يوم الإثنين، تبدأ حياتي الجديدة

السيرة: 

موهيرا سوياركولفا باحثة وناشطة نسوية كويرية تعيش وتعمل في بيشكيك، قرغيزستان. تُدرّس موهيرا دورات جامعية تتناول موضوعات الجندر والجنس والسعادة والنظرية النقدية في جامعة آسيا الوسطى الأمريكية. سبق ونشرت مهيرة أعمالا لها في مجلة كحل. في الآونة الأخيرة ، شاركت موهيرا في تأليف "كتاب عن سعادة الأشخاص اليافعين (وغير اليافعين) لمجتمع الميم (دون الحصر)" مع زميليها ورفيقيها نينا باجداساروفا وجورجي ماميدوف. نُشرت هذه القصة في الأصل باللغة الروسية ضمن مجموعة قصص الخيال العلمي النسوية والكويرية بعنوان "مُغايرٌ تمامًا" من تحرير أكسانا شاتالفا وجيورجي ماميداف وذلك ضمن منشورات ستاب بريس (STAB press) في بيشكيك عام 2018. تُرجمت القصّة لاحقًا إلى الإنجليزية في لندن.

 
شكر‬ ‫واعتراف‬: 

ترجمها سامويل هوف من الروسية إلى الإنكليزية وحرّرتها المؤلّفة.

اقتباس: 
موهيرا سوياركولوفا. "يوم الإثنين، تبدأ حياتي الجديدة". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 7 عدد 3 (10 ديسمبر 2021): ص. 2-2. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 21 ديسمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/329.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
ترجمة: 

هبة عباني هي باحثة ومترجمة وكاتبة تعيش في بيروت، درست الصحافة في الجامعة اللبنانية، وعملت في مجال حقوق الأفراد غير المنضبطين جندريا والنساء. تهتم في كتاباتها وأبحاثها بالقضايا التي تندرج ضمن هذه العناوين.

Mohira_Suyarkulova_cover_ar

موهيرا سوياركولوفا

انتهى الدكتور ’أو‘ للتوّ من تقديم تقريره إلى جامعة وايتهول المرموقة على الساحل الغربي. عرض في خطابه نتائج أبحاثه الثورية في مجال الأحياء التجدّدية بمزيج من الثقة والكياسة. عندما خفّ التصفيق، التفت بروفيسور إلى آخر، ولقي ’أو‘ العميد ذو الشعر الشائب يشيد بالتقرير، وكيف أنّ "شغل ’أو‘ أفضل بكثير من شقيقته".

 لكن الدكتور ’أو‘ لم يكن له أختًا. في الواقع، إن الشخص الذي يقصده البروفيسور هو ’أو‘ نفسه، أو ’أو‘ منذ بضعة سنوات - نفس الشخص يقوم بنفس العمل. أمّا هذه المرّة، أحسّ ’أو‘ أن كلامه مسموع، ومأخوذ على محمل الجدّ، وأن جسده ليس موضوع النظرات التقييمية من زملائه. لم يعد أحد يرى هوسه بالشغل أو منظره المبعثر قليلًا أو حسّه الفكاهي الجاف أو ارتباكه كعيوب أو نواقص، بل سمات شخصية ساحرة.

لم تكن الأمور هكذا دائمًا. لم يولد ’أو‘ رجلًا، بل أصبح كذلك منذ أربع سنوات، في ظروف غريبة وغامضة.

 

***

 

استيقظ ’أو‘ في مكان غير مألوف على صوت غصن بلّوط يطرق النافذة. السماء تمطر، والغرفة حيث وجد ’أو‘ نفسه كئيبة وباردة. حاول/ت ’أو‘ تحريك جسده/ا المخدّر، فخدشته الأربطة في مؤخرة رداء المستشفى الورقي. تمدّد/ت ونهض/ت عن السرير، ناظرًا/ة حوله/ها. نعم، لا بدّ أنها مستشفى. انتابه/ا شعور رائع، هو/هي مرتاح/ة مليئ/ة بالطاقة والصفاء الذهني. بدأ/ت ’أو‘ بالكشف على جسده/ا وهو/هي تحاول تذكّر سبب دخول المستشفى. الذراعان قويّتان كالعادة، والأظافر قصيرة. أمّا الرجلان، فما تزالان نحيفتين بشكل مزعج. نزع/ت عنه/ا رداء المستشفى واقترب/ت من مرآة على الحائط فوق الحوض. وقف/ت ’أو‘ عاريًا/ة أمام المرآة وتفحصّ/ت صورته/ا بعناية - نظرت إليها ذات العينين الزرقاوين كزهرة الذرة، والوجه النكد قليلًا يعلوه شعر أسود قصير. لم يكن لهذا الجسد منحنيات تُذكر، بل كان باهتًا ونحيفًا. ولكن، من دون شك، لقد تحوّل/ت ’أو‘ إلى رجل!

