المقاومة الفيروسية: كيفية النجاة من الجائحة/ الهلع
photo_3.jpg
يعود إلى المنزل بعد واحدةٍ من جولاته منفرداً على الدرّاجة. يتجنّب عادةً اجتياز المتنزهات العامة ليلاً، فتلك مغامرةٌ محفوفةٌ بالخطر. لكنّه يقرّر الليلة تغيير مساره المعتاد. لِمَ لا، فالسماء صافية ونسيم الليل عليل وضوء القمر الخافت يغلب عتمة الممرّات. يسمع قرع طبول آتٍ من مكانٍ قريب. يقتفي أثر الصوت الذي يزداد وضوحاً. إنه صوت الموسيقى؛ موسيقى الـ"تكنو" على وجه التحديد. ثمّة حفل صاخب في زاوية الحديقة بين الأشجار. أناسٌ متحلّقون حول عددٍ من مكبّرات الصوت في حفلٍ سرّيٍ مرتجل. لا حاجة للقلق هنا بشأن صفوف الانتظار أو حرّاس الملهى أو قوائم المدعوين. يميّز من بين الحشد وجوهاً كويرية مألوفة. البعض يرقص والبعض يتبادل القبلات والبعض الآخر يضحك. تتبدل طاقة المشهد فجأة باقتحام الشرطة للمكان. يترجّل الدرك عن مركباتهم كروبوتات تنوء بما عليها من دروعٍ واقية. يحاصرون الجمع، ويطالبون عبر مكبّر الصوت بإخلاء المكان. لا يبدو الجمع الراقص كما لو كان يأبه للنداء، فالرقص مستمر، ربما بشكلٍ أقرب إلى التمرّد. يحتقن المشهد سريعاً فيسلط الدرك كشافاً ضوئياً ضخماً نحو الراقصين. ينكشف المكان فجأةً للعيان، وينفجر الجمع بالتصفيق والتهليل.
كان هذا واحداً من المشاهد السوريالية العديدة لعام 2020، العام الذي تحقق فيه واحدٌ من السيناريوهات الكابوسية للخيال العلمي: وباءٌ يجتاح الكوكب كلّه. حدثٌ يجمعنا ويفرّقنا في الآن ذاته. أخبرني صديقي على الهاتف أنها "كانت السنة الأكثر وحدة"، في لحظةٍ وددت فيها لو اتصلت بكل أصدقائي القريب منهم والبعيد. لم تكن تلك سنة من العزلة والوحدة وحسب، كانت أيضاً سنة تخللتها أشكالٌ مختلفة من التجمعات والتظاهرات الحاشدة والاحتجاج والثورة.
يبدأ النص بشكلٍ من أشكال التجمّع. حفلٌ صاخب. سلّطت الشرطة أضواءها المبهرة على المحتفلين لتظهرهم فترهبهم. على النقيض، أحاول أنا تسليط الضوء على كيفية النجاة من الجائحة، انطلاقاً من التجربة المعاشة لجسد كويري منفي. أجاوز السرديات الحيوية الطبّية حول الجائحة وأركز عوضاً عن ذلك على الحياة الاجتماعية في ظل المرض. أتناول التواريخ المنسية للأوبئة، وأبني تحليلي على مفاهيم عابرة للقوميات والتواريخ لكيفية إنتاج السلطة وكيفية انفراد سرديات دون غيرها بفهمنا لمرض بهذا الحجم. السياسة والإعلام والعلم والذات البشرية هم محور هذا النص، فتلك هي القوى التي نخرج عليها عند مواجهة المرض.
دروس من الماضي
1. يمكننا ونحن مطمئنّون أن نسمّي العام 2020 عام الجائحة العالمية. إلا أن ثمّة أحداث كبرى وقعت هذا العام أيضاً. فالعام نفسه كان شاهداً على انطلاق واستمرار حراكات حاشدة من أجل الحرية والديموقراطية والعدالة. عقب مقتل جورج فلويد في منيابوليس شهدت الولايات المتحدة أكبر موجة احتجاجات في تاريخ البلاد كجزءٍ من حراك "حياة السود مهمّة"1 والذي ترددت أصداؤه في أماكن كثيرة حول العالم. اندلعت احتجاجات كبيرة أيضاً في ميانمار وبولندا وبيلاروسيا وشيلي وكولومبيا وتونس ولبنان وفلسطين واليونان وتركيا والقائمة مفتوحة. هل ثمّة صلة تربط الجائحة بالاحتجاجات، وما هي تلك الصلة؟
2. إذا ما تجاوزنا الخطاب الحيوي الطبّي حول الخطر والمرض، سنجد قبل كل شيء أن الجائحة حدثٌ اجتماعي. فقد استُحدث مفهوم الحجر الصحي للمرة الأولى خلال القرن الرابع عشر بينما كان الطاعون يكتسح أوروبا. ويعود استخدام لفظة "كوارانتين"، للإشارة إلى الحجر الصحي في عددٍ من لغات القارة الأوروبية، إلى الترجمة الحرفية لكلمة "أربعين يوماً" وهي مدة العزل الوقائي الذي كان مفروضاً في تلك الأيام على البواخر ومن عليها من مسافرين عند مرفأ الوصول كإجراءٍ احترازي للسيطرة على الوباء. بالتأكيد لم يتوقف الحجر الصحي عند هذا الحد. يشرح المؤرخ المصري خالد فهمي كيف استعمل الوالي العثماني لمصر خلال القرن التاسع عشر، محمد علي باشا، الحجر الصحّي كطريقة للتحكم الاجتماعي وقمع الاحتجاجات بين المصريين.
