شريط حياة عشتار
4._isthar.jpg
المقطع الأول
عندما كنت في السادسة من العمر، علِمت أنّ جدّي كان يملك داراً للسينما. أخبرَتني أمّي كيف أنه افتتحها في أوائل الستينيّات، وكانت هي حينها في مثل عمري، إذ كان عمرها قُرابة الستّ سنوات. تذكّرتُ أنهم في الليلة الأولى عرضوا فيلم "صوت الموسيقى".
كنت أمرّ بجانب دار السينما كلّ نهاية اسبوع وأرى جدّي يلعب طاولة النرد مع أصدقائه. لم أكن أعرف أنه كان يعيش داخل السينما في غرفة تقع تحت حجيرة بثّ الصور المتحرّكة على الشاشة. علمت فيما بعد أنه انتقل إلى هناك بعد إنفصاله عن جدّتي، وبعد أن أقفلت السينما في التسعينيات بُعيد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية.
لسنوات وحتى وفاته، غالباً ما كنت أرى جدّي يلعب طاولة النرد مع اصدقائه في صالة الاستقبال المهجورة في السينما. كانت تلك المشاهد المتكرّرة كلّ ما أذكره عن جدّي. لم يتسنَّ لي أن أعرفه حق المعرفة، لم نتكلّم يوماً عن السينما، رغم أنه أمضى كلّ وقته في دار سينما متهالك. لم أسأله يومًا عن ماهية العيش في مكان كهذا. توفّي جدّي عندما كنت في الثانية عشرة من العمر، ليلة الميلاد، نتيجة سقوطه عن الدرج اللولبي الذي يؤدي إلى حجيرة عرض الصور على شاشة السينما. تكاد تكون طريقة موته رومانسية، إذ أنه توفي وهو يتحرك ضمن دارٍ اكتنفت صورًا عُلّقت حركتها بين حبال الزمن.
المقطع الثاني
في ربيع عام 2020، اتصل بي إبن خالي ليخبرني أنه نظّف دار جدّي للسينما، وطلب منّي أن ألقاه هناك. لطالما حلم كلانا بإعادة ترميمها. سبقتُه في الوصول إلى المكان. في غرفة الاستقبال، كانت إطارات الصور ما زالت معلّقة، لكنها كانت خالية من الصور. عرفت أنه لابدّ من وجود أعقاب تذاكر في مكان ما، وجدتها مكدّسة في علبة حديدية صغيرة يعلوها الصدأ على رفٍّ في حجيرة التذاكر، أخذت بعضاً منها ووضعتها في جيبي.
جُلت في المكان. على المسرح الرئيسي كانت شاشة العرض متّسخة جدًا، وممزقة قليلًا عند الطرف. مرّرتُ سبّابتي على الشاشة لأزيل بعضًا من الغبار، ولاحظت أن الشاشة حافظت على لونها الأبيض وراءه. وبدا القماش بحالة جيدة أيضًا. نظرت إلى أعلى، ستائر جدّتي ما زالت معلقة في مكانها. كانت الستائر مصنوعة من قماش الستان، يزيّنها شعار صغير مُطرّزٌ عند وُصلة الستارة، يمثّل شعار دار السينما. كانت هناك صالة رئيسية للجلوس، وقاعة عُليا (بلكون) للغرض عينه. بدت الكراسي مهترئة. رأيت جهاز تسليط الصورة على الشاشة (البروجيكتور)، يُطلّ برأسه من نافذة صغيرة عند طرف الشرفة. ارتقيت الدرج اللولبي المؤدّي لحجيرة العرض. كانت الغرفة مظلمة، غير أن القليل من النور تسلل من النوافذ الصدئة، وسقط على كدسة من بكرات الأفلام المُلقاة في الزاوية. أشرطة بلاستيكية هامدة متشابكة، عند طرف قاعدة جهاز تسليط الصورة على الشاشة. كانت كلّ البكرات التي يكسوها الغبار، عائدة لأفلام وسترن وبوليوود وعلوم خرافية ذات عناوين سيئة مثل "لشهب الذي دمّر الأرض"، أو ما شابه ذلك. لفت انتباهي مجموعة من أشرطة أفلام مكسوّة بالغبار – على الأغلب أنها قصاصات مقتطعة من بكرات الأفلام. واحدة تلو الأخرى، أظهرت القصاصات مشاهد تقبيل مختلفة، وما بدا كأنّه رقصة خليعة، ومشهد يصعب وصفه لجمع من الأشخاص، ومشهد قريب لامرأة مستلقية وفمها مفتوح، وافتتاحيات لفيلم من إنتاج بوليوود، وعبارة "يُعرض حالياً"، عبارة تكرّرت في عدة صور.
