ضمن مشروع "رسم خرائط إنتاج المعرفة حول المرأة والنوع الاجتماعي في المنطقة العربية" البحثي تحت رعاية اتحاد المنطقة العربية بجامعة كاليفورنيا ديفيس (UCDAR) ، بالشراكة مع المجلس العربي للعلوم الإجتماعية (ACSS) تهتم جوانا بجملة من الموضوعات ومنها، التحيز الجندري في مجالات الصحة العقلية والتجارب المتعلقة بالجنون المعاش والعلاقة بين الهوية الكويرية والتنوع العصبي ونظرية الأداء ودمج المنهجيات القائمة على الفنون في البحث العلمي. بالإضافة إلى مساعيها الأكاديمية ، فقد لجأت جوانا الكتابة الإبداعية والمسرح كقنوات لكل من العمليات العلاجية والنشاط الاجتماعي.

اقتباس: 
جوانا أبي اللمع. ""مائة طريقة للموت": إثنوغرافية ذاتية عن هواجس انتحارية". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 8 عدد 1 (24 يناير 2022): ص. 31-49. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 21 نوفمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/335.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (701.64 كيلوبايت)
ترجمة: 

أدهم سليم هو باحث وكاتب يعمل حالياً مديراً لتحرير منصة "الأركيلوغ" للنشر والترجمة.

باحثة ومترجمة واستشارية. يتركّز عملها البحثي في الثقافة والفنون وهي متخصّصة في الفنون العربيّة المعاصرة. يشمل عملها البحثي مجالات عدّة منها العمالة الثقافيّة والفنيّة المجندرة. عملت سابقًا كمديرة مساعدة في مركز بيروت للفن وشاركت في تقييم عدد من المعارض الفنيّة. هي أيضًا مؤسّسة مشاركة في "الأركيلوغ" منصّة إلكترونيّة للترجمة والنشر بشكل جماعيّ.

picture_1.png

أوفيليا، 1852

سير جون إيفريت ميليه

 

القسم الأول: النساء الراغبات في الموت

"أعرف مائة طريقة للموت
لطالما فكرّت أن أجرّب واحدة
أن أتمدّد تحت عجلات شاحنة
يومًا ما عندما أكون بالقرب منها

أو أن أقفز عن حافة جسر –
لكن هذه الأمور
صعبة جدًا على الحيوانات التي تقتات على الجيف
والرجال الذين ينظّفون البحر

عندي سمّ قد أشربه
لطالما فكّرت أن أتذوّقه
لكن أمّي اشترته لحوض الغسيل
ولا أريد أن أهدره"

- أعرف مائة طريقة للموت (“I know a hundred ways to die”)، لإِدنا سان فنسان ميلاي

 

أوّل مرّة تمنّيتُ فيها الموت كنتُ في الرابعة عشرة.
أوّل مرّة فكّرتُ في الانتحار كنتُ في التاسعة عشرة.
أوّل مرّة بحثتُ فيها عن أساليب للانتحار كنتُ في الثامنة والعشرين.

التمييز بين هذه الحالات مهمٌ جدًا. فالرغبة في الموت والرغبة في الانتحار أمران مختلفان. هنالك تحوّل من السلبية إلى الفعل. ثم تأتي الخطوات اللاحقة من التخطيط إلى المحاولة ومن المحاولة إلى الانتحار الناجز، ولكنني لم أتخطّ هذه الحواجز قطّ. وسأناقش الأسباب في هذه الورقة البحثية.

تردّد الإحصاءات أن نسبة النساء اللواتي يحاولن الانتحار تفوق نسبة الرجال بثلاثة أضعاف، لكن المحاولات الناجزة لدى الرجال أكثر بأربعة أضعاف من تلك لدى النساء (جوينر، 2005). وبالرغم من أن هذه الإحصاءات والأرقام ناتجةٌ عن أبحاثٍ أُجريت في الغرب، إلا أن المؤشرات العامة تُظهر صلاحيتها للتعميم على السياق اللبناني الذي أتحدّث منه. بحسب دراسةٍ صدرت مؤخرًا تبلغ نسبة النساء بين إجمالي من أُدخلوا أقسام الطوارئ على خلفية محاولة الانتحار في لبنان 71% (المجذوب وآخرون، 2018). تشير الدراسة نفسها إلى أن البطالة والإقامة مع العائلة هما من بين السمات المشتركة لمن حاولن الانتحار، وهما من السمات نفسها التي تفاقم انتشارها دون شكٍّ جرّاء الآثار التراكمية لجائحة كورونا والأزمة الاقتصادية في لبنان التي خسرت معها العملة المحلية حوالى 90% من قيمتها منذ 2019 (فرّان، 2021). على النقيض من ذلك، فإن الرجال يمثّلون أغلب حالات الانتحار المكتملة، والتي تصاعد عددها خلال السنوات الماضية بموازاة تغطيتها بصورةٍ متزايدةٍ في نشرات الأخبار اللبنانية (فرّان، 2021؛ لاذقاني، 2020). إذًا، لماذا تحاول نساءٌ أكثر الانتحار؟ ولماذا يموت رجالٌ أكثر عندما يحاولونه؟ يؤكد مختصو الصحة النفسية، في لبنان كما في الغرب، أن أكثر دوافع الانتحار شيوعًا هي الاعتلال النفسي (جاميسون، 2000؛ فايسمان، 1999). يستند هؤلاء المختصون إلى أدبياتٍ طبية تنحو بشكلٍ كبيرٍ إلى النظر إلى الانتحار كعرضٍ مرضيٍ بينما تغفل التروما الاجتماعية أو التمييز الممنهج أو ظروف الحياة. رغم ذلك، وبحسب نظرية أشر فإن انتشار "الجنون" بشكلٍ أكبر بين النساء يعود لعيشهن في مجتمعٍ أبوي (2011). إحدى الملاحظات اللافتة التي يمكن أن تدلّل على ذلك، هي اتفاق النساء اللاتي حاولن الانتحار في الصين حول رغبتهن في أن يُبعثن من جديدٍ كرجال (بيرنغ، 2018). فضلًا عن ذلك، وفي السياق الصيني نفسه، تسجّل حالات التفكير في الانتحار زيادةً ملحوظةً بين الفتيات في سن 12-13 عامًا و14-16 عامًا، بينما يحدث العكس بين الفتيان من نفس الفئة العمرية (جايمسون، 2000). هذا هو العمر الذي تتعرّف فيه الفتيات على تشييء المجتمع لهن وجنسنته لأجسامهن. وتُظهر النقاشات مع الصديقات أن أوّل ذكرياتنا عن التحرش الجنسي يمكن اقتفاؤها للمرحلة العمرية ذاتها. ويجدر هنا أن نتذكّر أن المؤسسة الطبية دأبت تاريخيًا على تهميش النساء ولم تأخذهن على محمل الجد. فحتى نهاية القرن الثامن عشر كان الأطبّاء يعتقدون أن الرحم يمكن أن يتحرك من تلقاء ذاته داخل الجسم، وهو ما كان يُرى حينها كتفسيرٍ للهستيريا عند النساء وكسببٍ لوسمهن عمومًا بالضعف والتداعي (سكال، 2012). بالمقابل، يرى شو وبروكتر الهيستريا كردّ فعلٍ على شعور الاستضعاف والرسائل المتناقضة التي كانت النساء تتلقّاها في ذلك الزمن (2005). ويمكن لنا أن نشير أيضًا إلى أن التصوّر الأبوي عن ضرورة إذعان النساء وخضوعهن كان سببًا في أن الغالبية العظمى ممّن خضعوا لعمليات الفص الجبهي1 خلال القرن العشرين كنّ من النساء (تون وكوزيول، 2018). في الوقت الراهن، يغلب تصنيف ما تعاني منه النساء اللاتي مررن بتجارب تعنيفٍ جنسيٍ كعرضٍ مرضيّ لاضطراب الشخصية الحديّة (شو وبروكتر، 2005). هذا ويميل خبراء الصحّة النفسية عادةً إلى الحكم المسبق على هؤلاء المرضى، مفترضين أن إيحاءهن بمحاولة الانتحار هو محض ادعاءٍ لجذب الانتباه (جوينر، 2005).