3. إثر الجائحة استحدث الإقفال العام قيوداً على الحركة حول العالم. بل وارتهنت مغادرة منزل في برلين في مرحلة لاحقة بوجود مسوغٍ مقبول، كالعمل أو التسوّق أو التريّض. أخبرني صديقي، وهو مهاجرٌ باكستاني يعيش بمدينة شتوتغارت، القلب الصناعي لجنوب ألمانيا، أنه لم يتوقف قط عن دوامه بالمصنع الذي يعمل فيه. كان ذلك أيضاً حال ملايين العمّال حول العالم ممن اضطروا لمواصلة العمل، تحت وطأة لامبالاة أرباب العمل بإجراءات الإقفال العام وفي الوقت ذاته سعيهم للتربّح من النمط الإنتاجي الذي استحدثه.
4. جرّدت الشرطة قواتها لإنفاذ ومراقبة التقيّد بإجراءات التباعد الاجتماعي. أشعر بالتوتر من احتمالية وجود نقطة مراقبة للشرطة على الطريق، لا سيّما عندما أخالف الإجراءات لزيارة صديق أو ما شابه. أصبحت حميمية الصداقة ممنوعةً بموجب القانون. يتفاقم شعوري بالتوتر عندما أتذكر أن عنواني المسجّل على بطاقة الهوية لا يطابق عنوان سكني الفعلي، وهي واحدةٌ من سمات هشاشة حياة الاغتراب في برلين. كنت جالساً ذات مرة مع صديقين في حديقة عامة، كل منّا على مبعدة مترين من الآخر. حضر الدرَك إلى المكان، وطلبوا منّا العودة إلى منازلنا. أخبرنا أحدهم أن لقاء من لا يسكنون العنوان ذاته هو عملٌ غير قانوني. كانوا ستة من الدرك وقد انحشروا في حافلة صغيرة، إلا أنهم كانوا مصرّين أننا نحن من خرق إجراءات التباعد.
5. تُذكّرني تجارب الوسم العنصري تلك بسرديات اللاجئين الذين عملت معهم في إحدى مؤسسات دعم اللاجئين بالقاهرة، خصوصاً أثناء حظر التجوّل الذي فرضته السلطات عقب ثورة العام 2011. كان اللاجئون في مصر هم الهدف الأول لخطاب العداء للأجانب الذي روّجت له الدكتاتورية الآفلة وجهازها الإعلامي في حينه. وبصفتي الآن لاجئٌ في برلين، يمكنني أن أرى وأشعر بالإقفال العام بشكلٍ مختلفٍ كلياً. في كل مرةٍ تخرج قوات الشرطة والجيش لضبط الفضاء العام وتوفير الحماية المزعومة، لا يزيدني ذلك سوى شعوراً بالهشاشة. في مصر فعلت السلطة ذلك بزعم حماية أمن الوطن، وهذه المرة في ألمانيا، تفعله بزعم حماية الصحة العامة.
6. في واحدةٍ من المحاضرات العديدة التي حضرتها على تطبيق زووم، استمعت لحديث المؤرخ الأميركي كريستوفر روز (2021) عن وباء الإنفلونزا الأسبانية في مصر. جُلّ ما نعلمه هو أنه بين عامي 1918 و1920 قتل الوباء ما يقارب 2% من سكان البلاد. يتعذّر الوصول إلى تفاصيلٍ أكثر، ومرجع ذلك على الأرجح هو غضّ الإعلام المصري الطرف عن ذكر الموضوع في حينه. واقع الحال أن نسبة الوباء إلى أسبانيا تعود إلى سماح السلطات الأسبانية للصحافة بتغطية الوباء، في مقابل التعتيم الكامل الذي انتهجته سلطات الدول الأخرى. تحدّث روز عن علاقة الوباء بالثورة التي اجتاحت مصر عام 1919. وفي حين ركّزت الثورة في الحواضر على مسألتي الحريات والحقوق، كان كيل الأرياف طافحاً بالتجنيد الإجباري وتدهور الزراعة والجوع المتفاقم. كانت المظاهرات تغلي على وقع الغضب والخوف الشعبيين في وجه استغلال المستعمر للفلاحين وأراضيهم، وفوق كل ذلك، كردّة فعل على دوره في نقل العدوى إلى مصر. عادةً ما تُرى الثورة كتعبير عن الأمل. إلا أن اليأس، بقربه من المرض والموت، قد يجلب أيضاً طاقة الحياة إلى الجماهير المحتجّة. ربما يبدو كلّ من اليأس والأمل كشعورين متمايزين، إلا أنني أراهما وجهين لعملةٍ واحدة.