ذكّرتني افتتاحيات فيلم بوليوود بأمي. كانت تخبرني كيف كانوا يوزّعون المناديل الورقية على المشاهدين وهم يغادرون بعد انتهاء العروض. احتفظت بقصاصات الأشرطة التي أظهرت مشاهد التقبيل والرقص الخلاعي. وافترضت أنّه تمّ اقتطاعها لدواعي الرقابة. ذكّرني المشهد القريب للمرأة بقولٍ لناقد الأفلام بيلا بالاش، عن أفلام "الرجل المرئي أي ثقافة الأفلام" و"روح الأفلام" و"نظرية الأفلام". قال إن اللقطات القريبة في الأفلام تدلِّل على:
مناجاة صامته، حيث تستطيع معالم الوجه التعبير بأفصح ظلال المعاني، دون تكلّف ودون استنهاض للإحساس بالبعد الذي قد يخالج المشاهدين. في هذه المناجاةِ الفردية الصامتة، تجد الروحُ الوحدانيّة لسانَ حالها مترجَمًا أمامها بصراحة وحرية لا نظير لها في أي شكل آخر من أشكال المناجاة الكلامية، لأنها تعبيرٌ غريزي وعفوي في تكوينه.1
على الأرجح أنّ بالاش كان يصف اللقطات القريبة لـ "جوان" في الفيلم الصامت "آلام جان دارك"، مُشيرًا في ذاك الصدد إلى أنّ "...الفيلم الصامت وما يحتوي عليه من تركيز على تعابير الوجه ضمن كادرات تستبعد المحيط العام، قادرٌ على الولوج في أبعاد جديدة وغرائبيّة من الروح".2
تفحّصتُ قصاصة الفيلم بدقّة أكبر. بدت المرأة ميتة، وبدا وجهها وكأنه قناع. ذكّرتني بلوحة "أوفيليا" للرسام جون ايفرت ميليه. تقول سوزان سونتاغ في كتابها عن التصوير، إنّ الصورة هي "أثر، شيء منحوت من معالم الواقع مباشرة. إنها كما أثر القدم أو قناع الجبصين". أقنعة الجبصين، ما هي إلا شكلٌ من الحضور الذي يذكّر بالغياب.
أذكر أنّي اطلعت على معالجةٍ حول الموت والتصوير، في سياق فيلم قديم لروبرتو روسيليني "الآلة التي تقتل الاشرار". في هذا الفيلم، يجول المصوّر في المكان ويلتقط صورًا لأشخاص، أشخاص يُصار إلى تجميدهم لاحقًا، ومن ثم يُترَكون معلّقين في حبال الزمن. كان الناقد الفرنسي أندريه بازين يعتبر أنّ التصوير يسرق الأجساد من تيار الموت الهادر، ويحفظها من خلال تحنيطها. لقد وصف هذا التحنيط الفوتوغرافي على أنه "حِفظ الحياة عبر تمثيل الحياة".
شعرت بحاجة ماسّة لحماية حجيرة بثّ الصور هذه، بكل ما فيها من أغراض تبدَّلَت أماكنها عبر الزمن، وقصاصات أشرطة الأفلام المُلقاة على الأرض، شعرت بحاجة لحماية كلّ ما حمل بصمات جدّي.