لسوء الحظ لم تحظَ دراسة الميل للانتحار بمقارباتٍ تقاطعية وسوسيولوجية كافية (ستاندلي، 2020). لذا تقع على عاتق النساء الكويريات والفقيرات والمهاجرات والنساء اللاتي يعانين من علاقاتٍ معنّفةٍ والنساء العابرات وغير المعياريات والنساء المتوحدات وغيرهن من النساء المهمّشات مسؤولية التعامل مع الصعوبات الإضافية لحياتهن والتي تودي بهنّ في الغالب إلى الاكتئاب. لذا تفضي السرديات التي تركّز حصريًا على الجانب البيولوجي و/أو التنشئة الفردية إلى الشعور بالنقص والغربة. فغياب القبول الاجتماعي والأمان المالي، والذي يُترجم في كثيرٍ من الأحيان إلى أشكالٍ مختلفة من العجز، كانا أكثر ما أثّر على صحّتي النفسية بالسلب. لن يجدي هنا تعاطي المزيد من الأدوية أو العكوف على تحليل الترومات السابقة لإلغاء الآثار المترتّبة على المظالم البنيوية التي أعيش فيها والتي يتعيّن عليّ خوضها بشكلٍ يومي. وليس هذا أكثر جلاءً كما هو اليوم في ظل الأزمة الاقتصادية في لبنان. إن مديح الصمود اللبناني أو نصح الناس بالتحلّي بالصبر كما يحلو للكثيرين اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي هو إلغاءٌ للطبيعة البنيوية لمعاناتنا، واستمراءٌ للعقلية النيولبرالية التي تفضّل البحث عن حلولٍ فرديةٍ للمشكلات المجتمعية.

 

القسم الثاني: رمنسة انتحار الإناث

"الموت
فنّ ككلّ شيءٍ آخر
أتقنه بشكلٍ استثنائي

أداوم عليه إلى أن يصبح جحيمًا
أداوم عليه إلى أن يصبح حقيقةً
يمكنك القول إنه هاجسي"

- السيدة أليعازر (“Lady Lazarus”)، لسيلفيا بلاث

 

هناك تاريخٌ طويلٌ وكئيبٌ لرمنسة انتحار النساء. في العصر الفيكتوري نظم شعراءٌ كإدغار ألن بو وتشارلز بودلير ووليام باتلر ياتس ولورد ألفرد تنيسون أشعارًا ترى في جسد المرأة الميتة موطنًا للجمال. أسهم الفنانون البصريون كذلك في تكريس هذه الصورة، فرسموا نساءً في حال الاحتضار والموت كما فعل دانتي غابريل روسيتي، وصوّروا مشاهد الانتحار الروائية كما فعل جون إيفريت ميليه في لوحته الشهيرة لأوفيليا (راجع/ـي الهامش) (مالهول، 2017). يقف مالهول (2017) على ذكر مجهولة نهر السين (L’inconnue de la Seine)، وهي امرأة انتحرت بإلقاء نفسها في نهر السين أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر ولم يُتعرّف على هوية جثمانها قط. صنع أحد الحانوتية قناعًا جصّيًا لوجهها ليخلّد جمالها، فخلب القناع لبّه. وتحولت المنتحرة بموتها إلى مادةٍ جماليةٍ يُعاد إنتاجها، تُباع وتُشترى، وتلهم الفنانين والكتّاب في كلّ أوروبا، قبل أن تنتهي كمجسّمٍ بشريٍ يُستخدم في تدريبات الإنعاش الرئوي. لم تكن لحياتها ذات القدر الذي رآه الآخرون في موتها (مالهول، 2017). جعل القرن التاسع عشر الانتحار مؤنّثًا، فربطه بما اصطُلح عليه بجملة السمات والظروف الأنثوية، والتي تشمل الهشاشة والحساسية وتقمّص شعور الضحية والإذعان والرغبة في التلاعب بانطباعات الآخرين والميل لإظهار صورةٍ جماليةٍ عن الذات. فشمل الأمر تأنيث المنتحرين من الرجال في الصور الروائية (هيغونيه، 1985)، فالانتحار محصور في الأغلب الأعمّ من الروايات بالنساء (باتنو، 1997). في هذه الروايات تموت الشخصيات عند محاولتها الأولى للانتحار (باتنو، 1997)، ما قد يفسر مبالغة النساء في تقدير فعالية كثيرٍ من وسائل الانتحار (جاميسون، 2000).

تواصلت هذه النظرة الرومانسية لانتحار النساء خلال القرن العشرين. ففي العام 1947 انتحرت إيفلين ماكهيل قفزًا عن شرفة بناية الإمباير ستيت، لتنتهي على ظهرها فوق سقف سيارةٍ تصادف وجودها بالأسفل. ورغم تركها رسالة تطلب فيها ألا يُرى جثمانها، قام روبرت وايلز بتصويرها لتُنشر صورتها في مجلة "لايف" تحت عنوان "الانتحار الأجمل". في القرن الحادي والعشرين كذلك ظهرت العارضات في بعض المشاهد الدعائية كجثثٍ في إشارةٍ لإيروسية الجسد الأنثوي الميت (مالهول، 2017). ففي العام 2013، نشرت مجلة "فايس" في صفحتها للموضة صورًا لعارضات أزياءٍ يُعِدن تمثيل مشاهد انتحار كاتباتٍ شهيراتٍ تحت عنوان "الكلمات الأخيرة"، ما استتبع انتقاداتٍ حادةٍ من منشورة "جيزِبيل" النسوية على خلفية فظاظة تسليع "فايس" لجثامين النساء المنتحرات (ساورز، 2013). أزالت "فايس" المنشور وأعقبت ذلك باعتذارٍ لم يخلُ من تبريرٍ يوضح أن "هدفهم الأساسي كان تقديم صورٍ فنيةٍ تصاحب رسالتهم عن الأناقة" (مهران وفريق فايس، 2013). هؤلاء الأديبات اللاتي كافحن الاكتئاب وحاولن الانتحار أو انتحرن بالفعل هن مادّة مستمرة لهذه الفيتيشية المزعجة، حتى من قبل الروائيات الشابات اللاتي يتمثلنهن (جاميسون، 2019). ولا أخفي أنني وجدت في نفسي ألفةً ما تجاه قصص الكاتبات والشاعرات اللاتي حاولن الانتحار مرارًا أو انتحرن بالفعل أمثال فرجينيا وولف وسيلفيا بلاث وآن سيكستون ودوروثي باركر وشارلوت بيركنز غيلمان وإليز كووين. ما يثير مخاوفي هو أن "جنوني" وإبداعي قد أصبحا وثيقَي الصلة ببعضهما. أيكون أحدهما ثمنًا للآخر؟

في إطارٍ متصل، تشير الدراسات إلى التأثير الذي قد يضطلع به الإعلام على السلوك الانتحاري (تسال وهوتون، 2004). في رواية غوته "أحزان الشاب فِرتر" المنشورة عام 1774، يطلق البطل الرصاص على نفسه لعجزه عن مواصلة الحياة بعيدًا عن حبيبته. بعد نشر الرواية، سُجّل عددٌ من حالات الانتحار بالطريقة نفسها التي أنهى بها فِرتر حياته، مرتدين نفس ثيابه وإلى جوارهم نسخةٌ من الرواية (بيرنغ، 2018). يصف "تأثير فِرتر" ظاهرة السريان المعُدي للانتحار، والتي يُطلَق عليها أيضًا "تأثير مارلين مونرو" في إشارةٍ إلى ارتفاع معدلات الانتحار في الولايات المتحدة بنسبة 12% عقب انتحار مونرو (سولومون، 2001). في عصرنا الحالي تثير الأخبار الأكثر رواجًا لانتحار المشاهير على منصة "تويتر" الموجات الأوسع انتشارًا للانتحار بما فيها حالات الانتحار بالمحاكاة (سيمان، 2017). ويرجّح بعض الباحثين أن السبب وراء ذلك يكمن في تبجيل الشخص المنتحر والثناء عليه في التغطية الإعلامية لانتحاره، ما قد يسوّل لمن هم/ـن عرضة للانتحار تخيّل نسخةٍ مستقبليةٍ عن أنفسهم/ــن تحظى بعد الموت بردّة الفعل الإيجابية ذاتها (بيرنغ، 2018). إلا أنني أعتقد أن للظاهرة بعدًا أعمق لا سيّما بالنظر إلى علاقتنا الخاصة مع أولئك الذين يمتلكون حضورًا جماهيريًا. ما جمعته من خبرتي وخبرات الأصدقاء المقرّبين هو أن التأثير البالغ للمنتج الفنّي لهؤلاء المشاهير وما يمثله في حياتنا يمكن أن يخلق لدينا شعورًا ما بالتعلّق والتمثّل، وهو ما يترك بعضنا، سواء أحببنا ذلك أم لا، فريسةً لهواجس الانتحار عند رحيل نجومنا المفضّلين انتحارًا. كذلك سمح الإنترنت للكثيرين بالتعرّف على أكثر وسائل الانتحار كفاءةً، بما في ذلك المواقع الإلكترونية التي تزوّد زوّارها بالتعليمات اللازمة وحالات الانتحار على فيديوهات البث المباشر (بيرنغ، 2018). يصعب علينا أن نقاوم البحث عن هذا النوع من المعرفة عندما يهجس عقلنا بالانتحار.