7. دائماً ما أتساءل إن كان أسلافي قد شاركوا في الثورات السابقة. نشأت في بلدةٍ صغيرة في صعيد مصر اسمها المنيا. أتذكّر في طفولتي المشاركة في احتفالات الثامن عشر من آذار/ مارس، وهو اليوم الوطني المحلي. يومها تصدح مكبرات الصوت بالأغاني الوطنية ويرفرف علم المنيا عالياً بخلفية خضراء تتوسطها رأس نفرتيتي. كنا نعيد أداء مشهد تمثيلي لنضال الفلاحين ضد قوات المستعمر البريطاني خلال ثورة 1919، حيث قام الفلاحون بقطع خطوط السكك الحديدية البريطانية التي تنقل القطن وغيره من محاصيل الجنوب المصري، قبل أن يضرموا النار في القطار ويقتلوا العشرات من الجنود البريطانيين. أتساءل كيف اختبر أفراد عائلتي الإنفلونزا الأسبانية، وإذا ما اشتركوا في هذه الثورة. ليس ثمّة من جواب على هذه التساؤلات، فلا وجود لأرشيف يحفظ قصص الفلاحين ممّن عاشوا تحت نير الإقطاع الاستعماري أوائل القرن العشرين. لم يحظ بفرصة التعليم في عائلتي أكثر من جيلين سابقين. أظن أن هذا البحث سيظل مفتوحاً دون جواب، فمعرفة المرء بأصله هي شكلٌ غير ظاهر من الامتياز الاجتماعي.
العلم والمستاؤون منه
1. في كل مرةٍ أطالع فيها وجوه علماء الأوبئة على أغلفة المجلات، عوضاً عن وجوه المشاهير والسياسيين، أسأل نفسي: أتكون الجائحة هي الأمنية الأثيرة لكل عالم فيروسات؟
2. في جولةٍ أخرى على الدراجة في برلين صيف 2020، سلكت الطريق الرئيسي المؤدي إلى بوابة باندنبورغ، النصب التذكاري للمدينة. تفاجأت بأن الطريق مقطوعة من قبل المتظاهرين. رأيت علم قوس قزح، فافترضت أنها تظاهرة كويرية. ساقني الفضول، فترجّلت عن دراجتي ومشيت وسط الحشود. من بين أعلام شتى تسارعت ضربات قلبي لرؤية العلم الألماني، ولا حاجة هنا لتعديد أهوال القومية الألمانية. تبيّن لي إنها واحدةٌ من تظاهرات حركة "كويردينكر" اعتراضاً على إجراءات الإقفال العام. نشأت هذه الحركة كتحالفٍ واسع يضمّ قوىً يمينية ويسارية تتبني مخاوف قطاع من الشارع الألماني من انتهاك السلطات للحقوق الفردية وحرية الحركة، والتي تأتي عادةً ضمن إطار من نظريات المؤامرة. رأيت لافتات تُرفع ضد شركات الأدوية الكبرى وضد شرائح بيل غيتس الذكية وضد حظر التنقل جنباً إلى جنب مع شعارات معادية للسامية وأخرى تنادي بالسلام وهتافات معادية لميركل.
3. عندما وصلت إلى ألمانيا أواخر عام 2014، كانت هناك مظاهرات مشابهة تعترض على ما يُسمّى بأسلمة الغرب، والذي يُعرف أيضاً لدى الإعلام الجماهيري باسم أزمة اللاجئين. أعلنت "حركة وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب" المعروفة اختصاراً باسم "بيغيدا" خيانة ميركل للأمة الألمانية على خلفية استمرارها في سياسة الباب المفتوح أمام وفود النازحين (في حين أن ما فعلته ميركل في واقع الحال كان تشديد إجراءات طلب اللجوء). نفس الشعور بالغبن والتهميش الذي عبّرت عنه بيغيدا في العام 2015 ترددت أصداؤه في حراك كويردينكر المعادي للإقفال العام. وبشكل ما بدت الأخيرة كامتدادٍ للأولى، أو كنسخةٍ منها لعام 2020. تُظهِر أزمة الحوكمة التي نعاينها اليوم أن الديموقراطية الليبرالية كما تُمارس اليوم، هي في واقع الحال نظامٌ أوليغارشي.