يتّضح لاحقًا أن ’أو‘ وصل/ت إلى المستشفى بعد هروبه/ا من احتفال بالحصول على منحة بحثية لمشروع علمي، ثم اختفى/ت. بعد تغيّبه/ا عن العمل وعدم الرد على الرسائل لمدّة ثلاثة أيّام، قلقت عليه/ا زميلته/ا ’ساشا‘ فأبلغت الشرطة، التي سرعان ما اقتحمت الشقة ووجدت ’أو‘ ملقيّاً/ة على السرير فاقدًا/ة الوعي. لكن حياته/ا لم تكن في خطر وشيك، رغم البطء في التنفّس وضربات القلب. استيقظ/ت ’أو‘ في اليوم الثامن - الإثنين بجسد رجل. لم يكن التحوّل مؤلمًا، لكنه كامل، ويبدو أن لا رجعة عنه.

 

 

كانت ساشا ملهية بتصفّح الأخبار على موقع BestLook عندما صادفت عنوانًا يقول: "العائلة: كيف تهدّد "متلازمة التجدّد البشري العفوي" حقوق الإنسان". نقرت على الرابط وواصلت القراءة: "من دون شك، هناك تأثير محدّد للعوامل الوراثية على الهوية البشرية، سواء من حيث النوع الاجتماعي أو الجنسانية أو العرق أو الصحة. تتأكد هذه الصفات في مرحلة التطوّر داخل الرحم، لكن لسوء الحظ، فإن الفكرة القديمة التي تقول إن الهوية مسألة اختيار حرّ - أي أننا أحرار في انتقاء جنسنا أو نوعنا الاجتماعي أو أي صفات بيولوجية أخرى - لا تزال إشكالية. إن الذي يدافع عن خيار التعايش مع "متلازمة التجدّد البشري العفوي" يشوّه فكرة التعريف الذاتي والنضال لحقوق الأقليات، ويسير بشكل أعمى خلف اتجاهات فكرية من دون أدنى معرفة بما يعنيه أن تكون اجتماعيًا على الهامش، فليس خونة الجينوم سوى مجموعة من المحتالين الذين يستحوذون على ثقافة أجنبية للاستمتاع بفوائدها".

كان المقال منشورًا في مجلّة تقدّمية باسم الناشطة المعروفة ألما أبلتون، مما صدم ساشا. كانت معتادة على اعتراضات من منظمات مثل "جمعية حماية الإنسانية من الانحطاط"، وأخبار الطوائف مثل "الموت على الحياة"، لكن هذا النص جاء بقلم شخص اعتبراه هي و’أو‘ رفيقًا وحليفًا. استرجعت ساشا الأشهر القليلة الأولى بعد أول تجدد حصل لـ’أو‘.

أصبح تحوّل ’أو‘ موضع اهتمام استقصائي ونقاشات مستمرة في الأوساط الطبية والعلمية، فقامت المناظرات بين أعظم الشخصيات في مجالات علم الأحياء وعلم وظائف الأعضاء وعلم النفس حول سبب وطبيعة هذا التحوّل في منتديات ومؤتمرات عدّة. وبما أن هذا التبدّل العفوي للجنس كان يُعتبر مخالفًا للطبيعة، أصرّ البعض على أن ’أو‘ كان رجلاً منذ البداية، وحاججهم خصومهم بأن ’أو‘ ما تزال امرأة.

في المقلب الآخر لهذه المناقشات، أصرّت العناصر التقدمية في المجتمع العلمي على أن هذا التبدّل لا يخالف الطبيعة، مشيرة إلى حالات مماثلة في مملكة الحيوان، وحتى بين بشر آخرين. كدليل على ذلك، كثيرًا ما يسمع المرء قصصًا عن مجتمعات منعزلة في بابوا غينيا الجديدة وجمهورية الدومينيكان، حيث، نتيجة لطفرة جينية نادرة، تصبح واحدة من كل تسعين فتاة صبيًا بشكل تلقائي (أي ينمو لها قضيبًا) خلال فترة البلوغ. ومع ذلك، ونظرًا لأن ’أو‘ اعتُبرت امرأة لعدّة سنوات بعد البلوغ، ظلت حالته/ا فريدة من نوعها.