وجدت، تحت قصاصات الأشرطة، بكرة يعلوها الغبار لفيلم لم ينته عرضه. بدا وكأنما أحدهم كان يشاهد الفيلم يدويًا. في تلك اللحظة، صعد ابن خالي الدرج اللولبي ورآني أتفحص الشريط. فرك ذقنه بأصابعه وقال بلهجة واثقة، "وجدتِ الشريط الإباحي".
المقطع الثالث
نظرتُ إلى شريط الفيلم الذي أحمله بيدي، ولاحظت أنه لم يكن مشهدًا للموت. القصاصة اقتُطعت من بكرة شريط فيلم إباحي. المرأة كانت تئنّ من النشوة. يُراد من اللقطات القريبة إظهار المشاعر المحمومة، رعشة الجماع. لكن لم يسبق لي أن استعنت بنظريات بالاش لأصف مشاهد إباحية. يقول في إحدى كتاباته، "الذروة الدرامية بين شخصين، تظهر دائمًا على شكل حوار تقوده تعابير الوجه موضوعةٌ ضمن لقطات قريبة". وضعت قصاصة الفيلم في جيبي وسمّيت المرأة عشتار. ومنذ تلك اللحظة، لم تغادر القصاصة محفظتي. بدا غريبًا أن أُقارن لقطة التصوير القريبة لمخاوف جان وشجاعتها، بتعابير النشوة على وجه عشتار.
كان ابن خالي قد أخبرني، أن شقيق جدّي كان ينتظر حتى يغادر جدّي المسرح، وعوضاً عن إقفال المكان، كان يدعو أصدقاءه لمشاهدة الأفلام بعد العروض. لم أفكّر بالأمر كثيرًا، كان ذلك أمرًا شائعًا خاصةً خلال وبعد الحرب الأهلية اللبنانية.
بعد الحرب انتشرت أجهزة التلفاز، فباتت متوافرة تقريبًا في كل منزل لبناني. أذكر أنّه وفي أواخر التسعينيات كان لدي جهاز تلفاز حتى في غرفة نومي، وكنت حينها في السادسة من العمر تقريبًا. أخبروني أن شراء أفلام الفيديو الإباحية، كان شائعًا في تلك الفترة. محمد سويد، كاتب ومخرج لبناني، أخبرني ذات مرة أنّ دور السينما كانت تعرض الأفلام الفنية والإباحية في الفترة الممتدة من أواسط الثمانينيات حتى أواسط التسعينيات، لتتمكّن من الاستمرار. وسمعتُ أيضًا أن أولئك الذين كانوا يعرضون الأفلام على الشاشة، كانوا يقتطعون قصاصات من أشرطة الأفلام الإباحية، للقيام بمونتاج مختلف يُمكّنهم من بثّ عروض مختلفة كل ليلة. إلا أنه في النهاية، أخذ الناس يفضّلون البقاء في منازلهم ومشاهدة أفلام الفيديو على التلفزيون. وبدأت دور السينما تُفلس وتُغلق أبوابها نهائياً.
المقطع الرابع
عاد ابن خالي إلى الطابق السفلي ليطّلع على أرشيف السجلّات المحفوظ في غرفة المكتب. بقيت في الحجيرة، بدأت أُقلّب قصاصة شريط الفيلم بين سبابتي والوسطى، وأحرّكها بإبهاميّ، وبتأنٍ أمرّر اللقطات بين يدي. رفعت القصاصة نحو النافذة المكسوّة بالغبار، ونظرت إليها بعينين شبه مغلقتين محاولة استيعاب هذه الصورة الباهتة اللون. رأيت، في هذه السلسلة من اللقطات، صورة قريبة جدًا لعضو ذكري دُفِع داخل مهبل. توالت هذه الصورة في عدة لقطات حتى وصلتُ إلى عقدة الفيلم، عندها تخيّلت البقيّة.