ينطبق ذلك أيضًا على ما نشاهده من محتوىً بغرض الترفيه والتسلية. على سبيل المثال، تعرّضت سلسلة أفلام ملحمة الشفق (“Twilight Saga”) لموجةٍ من الانتقادات على خلفية تصويرها الرومانسي لرغبة بطلة الرواية في الموت حتى يتسنّى لها أن تصبح مصّاصة دماء وتلتحق بحبيبها (ماكاي ومابل، 2013). بعد مشاهدة السلسلة، وبالنظر إلى الطبيعة الخيالية لرغبة البطلة في أن تصبح مصّاصة دماء، لم تشغلني رمنسة الانتحار بقدر نزوع الرواية لتطبيع عادات غير سوية في العلاقة بين أبطال الرواية (كالتلصّص والرغبة في الامتلاك والاتّكالية). فضلًا عن ذلك، كُتب الكثير حول زيادة محاولات وحالات الانتحار عقب إطلاق الموسم الأول من مسلسل نتفليكس 13 سببًا لماذا (“13 Reasons Why”) عام 2017، والذي تضمّن مشهدًا لمدة 3 دقائق يصوّر انتحار مراهقة (كوبلاند، 2020؛ هونغ وآخرون، 2019؛ رايدنبرغ وآخرون، 2020؛ سكالفيني، 2020). كان ذلك المشهد مزعجًا بالنسبة لي. خلال واحدة من أسوأ فترات حياتي بين صيف وخريف 2017، والتي سأسميها هنا "ليالي المعاناة النفسية الحالكة"، لم أستطع التوقّف عن إعادة هذا المشهد مرارًا في مخيّلتي. تضمّن المشهد تفاصيل كخيار البطلة ارتداء ثياب قديمة حتى لا توسّخ ثيابها الجديدة، كما أظهر المشهد قطعها لمعصمها بشفرة مُحيلةً مياه حوض الاستحمام إلى الأحمر. لا أتصوّر أنني شخص يسهل التأثير عليه، إلا أنني تخيّلت نفسي أفعل ذلك بشكلٍ متكرّر.

تتحوّل بعض الأماكن أيضًا بما تمتلكه من وقعٍ شاعريٍ إلى مغناطيس يجتذب الراغبين بالانتحار. في لبنان تحتل صخرة الروشة هذه المكانة، وهي المكان الأشهر للانتحار في البلد (سامي وريشا، 2015). الوقع السحري للبحر في أسفلها، على خلفية رمنسة الموت غرقًا في الفن والأدب (جاميسون، 2000)، بالإضافة إلى ارتفاعها الشاهق، يجعلان من صخرة الروشة مكانًا مثاليًا للانتحار. عالميًا هناك موقعان للانتحار يحيطهما الإعلام والأدب العالميان بمزيدٍ من الرومانسية، إلى الحدّ الذي أصبحا معه مزارين لسياحة الانتحار، الأوّل هو جبل ميهارا وهي فوهةٌ بركانيةٌ نشطة تقع على جزيرة أوشيما اليابانية، والثاني هو جسر غولدن غيت بمدينة سان فرانسيسكو. تعود شهرة جبل ميهارا إلى قصةٍ عن شابةٍ تبلغ من العمر 24 عامًا تسلّقت الجبل مع زميلها عام 1933، قبل أن تقرّر القفز إلى داخل الفوهة "لتُبعَث إلى السماء في غمار سحب الجمال والدخان" (جاميسون، 2000، ص. 148). عاد زميلها ليخبر القصة في العام التالي، منذ ذلك الحين انتحر على أثر تلك القصة 160 شخصًا قفزًا إلى داخل فوهة البركان، وأوقفت الشرطة 1200 آخرين كانوا قد حاولوا الأمر ذاته. بالمثل، يسافر الكثيرون للقفز من أعلى جسر غولدن غيت بسان فرانسيسكو. وحول سبب ذلك يجيب أحد الناجين، "ثمّة شكل مميز لهذا الانتحار، ثمة جمال وبهاء" (جاميسون، 2000، ص. 151).

 

القسم الثالث: طرق النساء والرجال للانتحار

"للانتحار لغةٌ خاصة.
كنجّارٍ يسأل عن الأدوات.
لكنه لا يأبه لماذا يبني."

- أريد أن أموت (“Wanting to die”)، لآن سيكستون

 

قدّمت فيما سبق عددًا من الأدلّة حول سبب ميل النساء لمحاولة الانتحار أكثر من الرجال، إلا أن إتمام محاولةٍ واحدةٍ فقط من بين كل عشر محاولاتٍ للانتحار بين النساء لا يزال بحاجةٍ إلى تفسير (بيرنغ، 2018). لا تفضي محاولات من يحاولن الانتحار من النساء إلى الموت بمعدلاتٍ مقاربةٍ للرجال بسبب اختياراتهن لطريقة الانتحار. تميل النساء عادةً إلى استعمال الأدوية والسم وإحداث الجروح القطعية كطرقٍ للانتحار، وهي طرقٌ يمكن في كثير من الأحيان علاجها. بالمقابل يميل الرجال عادةً إلى استعمال الأسلحة النارية والشنق والقفز من شاهق، وهي طرقٌ من شأنها أن تودي في كثيرٍ من الأحيان بحياة من يحاولها (جاميسون، 2000). ينطبق الأمر كذلك على لبنان حيث اختارت غالبية النساء الانتحار بالإفراط في تعاطي الأدوية وبدرجةٍ أقل بإحداث الجروح القطعية (المجذوب وآخرون، 2018). تختلف الطرق المتّبعة كذلك بين محاولات الانتحار الفاشلة وحالات الانتحار الناجزة، حيث يغلب على الأخيرة استعمال الأسلحة النارية والشنق والقفز من شاهق. وكما هو الحال في بلدانٍ أخرى، يموت رجالٌ أكثر جرّاء محاولاتهم الانتحار عن النساء في لبنان، كما يميل الرجال في لبنان كذلك إلى استخدام الأسلحة النارية كطريقةٍ للانتحار (بزري وآخرون، 2021). لذا يمكن القول بأنه في لبنان، كما في غيره، تلعب السيناريوهات المجتمعية السائدة عن الذكورة والأنوثة دورًا أساسيًا في التأثير على اختيار طريقة الانتحار (مولر وآخرون، 2021). فعادةً ما تتصل الأسلحة النارية بصور الذكورة والكفاءة، بينما يبدو استخدام الأدوية والسموم سهلًا وغير مؤلم (جاميسون، 2000). هذا ويعزو بعض الباحثين هذا الاختلاف في الطرق، لا سيّما اجتناب استخدام الأسحلة النارية بين النساء، إلى خوف النساء من الأذى الجسدي وميلهن للعناية بأجسامهن (بيرنغ، 2018؛ هيغونيه، 1985؛ جاميسون، 2000). لكن هذه السرديات تعكس نظرةً تسطيحيةً للجندر تسم بالوهن كل مَن صُنفت كأنثى بالميلاد. قد يكون الأمر أن النساء اللاتي نادرًا ما يعشن وحدهن في لبنان، يخشين ممّا قد تلحقه اختياراتهن لطريقة الانتحار من أضرارٍ بأفراد عائلاتهن. فالانتحار بطلقات الرصاص أو بالشنق سيخلّف وراءه مشاهد مفزعة لأفراد العائلة. بالمقابل، تصم مُثُل الذكورة السامّة محاولات الانتحار الفاشلة بالضعف وعدم الجدية (جاميسون، 2000) ما يدفع الرجال إلى التأكد من نجاعة الوسيلة المختارة للموت.