أخضع علماء الفسيولوجيا العصبية وعلماء النفس ’أو‘ لعدد كبير من الاختبارات والتحرّيات. بعد القيام بمسح لدماغ ’أو‘، اقترح الأستاذ شاندرا فرضية مثيرة للاهتمام تتوافق مع أحدث النتائج في دراسات التحوّل الجنسي. اقترح شاندرا أن قشرة دماغ ’أو‘ تحتوي على صورة للقضيب وليس لثديي الإناث (أي، أن ’أو‘ لم يتعرّف عليها كعضو خاص به وأراد التخلّص منها). لذلك، تمّ تفسير تحوّل ’أو‘ على أنه نفسي جسدي. لكن الفرضية لم تُثبت.

أما الطبيب الذي أحيل/ة إليه/ا ’أو‘ فطلب الإجابة على 650 سؤال، منها ما يلي:

 

هل تتخيّل/ين نفسك أحيانًا كمغنّي/ة أو ممثّل/ة؟

هل تحبّ/ين قراءة مجلات علمية شهيرة عن التكنولوجيا؟

هل تحبّ/ين الشعر؟

هل تحبّ/ين جمع الزهور وزراعة النباتات المنزلية؟

هل تحبّ/ين الطبخ؟

هل سبق لك أن احتفظت بمذكرات بشكل منتظم؟

هل تبكي/ن بسهولة؟

لو كنت صحفياً/ة، هل تغطي/ن الرياضة؟

هل تحبّ/ين الأطفال؟

هل تعتقد/ين أن الحكايات الخرافية تحمل معاني عميقة وخفيّة؟

لو كنت فنّاناً/ة هل كنت لترسم/ين الزهور؟

 

 

وفق مقياس الذكورة والأنوثة هذا، حاول علماء النفس تحديد جنس ’أو‘، لكنهم فشلوا. أمّا غياب "السمات الأنثوية مثل الغنج والوداعة في التواصل والدبلوماسية في الاتصالات الشخصية" ووجود "السلوكيات التي غالبًا ما توجد في الرجال" فقد جعلت العلماء يقررون، في المحصلة، أن ’أو‘ رجل وليس امرأة. وبعد القيام بإجراءات بيروقراطية طويلة، حصل "أو" على وثيقة خاصة تؤكد "هويته".

***

لكن لم يهتمّ أحد بأخذ رأي ’أو‘، الذي/التي لم ي/تشعر باختلاف في الشخصية رغم التغيير الجسدي الواضح، وقد كان/ت ت/يجد نفسه/ا غالبًا في مواقف محرجة - عند الحاجة لاستخدام الحمّام مثلًا، وهو أمر معتاد منذ قبل التحوّل بسبب عدم التزام ’أو‘ أبدًا بأي توقعات حول كيف "يجب أن تبدو" المرأة. وهكذا، بعد التغيير من رداء المستشفى إلى القميص والجينز المعتاد، عاد/ت ’أو‘ إلى الحياة الطبيعية.

"لدي إحساس بهيج بالحرية التامّة،" قال/ت ’أو‘ لساشا. "يمكنني التجوال في الشوارع ضائعًا/ة في التفكير في العمل، من دون أن أخاف من العتمة أو من مقابلة ذلك المغفّل أمام محطة المترو الذي اعتاد التلويح بقضيبه أمامي. لا أحد يهتم أين أذهب، لا يسألني أحد أن أبتسم، ولا يشعر أحد بالفضول بشأن حالتي الاجتماعية، أو يعرض مرافقتي في الطريق إلى البيت".

"طبعًا! كما أن المدير يثني عليك في العمل وحصلت على ترقية ويمكنك كسب 30 بالمئة أكثر منيّ!"، ردّت ساشا بمرارة.

"أوافق، إن معاملتي بشكل مختلف، رغم أنني ما زلت الشخص ذاته، وعدم الاعتراف بإنجازاتك، أمر يثير الاشمئزاز".

"أعتقد أنه يمكننا تحويل هذا الوضع لمصلحتنا. لماذا لا نجري ذلك الحديث مع الإدارة حول المساواة في الأجر؟ وإجازة أمومة وأبوّة مدفوعة لمدّة عام، وساعات عمل مرنة، وتمويل لروضة الأطفال؟ هذه الأشياء لن تضرّ. للأسف من المرجّح أن يسمعوا منك الآن أكثر من الوقت الذي كنت فيه امرأة".