المقطع الخامس
كان هانك يكشف عن عضوه أمام فيرونيكا، التي كانت مستلقية على السرير أمام مزينة هي تقليد لتلك التي كانت رائجة أيام لويس الرابع عشر. نهضَت ببطء، وأنزلَت بتأنٍّ حمّالة قميص نومها الشفاف من على كتفها الأيسر. اقترب هانك وحرّر روبها الذي كان يغطي جسدها، وأمسكها ولفّها بشكل نصف دائري، وصفعها على مؤخرتها، ودفعها إلى الأسفل نحو المزينة، ودفع عضوه داخل مهبلها بشكل متكرّر، فيما المزينة أخذت ترتطم بالحائط المزيّن بورق الجدران.
المقطع السادس
لطالما لفت الديكور الداخلي انتباهي منذ أن أخبرتني أستاذتي في "دراسات النساء في الإباحية"، أنّ أكبر الأرشيفات الإباحية في أميركا الشمالية كانت تُستخدم لتفحّص ودراسة الأثاث لدى الطبقة الوسطى في تلك الحقبة. لذا، وفيما كانت فيرونيكا منحنية وهانك يضاجعها من الخلف، كان يمكن لمساعد باحث جامعي، أن يتكهّن ماهية التصميم للشعار الذهبي على المزينة، أو دراسة نقش الركوك على كرسي خشبي في إحدى الزوايا.
للحظة، تتحوّل الحجيرة إلى فضاءٍ يشغله المخيال الجنسي الأُنثوي، الأمر الذي يُزعزع راحة مساحةٍ كانت قد كُرسّت من قبل لتغذية جنسانية الذكور.3 كنت واثقة من أن الرجال وحدهم كانوا القادرين على دخول دور السينما التي تعرض أفلاماً إباحية. في حجيرة لعرض الأفلام، كان شريط بكرة الفيلم متشابكًا جدًا ويصعب تسريحه، وتراكم الغبار فيها لأكثر من عقد من الزمن. لذا وضعتها في حقيبتي الصوفية وخرجت من المسرح.
لا أدري ما الذي أصابني، لكني شعرت بقوة تدفعني للاحتفاظ بها. أردت أن أشعر بنشوة حراسة شيء غامضٍ وإباحي. وفيما أنا أسير في الشارع، كنت واثقة بيني وبين نفسي أن الناس يعلمون أني أُخبِّئُ شيئًا ما. وغمرني شعور بالذنب ممزوج بالفرح في آنٍ معاً. بدا شعورًا غريبًا.
المقطع السابع
4فتحت باب غرفتي أنا وعم فكّر ببكرة الفيلم الإباحي اللي بشنطتي والأفكار اللي خَطَرتلي بطريق الرجعة عالبيت. تذكّرت إنّو فيه حيط بيفصل أوضة نوم جارتي ليلى عن أوضتي. ممكن ما تكون بالبيت بهالوقت بس فيه إحتمال تسمعني. سكّرت الباب وطلّعت فيلم عشتروت.