رغم ذلك، أزعم أن السبب الرئيسي وراء هذا الاختلاف في طرق الانتحار بين الرجال والنساء لا يرتبط بالضرورة بذكورة أو أنوثة الطريقة المختارة للموت، بقدر ما يرتبط بسهولة وصول كل من الرجال والنساء إلى أي منها. فالنساء اللاتي صُنفن كإناثٍ بالميلاد عادةً ما يُشخَصن بالاكتئاب واضطراب الشخصية ثنائي القطب (جاميسون،2000؛ شو وبروكتر، 2005)، ما يجعل الإفراط في تناول مضادات الاكتئاب أو غيرها من الأدوية الموصوفة أسهل طريقةٍ لمحاولة الانتحار بين النساء. على الجهة المقابلة فإن سهولة حصول الرجال على السلاح ومعرفتهم بالتشريح لانخراطهم بكثرة في سلك الجيش والشرطة والطب، يجعل اختيار الأسلحة النارية خيارهم الأول عند الانتحار (جوينر، 2005). فما من شك أن مهنة المرء تؤثر على اختياراته لطريقة الانتحار. فقد أظهرت دراسة أُجريت على حالات الانتحار في أفرع الجيش الأميركي المختلفة، أن جنود المشاة كانوا أميل للانتحار بإطلاق الرصاص على أنفسهم، بينما كان جنود البحرية (الذين يملكون معرفةً جيدةً باستخدام الحبال والعقد) أميل للانتحار شنقًا، أما جنود سلاح الجو فكانوا أميل للقفز من شاهق (بيرنغ، 2018). يُضاف إلى الأدلة على العلاقة بين الانتحار من جهة، وبين الوصول إلى المعرفة وأدوات القتل من جهةٍ أخرى، أن نسبة من يمتن انتحارًا من النساء في صفوف الأطباء وعلماء النفس والكيمياء تصل إلى 3 من كل 5 حالات مقارنةً بعموم السكان (جاميسون، 2000). في سياقٍ مماثل، تنخفض نسب الانتحار في الأماكن التي يصعب فيها الوصول إلى الأسلحة والأدوية المهدئة بشكلٍ عام (سولومون، 2001).

يقول الشاعر روبرت لويل لو جاء الإنسان إلى هذه الدنيا مجهزًا بزرّ لإيقاف حياته متى ما رغب، لانقرض الجنس البشري (بيرنغ، 2018). الأسلحة النارية هي أقرب ما يكون إلى هذا الزرّ. بعبارة جيسي بيرنغ، كم هو مدهشٌ أن ينتقل الإنسان بسحبة زنادٍ من "هنا، حيث يسكن الوجود الملموس لوعيك، إلى هناك، حيث ليس من ثمة أنت، في قفزةٍ لا يكاد طولها يناهز نصل عشبٍ بازغ" (2018، ص.131). لو امتلكت سلاحًا ناريًا في منزلي لما كنت هنا الآن أكتب هذا النص. تعوزني أيضًا المعرفة العلمية لمحاولة بعض من الطرق الأكثر تعقيدًا للانتحار. أخشى أن يكون الشنق مؤلمًا وبطيئًا. تظهر أبحاث الإنترنت أن الأدوية وإحداث الجروح القطعية أكثر نجاحًا. جال بخاطري أن أقفز عن بنايةٍ عاليةٍ، إلا أن البناية التي أسكن فيها والبنايات المحيطة بها ليست بالارتفاع الكافي. بالنسبة لأولئك الذين يعانون من هواجس الانتحار، مقولة هاملت "أكون أو لا أكون" هي أقل شبهًا بمأزقٍ فلسفي وأقرب إلى قلقٍ يستنزف أصحابه ولا يفارقهم. كيف وصلتُ إلى هذا الحال، أوازن بدأبٍ بين خيارات الانتحار؟

 

القسم الرابع: التلاشي

"تذكّري كوابيسك.
قد تكون هذه الأحلام لطيفة المعشر
لكن الكوابيس تقول الحقيقة.
قدوم الربيع عيد
بعد الليل الطويل القاتم
لكن الحيزبون ليست أقلّ أهميّة من الصبيّة
والقطع ناجع على قدر الوصل

تذكّري..

العتمة البكماء إذ توشك على ابتلاعنا،
ساحرةً كانت أو بحيرةً غميقة
كلا، ليست أمّك
نعم، ستلتهمك

الاختفاء يومًا بعد يوم
وجهك يتحوّل إلى وجهٍ غريب
يداك يدا دميةٍ خزفية
ونظرتهم التي تتحاشاك

الآلاف من القوى تلفّك بإحكام
في حضنها المُغثي
بينما تتمدّدين بلا حراك
لأنك فتاة مطيعة، لا؟

تخشين أن تتذكريهم
ولكن النسيان أفظع."

- تذكّري كوابيسك (“Remember your nightmares”)، لجوانا أبي اللّمع

 

تساعدني الوجهة العلمية على النظر إلى حالتي وفهمها. وبالرغم من علمي بمكامن القصور في أبحاث الصحة النفسية وطبيعتها الميّالة إلى التعامل مع الرغبة في الانتحار كحالةٍ مرضيةٍ، تساهم المعطيات والبيانات في تقليل شعوري بالخجل. أستعين بخبرتي في مجال علم النفس وأروح أعدّد في ذهني جميع العوامل التي تؤثّر فيّ. ثمّة استعداد جيني للانتحار يختلف عن الاستعداد الجيني للاكتئاب (بيرنغ، 2005). وقد أقدم أبي على العديد من محاولات الانتحار خلال فترة حياته. وقد كان لذلك دورٌ غير مباشرٍ في تعجيل موته بداء سرطان الرئة الذي تمكّن من جسده سريعًا كونه خسر جزءًا من رئته بعدما أطلق النار على صدره عندما كان يافعًا. كما أمتلك العديد من الصفات التي تجعلني أكثر عرضةً للانتحار كالمثالية والحساسية ولوم الذات (بيرنغ، 2018). إلى ذلك أعاني من الاكتئاب والقلق ونوبات الهلع (جاميسون، 2000) كما أشتبه في كوني وُلدتُ بتمايزٍ عصبيٍ لم يُشخّص قطّ كما لم يحظَ بالرعاية. وتعزو النظريات تدنّي نسب السيروتونين وارتفاع احتماليات الانتحار إلى التعنيف في سنٍ مبكّرٍ (سولومون، 2000) وقد كانت طفولتي حافلةً بأنواع التعنيف النفسي. كما أعاني أيضًا من عدم القدرة على الاستغراق في النوم والنوم لفتراتٍ طويلة. وقد بيّنت الأبحاث وجود علاقةٍ ما بين اضطرابات النوم ومخاطر الانتحار (بِرنيت وناردوف، 2015؛ ليتلوود وآخرون، 2016؛ ليو وآخرون، 2020). يُضاف إلى ذلك أن الأشخاص الذين يعانون من كثرة الكوابيس، ولا سيّما التي يكونون الضحيّة فيها، هم أكثر عرضةً للهواجس والأفكار الانتحارية. وهذا ينطبق عليّ إذ تراودني حالما أغطّ في النوم مناماتٌ تتضمّن نموذجًا من التعذيب النفسي كأن أجدني مشلولةً وحشراتٌ ضخمةٌ تزحف نحوي أو كأن أقع ضحيّة مخلوقٍ سحريٍ شريرٍ يسيطر على عقلي ويجبرني على إيذاء نفسي والآخرين.

فضلًا عن أنني ثنائية الميول الجنسية وقد أثبتت الأبحاث أن أصحاب الميول الجنسية الأقلّوية أكثر عرضةً للهواجس الانتحارية ومحاولات الانتحار وعمليات الانتحار الناجزة جرّاء التمييز ضدّهم على الصعيدين الشخصي والمؤسّسي (هاس وآخرون، 2011؛ ستاندلي، 2020). وممّا لا شكّ فيه أن عدم قدرتي على الإفصاح عن علاقاتي العاطفية مع النساء في لبنان قد ساهم في تعميق شعوري بالاغتراب في بيئتي. وقد كنت عاطلةً عن العمل أثناء ليالي المعاناة النفسية الحالكة وأواجه صعوباتٍ مالية عدّة، الأمر الذي انعكس تأثيره على علاقتي العاطفية العابرة للمسافة (إذ لم يكن في وسعي تحمّل نفقات تذكرة السفر للزيارة)، وأفتقد لإمكانيات الحصول على الرعاية الصحية النفسية، وكلّ هذه عوامل موثّقة في زيادة معدّلات الرغبة في الانتحار (إليوت وآخرون، 2015). وفوق كلّ هذا، كان غياب الشبكة الثابتة للنقل المشترك في لبنان ولا يزال من العوامل الأساسية في الحدّ من إمكانياتي المهنية وقدرتي على عقد الصداقات، ما يعني انقطاعي عن موارد الدخل والدعم الاجتماعي. كما أن ارتفاع تكلفة خدمات الإنترنت التي تعدّ الأغلى في المنطقة (ياسين، 2020) قد ساهم في تعزيز مخاوفي من عدم القدرة على سداد الفواتير الشهرية وبالتالي انقطاعي الكلي عن التواصل مع الآخرين.