4. رداً على تظاهرات كويردينكر، ركّز السياسيون الليبراليون والإعلام الجماهيري على عقلانية العلم. احتفى عديدٌ في دوائر معارفي بميركل في إشارةٍ إلى التزامٍ لا نقاش فيه بإجراءات الإقفال العام.
5. يمكنني أن أتفهم بعضاً من المشاعر التي تحرّك مناصري كويردينكر، لا سيّما تفنيد مصالح شركات الأدوية الكبرى ودوائر تأثيرها داخل الحكومة. في القلب من هذا كله ألمس موقفاً مناهضاً للسلطة. كان تفهّم دوافع حركةٍ سياسية تسعى في الوقت ذاته إلى إبادتي واحداً من أكثر المشاعر المُربكة التي اختبرتها خلال فترة الجائحة.
6. تقول العرب "معلّقٌ بين نارين"، ويقول الإنكليز "بين كرسيٍ وآخر، يسقط المرء أرضاً". كشخصٍ نشأ في ظل نظامٍ دكتاتوري ونجا من ثورة ويعيش في المنفى، أشعر بالأسى لأن كويردينكر قد اختُطفت من أصحابها. في ظل الجائحة، تتوجب ضرورة الشك البنّاء والتساؤل حول سلطة المؤسسة العلمية، وحول حقيقة من يُنتج ويستهلك أي نوعٍ من المعرفة. في نضالها من أجل الحصول على علاجٍ ودعمٍ صحّي للأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة (الإيدز)، استعملت مجموعة "آكت أب" تكتيكات من ضمنها اقتحام الإدارات العامة وقطع الطرقات وإلقاء قنابل من الدم الاصطناعي. قامت المجموعة بسلسلة من التحركات ضد المؤسسات الصحية وشركات الأدوية الكبرى (شولمان 2021)، وقامت عبر شبكةٍ من المختصين والباحثين بالضغط على المؤسسة العلمية لوقف تجاهلها وتحيزها تجاه المرض.
7. تقول الكاتبة الأميركية إيف كوسوفسكي سيدجويك (2003) إن البارانويا، بوصفها امتداداً للتفكير المؤامراتي، هي واحدةٌ من ركائز التحليل اليساري. وتطرح سيدجويك القراءة الترميمية كطريقةٍ للمضيّ قدماً في هذا التحليل. يخبرنا علماء الأوبئة بقصة الوباء، إلا أن الطرق التي نختبر من خلالها أحداث هذه القصة لا ينبغي أن تكون هي نفسها.
العزلة ليست خطأك أنت
1. أعيش وحيداً في برلين. بدا ذلك كخيارٍ منطقيٍ وحيد بعد تجربة العيش في مخيمات اللاجئين حيث تستحيل الخصوصية. لديّ أيضاً رصيدٌ وافر من تجارب استبداد رفاق السكن، حيث تفعل فوارق الثقافة وتوازنات القوى فعلها. ليس من ثمّة غرابة في أمر العيش وحيداً في برلين، فثلث شقق المدينة يسكنها شخصٌ واحد. بالنسبة للكثيرين يعني ذلك معاناة لا تنتهي مع الوحدة والعزلة. أقف دائماً على الحافة حيال الأمر. أفضله أحياناً، إذ يمكنني ترتيب البيت أو تركه فوضوياً متى شئت، ويمكنني العمل أو التكاسل متى شئت. أن يعيش المرء في مساحته الخاصة، كما تقول فرجينيا وولف (1929) في أطروحتها المعنونة "استكشاف الشروط المجندرة لحريّة التعبير"، هي الحالة المُثلى لكاتب. في أوقاتٍ أخرى أشعر بوحدةٍ شديدة، وهو ليس أمراً طبيعياً أبداً. أحياناً يبدو العيش وحيداً كسقوطٍ في أسوأ فخاخ الفردانية السامّة.