تخيّلتها هيّي وعم ترقص قدّامي لتغريني وعم تهزّ بخصرها يمين وشمال. انرَسَمِتْ إبتسامة بعيونها كأن عم تناديلي. طلعت عالتخت وأشّطت البنطلون. فوّتت صابيعي بالكيلوت وبلّشت داعب كسّي ودلّلت فتحة صدري بصابيع إيدي الشمال. جسمي كلّه انتفض من الإثارة. كنت عم إلهت واتقلّب عالفرشة. حبَست أنفاسي وارتجفت أطرافي. لشلَش جسمي واللبن عم ينقط من كسّي. استلقيت وولّعت سيجارة…
المقطع الثامن
عندما كنت طالبة في الجامعة، أخذت صفًّا سُمّي "مقدمة لدراسة الأفلام". البروفيسورة أريكا بالسوم، أستاذة المادة، حدّدت يومًا لعرض فيلم بيت غوردن "متنوّعة".5 كنت جدًا متحمّسة لمشاهدة أول فيلم لكريستين فاشون، قبل أن تتحوّل إلى إنتاج الأفلام التي تُعَدّ حاليًا جزءاً من حركة السينما الكويرية الجديدة. وُصِف فيلم "متنوّعة" بأنّه فيلم نسوي عن كريستين، امرأة بدأت عملها كموظفة لبيع التذاكر في دار سينما للأفلام الإباحية في مدينة نيويورك، تدعى "دار التنوّع".6 كانت كريستين تسمع ما يدور في الأفلام، لكنها لم تدخل صالة العرض يومًا. في نهاية الأمر، أثار اهتمامها أحد رواد السينما الدائمين، وأخذت تراقبه عن كثب. تبِعَته إلى متجرٍ للبالغين، وقفت جانبًا وأخذت تتصفّح مجلات للراشدين لأول مرّة في حياتها.
تلك النظرات التي استرقتها كريستين خلسة، جرى عرضها بطرقٍ مختلفة في الفيلم، وكان النصّ أيضًا يضجّ بكثير من المناجاة الفردية الشهوانية، والتي قد تُعتبَر فاسقة وفظّة.
في مشهد جرى تصويره في رواق للّعب، كانت تقرأ كتابات جنسية لصديقها، وكانت الكاميرا تتنقل بين مشهد قريب لمؤخرة صديقها مارك، وهو يلعب لعبة الكرة والدبابيس، ويؤرجح وركيه إلى الأمام والخلف، فيما هو مستند إلى آلة اللعب في الرواق، ومشهد قريب لوجه كريستين وهي تتلو مناجاتها.
المقطع التاسع
"كان سكاي يحاول إيقاف سيارة لتقلّه، فتوقفت له شاحنة صغيرة تقودها امرأة. كان الوقت قد تأخّر جدًا، وكان بحاجة لمكان يبيت فيه. فعرضت عليه أن يبقى في منزلها.
أرشدته إلى غرفته وقدّمت له شرابًا. شربا وتحدّثا، ثم قرّرا أن يخلدا للنوم. لكنه لم يستطع النوم، فارتدى سرواله وسار عبر الردهة إلى غرفة الجلوس. كان قد وصل إلى مكان حيث كان يرى دون أن يُرى. كانت المرأة مستلقية على المنضدة عارية، وساقاها مُتدلّيتان للأسفل. بدا جسدها ناصع البياض، وكأنّما لم يعرف الشمس يومًا. كانت حلمتا ثديَيها زهريّة اللون، متوهّجة كالنار ومتهلّلة كالقمر – شفتاها مفتوحتين وشعرها الأحمر السِّرياح مسدولاً وكأنّه يَلْعَق سطح الأرض. كانت ذراعاها ممدودتين وأصابعها تلاعب الهواء وجسدها اللامع أملسٌ لا تشوبه لا زوائد ولا حواف، أما بين ثدييها فتنسلّ أفعى كبيرة ملتفّة حول أحدهما ومتدلّية عند حدود الآخر. لسان الأفعى ممتدّ بارتعاشة نحو المهبل القرمزيّ – مفتوحًا على مصراعيه، تحت وهج الضوء. شعور بحيرة مضطرمة غزت جوارحه، فعاد الرجل إلى غرفته وبصعوبة فائقة أجبر نفسه على النوم. في صباح اليوم التالي، وفيما هما يتناولان الفراولة، تطلب منه المرأة أن يبقى ليلة أخرى. ومن جديد، لم يستطع النوم …".