ويؤدّي خذلان الآخرين إلى تأجيج دوافع الانتحار (جوينر، 2005)، وهذا ما حدث لي أثناء ليالي المعاناة النفسية الحالكة. فقد كنت على قناعةٍ بأنني قد خذلتُ كلّ من حوالي جرّاء عجزي عن تنفيذ خططي بمتابعة الدكتوراه في الولايات المتحدة الأميركية. وشعرت بالحرج خصوصًا من الأصدقاء الذين تكرّموا بإعطائي المال كي أسدّد تكاليف التقديم إلى برامج الدكتوراه. لقد كنت مقتنعةً حقًا بأن ما من إنسان أسوأ مني في الوجود. وأخيرًا، تراكمت الخسارات الشخصية والعاطفية بتقاطع حدث وفاة والدي وانتهاء علاقتي العاطفية طويلة الأمد كلاهما في أسبوعٍ واحدٍ، ما دفعني إلى الهاوية، كما يحدث غالبًا في حالاتٍ مماثلةٍ مع الأشخاص المهيّئين للإصابة بالهواجس الانتحارية (جوينر، 2005). فقد برّرت شريكتي رغبتها في الانفصال عني بافتقادها إلى المتعة في علاقتنا. قلت لنفسي: "بالتأكيد. فأنا غارقةٌ في الاكتئاب". كنت أعلم أن رفقتي مغمّة. يميل الأشخاص المكتئبون إلى الإفصاح عن الكثير من أفكارهم السلبية أمام شركائهم الحميمين ما يؤثّر على علاقاتهم (جوينر، 2005). وقد استمعت لأشهرٍ إلى شكواي حيال عجزي عن إيجاد وظيفة ومراقبتي لوالدي وهو يذوب جسديًا ثم ذهنيًا. قلت لنفسي: "لا عجب في أن تكون قد توقّفت عن حبّي". عندما أنظر الآن إلى الوراء، إلى تلك الأيام، أستطيع أن أرى كيف اجتمعت القابلية والأحداث المختلفة في هبوب عاصفة 2017 التي دفعتني إلى شفير الهاوية. ولكنني لم أقفز.

 

القسم الخامس: الضلال في المتاهة

"الشفرات توجعك،
الأنهار رطبة
الأحماض تلطّخك
والعقاقير تسبّب المغص
الأسلحة محظورة
الأنشوطة ترتخي
الغاز كريه الرائحة
يمكنك أيضًا أن تعيش"

- سيرة (“Resume”)، لدوروثي باركر

 

تقدّم نظرية جوينر عن الانتحار (Interpersonal Theory of Suicide) (2005) تفسيرًا لعدم إقدامي على تلك الفقزة. تستند هذه النظرية إلى ثلاثة عوامل: انعدام الشعور بالانتماء وتصوّر الشخص أنه عبءٌ على الآخرين والقدرة على إيذاء الذات. يساهم العاملان الأوّلان اللذان عانيت معهما الأمرّين في تكوّن الهواجس الانتحارية، إلا أن العامل الثالث يجب أن يتوفّر لتحويل نيّة الانتحار إلى محاولةٍ فعليّة. فما إن بدأت أفكّر جدّيًا بالانتحار، وجدتُ أن قتل النفس أمرٌ بالغ الصعوبة. إذ لا يتطلّب الأمر تجاوز الخوف وألم إيذاء الذات فحسب بل يحتاج إلى معرفةٍ تسهّل عمليّة إلحاق الأذى بالذات. وعادةً ما يكتسب الناس الشجاعة والمهارة اللازمتين لأذيّة أنفسهم عن طريق التمرين (إمّا عن طريق الإيذاء الذاتي المتكرّر أو محاولات الانتحار السابقة أو تعرّض الشخص للتعنيف الجسدي). وكلّما تكرّرت محاولات الانتحار كلّما ازدادت خطورتها (جوينر، 2005). مثلًا، حزّ اللحم أصعب ممّا نتخيّل. لننظر إلى ما تقوله بياتريس عن تجربتها:

أعلم الآن أن عملية شقّ رسغيّ ليست بالشاعرية أو السهولة التي كنت أتخيّلها [..]. تباطأ المساء فيما أنا أحاول جاهدةً قطع شراييني العنيدة بينما هي مصرّةٌ على التخثّر. تجلّدتُ وثابرتُ على المحاولة لأكثر من ساعة. كان الصراع مع جسدي لإجباره على الموت غير متوقّعٍ وبعد مجالدةٍ طويلةٍ فقدتُ الوعي. (جوينر، 2005)

في ذلك الوقت، كنت أرى أن الأسوأ من العيش هو محاولة الانتحار الفاشلة. كان ذلك سيسبّب لي الشعور بفقدان السيطرة والذنب حيال تكبيد أمّي مصاريف المستشفى والندوب المحتمَلة أو الإعاقة مدى الحياة، إضافةً إلى تقديمه إثباتًا دامغًا لكل من حولي بأنني "مجنونة". وكنت أفتقد الصفة التي تمكّنني من الإقدام على محاولة الانتحار، ألا وهي الاندفاع (بيرنغ، 2018). لطالما كنت شخصًا مخطّطًا. ولو قُدّر لي لبحثتُ وخطّطتُ لكل أسبوعٍ من حياتي. وقد أنبأني "بحثي" بأنني لا أمتلك المهارة الضرورية لابتكار أساليب مميتة كما لا سبيل عندي لاكتسابها. كم شعرت التماهي مع قصيدة "سيرة" لدوروثي باركر.

أعلم أن هذا الحديث قد يبدو غريبًا بالنسبة إلى شخص لم يمرّ بتجربة الهواجس الانتحارية. وكما يقول وليم ستايرون في مذكّراته العتمة المرئية (“Darkness Visible”)، يجد الأشخاص الصحيحون صعوبةً بالغةً في تخيّل شكلٍ من أشكال العذاب الذي لم يختبروه قطّ. وقد حاول العديد من الكتّاب وصف هذه التجربة باستخدام المجاز. فقد شُبِّه الميل إلى الانتحار بالتواجد في مبنىً يحترق والشعور بالحاجة إلى القفز من النافذة أو "بثعلبٍ أُجبر على الخروج من جحره ليجد نفسه محاصرًا من قطيعٍ كاملٍ من كلاب الصيد وقد أرهقه فلم يعد يقوى على الفرار والاختباء" (بيرنغ، 2018، ص. 124). في محاولاتي السابقة للتعبير عن هذه الحالة، كنت أشبّه الأفكار الانتحارية بالوقوع في متاهةٍ لا سبيل إلى معرفة المخرج منها أو المسافة التي تفصلني عن هذا المخرج أو إن كان موجودًا حقًا. كلّما حاولت الإفلات منها شعرت أنني أدور حول نفسي. أحيانًا أقف بلا حراكٍ أملًا في أن تختفي المتاهة لو توقّفتُ عن الفعل والتفكير وكل شيء. ولكن ذلك لا ينفع. في أحيانٍ أخرى أجدني أتمنّى وجود مخلّص ينتشلني، يرمي إليّ حبلًا أتسلّقه أو خيطًا أتتبعه إلى المخرج كما فعلت أريادني لثيسيوس في متاهة مينوتور. لكن ذلك يتطلّب مني ثقةً بالغةً في الشخص كي أتجرّأ على طلب مساعدته في هذه اللحظات، وحتّى وإن طلبتُ فإن أقصى ما يستطيع أن يقدّمه لي هو القليل من الأمل في أنني سأجد المخرج في نهاية المطاف. التشبيه الآخر الذي أعطيه عن التعايش مع الهواجس الانتحارية المتكررة هو أنني أشعر وكأنني أمضي حياتي وأنا أسير على حافةٍ ضيّقةٍ وأنني عرضةٌ في أي لحظةٍ لنسمة هواءٍ تهبّ فتدفعني عنها. وعندما أغرق في العتمة يُخيّل إليّ أنني لن تمكّن من النهوض أبدًا. وحتّى عندما أنهض، أشعر وكأنني ربحت المعركة ولم أربح الحرب. إنها معركةٌ تليها أخرى وأخرى. أما الحرب فباقية. سأعود إليها حتمًا. وفي أحلك زوايا عقلي أسمع صوته يهمس لي بأن نهايتي مكتوبةٌ عليّ وأنني لا أفعل شيئًا سوى تأجيل ما هو محتوم. أحيانًا أشعر أنني أسير ببطءٍ نحو تلك النهاية، وأحيانًا أركض بأقصى سرعتي، ولكن الوجهة هي ذاتها. عندما كنتُ في العشرين من عمري، كنت أمثّل دورًا في مسرحيّةٍ وحينها قال لي مساعد المخرج في لحظة إحباط حيال "مرارتي": "سوف تموتين انتحارًا". أشكّ في أنه كان يعرف أن كلماته وقعت عليّ كالنبوءة، وأنها تردّدت مرارًا ومرارًا في رأسي على امتداد السنوات. ولكن ذلك يحدث عندما أدخل في العتمة. وعندما أخرج مجدّدًا أقول لنفسي إن الخيار لي وإنه كلّما أمعن الناس في القول أنني انتهيت ازداد إصراري على النضال من أجل إثبات خطئهم.