2. قبل جائحة كورونا، كان التباعد الاجتماعي هو القاعدة لا الاستثناء في فضاءات برلين العامة. يعيش المرء مجهولاً بالكاد يتواصل مع محيطه في الحي أو جيرانه في البناية. لا وجود هنا للعلاقات العارضة مع الغرباء. ليس ثمّة من صدف يومية لطيفة، كمحادثةٍ عابرة أثناء الانتظار في طابورٍ طويل، أو إطراءٍ عفوي من أحد المارة. تجعل هذه الحوارات الصغيرة الحياة بالمدينة أكثر احتمالاً وأمناً وترحاباً. بالعكس، تتمحور الحياة في برلين، كما في غيرها من المدن الكبرى، حول حصر تفاعلاتنا الاجتماعية بمحيطنا المباشر، ضمن دوائر وفعاليات محددة دون غيرها. فلتبق ضمن دائرة معارفك، ولا تفكر في تجاوز حدود طبقتك الاجتماعية. بالتأكيد كان التباعد الاجتماعي موجوداً قبل الجائحة، لم يستجدّ في الأمر سوى إعادة تعيينه عند علامة متر ونصف.
3. أقود دراجتي من أمام إحدى حاناتي المفضلة في المدينة. من خلف زجاج الواجهة، تبدو الكراسي الخاوية والطاولات المغبرة حزينة وغريبة. على الباب عبارة لشوبنهاور، وهو فيلسوف ألماني اشتُهر بتشاؤمه، تقول: "ما يجعل الناس اجتماعيين هو عجزهم عن احتمال الوحدة وحمل أنفسهم على مواصلة الحياة". أتخيل الشخص الذي قام بتعليق العبارة، وأتساءل فيم كان يفكر. بالتأكيد لا يضير اللجوء إلى الفلسفة كآلية للتكيّف، إلا أنه لا يسعني إلا أن أرى في العبارة إلقاءٌ للّائمة على الضحية التي هي أنا. أرى رغبتي في الحميمية وقد تحولت إلى عجزي عن البقاء وحيداً.
4. منذ وصولي ألمانيا، تطوّر لديّ نوعٌ جديد من القلق، ألا وهو القلق حيال وارد البريد. يتلازم هذا القلق مع رجفةٍ ملحوظة في كل مرة أفتح فيها صندوق البريد. أعجز عن توقع ما قد يحل بي في كل مرة. قد يكون البريد قراراً برفض طلب اللجوء، أو فاتورة بمبلغ ضخم لشيء تعجز ألمانيتي الوليدة عن فهمه. في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي وجدت رسالة من عمدة برلين، تعلن الشهر "شهراً للمسؤولية الفردية". أليست كل الأيام هي أيام للمسؤولية الفردية في أي ديموقراطية ليبرالية صناعية غربية؟
5. إذا ما تقيّدنا بالإجراءات، سنحتفل بعيد الميلاد، هكذا وعدت ميركل في واحدة من خطاباتها. سألت صديقي في إحباط: لمَ تتحدّث إلينا كما لو كنا أطفال؟ كان جوابه: لأن الناس يتصرفون كالأطفال. ولم يعجبني الجواب.
6. قضت السلطات الألمانية بتعطيل العمل بإجراءات الإقفال العام استثنائياً ليلة عيد الميلاد، وسمحت بالاحتفال في "نطاق العائلة الضيق". أصبح لكل عائلة الحق في استضافة أربعة أفراد من ذويهم والاحتفال معهم في المنزل، شرط أن يكونوا من العائلة نفسها، بالإضافة إلى الأطفال. فيما عدا ذلك استمر العمل بقاعدة خمسة أفراد من عائلتين. منذ بداية الجائحة استُخدمت كلمة "العائلة" مراراً لمعايرة حدود التباعد الاجتماعي، إلا أن الإحساس بما تنطوي عليه من العسف لم يكتمل إلا مع حمّى عيد الميلاد. تم سنّ الإجراءات قياساً على عائلة نواتية معيارية، دون أي اعتبار لاحتمالية وجود عائلة كويرية مثلاً. كان عيد الميلاد الكوفيدي عيداً للعائلات التي تربطها صلة الدم، لا صلة الاختيار.
الإعلام ليس في صفك على الدوام
1. متنزه هازنهايده (حرفياً: مرج الأرانب) هو حيث داهمت الشرطة ذلك الحفل السري الذي ذُكر في بداية النص. تاريخياً كان المتنزه غابةً يستعملها البلاط القيصري لأغراض الصيد والتريّض منذ القرن السابع عشر، إلى أن اتخذ فريدريش لودفيغ يان مؤسس الحركة الرياضية الألمانية لاحقاً من هذه الغابة مكاناً لأول ملعبٍ رياضي حديث بالبلاد. كانت طريقة يان لتعزيز الروح الوطنية بين الألمان بعد هزيمتهم في الحروب النابوليونية هي تقوية بنيتهم الجسمانية. كان الرجل جزءاً من حراكٍ وطني أكبر مهّد الطريق لانتصارٍ ألماني لاحق، ويُقال إن أفكاره عن الجسم المثالي كانت مصدراً لإلهام المخيلة النازية عن الإنسان الآري الخارق. في العام 1936 حُوّل المكان إلى متنزهٍ عام.
2. كعديدٍ من المتنزهات العامة في برلين، يحتوي متنزه هازنهايده على ركنٍ مخصص لنادي التعرّي الشهير "إف كا كا" حيث يمكن لزوار المتنزه التمدد لتشميس أجسادهم العارية. يُعد هذا الركن مساحةً هامة لبناء العلاقات الاجتماعية في مجتمع الميم البرليني. يقع المكان بالقرب من غابةٍ متغاصنة تشكّل متاهةً للتمشية العابثة بعيداً عن الأنظار وساتراً لمغامرات الجنس الخاطفة. عقب صدمة الأشهر الأولى من الجائحة، وفّر المكان مساحةً لتلاقي أفراد مجتمع الميم يشجّعهم الطقس المشمس.
3. تحوّلت التجمعات السرية، لاسيّما الخاصة منها، إلى بؤرة اهتمام السياسات الثقافية في ألمانيا. أطلق عليهم الإعلام الجماهيري والنخب على السواء اسم "حفلات الكورونا". في صيف العام 2020 سرّبت محطة تلفزيونية محلية مقطع فيديو لواحدةٍ من تلك الحفلات كانت قد قامت بتصويره عبر كاميرا خفية. أثار ذلك موجة من الغضب تجاه المحتفلين الذين تم تصويرهم كمجموعةٍ عابثة وغير مسؤولة، مع التركيز على تعاطيهم المخدرات وخرقهم لإجراءات الإقفال العام.
4. في الأسابيع التالية، ازدادت أعداد المحتفلين، كما عناصر الشرطة. استخدمت الشرطة المروحيات والهراوات والكلاب المدرّبة والعنف الجسدي لإخلاء المكان. في مناطق أخرى ببرلين، قامت الشرطة الألمانية بمداهمة مناطق التنزه والتجمعات الخاصة دون أن تخفي رهابها للمثليين وعدائها للأجانب. استُخدم خرق إجراءات العزل الوبائي وحماية الفضاءات الخضراء وشكاوى الجيران كذريعةٍ متكررة لهذه المداهمات.
5. أثارت أخبار مداهمات شرطة برلين لفضاءات مجتمع الميم في نفسي ذكريات أليمة من أرشيف العنف ضد المثليين في مصر. في العام 2014 استخدمت إعلاميةٌ مصرية كاميرا خفيّة لفضح مجموعةٍ من الأشخاص يمارسون الجنس المثلي في أحد الحمامات العامة بالقاهرة (المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، 2014). طلبت الإعلامية تدخّل الشرطة تحت ذريعة مكافحة تفشي الإيدز و"الإتجار بالبشر" ما أسفر عن اعتقال 25 شخصاً بتهمة الفجور، وهو اصطلاح قانوني غائم يغطي ممارسات الاضطهاد ضد الأجسام المثلية والعابرة في مصر. حكاية العين الساهرة للإعلام والتي تفضح ما يُفترض فيه أن يكون شأناً خاصاً مع التحريض على العداء ضد المثليين/ات هو حكايةٌ متكررة ومعروفة.
6. أثناء الجائحة، يُعاد إنتاج آليات القمع في غير أماكنها. ويمتد ذلك لدول تتباهى عادةً بانفتاحها وتسامحها مع أنماط العيش المختلف والجنسانية غير المعيارية. على إثر ذلك، تتحوّل فضاءات مجتمع الميم إلى مواقع للهلع الأخلاقي. عشية الموجة الأولى لتفشي الإيدز، أُغلقت غرف الساونا المخصصة للمثليين، بل وأُحرق بعضها في حالات عدّة.
7. بجانب فضاءات مجتمع الميم، ركّز الإعلام أيضاً على المواقع التقليدية للهلع الوبائي، كأعراس المسلمين ومشاريع الإسكان المخصصة لغجر الروما. يُظهر الوباء البنية الحقيقية للمجتمع، ويسلط الضوء على ما يمكن أن يعتبره هذا المجتمع أجساماً دخيلة يمكن أن تحمل المرض وتهدّد سلامة الأمة، سواء كان ذلك بسبب تزيّد هذه الأجسام كحال مجتمع الميم، أو بسبب حملها لشوائب ثقافيةٍ مغايرة كحال الأقليات الإثنية.