"سأحاول،" ي/تعد ’أو‘. "سأطرح الموضوع غدًا في الاجتماع".

لكنه مقدّر ألّا تتحقق خطط ’أو‘.

 

***

 

هذه المرّة، كانت ساشا ترافق ’أو‘ أثناء التحوّل. نامت بجانبه/ا واستيقظت بسبب الحرارة والضوء المنبعث من جسده/ا. لم يبدُ أنّ ’أو‘ كان/ت ي/تتألّم، بل نائم/ة بسلام. كانت بشرته/ا تشعّ من الداخل، وتغيّرت ملامح الجسد والوجه. جلست ساشا على السرير تراقب في حيرة. هل تستدعي سيارة إسعاف؟ ماذا تفعل؟ لم تستطع حرف نظرها عن المشهد الآسر. ما يحدث كان غريبًا لكنه ليس مخيفًا أو خطيرًا. بل على العكس، شعرت ساشا بالسلام والسعادة.

كانت المدّة التي فقد/ت فيها ’أو‘ الوعي أقلّ من المرّة الماضية، وكانت التحوّلات هذه المرّة أكثر وضوحًا...

 

***

 

لم تغادر ساشا المختبر حيث تعمل لأيام. بدا شعرها الأحمر منكوشًا والأسود أسفل عينيها والرداء الأبيض ملطّخ بالكيماويات. لكن ساشا لم تنوِ التوقّف عن العمل، رغم مناداة الأريكة الضيّقة في الزاوية لها. كانت تقترب من اكتشاف الآلية وراء "متلازمة التجدّد البشري العفوي" - الاسم الذي أطلق على حالة ’أو‘. عندما فحصت عيّنات من أنسجة ’أو‘ تحت المجهر، وجدت ساشا شيئًا خارجًا عن المألوف، فهي قد رأت عدّة أنواع من الفيروسات أثناء عملها، بعضها يشبه الفشار، أو العناكب، والبعض الآخر يشبه تمامًا عربة النزول إلى القمر. لكن الفيروس الموجود في أنسجة ’أو‘ لم يكن كأي فيروس اكتشفه العلم حتى الآن. بدا مثل الزجاجة - وبشكل أدقّ، زجاجة كلاين.

كتمت ساشا أنفاسها من الإثارة التي ربما تشبه تلك التي شعرت بها روزاليند فرانكلين عندما رأت الحلزون المزدوج للحمض النووي لأول مرة. كان العرض ثلاثي الأبعاد لفيروس زجاجة كلاين يدور على الشاشة. على عكس الزجاجة العادية، فإن هذا "الوعاء" الخاص ليست له "حواف" ولا "داخل" أو "خارج". ولدهشة ساشا، انقسمت الزجاجة إلى شريطين متصاعدين بشكل غريب يبرزان من الخلية. قام ساشا بالتكبير وضبط الدقّة إلى أقصى الحدود. لقد تشابك الحمض النووي للفيروس مع الحمض النووي لخلايا ’أو‘ في شكل حلزوني ثلاثي يلتوي في نصفه وينتهي بشريط موبيوس.

"شريط موبيوس"، فكّرت ساشا مسترجعة كلام أستاذ الرياضيات، شكل طوبولوجي متناقض بسطح واحد وحافة واحدة. والطوبولوجيا هي فرع من الرياضيات يُعنى بكيفية تحوّل الأشكال - الالتفاف، التوسّع، الانكماش، الانثناء - دون أن تغير خصائصها الأساسية. وتكمن روعة شريط موبيوس بأنه شكل بسيط من سطح واحد لكن ثلاثي الأبعاد حيث يمكن الانتقال من أي نقطة إلى أخرى من دون المرور بالحواف. وقد اعتقد العلماء حتى منتصف القرن التاسع عشر أنّ مثل هذا الشيء مستحيل.

تذكّرت ساشا صوت قطع الورق ورائحة الصمغ عندما كانت تصنع شرائط موبيوس مع زملائها. وهي الآن تراقب كيف ينكمش شريط موبيوس الثلاثي للحمض النووي المصاب داخل خلايا ’أو‘ على نفسه، يطوي ويفتح، ويزهّر عددًا لا يحصى من الألغاز الطوبولوجية المحيّرة. يا للتنوّع، يا للأناقة!