 

القسم السادس: صلات وانقطاعات

"قال العجوز: العقل، إذا جُنَّ واهتاجَ، خطِر. كيف يحور ويدور حول ذات الشيء اللعين. ذاك الشعور بأنكِ مُكبّلةٌ، بأنكِ تكتمين كلّ شيء بداخلك. ما هو ذلك الشيء الاستثنائي الذي يدير تروس تلك الماكينة، يشلّ الاندفاع، يخنق الأفكار؟ شيء يتسلّل، ينزلق، ينقضّ،
يلجم كل صميمٍ، يقهقركِ ويقلّصكِ، إلى
حجمٍ ضئيل، إلى شيءٍ هزيلٍ، قليل الحيلة. وفيما تمتثلين لسيناريو قد عفا عليه الزمن،
تختبئين رغم يقينكِ بأن لا شيء يترصّدكِ، تصبحين الفتاة مبتورة اليدين التي قطعت
ذراعيها. يا للهدوء، يقولون. وكم تتمنين لو تثبتين لهم العكس.
لا شفاه مخيَّطة، لا جدعة. "أترون، ذلك الشي. إنه هو. لا يدعني.
أودّ لو أقطعه، لو أطفئه، أي شيء يفي بالغرض. أفعله".
ولكنّه يسحب،
يهمس، يخالب، يُغرقكِ في ذاتك، يحذّر، يتوسّل: "أنا وحدي
أحميكِ". وقد حماكِ. ساعدكِ. لكن، المسألة هي أنكِ بحاجة
إلى استعادة أنفاسكِ، للإفلات من هذا الإثم – القبضة، ولكن العقل
يتذكّر جيّدًا. ينبض نعم ولا، لا ونعم، خطِر هو."

- عقل (“A Mind”)، لجوانا أبي اللّمع

 

تنبئني تجربتي بأن الانتحار على صلة بالقلق أكثر منه بالاكتئاب. وبحسب سولومون فإنه صنيع العقل المعذّب لا المخدّر (2001). وهنالك دلائل على أن الحالات المختلطة (الاضطراب والاكتئاب) ونوبات الهلع تزيد من احتمالات الإقدام على الانتحار (جاميسون، 2000). نوبات الهلع التي عشتُها كانت من أسوأ صنوف العذاب الممكن تخيّلها. أجدني عالقةً في حالةٍ من الرعب المطلق قد تمتدّ لساعات. في هذه الأثناء، أبذل أي شيء كي أضع لها حدًا. تمامًا كما تصف آن سيكستون حالتها: "أذرع الغرفة جيئةً وذهابًا وكأنني نمرٌ في قفص" (جاميسون، 2000، ص. 112). لا مقدار من التسلية أو التأمّل أو مهارات العلاج السلوكي المعرفي أو العلاج السلوكي الجدلي يكفي لطرد هذا الشيطان. يربض على صدري ويسحق قلبي بين مخالبه. أعتقد أن كثيرًا من الكتابات عن الاكتئاب تعرّج على سماتٍ من نوبات الهلع. على سبيل المثال، كتبت فرجينيا وولف: "آه، ها هي بدايته تقترب – يا للهول – من جسدي كموجة ألم تعتمل في القلب وتقذفني إلى أعلى. أنا تعيسة، تعيسة! [..] هل تنتاب هذه الحالة كل الناس؟ لماذا أفتقر إلى القدرة على السيطرة؟" (سولومون، 2001، ص. 439-440). موجة الألم هي نذير بداية نوبة الهلع عندي. قد يشعرني الاكتئاب بالخدر أو عدم الاندفاع لكن نوبات الهلع تبرّحني. لا يعود للوقت أي أهميّة. وعلى حدّ وصف جاميسون: "لا يمكن فصل المستقبل عن الحاضر، والحاضر أليم لا ينفع معه أي نوعٍ من العزاء" (2000، ص.94). بإمكاننا التعايش مع آلامٍ تفوق قدرتنا على تخيّلها إن كنّا واثقين أنها ستزول في نهاية المطاف، لكن عقلية المنتحر لا تدرك هذا النوع من المعرفة. المضحك في الأمر أن أكثر المواقف التي ساعدتني كانت من أحد الأصدقاء الذي وبدلًا من محاولة إقناعي بالبقاء على قيد الحياة، راح يذكّرني بأن الانتحار خيارٌ متوفّرٌ دومًا. يمكنني أن أقتل نفسي الشهر المقبل. وقد أعانني ذلك على الاستمرار. وأثنى على هذه النصيحة الباحث في السلوكيات الانتحارية روي باومايستر (بيرنغ، 2018).

لطالما شعرت بالغربة جرّاء تجربتي مع الهواجس الانتحارية. وبالنظر إلى أن قلّةً من الناس تُفصح عن هذه الهواجس، فقد يخيّل للمرء أنه وحده الذي يعاني منها. ولكنني في سياق بحثي الخاص بهذه الورقة، وجدتُ أن نسبة 16% من المراهقين/ات اللبنانيين/ات و14% من طلّاب الجامعة الأميركية في بيروت ممّن تتراوح أعمارهم/ن بين 16 و19 عامُا قد فكّروا/ن جدّيًا بالانتحار (محفوض وآخرون، 2011؛ شدياق-رزق الله وآخرون، 2001). وغالبًا ما تعمد الأسر في لبنان إلى إخفاء حالات الانتحار نتيجة الوصم الاجتماعي والإدانة الدينية التي تصل إلى حدّ الحرمان من الدفن وفق الشعائر الدينية من قبل بعض رجال الدين والمخاوف الاقتصادية الناجمة عن امتناع شركات التأمين الصحي والتأمين على الحياة عن تغطية حالات الاستشفاء أو تعويضات الوفاة في حالات الانتحار (بو خليل، 2019). وقد ارتفعت نسب الانتحار بين اللبنانيين في السنتين الأخيرتين على وجه الخصوص مع تدهور صحتهم النفسية بفعل تراكم الأزمات: موجة الاحتجاجات العارمة ضد النظام السياسي التي توقّفت بسبب إجراءات الحجر الصحي الإلزامي على خلفيّة انتشار وباء كوفيد-19، وانفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس 2020 الذي يُعدّ أضخم انفجار غير نووي في القرن الحادي والعشرين وأسفر عن خسائر في الأرواح والمنازل، وأزمة اقتصادية زادت من أعداد المواطنين الرازحين تحت خط الفقر بصورة جذرية (فرّان، 2021). يتضّح أن الرغبة في الانتحار ليست ظاهرةً نادرةً كما كنت أظن. مهمٌ أن نطرح هذه المسألة مع الآخرين. لا أعرف متى يكون الشخص الآخر واقعًا تحت وطأة معاناةٍ شبيهةٍ بمعاناتي وآمل أن تساهم مشاركتي في تقليل شعوره بالوحدة أو الخجل.

للأسف، نلتُ نصيبي من الردود غير المتعاطفة. ثمة ثلاث توكيدات أجدها باعثةً على الاضطراب تُصفع في وجه الأشخاص الميّالين إلى الانتحار. فهنالك أوّلًا ذلك الشعار المبتذَل "فكّري بإيجابية!". لو كان عقلي يعمل بهذه الطريقة لما وجدتُ نفسي أعاني من هذه المعضلة، أليس كذلك؟ وثانيًا، يُتّهَم الأشخاص الميّالون إلى الانتحار "بالأنانية" و"الجبن". أودّ أن أقول لهؤلاء: "من الواضح أنكم لا تعرفون مطلقًا معنى أن يؤمن المرء بكلّ جوارحه أن حياة الجميع ستكون أفضل من دونه. وهذا نقيض الأنانية لأنّكِ عندما تقعين في دوّامة التفكير بالانتحار، فإنكِ تعتقدين وبكلّ صدقٍ أنكِ سوف تسدين الجميع خدمةً بانسحابكِ من حياتهم وإعفائهم من وجودكِ المقيت". وكما تصف كاي رِدفيلد جاميسون تجربتها: "كنتُ أعلم أن حياتي مدمّرة واعتقدتُ بصورة قاطعة أن عائلتي وأصدقائي ومرضاي سيكونون بحالٍ أفضل من دوني. بكل الأحوال، لم يتبقّ منّي سوى القليل، وفكّرتُ في أنّ موتي سيوفّر الطاقات والجهود المبدّدة، عن حسن نيّة، لأهداف عقيمة" (جاميسون، 2000، ص. 300). ناهيك عن أن نظرية جوينر عن الانتحار (2005) تُبيّن أن محاولات الانتحار لا تتمّ إلًا في لحظات من الشجاعة. فإيذاء الذات عمدًا ليس وحده الذي يتطلّب مقدارًا كافيًا من الشجاعة، بل أيضًا الالتزام بقرار الخوض في المجهول بلا معرفةٍ حقيقيةٍ بما سيحدث على المقلب الآخر (لا أحد يملك الجزم في مسألة الحياة الآخرة أو التلاشي في النسيان). ليس المقصود هنا تمجيد الانتحار. بل هو نهايةٌ مأساويةٌ بأي حالٍ من الأحوال. ولكن الغضب الذي يعتري الناس حيال الانتحار ليس في محلّه. وهو نابعٌ من النزعة عينها التي تدفعنا إلى إشاحة وجهنا عن الأحداث المأساوية. إذ لا رغبة لدينا باستيعاب حقيقة أن كل ذلك ممكنٌ، وأنه قد يحدث لنا. الأفضل أن نحيد ناظرينا عنه.

أمّا الاتهام الأخير الذي تلقّيته فهو أنني متعلّقة بحالة البؤس التي أعيشها وأنني مُستمتعةٌ بشعور "الاختلاف". نعم لا شكّ أن انتحار الإناث عرضةٌ للرمنسة، كما تحدّثتُ سابقًا. ولكن في رأيي أن هذه الرمنسة تمنح أمثالي ممّن يعانون من الرغبة في الانتحار وسيلةً للتكيّف. فعندما يقع المرء أسير الأفكار المظلمة، قد يقنع نفسه بأنها تجعله أكثر عمقًا أو إبداعًا، لأن البديل عن ذلك هو التفكير بأنه يعيش حجيمًا لا مبرّر له سوى الجينات والحظ العاثر. وهذه حقيقةٌ لا طاقة لأحدٍ على احتمالها. لا أحد يختار أن يكون بهذا الشكل. لا أحد يكبر قائلًا لنفسه: "آه، يا ليتني أعيش حياةً من الصراع الداخلي المتواصل، حيث كل شيء يبدو أصعب بمائة مرّة وحيث يتطلّب النهوض من السرير قوة الإرادة التي يحتاجها الآخرون ليركضوا الماراثون". إذًا، فتصوير الانتحار في إطارٍ شاعريٍ، مثلما تزيّنه وسائل الإعلام والروايات والفنون، يجعله يبدو كخيار سائغ للعديد من الناس.

 

القسم السابع: حسم

"من الرماد
أنهض بشعري الأحمر
وألتهم الرجال كالهواء"

- السيدة أليعازر (“Lady Lazarus”)، لسيلفيا بلاث

 

في أسوأ نوباتي في العام 2017، توسّلتُ إلى طبيبتي النفسية أن تدخلني إلى المستشفى. لم أكن واثقةً في أنني لن أقوم بفعلٍ سأندم عليه. أخبرتني أن لا أسرّة شاغرة في المستشفى. ما يغيظني في الأفلام والبرامج التلفزيونية عن الاكتئاب والرغبة في الانتحار أن العقدة الأساسية تكمن دائمًا في إقناع البطل/ة بزيارة المعالج النفسي. وما إن يتمّ ذلك حتى تلوح النهاية السعيدة في الأفق. إلا أنا. فقد كان اكتئابي، كما هي الحال مع الكاتب وليم ستايرون، مضادًا للعلاج النفسي والعقاقير (1992). بينما كانت رغبة الانتحار تراودني بإلحاحٍ ليلًا ونهارًا، كنت في صدد تناول عقارٍ ثالثٍ مضادٍ للاكتئاب وزيارة خامس معالجٍ نفسي. كنت قد بلغتُ مرحلة لم أعد أقوى فيها على النوم أو تناول الطعام. وكنت بدأت أعاني من رجفة متواصلة. والألم في صدري لا يسكن، فقط يتفاوت حدّةً. كنت في حاجةٍ ماسّةٍ إلى مهرب. وكان التعافي بطيئًا وشاقًا. وتطلّب منّي الاعتماد على والدتي وأصدقائي إلى حدّ شعرت معه بالحرج والارتباك. تراجعت الأفكار الانتحارية تدريجيًا ولكنها لم تختفِ بالكامل. أما اليوم الذي قرّرتُ فيه أخيرًا أنني أريد التمسّك بالحياة فقد كان يوم تبنّيتُ قطّي "والدو". كنت أعلم أن إقدامي على هكذا خطوة هو بمثابة التزامٍ لا سبيل إلى التنصّل منه. قطعتُ وعدًا. تساعد الحيوانات الأليفة غالبًا في الحماية من النزعات الانتحارية (لوف، 2021). هذه الأيّام، أسند رأسي برفق إلى بطن "والدو" وأستمع إلى خرخرته كلّما أصابتني نوبة من نوبات الهلع. أجد في ذلك عزاءً أكبر من أي شيءٍ آخر. كما بدأت أتقبّل جانبي المظلم، تلك النزعة للانتحار التي تتسلّل بعيدًا في العتمة، في انتظار أن تطلّ برأسها مع لحظة انتكاسةٍ شديدة. وكما يقول سولومون فإن "الانتحار هو الثمن الذي يدفعه البشر مقابل إدراك الوعي بالذات" (2001، ص.412). على حدّ علمنا، وحدنا نحن البشر، دون بقية المخلوقات، ندرك أننا فانون. وقد يبعثنا ذلك على الرغبة في استعجال موتنا، ولكنّه أيضًا تذكير لنا بأنّنا هنا لمجرّد لحظة خاطفة في تاريخ الكون فالأجدر بنا أن نحياها.

 

  • 1. عمليةٌ جراحيةٌ لقطع الاتصال بين الفص المخي الجبهي وباقي المخ. أُجريت للمرة الأولى عام 1935 اعتقادًا في فعاليتها في علاج الوسواس القهري والفصام والاكتئاب. أودت العملية إلى انتحار العديد ممن خضعوا لها بعد معاناة من اضطراباتٍ سلوكيةٍ حادة، فضلًا عن الوفيات والإعاقات الجسمانية الناتجة عن تلف المخ. مُنعت عمليات الفص الجبهي في الاتحاد السوفياتي عام 1950 قبل أن تُمنع حول العالم بحلول العام 1970. (المترجم)
ملحوظات: 
المراجع: 

Bering, J. (2018). A very human ending: How suicide haunts our species. London: Transworld publishers.

Bernert, R. A., & Nadorff, M. R. (2015). Sleep disturbances and suicide risk. Sleep Medicine Clinics, 10(1), 35-39. doi:10.1016/j.jsmc.2014.11.004

Bizri, M., Zeinoun, L., Mihailescu, A. M., Daher, M., Atoui, M., Chammay, R., & Nahas, Z. (2021). A closer look at patterns and characteristics of suicide in Lebanon: A first nationwide report of cases from 2008 to 2018. Asian Journal of Psychiatry, 59. doi:10.1016/j.ajp.2021.102635

Bou Khalil, R. (2019). The psychological wellbeing of the Lebanese society lies between incremental suicide rates and financial stress. Asian Journal of Psychiatry, 43, A1-A2. doi:10.1016/j.ajp.2019.07.032

Copeland, W. E. (2020). Editorial: One reason why not. Journal of the American Academy of Child and Adolescent Psychiatry, 59(2), 216. doi:10.1016/j.jaac.2019.09.025

El Majzoub, I., El Khuri, C., Hajjar, K., Bou Chebl, R., Talih, F., Makki, M., & Abou Dagher, G. (2018). Characteristics of patients presenting post-suicide attempt to an academic medical center emergency department in Lebanon. Annals of General Psychiatry, 17(1), 21. doi:10.1186/s12991-018-0191-5

Elliott, M., Naphan, D. E., & Kohlenberg, B. L. (2015). Suicidal behavior during economic hard times. The International Journal of Social Psychiatry, 61(5), 492. doi:10.1177/0020764014556391

Farran, N. (2021). Mental health in Lebanon: tomorrow's silent epidemic. Mental Health & Prevention, 24. https://doi.org/10.1016/j.mhp.2021.200218.

Haas, A. P., Eliason, M., Mays, V. M., Mathy, R. M., Cochran, S. D., D'Augelli, A.,R., & Clayton, P. J. (2011). Suicide and suicide risk in lesbian, gay, bisexual, and transgender populations: Review and recommendations. Journal of Homosexuality, 58(1), 10. doi:10.1080/00918369.2011.534038

Higonnet, M. (1985). Suicide: Representations of the feminine in the nineteenth century. Poetics Today, 6(1/2), 103-118. doi.org/10.2307/1772124

Hong, V., Ewell Foster, C.,J., Magness, C. S., Mcguire, T. C., Smith, P. K., & King, C. A. (2019). 13 reasons why: Viewing patterns and perceived impact among youths at risk of suicide. Psychiatric Services (Washington, D.C.), 70(2), 107. doi:10.1176/appi.ps.201800384

Jamison, K. R. (2000). Night falls fast: Understanding suicide (1st ed.). New York: Vintage Books.

Jamison, L. (2019, November 7). Cult of the literary sad woman. The New York Times. Retrieved from https://www.nytimes.com/2019/11/07/books/review/leslie-jamison-sylvia-plath-joan-didion-jean-rhys.html

Joiner, T. E. (2005). Why people die by suicide. Cambridge, Mass: Harvard University Press.

Lazkani, S. (2020). Alarming increase of suicides in lebanon. 961. Retrieved from https://www.the961.com/increase-suicides-lebanon/

Littlewood, D. L., Gooding, P., Kyle, S. D., Pratt, D., & Peters, S. (2016). Understanding the role of sleep in suicide risk: Qualitative interview study. British Medical Journal, 6(8). doi:10.1136/bmjopen-2016-012113

Liu, R. T., Steele, S. J., Hamilton, J. L., Do, Q. B. P., Furbish, K., Burke, T. A., & Gerlus, N. (2020). Sleep and suicide: A systematic review and meta-analysis of longitudinal studies. Clinical Psychology Review, 81. doi:10.1016/j.cpr.2020.101895

Love, H. A. (2021). Best friends come in all breeds: The role of pets in suicidality. Anthrozoös, 34(2), 175-186. doi:10.1080/08927936.2021.1885144

Mahfoud, Z. R., Afifi, R. A., Haddad, P. H., & Dejong, J. (2011). Prevalence and determinants of suicide ideation among Lebanese adolescents: Results of the GSHS Lebanon 2005. Journal of Adolescence, 34(2), 379-384. doi:10.1016/j.adolescence.2010.03.009

McKay, K., Maple, M. (2013). Bella’s passion: Romanticising suicide and demonising sex in twilight. Searching for words: How can we tell our stories of suicide. Leiden: Brill, 59-71. doi.org/10.1163/9781848882195_007

Mehran, A. & Vice staff. (2013). "Last words": A statement from VICE. Vice. Retrieved from https://www.vice.com/en/article/qbw77b/last-words-000741-v20n6

Mueller, A. S., Abrutyn, S., Pescosolido, B., & Diefendorf, S. (2021). The social roots of suicide: Theorizing how the external social world matters to suicide and suicide prevention. Frontiers in Psychology, 12. doi:10.3389/fpsyg.2021.621569

Mulhall, B. (2017). The romanticization of the dead female body in victorian

and contemporary culture. Aisthesis, 8.

Parker, D. (2006). Resumé. The poetry foundation. Retrieved from https://www.poetryfoundation.org/poems/44835/resume-56d2241505225

Patnoe, E. (1997). Fiction, reality, and female suicide. Doctoral dissertation, Ohio state University. Retrieved from https://etd.ohiolink.edu/apexprod/rws_etd/send_file/send?accession=osu1487945015619031&disposition=inline

Plath, S. (2021). Lady Lazarus. The poetry foundation. Retrieved from https://www.poetryfoundation.org/poems/49000/lady-lazarus

Reidenberg, D., Niederkrotenthaler, T., Sinyor, M., Bridge, J. A., & Till, B. (2020). 13 reasons why: The evidence is in and cannot be ignored. Journal of the American Academy of Child and Adolescent Psychiatry, 59(9), 1016-1018. doi:10.1016/j.jaac.2020.01.019

Richa, S., & Richa, N. (2015). Pigeon cave: A legendary place of suicide in Lebanon. The American Journal of Psychiatry, 172(1), 16. doi:10.1176/appi.ajp.2014.14091134

Sauers, J. (2013). Vice published a fashion spread of female writer suicides. Jezebel. Retrieved from https://jezebel.com/vice-published-a-fashion-spread-of-female-writer-suicid-513888861

Scull, A. (2012). Hysteria: The disturbing history. Oxford: Oxford University Press.

Scalvini, M. (2020). 13 reasons why: Can a TV show about suicide be “dangerous”? what are the moral obligations of a producer? Media, Culture & Society, 42(7-8), 1564-1574. doi:10.1177/0163443720932502

Seeman, M. (2017). The Marilyn Monroe group and the Werther effect. Case Reports Journal, 1(1).

Sexton, A. (n.d.) Wanting to die. Academy of American Poets. Retrieved from https://poets.org/poem/wanting-die

Shaw, C., & Proctor, G. (2005). Women at the margins: A critique of the diagnosis of borderline personality disorder. Feminism & Psychology, 15(4), 483-490. doi:10.1177/0959-353505057620

Shediac-Rizkallah, M. C., Afifi Soweid, R. A., Farhat, T. M., & Yeretzian, J. (2001). Adolescent health-related behaviors in postwar Lebanon: findings among students at the American University of Beirut. International Quarterly of Community Health Education, 20, 115-131.

Solomon, A. (2001). The noonday demon: An atlas of depression. New York: Scribner.

St. Vincent Millay, E. (2012). “I know a hundred ways to die.” The Finding Place. Retrieved from https://thefindingplace.wordpress.com/2012/01/05/i-know-a-hundred-ways-to-die-by-edna-st-vincent-millay/

Standley, C. J. (2020). Expanding our paradigms: Intersectional and socioecological approaches to suicide prevention. Null, 1-9. doi:10.1080/07481187.2020.1725934

Styron, W. (1992). Darkness visible: A memoir of madness (1st ed.). New York, N.Y: Vintage Books.

Tone, A., & Koziol, M. (2018). (F)ailing women in psychiatry: Lessons from a painful past. Canadian Medical Association Journal (CMAJ), 190(20), E624-E625. doi:10.1503/cmaj.171277

Ussher, J. (2011). The madness of women: Myth and experience. London and New York: Routledge.

Weinstein, A., & Dannon, P. (2015). Is impulsivity a male trait rather than female trait? Exploring the sex difference in impulsivity. Current Behavioral Neuroscience Reports, 2(1), 9-14. doi:10.1007/s40473-015-0031-8

Weissman, M. M., Bland, R. C., Canino, G. J., Greenwald, S., Hwu, H., Joyce, P. R., & Yeh, E. K. (1999). Prevalence of suicide ideation and suicide attempts in nine countries. Psychological Medicine, 29(1), 9-17. doi:10.1017/S0033291798007867

Yassine, H. (2020). Lebanon just ranked 60th most internet-connected country in the world. 961. Retrieved from https://www.the961.com/lebanon-ranked-60th-most-internet-connected/

Zahl, D. L., & Hawton, K. (2004). Media influences on suicidal behaviour: An interview study of young people. Behavioural and Cognitive Psychotherapy, 32(2), 189-198. doi:10.1017/S1352465804001195