الخوف هو العدو
1. عملي هو التحدّث عن ممارسة الجنس. بعبارةٍ أخرى، أعمل كمساعدٍ نفسي اجتماعي في أحد مراكز الرعاية الصحية الجنسية ببرلين. بشكلٍ يومي، أساعد من يأتون إلى المركز للاطمئنان على صحتهم الجنسية. بعد سنواتٍ من العمل، لاحظت مجموعةً من الأسئلة والسيناريوهات المتكررة. أحد هذه السيناريوهات يتضمن شخصاً يصرّح عن ممارسته للجنس بشكلٍ غير آمن ويشعرون بالندم ما يلزم من احتياطات حمائية. عادةً ما يصف هذا الشخص أعراض أو تغيرات جسمانية طرأت عليه بعد الممارسة. قد يتوجه البعض للبحث عن هذه الأعراض على الإنترنت، وقد يزداد قلقهم إثر التشخيص الذاتي. يأتون للمركز أخيراً لمواجهة قلقهم واستيضاح الأمر. باستثناء قلّةٍ قليلة من الحالات الحاملة للعدوى، في غالب الأحوال تأتي نتائج اختبارات هؤلاء الأشخاص سلبيةً بالكامل.
2. تستوجب ممارسة الجنس العقاب، هذه فكرةٌ متجذرةٌ في نفوسنا كبقعةٍ على صعيد ناصع، لا تزول مهما جهدنا في محوها. شبّ الكثير منا على استنشاق الرسائل الاجتماعية لإدانة الجنس مع هواء التنفس، من الأسرة والمدرسة والإعلام والمؤسسة الدينية وغيرها. لا يشكل ذلك سلوكياتنا وحسب بل وهوياتنا الجنسية، ويمتد ليطبع أثره حياتنا العاطفية برمّتها. من الناحية البيولوجية، يختلف فيروس كورونا من حيث وسيط الانتقال والأعراض عن فيروس الإيدز أو غيره من الأمراض الجنسية المنقولة. إلا أن معتقداتنا وسلوكياتنا الصحية حولها لا تختلف كثيراً في واقع الحال. تظل ازدواجية الحاجة للقرب من الآخرين والخوف في الوقت ذاته من قربهم هي الجدلية المركزية لفهم الصحة والعدوى.
3. يستجيب البشر للخطر بطريقةٍ من ثلاث. أولاً الإنكار والتحجيم (تحدث أمور كهذه للآخرين لكن ليس لي). ثانياً اللوم (سيتسبب الآخرون في نقل العدوى إلينا). ثالثاً الهلع (سنموت جميعاً).
4. في أحد الأيام، أرسل لي صديق رسالةً نصية يسألني طلب الإسعاف إذ أنه بالكاد يستطيع التنفس. حاولت استيضاح الأمر من المسعفين الذين أكدوا لي أنها عدوى كورونا، قبل أن يتضح لهم بعد ساعة أنها لم تكن سوى نوبة هلع. بفضل الأشخاص الذين أعمل معهم، تعلمت كثيراً عن الهلع بشأن الصحة والخوف المفرط من تدهور حالة المرء الصحية. في بعض الأحيان قد نتوهّم أن ما نشعر به من تغيرات جسمانية طفيفة هو عرضٌ لمرضٍ ما. وفي أحيانٍ أسوأ، قد تتحول مخاوفنا نفسها إلى مشكلةٍ مرضية.
5. للخوف فوائدٌ أيضاً، فهو ما يبقينا على قيد الحياة. إلا أن كلفته لا تنعكس علينا وحدنا. مع الوقت نطوّر معاييرنا الخاصة لتحديد من يمكننا الاختلاط (والاختلاء) بهم وفق تصوراتنا عن حالتهم الصحية. فالخوف يُبنى دائماً وفق تحيزاتنا. خلال جلسات العمل بالمركز أستمع إلى حججٍ لا نهاية لها لتبرير احتمالية أن يكون الاختلاط بأحدهم مصدر قلقٍ صحي:
"إنه يعمل كمنسق اسطوانات دي جاي".
"إنها عاملة جنس، ولا أثق بها".
"إنهم متعايشون مع الإيدز، ولا أعلم حدود ما هم منخرطون فيه".
"إنه "إفريقي" ومن المرجح أن يكون مصاباً بالإيدز".
6. تتسق تلك السلوكيات مع ملاحظات باحثة الأنثربولوجيا ماري دوغلاس (1966) حول كيفية ربطنا بين الأذى، كما في حالة المرض مثلاً، والسلوكيات التي تتجاوز الأعراف الاجتماعية أو السلوكيات التي تُعتبر دخيلةً على المجتمع، والتي بحسب تعبيرها تتواجد "حيث لا ينبغي لها أن تكون".
7. في حالة الأوبئة (كما في غيرها) نفكّر انطلاقاً من الثنائيات. نتحدّث عمّا هو هشٌّ ومعرّضٌ للأذى مقابل ما هو آمن، والجنس الآمن مقابل غير الآمن، والضحايا مقابل الجناة، ومن يتصرفون بمسؤولية مقابل غير المكترثين. دائماً ما تكون هذه الثنائيات مضلّلة. في حالة كورونا مثلاً تمّ تعريف قابلية التعرّض للعدوى بدلالة السنّ ووجود تاريخٍ مرَضيٍّ سابق، وهو ما حيّد النظر عن أشكالٍ أخرى من قابلية التعرّض للعدوى كما في حالة النازحين أو المحرومين من الضمان الصحي مثلاً. هذا إذا ما تغاضينا عن أولئك الذين لا يملكون رفاهية البقاء في المنزل كالمقيمين في مخيمات اللاجئين ومراكز الاحتجاز. دائماً ما ننسى أنّ قوّتنا تتحدّد بالأضعف بيننا.
8. في وباء فيروس نقص المناعة البشرية، تمّ إلقاء اللوم على الرجال المثليين والمشتغلين بالجنس ومتعاطي المخدرات لإصابتهم بالمرض ونشر الفيروس. يؤشّر توجيه دفّة اللوم إلى الضحية على استبطان معاداة المثليين/ات ورهاب من الجنس والمخدرات. في سياقٍ مغاير، يدين المؤرخ الفنّي دوغلاس كريمب (1987) الكتابة البورجوازية التي تعتنق الاستغلاق البلاغي للتعبير عن اشتهاء الحميمية المعروف عموماً بالانحلال. يُفرِد كريمب مساحةً لعمل التعاطف والتأرجح والتشكّك في مواجهة الجائحة وفي وجه حملات الإدانة والتأنيب. كما يقترح كريمب أنّ ممارسة الجنس غير الشرعي لهو وسيلة للنجاة من الوباء. "نحن قادرون على اتباع سلوكيات آمنة اثناء ممارسة الجنس لأننا عرفنا دائمًا أن الجنس وبمعزل عن وجود الوباء، ليس مقتصراً على الجنس الاختراقي. علّمنا الاختلاط الجنسي الخارج عن الأعراف القانونية الكثير، ليس فقط عن ملذّات الجنس، ولكن أيضًا عن تعدد هذه الملذّات"، يشرح كريمب.
9. كيف يجدر بنا التفكير بمسألة النهم الجنسي في ظل جائحةٍ عالمية؟ في حين أنه يُنظر إلى مسألة الجنس على أنها مبعثٌ للخطر، إلا أننا نستطيع النظر إليها أيضاً بكونها حاجة للنجاة وشكل من أشكال المقاومة.
10. الخوف هو العدو، الخوف ينهش أرواحنا. لا بُدّ وأن نعترف بهذا الخوف ونعتنقه ونُصاحبه وبذلك يُصادق المرء نفسه. لا بُدّ وأن نُقرّ بأن كُلاً من الألم والتغيير والمرض والموت هي من أوجه التجربة الإنسانية. لديّ مخاوفي من الجائحة. أخشى من أن أغيب عن أحبّتي في أوقات حاجتهم بسبب حدود مُنعتُ من عبورها. أخشى مواجهة العنصرية أثناء مرضي. غير أنّي أستمدّ القوة من كلّ تجربة نجاةٍ في حياتي. أستمدّ القوة من كوني شعرت بنهاية العالم مراراً، ولكنني مازلت على قيد الحياة.
- 1. الترجمة المباشرة لحراك (Black Lives Matter) الذي انطلق بصيغته المنظمة غير المركزية عام 2013 ضد سياسات القتل العنصرية المعتمدة من قبل الأجهزة الشرطية في كافة أرجاء الولايات المتحدة (مديرة الترجمة).
Crimp, D. (1987). How to Have Promiscuity in an Epidemic. AIDS: Cultural Analysis/Cultural Activism, 43, 237-271.
Douglas, Mary. Purity and Danger: An Analysis of Concepts of Pollution and Taboo. New York: Praeger, 1966.
Fahmy K. (2021). Medicine and Public Health in the Nineteenth Century. Forthcoming in the Oxford Handbook of Modern Egypt.
Rose, C. S. (2021). The history of public health in the modern Middle East: The environmental–medical turn. History Compass.
Schulman, S. (2021). Let the Record Show: A Political History of ACT UP New York, 1987-1993. Farrar, Straus and Giroux.
Sedgwick, E. K. (2003). Paranoid Reading and Reparative Reading, Or, You’re So Paranoid You Probably Think This Essay Is About You. In: Touching Feeling: Affect, Pedagogy, Performativity. Durham; London: Duke University Press, 123-152.
The Egyptian Initiative for Personal Rights. (2014). EIPR condemns violation privacy and urges fair trial for defendants. Press Release, 21 December. https://eipr.org/en/press/2014/12/eipr-condemns-violation-privacy-and-ur...
Woolf, V. (1929). A room of one's own. New York: Harcourt, Brace and Company.