كانت ساشا تعرف أن الطبيعة غنيّة بالتراكيب الطوبولوجية وأن التصميم الأنيق لشريط موبيوس لم يكن استثناءً. فالتيارات الباردة والدافئة في المحيطات العالمية تتمازج لتشكّل شرائط موبيوس. وهناك فرضية تقول إنّ الكون نفسه عبارة عن شريط موبيوس شاسع. وُجد دليل غير مباشر على ذلك في نظرية النسبية لأينشتاين، والتي بموجبها قد تعود سفينة فضاء تحلّق في خط مستقيم إلى ذات الوقت والمكان الذي غادرت منه. تمّ العثور على تراكيب طوبولوجية في النظم البيولوجية - خاصة في حالة الحمض النووي، حيث تمتلئ كروموسومات الخلية الواحدة بثلاثة مليارات من الروابط الكيميائية. حتى أن البعض قال إن هذا الهيكل يقدّم تفسيرًا منطقيًا للموت البيولوجي: فالحلزون المنطوي على نفسه يؤدّي في النهاية إلى الهلاك بشكل ذاتي. لكن ما شهدته ساشا هو العكس - لم تتدهور الخلايا، بل كانت تتجدد، كما لو أنها تعود عبر الزمن!

لم يكن التجدّد البيولوجي ضربًا من الخيال. فلقد اكتشف العلماء منذ فترة طويلة قدرة حيوانات متعدّدة على التجدّد. فما يُسمّى "قنديل البحر الخالد" قادر على العودة إلى مرحلة المديخ في تطوّره (مثل رحلة خلوية إلى الوراء في الزمن). كما يمكن لما يُسمّى "فرو الحلزون"، أي معطف الفرو الوردي الذي ينمو على صدفة سرطان البحر الناسك، أن يعيش إلى الأبد نظريًا.

يتمتّع البشر أيضًا بالقدرة على التجدّد، لكنها تختلف عن الكائنات الحيّة البسيطة. تعيد أجسادنا بناء نفسها باستمرار على المستوى الخلوي، وإغلاق الجروح وإصلاح الإصابات. قد لا يمكننا إعادة إنماء أحد الأطراف المفقودة مثل قنفذ البحر، ولكن هناك حالات لأطفال نمت أطراف أصابعهم بعد فقدانها في حادث. ويتجدّد جلد البشر البالغين باستمرار، وكبدنا قادر على تجديد نفسه بعد الضرر. تتجدّد خلايا أنسجة الجسم المختلفة بسرعات مختلفة، ونتحوّل إلى بشر مختلفين تمامًا على المستوى الخلوي كل 7-10 سنوات. لا ننتبه لهذا التحوّل لأنه يحدث بمرور الوقت وليس بشكل فوري.

أمّا خلايا ’أو‘، فقد اكتسبت قدرة رائعة على التجدّد بفضل الفيروس، كما لو كان/ت "ي/تسافر إلى الوراء في الزمن". لم تأتِ نتائج هذه التجديدات كما هو متوقّع: فقد خلق كلّ تحوّل توليفة جديدة في الشفرة الجينية. افترضت ساشا أنه ولبعض الأسباب غير المعروفة، كانت ’أو‘ تمرّ بعملية تجدّد تلقائية كلّ بضع سنوات، كما لو أن جميع خلايا جسمه/ا قد أُعيد ضبطها، مثل الجنين، لتكوّن إنسانًا جديدًا تمامًا.

ونظرًا لأن كلّ شخص في العالم جاء من نسل الأم الميتوكوندرية التي عاشت منذ حوالي مئتي ألف عام، فإن شكل ’أو‘ قد يختلف عند كل تجدّد، فقد أصبح/ت ’أو‘ مؤخرًا امرأة سوداء مصابة بمتلازمة داون، وقبلها بالتوحّد. من يدري كيف سيبدو شكل ’أو‘ في المستقبل؟ من المحتمل أن يكون لدى ’أو‘ القدرة على العيش حيوات قصيرة لا محدودة - وحياة واحدة كاملة لا يحِدها الموت.

أطلقت ساشا أنفاسها المحبوسة، وأغلقت عينيها.

 

***

 

أدّى الاكتشاف إلى انزعاج ’أو‘ بداية، وبعد فترة، قرّر/ت البوح لساشا: "أتعلمين، أعتقد أن ما بدا كلعنة قد يصبح في الواقع شكلاً من أشكال التحرّر لنا جميعًا. علينا فقط أن نقنع الناس بأن يصبحوا مثلي. إذا لم يعرف الناس كيف ستكون حالتهم بعد التجدّد التالي - خصائصهم البدنية ومواهبهم وصحتهم - فلدينا الفرصة لبناء مجتمع عادل قائم على مبدأ التعاطف والتعاضد".