المقطع العاشر
عندما كنت في الثالثة والعشرين من العمر، فاجأتني لين، الفتاة التي كنت أواعدها من صفّ "مقدّمة لدراسة الأفلام" بأن اصطحبتني لمشاهدة أفلام إباحية قصيرة بمناسبة عيد الحبّ. كانت الأفلام تُعرض في مسرح مايفير، وهي دار سينما خاص. كان تصميم المسرح يشبه مسارح نيكلوديون في أميركا الشمالية لكن مع لمسة من معسكرات التخييم. كانت شرفاته مزيّنة بقطع كرتونية كبيرة من ملصقات لأفلام "شيء مستنقع" و"كائنات فضائية".7
في تلك السنة، جرى تقييم المهرجان من قبل النجمة الإباحية كاسي ماي وكان البرنامج يشمل ساعة ونصف من الأفلام القصيرة؛ وقد تنوّع المحتوى بين أفلام إباحية خفيفة إلى الرغبة الجنسية بأكل البراز.8
شاهدنا بضعة دقائق من فيلمٍ بدا أنه فيلم إباحي خفيف للجنس المغاير. أظهر الفيلم رجلاً وامرأة يمارسان الجنس في غرفة جلوس عصرية ثم انتقلا إلى غرفة النوم. كان الفيلم بمعظمه يصوّرهما وهما يتبادلان القُبل ويتحسّسان بعضهما الآخر بينما تستلقي المرأة على ظهرها في أثناء المضاجعة. تسلّلت امرأة ذات شَعرٍ بنّي قصير وانسلّت في الفراش وهي تلعق سطح يدها كالقطة بضربات خفيفة. أصدرت مواءً وزحفت فوق الزوجين اللذين لم يعيراها انتباهًا مستمرّين بممارسة الجنس. زحفت خارج السرير واتجهت إلى المطبخ، رفعت الزبدية الفارغة بأسنانها ووضعتها على الوسادة. واستمرّت بالسير فوقهما حتى نهاية الفيلم القصير. بدا ذلك غريبًا جدًا. بدأتُ أضحك لكن لين بدت ممتعضة قليلاً. نظرتُ إلى يساري، فرأيت المشاهدين الآخرين يشربون البيرة ويأكلون الفشار فيما يضحكون بشكل جنوني. ضحكهم المستمر وتعليقاتهم بصوت عالٍ حدّدت معالم المهرجان. وأصبحت مشاهدة الجمهور أكثر متعة من مشاهدة الأفلام. اعتاد مسرح مايفير عرض أفلام الكالت9 (cult films)، ومشاهدة هكذا نوع من الأفلام لا يمكن إلا أن يكون ممارسة جماعيّة.
لم أتخيّل أن يكون شقيق جدّي قد شاهد الأفلام الإباحية في مسرح جدّي على هذا النحو. كانت دور السينما تعرض الأفلام الإباحية بشكل علني في تلك الحقبة، لكني لم استطع تخيّل ذلك يحدث في منزل والدتي. تخيّلته يشاهد الفيلم من جهاز بث الصور في الحجيرة، ليتمكن من إيقاف العرض بسرعة في حال قرّر أي ضيف غير متوقّع التوقف للزيارة. كان أصدقاؤه يجلسون على الشرفة في الخلف، حيث لا يستطيع الدخول إلا مَن كان معه مفتاح، لذا فالمكان آمن. كان عليهم التفكير بكل شيء، فالحيّ حيث كانوا يعيشون هو عبارة عن منطقة مسيحية محافظة. وكانوا يتحاشون المتاعب. على الأرجح أن شعورًا بالإثارة والذنب كان يغمرهم. واختلطت أصوات مزاح الإيروتيك المثلي مع أنين وظأظأة متقطعة، لكنهم كانوا يذكّرون بعضهم البعض بين الفنية والأخرى بضرورة خَفت الأصوات. كانوا يتبادلون الأدوار، إذ يقوم كلّ منهم بدوره ليتحقق من خلال النوافذ، إن كانت الأصوات مرتفعةً لدرجةٍ تلفت انتباه أيٍّ من الجيران. أحياناً، كانوا يُطفئون مكبّر الصوت فيخيّم شيء من الصمت.
المقطع الحادي عشر
عام 2019 وبعد مظاهرة سياسية، مررتُ بكشك كتب في شارع رياض الصلح، بالقرب من ساحة الشهداء وسط مدينة بيروت. رأيت عند طرف الطاولة، خلف كُتب هوغو ودو بوفوار، كدسة من الروايات الإباحية ومجلات للراشدين. كانت جميعها ترجمات لمنشورات وسترن. إخترت واحدة دونما أي تفكير، فكلّ ما كان يعنيني هو رغبتي بامتلاك نسخة لمجرد الشعور بالإثارة الذي يخالجني لامتلاكها. فأخذت واحدةً بصورة غلاف مُلفتة.
فيما كان يعطيني بقية الحساب، سألني البائع: "هل سبق والتقينا؟" نظر إلى صدري وانحدر بنظره إلى الأسفل. لا بد أنه افترض أني أعمل في مضمار الجنس أو الأفلام الإباحية. نظرت في عينيه وأجبته: "لا". استدرت، وهممت بالابتعاد والمجلّة في يدي، عندما استوقفني ليقول لي إنه يملك أرشيفًا كبيرًا في الطابق السفلي، وإنه يبيع دائمًا مجموعات إباحية ومنشورات على "إي باي" (eBay) لأوروبا وأميركا. ورغم أن البحث في ذلك الأرشيف كان مثيرًا للإهتمام، إلا أن شعورًا بعدم الارتياح منعني من الموافقة على العرض. لم أشعر بالأمان، سألته أين وجد تلك الروايات. ودُهشت حين علمت أنها مطبوعةٌ في لبنان.
سرت نحو تمثال رياض الصلح. فتحت المجلة التي اشتريتها لأقرأها، فوجدت شكل النص مائل والخط ملطخ قليلاً، مما جعل قراءتها صعبة. والصور بداخلها كانت عبارة عن مجموعة قطع إباحية باهتة، بدَت الطباعة نزقة… أعجبني ذلك. القصة كانت بعنوان "يوميات مارسيل".
كان واضحًا أن الغلاف الفنّي هو عبارة عن صورة اقتُطعت من مجلّة وألصقت على ورقة زرقاء. بدت في الصورة امرأة لا ترتدي قميصًا، تُمسك برأس عشيقها وتدفع أصابعها في شعره، فيما هو يقبّل عنقها من الخلف. كان سحّاب تنورتها مفتوحاً ويد عشيقها على القسم الأسفل من وركها الأيمن، ويدها فوق يده. وقد فضنت شفتاها وكأنها تأنّ نشوةً، وشعرها الأشقر الأملس كما كان رائجًا في السبعينيات، ينسدل على صدرها ويغطي بعضًا من حلمتي ثدييها.
فتحت الصفحة الأولى. قرأت في التمهيد: "شهوات وشذوذ" والأخيرة ترجمة من النص الإنجليزي الذي قد يحمل معنيين: الشذوذ عن المألوف/المعياريّ أو الممارسات الجنسيّة الغرائبيّة.
قرأت الفصل الأول. إن الشخص الذي ترجم النص قام بتغيير إسم الشخصية الرئيسية للقصة فجعله فؤاد، إسم عربي. وخطر لي أن المترجم أراد بذلك أن يُشعر الرجال اللبنانيين الذين يقرؤون القصة بالتماثل مع تلك الشخصية. وأنا أتابع القراءة، لاحظت أن جميع عشيقاته كنّ يحملن اسماءً أجنبية مثل حنّة ومارلا ومارسيل ومارتا.
المقطع الثاني عشر
لاحظت في الصفحة 27، الفصل الرابع، أنّ مارسيل كان عشيق فؤاد.
المقطع الثالث عشر
جرت أحداث المشهد في دار سينما. كانت دور السينما في معظم الأحيان أمكنة للحرية الجنسية في أميركا الشمالية، خاصة في فترة السبعينيات وبعد الثورة الجنسية. وافترضت أيضًا أنهم أبقوا على جميع الأسماء الأجنبية الأخرى، لتبدو مثيرةً ومقبولة. فقد نُسب الأدب الإباحي والأفلام الجنسية لهوليوود الغرب. بالرغم أنّ العالم العربي تاريخياً، أنتج نصوصًا شهوانية. أصبح الأدب الإباحي مُحرّماً، وكانت الطريقة الوحيدة الآمنة لإنتاجه هي تسويقه على أنه غريب وأجنبي.
إنه لَمن المثير للإهتمام كيف أنّ الهوية الأعجمية/"الأجنبية" هي ما يُشَرعن إجتماعيًا النصوص الشهوانية. إن الفارق بين الصفتين يعود إلى الأصول اليونانية للفظتي الإيروتيك (الشهوانية) والإكزوتيك (الأجنبيّة أو الأعجمية الغريبة العائدة الى ثقافة "الآخر" البعيد). فكلمة إيكزوتيك تشتقّ من تعبير إيكزو، "من الخارج"، بما معناه غريب أو أجنبي. وكلمة إيروتيك تشتق من عبارة إيروس، إله الجنس والحب. وعليه، فإن ما هو إيكزوتيكي هو أجنبي وغامض بالضرورة وما هو إيروتيك هو جنسي.
في لبنان، هناك خيط رفيع بين الأجنبيّ والجنسي في السينما. كما الخيط الرفيع الذي يميز الأفلام الفنية عن الأفلام الإباحية.
في عام 2015، وفي محادثة مع المخرجة جوسلين صعب في مطعم ڤييتنامي في باريس، عرفت منها أنها اضطُرّت أن تعيد تصوير فيلم "دنيا" لتغيير اللهجة من مصرية إلى لبنانية. أخبرتني أن الممثلين كانوا مصريين، وأنها لم تتشدد حيال النص. لم يسمحوا لها باستخدام اللهجة المصرية. كان يجب أن تكون اللهجة اللبنانية هي المُستخدمة لأن المنتجين كانوا قلقين حيال المشاهد الشبه شهوانية في الفيلم. لذا أصرّوا على جعل اللغة بأسرها أجنبية الطابع.10
- 1. اخترنا صياغة ملتزمة بإيقاع الأصلي دون أن تلتزم بقواعد التناظر اللفظي (مديرة الترجمة).
- 2. اخترنا صياغة ملتزمة بإيقاع الأصلي دون أن تلتزم بقواعد التناظر اللفظي وجب التنويه (مديرة الترجمة).
- 3. وجب الاجتهاد لإبراز حالة الاضطراب بين الفضائين (مديرة الترجمة).
- 4. مقطع مكتوب بالعامّية اللبنانية، تعمّدت الكاتبة التفرّد في الكتابة وإعادة كتابة هذه الفقرة حميمية الطابع في النصّين العربي والانجليزي على حدّ سواء.
- 5. ترجمة سابقة، المرجع الالكتروني: https://stringfixer.com/ar/Bette_Gordon (المترجمة).
- 6. استخدمت هنا "دار التنوّع" كترجمة ل The Variety Theater ولم أستعمل كلمة "مسرح" لتبقى متناسقة مع دار السينما كترجمة ل movie theater (المترجمة).
- 7. ترجمات سابقة (المترجمة).
- 8. يُعرف في علم النفس باسم "صنم البراز" (المترجمة).
- 9. وهي أفلام بمعظمها ينتمي الى نوع الخيال العلمي وهي ذات شيوع ومتابعة تمتاز بالكثير من الحفاوة على مستوى الجماهير.
- 10. ترجمة بتصرّف عائدة إلى الطبيعة اللغويّة التفسيريّة للنص الأصليّ، كما وجب الإسهاب في خاتمة الفقرة الأخيرة (مديرة الترجمة).