تخيّلت ساشا عالمًا مليئًا بالفرص، بلا إقصاء، بلا فئات. سيصبح الناس جميعًا عابرين بالمعنى الأوسع للكلمة. سيبدأ الناس في التواصل مع بعضهم البعض بعناية وتضامن ليس على أساس الهوية بل الانسجام.

بعد أيام قليلة، قررت ساشا: "أريد أن أكون أوّل شخص يختار العيش طوعًا مع فيروس "متلازمة التجدّد البشري العفوي".. حياتي الجديدة تبدأ يوم الإثنين".

 

 

من موسوعة العام 2297

 

فيروس الخلود/ "متلازمة التجدّد البشري العفوي" - فيروس مجهول الأصل ومن المحتمل أن يكون من خارج الأرض، انتشر في الكوكب في عشرينيات القرن الماضي. أُطلق عليه اسم "فيروس الخلود" لقدرته على تنشيط التجدّد البشري التلقائي، وعكس ما يسمّى بمساري "الشيخوخة" أو "الموت". (انظر أيضًا: "العصور المظلمة" و "بيولوجيا الناس في الماضي")

أورلاندو شيفتر (المعروف/ة أيضًا باسم "دكتور أو") - باحث/ة وناشط/ة، مؤسس/ة حركة "حجاب الجهل"، كان/ت أورلاندو أول من أصيب/ت بفيروس الخلود في عام 2021، واكتشف/ت الإمكانات التحريرية للتجدّد. وفي عام 2035، بعد سلسلة من التجدّدات، انضم/ت شيفتر إلى نشطاء وناشطات العابرين/ات والمثليين/ات، وحقوق ذوي الإعاقة، والنسويات، واليسار لتشكيل ائتلاف تحت شعار "من أجل حياة بلا هوية، بلا جوهر ، بلا موت!" لا ي/تزال "دكتور أو" ي/تشارك في البحث والنشاط حتى يومنا هذا. شيفتر ليس لديه/ا مكان إقامة دائمة.

ساشا كوفالسكي - عالم/ة وناشط/ة، اكتشف/ت آلية التجدّد وكان/ت أول من أصيب طوعًا بـ"متلازمة التجدّد البشري العفوي". ساهم/ت في علم وسياسة المجتمع التضميني. أسس/ت البروفيسور كوفالسكي معهد علم وظائف الأعضاء وعلم الوراثة الجديد وي/تواصل أبحاثه/ا في جامعة الإنسانية الحرة في كيزيل-أوردا.

"جمعية حماية الإنسانية من الانحطاط" - حركة سياسية رجعية في الفترة الانتقالية. هاجم أعضاء هذه الجمعية عملية العدوى الجماعية بفيروس الخلود، واصفين حامليها بـ"الانحطاط" وسموّا عملية التجدّد "انحلالًا". لكن رغم أفعالهم التدميرية (بما في ذلك الأعمال الإرهابية في المعامل والعيادات حيث تمّ الاحتفاظ بـ"لقاح الخلود" وتقديمه)، لم تتمكّن الحركة من الاستمرار لأن الذين رفضوا الانضمام إلى حركة "الحياة بلا هوية" كانوا بشرًا فانين. أمّا الذين أرادوا الخلود، فكان عليهم اختيار الحياة مع "متلازمة التجدّد البشري العفوي".

العابر-الواسب - هم مَن اختاروا/ن "متلازمة التجدّد البشري العفوي" من أجل الخلود، دون الرغبة في فقدان امتيازاتهم، مستخدمين/ات أشكالًا من تمثيل الذات (الملابس، والماكياج، والجراحة، والممارسات الثقافية) المرتبطة بالنخبة السابقة: الرجال البيض من الطبقة الوسطى (انظر أيضًا: "الحلم الأميركي"، "الرجولة المهيمنة"، "الوعي الزائف")

"الموت على الحياة" - طائفة دينية خلال الفترة الانتقالية شجّعت الناس على الانتحار، مفضّلة الموت الطبيعي على الحياة "بلا هوية". يرى العلماء المعاصرون هذه العبادة على أنها حادثة ذُهان1 جماعي. تمّت إعادة تأهيل الكثير من أتباع الطائفة بمساعدة تحالف "حياة بلا هوية".


  • 1. وهو اضطرابٌ نفسي يحدث نتيجة لاختلال في توازن المواد الكيميائية في الدماغ لأسباب عدّة (مديرة الترجمة).
ملحوظات: