صياغة التضامن: أصوات كويرية في ثورة 17 أكتوبر

السيرة: 

كاتبة نسوية كويرية مقيمة في بيروت وتسعى حاليًا للحصول على درجة الماجستير في السياسة الدولية من SOAS، جامعة لندن. تركز أبحاثها على الترسيخ العاطفي والمنهجي للطائفية في لبنان. حاصلة على بكالوريوس في القانون اللبناني وماجستير في القانون العام من جامعة القديس يوسف في بيروت وعملت في مجال البحث القانوني مع منظمات مختلفة تناضل من أجل المساواة الاجتماعية ومكافحة الفساد. في أوقات فراغها، تتطوع في خط ساخن للأزمات القانونية يقدّم المساعدة للنشطاء المحتجزين ظلماً أو الذين تعرّضوا للاعتداء أثناء الاحتجاجات. كما أنها لا تزال ناشطة على الإنترنت وفي شوارع بيروت. مهتمّة بالنظرية النسوية الكويرية والتضامن العابر للحدود وسياسات التأثير ورواية القصص.

اقتباس: 
سيندي سلامة. "صياغة التضامن: أصوات كويرية في ثورة 17 أكتوبر". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 7 عدد 1 (06 سبتمبر 2021): ص. 185-197. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 29 مارس 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/306.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (692.26 كيلوبايت)
ترجمة: 

كاتب ومترجم مستقلّ، عمل على ترجمة العديد من المقالات البحثية التي تتناول موضوعات أثرية مع باحثين أثريين ومع المديرية العامة للآثار. له عدة مساهمات في الكتابة والترجمة ضمن الحركة الشيوعية في لبنان.

The failing of impossible

فشل المستحيل

 

جولروخ نفيسي

مقدّمة

شهدت ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر نزول ملايين الأشخاص إلى شوارع بيروت وجميع المدن الكبرى فيما أصبح يُعرف بأكبر حركة احتجاج في البلاد منذ عقود. هتفوا بانسجام ضد الفساد والطائفية والسلطة الأبوية والطبقية...، اجتمع أشخاص من خلفيات اجتماعية واقتصادية ودينية وجغرافية واسعة للإطاحة بالمؤسسة السياسية المهيمنة في البلاد، وللمطالبة بتغيير جذري. وكان من بينهم مجتمع الميم عين الذين حضروا منذ اليوم الأوّل وشاركوا في كلّ احتجاج ووقفوا عند كلّ حاجز. حشدتهم نفس المطالب التي حرّكت زملاءهم المحتجّين. وقد ساعد فعل استعادة الأماكن العامّة على النقاش والتفاعل وعلى خلق أشكال جديدة من التضامن في بلد تأثّر بشدة بالانقسامات الطائفية.

في هذا السياق، من المهم النظر في الإمكانيات التي ولّدتها ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر للحركات الكويرية1 لبناء تضامنات جديدة. إن التنظيم السياسي اللبناني له تاريخ في أن تصبح الحركات مُستحوَذ عليها من قبل النخب الحاكمة الطائفية، مما تسبّب في نشوء معارضات داخلية وأدّى في نهاية المطاف إلى انهيار تلك الحركات. كانت هذه هي حالة النقابات العمّالية، التي تُعتبر تاريخيا مستقلّة نسبياً وقادرة على الوقوف في وجه الميليشيات الحاكمة، لكنها انهارت في التسعينيات بسبب القمع والاستحواذ من قبل الفصائل الحاكمة (باومان 2016). وقد تجلّى هذا النمط أيضاً في حركة #You_Stink أو "طلعت ريحتكم" في أعقاب أزمة النفايات في عام 2015، حيث احتوت النخبة السياسية الحركة السياسية من خلال الخطاب الدعائي القائم على تبنّي مطالب المحتجّين والادعاء بأنهم أصحابها.2 بالإضافة إلى زرع "المندسين"، وهم أنصار حزبيين يربكون الأوساط الإعلامية من خلال تحوير المطالب أو رفع شعاراتهم الخاصة (جحا 2016). ولذلك، من المهم للغاية أن تعزز الحركات السياسية التضامن في صفوفها ومع الفئات الأخرى من السكان من أجل ضمان ديمومتها. ولذلك، سأحاول دراسة إمكانيات بناء التحالفات التي تنشأ في سياق عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، مع التركيز بشكل خاص على ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر في لبنان. ولهذا الغرض، سأدرس على وجه التحديد الحركة السياسية الكويرية التي كانت حاضرة في الاحتجاجات – وعلى وجه التحديد، الطرق التي تفاعلت بها مع الحركة السياسية الأوسع.

إن استكشاف كيفية صياغة التضامن رغماً عن الانقسامات الجندرية، والدينية، والعرقية، والاقتصادية، والاجتماعية، والوطنية يسمح لنا بتنظيم استراتيجيات جماعية للوحدة ضد الطغاة المشتركين. في الواقع، وفقا لشولتز (2008)، التضامن السياسي هو رابطة توحّد مجموعة من الناس الذين يتفاعلون بشكل جماعي ضمن حالة من الظلم أو القمع أو الضعف الاجتماعي أو الطغيان. في الصفحات التالية، سأسلط الضوء أولا على الإمكانيات والفرص الجديدة التي تتيحها لحظات الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لتشكيل التضامن بين الحركات. ثم أنتقل إلى دراسة أهمية التجمّع وبناء الروابط العاطفية بين الحركات. وأزعم أن التضامن المتبادل لا يمكن تحقيقه إلا من خلال المقاربات التقاطعية، أي بالخروج عن المنظمات غير الحكومية وعن نمط نشاطاتها أحادية القضية. وأخيرا، أستنتج أنه في حين وفّرت ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر العديد من الفرص للتنظيم الكويري في لبنان لبناء التضامن بين الحركات، لا تزال هناك حاجة إلى المزيد من النشاط القاعدي لضمان ديمومة روابط التضامن تلك.

 

استغلال الأزمات لتعزيز التضامن بين الحركات السياسية

في الأشهر التي سبقت ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، كان لبنان يواجه تراكماً عميقاً للأزمات الاقتصادية والمالية والبيئية والسياسية، التي تتشابك ويُفاقم بعضها الآخر. انطلقت الانتفاضة الشعبية للمخيمات الفلسطينية التي استمرّت طوال صيف 2019 ضد الحرمان والتدهور المستمر للظروف المعيشية. ومن المفارقة أن هذا السياق من انعدام الأمن والحرمان الذي واجهته المخيمات هو الذي سمح للشعب بعد شهرين بالتحرّر من النخبة السياسية الحاكمة والتجمّع في الشوارع للمطالبة بتغيير جذري. وفي مقابلة مع "المفكّرة القانونية"، حدّد كمال حمدان (2019) "نظام فتات الخبز" كعامل مهم في إعادة إنتاج الطبقة الحاكمة في لبنان منذ الحرب الأهلية. وهذه ظاهرة تستولي فيها الفصائل الحاكمة على "المؤسسات العامة ومواردها. ثم توزّع "فتات الخبز" من الموارد العامة ] أي فرص العمل وخدمات الرعاية الصحية والتعليم [ بطريقة غير قانونية على أتباعها". وقد سمح ذلك للفصائل بالحصول على ولاء السكان على أساس طائفي، وبالتالي إعادة إنتاج قوام الاقتصاد السياسي للطائفية (باومان 2016 ). ومع ذلك وبحلول نهاية عام 2019، كان جزء كبير من السكان يشعرون بآثار الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، ويعيش ربعهم تحت خط الفقر. يعيش 1.2 مليون شخص في عموم لبنان على أقل من 8.6 دولار في اليوم، منهم 250 إلى 300 ألف يعيشون على أقل من 5.7 دولار في اليوم، وهي عتبة الفقر المدقع (الجميل 2019). واستمرّت الحالة في التدهور منذ ذلك الحين.

أكّد العلماء على الأهمية التاريخية للأزمات السياسية والاقتصادية كحافز للتغيير الاجتماعي، لا سيما في السياق اللبناني. في الواقع، إن الحرب الأهلية اللبنانية (محمد 2015؛ باومان 2016) والغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 2006 (مكارم 2020؛ نابر 2014) بالإضافة إلى الأثر المزعزع للربيع العربي عام 2011 و"أزمة النفايات" (أبي ياغي وآخرون 2017)، مثّلت فرصة لمختلف الحركات السياسية والمناهضة للطائفية لكسب التأييد الجماهيري. وقد قوّضت هذه الأزمات قدرة الطبقة الحاكمة على تقديم الخدمات للسكان على نطاق أوسع، مما أتاح فرصاً جديدة للتنظيم الاجتماعي والسياسي للارتقاء إلى مستوى الحد.عند هذه النقطة، من المهم الاعتراف بالتاريخ الطويل للنشاط المناهض للطائفية، الذي سبق ثورة أكتوبر 2019 وساهم، بأخطائه ونجاحاته، في تمكينها.

ومن الأمثلة على النشطاء الكويريين الذين استجابوا للأزمة بطريقة شكّلت تضامنا مع السكان المحليين، هي جمعية "حلم" ذائعة الصيت والتي قامت بتقديم خدمات الإغاثة للنازحين في الجنوب خلال الغزو الاسرائيلي عام 2006. وقد أتاح هذا التضامن لجمعية "حلم" المعنية بمجتمع الميم عين أساسًا، بفتح علاقات مع المجموعات والمنظمات التي لم تكن لتتعاون معها في ظروف مختلفة (مكارم 2020؛ نابر وآخرون 2014). وبالمثل، سمح السياق الاقتصادي الذي أدى إلى ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر بتقليص قدرة الطبقة الحاكمة على تقديم الخدمات لأتباعها. وبهذا المعنى، أدى تضعضع الاقتصاد إلى زعزعة استقرار هيكل السلطة القائم بشكل جذري، الأمر الذي حافظ على الوضع الراهن. لم يعد لدى القادة الطائفيين الوسائل لشراء ولاءات أتباعهم من خلال التوزيع الزبائني للخدمات. هكذا، لم يبق للسكان ما يخسرونه، بل تحرروا فعليا من الروابط المادية التي أبقتهم تابعين للفصائل الحاكمة، الأمر الذي أخرجهم إلى الشوارع للاحتجاج على الفساد وسوء إدارة الأموال واضطهاد الدولة. تمكّن الناس من جميع مشارب الحياة، متحدين في الشوارع ضد نظام لا يخدم أيّاً من مصالحهم/نّ، من الالتقاء ببعضهم الآخر، وأحيانا للمرة الأولى، وصياغة شعور جديد بالتضامن على أساس واقع حرمانهم/ن المشترك.

 

التجمّع الجماهيري: قوة جسدية وعاطفية

وفي حين أن أوقات الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فعّالة في كسر الروابط الزبائنية العامودية بين الشعب والطبقة الحاكمة، حتى ولو على نحوٍ مؤقت، إلا أنها لا تكفي لإنشاء روابط تضامن أفقية جديدة بين فئات مختلفة من السكان. ومن المهم التأكيد على دور التجمّع والتعبئة الجماعية لمختلف المجموعات في الأماكن العامة بإقامة تحالفات جديدة. وفي لبنان تحديدا، وصف سفيان مرابط غياب "مجتمع مثليين" والذي يعرّفه على أنه "مجموعة متماسكة وشاملة من الناس يتقاسمون مواقف وتطلعات متشابهة، حتى وإن تنافست فيما بينها. في هذه المجموعة يصبح التفضيل الجنسي نقطة أساسية لبناء الهوية" (مرابط 2004، ص 32). وفقًا لوصف مرابط، ما يوجد في لبنان هو مجرد "فلك" ينتمي إليه مثليو الجنس ويتميز بـ"هرميات تبلورت على إثر الهجرات الحضرية" (مرابط 2014، ص 74). هرميات تبلورت على إثر تقاطع عوامل مختلفة ومنها، الطبقة، الطائفة، الموقع الجغرافي، إلخ والتي تحدد إمكانية وصول/ عدم وصول الأفراد إلى أماكن معينة. تزداد تلك الهرميات انحدارا مع موجات الخصخصة التي جعلت الأماكن العامة تنقرض تقريباً في لبنان. على مدى عقود، اعتبر الشارع وسيلة للوصول إلى الأماكن، بدلا من أن يكون مساحة عامة في حد ذاته. ازدادت أهمية التجمّع في الشوارع وفي الأماكن العامة كطريقةٍ لاستعادة المساحة العامة، وذلك بهدف بناء روابط التضامن ضمن الحركات الكويرية وضمن المجتمعات المختلفة على نحو أكبر. والواقع أن احتلال المسارح المهجورة، ومواقف السيارات، والشوارع في المدن، والدوارات، والساحات العامة، والجسور سمح للناس باستعادة الأماكن العامة كمساحات للنقاشات الاجتماعية والسياسية الجماعية. شهدت ثورة 17 تشرين الاول/ أكتوبر قيام الناس ببناء الخيام وتنظيم مناقشات مفتوحة للجمهور حول مواضيع متنوعة ومنها: أسباب الأزمة الاقتصادية، ومشاكل نظام العدالة، وكيفية تغيير النظام. وجرى الترحيب بالناس من جميع مشارب الحياة للانضمام ومناقشة الموضوعات التي تهم مستقبل الشعب ككل. سمحت هذه المساحة بمزيد من الاتصال بين حركات مجتمع الميم عين والمجموعات الأخرى التي اجتمعت لمناقشة الصراعات والاستراتيجيات المشتركة والخوض فيها بشكل جماعي.

وقد عرّفت جوديث بتلر وأثينا أثاناسيو (2013) هذا النوع من التجمّع على أنه "تجلٍّ جسدي وعاطفي فريد لحالة الركود العامة، يزعزع الإفتراضات المعيارية المسبقة لما يُعتبر معقولاً ومنطقياً اجتماعياً ضمن جماعات سياسية مختلفة ولو بشكل مؤقت" (ص. 150-151) وبهذا المعنى، فإن تجمّعات مختلف فئات السكان تسمح بإجراء تحوّلٍ مؤقت للمتخيّل الجمعي/ الجماهيري،3 ما يزعزع استقرار المفاهيم المعيارية المسيطرة. يسمح ذلك بتشكيل "مستقبلية كويرية" محتملة، وهو المفهوم الذي أدخله مونيوز (2009) للدلالة على طوباوية كويرية تنفصل عن الحاضر، وترفض البراغماتية السياسية والعدمية لصالح مستقبل أكثر إشراقا. إن زعزعة الاستقرار هذه لما هو معياري خلال ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، هو الواقع الذي سمح للسكان بتخيّل طرق بديلة لكيفية العيش والوجود ورفض التنازلات باسم البراغماتية والانتهازية.

وقد صدقت بتلر وأثاناسيو (2013) بتأكيدهما على الكينونية المزدوجة – لهذا التجمّع، أي على بنيته العاطفية والجسدية. في الواقع، تلعب العاطفة دوراً نشطاً في بناء التضامن عبر الحركات. وفي معرض تغطيتها للتجربة الحيّة للناشطات النسويات من جميع أنحاء العالم الذين يمارسون التضامن، تصرّ كرمان (2016) على أهمية المشاعر، وعلى وجه التحديد، أواصر الصداقة بين الأفراد المشاركين في حركات مختلفة. ينطوي بناء الصداقات على تكريس شعور بالثقة والألفة بين الأفراد، وهو ما يتحقق على أفضل وجه من خلال مستوى معيّن من القرب (المادي أو الافتراضي). توصف التجمعات الشعبية في الشارع بأنها شكل لرفض الجماعة للطبقة الحاكمة، إلا أنني أزعم كذلك أنها (أي التجمعات) هي المساحة حيث تتشكّل الجماعة. لا يمكن أن توجد/ تتشكّل الجماعة دون شكل أو آخر من التجمّع. يسمح التجمّع الشعبي بزيادة القرب المادي والتأثير العاطفي بين المجموعات التي ما كان من الممكن أن تكون على هذا القرب من بعضها الآخر خلافاً لذلك. في ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، وقف شبّان محرومون من خلفيات محافظة إلى جانب أفراد كويريين ومتحوّلين جنسياً، وهم يرددون نفس الهتافات الثورية ويرقصون إلى جانبهم على نفس الموسيقى الثورية. إن الاتصال الشخصي أساسي في التخلّص – وإن ببطء – من وصم هؤلاء الأفراد الكويريين وإبعادهم عن بقية المجتمع، وبالتالي بناء روابط تضامن جديدة.

وقد لوحظت هذه الظاهرة أيضاً، على سبيل المثال، في حالة المثليات والمثليين الذين يدعمون حركة عمّال المناجم في ويلز. توطدت علاقة عائلات عمّال المناجم مع مجتمع الميم عين بعدما أمضوا وقتاً مع مناصرين لهم من ناشطات ونشطاء مثليات ومثليين أثناء إضرابهم ضد إغلاق الحفر في عام 1985 (كيليهير 2014). وبالمثل، فإن الاتصال بأفراد مجتمع الميم في سياق ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر يقوّض تصويرهم على أنهم /أنهنّ أجانب – و رمز للإمبريالية الغربية التي تهدد بإعادة استعمار العرب وتحويلهم إلى رعايا "أوروبيين أميركيين" (مسعد 2007، ص41). استيعاب المعاناة المشتركة الناجمة عن نفس النظام الطائفي والطبقة الحاكمة الفاسدة التي حرمت بقية السكان من حقوقهم، يساعد على استبعاد السياسات الهوياتية لصالح التحرر الكويري. وبالتالي لم يعد مجتمع الميم عين موجودا ككيان منفصل له مصالح ونضالات منفصلة، بل أصبح جزءا مننضالٍ ضد واقع حرمان جماعي – وتلك كانت القوة الدافعة للّحظة الثورية. هذا الشكل من أشكال بناء التضامن، يتطلّب من حركات مجتمع الميم عين تجاوز مجرد التعبئة من أجل حقوقهم/نّ الفردية، نحو التعبئة لدعم مطالب السكان الأوسع، هكذا تتبلور معالم شكل من أشكال المدينة الفاضلة ذات الهوية الجماعية والمتخيّل المستقبلي الموحّد.

 

خروج عن المنظمات غير الحكومية والنشاط الليبرالي أحادي القضيّة

أتاحت ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر فرصة لتنظيم المثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية لإعادة النظر في ممارساته/ن وأولوياتهم/ن الخاصة، ومن المهم أن نلاحظ أنه في عام 2006، وكما ذكرنا، كانت منظمات مجتمع الميم عين – على غرار جمعية "حلم" – من بين أوائل الذين ردّوا على الغزو الإسرائيلي وانضموا إلى حركات التضامن الشعبية التي ظهرت خلال تلك الفترة (نابر وآخرون 2014؛ مكارم 2011). ومع ذلك، وبعد انتهاء النزاع،4 أدّت الاشتباكات داخل المنظمة وتغيير رئاسته، إلى تحوّلها إلى منظمة ليبرالية قائمة على تأطير نشاطها بسياسة القضية الواحدة ألا وهي "حقوق المثليين" (مكارم 2020). ومن المهم الاعتراف بأن المنظمة قد غيرت اتجاهاتها منذ ذلك الحين في ظل قيادة جديدة. لكن اعطاء الأولوية لتشكيلات هوياتية معيّنة من قبل مجموعات من المنظمات غير الحكومية قد تساهم في عزلها.5

وفقا لاصلاح جاد (2003)، وبسبب هيكلية المنظمات غير الحكومية، ومصادر تمويلها، ومواردها، وتركيزها على أحادية القضية، وانفصالها عن "السكان المستهدفين" الذين يقصد بها تمكينهم، تبقى المنظمات غير الحكومية عاجزة عن تشكيل أو الحفاظ على حركة اجتماعية تسمح بالتحوّل الجذري للنظام السياسي. تميل المنظمات الى استخدام لغة مؤسسات التعليم العالي كما يستخدم قادتها الخطاب الإنمائي النخبوي، ما يكرس منطق "الوصاية" على السكان. كما أن "السكان المستهدفين" للمنظمات غير الحكومية، غير مشمولين في عملية صنع القرار والسياسات لديها. واعتمادها على التمويل الغربي أو الدولي يعني أن عليها الرد على الاتهامات بأنها "عميلة للغرب" وذلك بالنسبة للشريحة الأوسع من السكان. وبصرف النظر عن الاتهامات، غالبا ما يكون لوكالات التمويل برامجها الخاصة التي يتعين على المنظمات غير الحكومية الانخراط بها من أجل الحصول على الأموال اللازمة لتنفيذ مشاريعها. وهكذا، تؤدي المنظمات غير الحكومية إلى نزع الطابع السياسي عن الحركات وصعود السياسات الواقعية الانتهازية التي تثمّن النشاط أُحادي القضية. هذه السياسة ترسخ سلطة الدولة، ما يدفعها إلى حساب ما يمكن أن تجنيه من مصالح مقابل منحها حقوقاً معينةً / مجتزأة لمجتمع الميم عين على سبيل المثال.

 لسنا بصدد تشويه صورة كافة المساهمات التي قدمتها المنظمات غير الحكومية. بالفعل تعتمد الكثير من الفئات المهمشة على المنظمات غير الحكومية للحصول على مجموعة من الخدمات مثل الغذاء والمأوى والتبرعات الخيرية. في لبنان، بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020، أعربت 384 منظمة على الأقل رسميا عن استعدادها للمشاركة في إعادة إعمار بيروت (فواز وآخرون 2020). وتعمل بعض المنظمات غير الحكومية جاهدة لاقتراح سياسات جديدة أو نشر معلومات عن مواضيع هامة. ومع ذلك، ينبغي أن نعترف بمحدودية سعتها، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالتعبئة السياسية أو تنفيذ تغيير جذري.

وقد أثر عدم التسييس على الفعل التنظيمي العائد لمجتمع الميم عين في لبنان. يستند نهج الـ لا – تسيّس إلى طرح حركات حقوق المثليين بصيغةٍ نيوليبرالية، والتي ترمز إلى ما تسمّيه بوار (2007) "القومية المثلية". يشير بوار (2007) إلى الخطر في هذا النوع من النشاط الليبرالي الجديد للمثليات والمثليين الذي لا يسعى إلى تفكيك نظام القمع المهيمن، بل إلى تحصيل المزيد من الحقوق من خلال المساومة والمشاركة في نظام الهيمنة للدولة القومية. وينتهي الأمر بهذه الطريقة إلى إزاحة منتظمات القمع على شرائح اجتماعيةٍ أخرى ذات امتيازات أقلّ، ما يشرعن تباعًا قمع الدولة القائم. وبالتالي، فإنها تساهم في مزيد من الانقسامات بين السكان بدلا من تأسيس حركة تضامن جماعي ضد النظام القمعي.

على الرغم من التصارع مع نفس الأسئلة والقيود، انخرط أعضاء مجموعة الدعم الكويرية "ميم"،6 التي انفصلت عن "حلم" في عام 2007، في السياسة النسوية والكويرية. بقيامهم بذلك، سعت المجموعة إلى عدم الخضوع الى السياسات الهوياتية الجامدة المتعلقة بنوع الجنس والجنساني. بدلا من التواطؤ مع النخبة السياسية من أجل تحقيق تغيير قانوني لن يكون له أهمية تذكر على الحياة اليومية للأفراد المتضررين، اعتمدت "ميم" على نقد الأنظمة القمعية مثل النظام الأبوي والعنصرية والطائفية والغيرية والصهيونية والطبقية (حمدان 2015). ومع ذلك، لم يكن ذلك ممكنا دائما، لا سيما أنه نهج لا يمثّل التيارات المهيمنة في أوساط مجموعات مجتمع الميم عين عمومًا.

توضح بيطار (2017) انتشار هذه العقلية الليبرالية الجديدة المنوطة بالمثلية المعيارية، في كل من إفتتاحية "بيروت برايد" في عام 2017 وكذلك في "اليوم الدولي لمكافحة رهاب المثلية الجنسية ورهاب التحول الجنسي"، المعترف به لأول مرة في لبنان عام 2005. وقد تعرّضت كلتا الإفتتاحيتين لانتقادات ومشكلات واسعة النطاق من قبل بعض الناشطين الكويرين المحليين بسبب الطريقة التي يغرّبون بها رهاب المثلية الجنسية ورهاب التحوّل الجنسي من الهياكل المادية والاجتماعية المولد لها والمحافظة عليها. وعليه، أصرّت "بيروت برايد" على الحفاظ على موقف غير مسيّس، الأمر الذي لم يؤد إلا إلى تلبية احتياجات الرجال المثليين الميسورين الذين التزموا بمظهر محتشم، أو ما عرّفه مرابط (2004) بأنه "المثلية الجنسية المتبرّأ منها" ("أنا مش هيك") والذي يتشبّث بها الرجال المثليين اللبنانيين ضمن فضاء المثلية الجنسية الضيق. يعتبر ضمن ذاك المنطق: الشاب، المطابق جندريًا، القادر جسديًا، شخص مثلي محترم جدير بالظهور، أما الآخرون وخاصة أولئك الذين يأتون من خلفيات مهمشة أو من الطبقة العاملة فيتمّ استبعادهم. ينتهي الأمر إلى استيعاب تلك الشخصية المعيارية في الخطابات القومية التي تصوّر غير المواطنين واللاجئين على أنهم/نّ تهديد أمني (بيطار 2017). سلّط باومان (2016) الضوء على أن استبعاد اللاجئين السوريين والفلسطينيين عن الحركات العمّالية في التسعينيات شكّل ضعفاً هيكلياً لم يؤدِّ إلا إلى تغريب7 جزء مهمّ من السكان وإضعاف موقفهم.

إن تنظيم مجتمع الميم عين كما تمثله "بيروت برايد"، لا يستبعد الأفراد المهمشين فحسب، بل يوظف أيضاً هويات مجتمع الميم عين لتعزيز هياكل الدولة. وبالتالي، يسعى النشاط غير الحكومي أحادي القضية إلى الحصول على اعتراف من الدولة بدلا من التفكيك الجذري لهياكلها القمعية. ففي عام 2017، على سبيل المثال، ناشدت "بيروت برايد" قوات الأمن الداخلي، التي لها باع في مضايقة وسجن وارتكاب العنف الجسدي والجنسي ضد أجساد أولئك الذين تعتبرهم شاذين، ولا سيما المتحولين جنسيا والمهاجرين واللاجئين والفقراء. وقد تجلّى هذا الاتجاه كذلك عندما خرجت منظمات غير حكومية متعددة من مجتمع الميم عين في الانتخابات البرلمانية لعام 2018 لدعم "حزب الكتائب اللبنانية"، وهو حزب مسيحي يميني مؤمن بالتفوّق الفئوي. أتى دعم تلك المنظمات لحزب "الكتائب" على خلفية برنامجه الانتخابي الذي دعى فيه إلى إلغاء المادة 534 التي تجرم الاتصال الجنسي "ضد الطبيعة"، والمُستخدم لتجريم الأفعال الجنسية المثلية في لبنان. وهذا يعكس تصوّر النجاح، ضمن منطق النشاطية أحادية القضية لمجتمع الميم عين، على أنه يكمن في عمليات "الظهور والتواطؤ وإضفاء الطابع المؤسسي" (أبو عصب وآخرون 2020، ص 489). هكذا يتجاهل النهج النضالات الطبقية والسياسية. لم ينفّذ حزب "الكتائب" وعده، ولكن هذا لا يهمّ لتحليلنا. ما يهمّ هو أن هذا التكتيك يساهم فيدعم النظام القمعي الزبائني في الدولة ويفيد المصالح الوطنية/ القومية بدلا من الأشخاص الذين تدّعي هذه المنظمات وجوب تمثيلهم.

ومع ذلك، يمكن أن تمثّل تعبئة مجتمع الميم عين في ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر حقبة جديدة من النشاط الكويري. والواقع أن الثورة قدّمت للحركات الكويرية فرصة متجددة لبناء حركة تتحدى المنظمات غير الحكومية والنشاط أُحادي القضية. لم يلجأ نشطاء مجتمع الميم عين في شوارع بيروت إلى مطالبة النظام نفسه المسؤول عن اضطهادهم، بحقوق المثليين (وفي بعض الأحيان بحقوق المجتمعات الأخرى)، بل حشدوا قواهم من أجل تفكيك النظام الطائفي، وإنهاء الفساد، وإلغاء نظام الكفالة القمعي، والمطالبة بحقوق اللاجئين، ووضع حد للعنصرية والطبقية والنظام الأبوي والنزعة العسكرية. إن إلقاء نظرة على الشعارات المرسومة والمكتوبة على جدران وسط بيروت، يوضح تعدد الصراعات التي تبنّاها الناشطون/ات. بالفعل، تبنّوا سياسة كويرية تهدف إلى تفكيك أنظمة القمع المتعددة والمتقاطعة. ومن أحد الأمثلة عن تلك المنظمات القاعدية هي مجموعة "صوت النسوة" الإلكترونية اللاطائفية، التي كانت لفترة من الزمن مشروعاً ضمن جماعة نسوية في بيروت تدعى "نسوية"، وذلك قبل أن يصبح مشروعا مستقلا من تلقاء نفس. ويُظهر "صوت النسوة" على صفحتهنّ على الإنترنت تضامنهنّ مع الفئات المهمشة الأخرى عندما يؤكدن بشكل قاطع أنهنّ "يقفن ضد العنصرية والتحيّز الجنسي والطائفية ورهاب المثلية الجنسية ورهاب التحوّل الجنسي والقمع والطبقية، التي في أنفسنا وفي المجتمع" (صوت النسوة دون تاريخ)، وذلك بدلا من التركيز على السياسات الهوياتية والمشاريع أحادية القضية. عدد "صوت النسوة" الأخير حول "الثورة" تضمّن وأعلن التضامن مع أصوات اللاجئين الفلسطينيين (قدورة 2019)، وعمّال الرعاية وعمّال المنازل المهاجرين (قائدبيه 2019)، والأفراد من جميع الخلفيات الذين تتميز حياته/نّ اليومية وأجسادهم/نّ بالكفاح المستمر في وجه النظام الأبوي والطائفية والرأسمالية (صوت النسوة 2019).

 يشدد الكثير من الباحثين في كتاباتهم/نّ على أهمية الالتزام بالممارسة التقاطعية في سياق بناء التضامنات ما بين الحركات المختلفة (كرمان 2016؛ بتلر وآخرون 2013؛ نابر وآخرون 2014؛ القيسية 2018؛ مكارم 2011؛ كيليهر 2014). فلا يمكن تحرير الكويريين الفلسطينيين على سبيل المثال، دون إسقاط العنف الاستيطاني الاستعماري الذي يقوم عليه الخطاب الصهيوني والممارسات المنبثقة عنه. بالنسبة للكويريين في لبنان، لا يمكن أن يكونوا أحراراً دون أن ينفكوا عن موروث النظام التعليمي الذي روّضنا على الإقصاء والقمع. إنّ الانفكاك عن موروث النظام التعليمي هو نمط تضامن والأسلوب الوحيد للقضاء على النظام الطائفي والعنصري والكاره للنساء والمرتكز على الفساد والذي ما انفكّ يحرم السكان من حقوقهم منذ عقود. علاوة على ذلك، يجادل بتلر وآخرون (2013) بأن التضامن لا ينبغي أن يستند إلى الظلم المتأتي عن التمييز الهوياتي أو إلى منطق المقارنة بين نمط ظلم وآخر (العنصرية أو التمييز الجنسي أو رُهاب المثلية) عند أي لحظة معينة من الزمن. بل ينبغي لنا أن نوسع نطاق حركات المقاومة لدينا إلى ما هو أبعد من المفاهيم البسيطة مثل التشابهية8 أو العصبوية الاجتماعية، بل لا بد من صياغة لغتنا بطريقة تتحدى خطابات الغيرية.9 هذا بالضبط ما فعله الناشطون/ات الكويريو/ات في لبنان عندما هتفوا من أجل ثورة ضد كلّ أنظمة القمع المختلفة التي يخضع لها الشعب.

علاوة على ذلك، فإن ممارسة التقاطعية تتيح للتضامن المتبادل بأن يتطور بين الجماعات. وقد أبرز يونس (2020) في كتاباته لـ "هيومن رايتس ووتش" مثالا هاما على هذه الظاهرة. وكشفت يونس عن أنه في بداية الاحتجاجات، ظهر بعض الخطاب المناهض لمجتمع الميم عين – حيث اسُتخدمت كلمة "لوطي" باللغة العربية لإهانة ونزع الشرعية عن السياسيين اللبنانيين من الفصائل الحاكمة. ومع ذلك، ظهرت هتافات مضادّة، مدّعية أن "اللوطي مش مسبّة"، مع مرور الوقت تبلورت خطابات مضادة سعت إلى التخلّي عن مثل هذه الهتافات المعادية للمثليين داخل الثورة.

 

المضي قدماً: الالتزام بسياسة الأمل، بغض النظر عن النتيجة

لقد مرّ الآن أكثر من عام منذ بدء ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر. ومنذ ذلك الحين، عجّلت أزمة كوفيد-19 بالانهيار الاقتصادي في البلاد. في 4 آب/ أغسطس 2020، تسبّب تفجير 2750 طناً من نترات الأمونيوم المخزّنة داخل أحد عنابر مرفأ بيروت، بانفجار كبير، مما أسفر عن مقتل أكثر من 200 شخص وإصابة أكثر من 6500 آخرين وترك ما يصل إلى 300 ألف شخص بدون منازل (ACAPS 2020). أدت الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والصحية المتفاقمة في البلاد إلى تراجع التعبئة الشاملة. أعلن المركز في أيلول/ سبتمبر وآب/ أغسطس 2020، عن انخفاض في أعداد الاحتجاجات وأعمال الشغب لتصل إلى حدها الأدنى منذ أيلول/ سبتمبر 2019 (ACLED 2020). تشبّثت المؤسسة السياسية اللبنانية بالسلطة، وقاومت أي تغيير في الترتيب السياسي التوافقي الذي تمّ إقراره في اتفاق الطائف لعام 1990 ومع ذلك، تمكّنت الثورة من خلق روابط تضامن جديدة بين مختلف الحركات، بما في ذلك النشاط السياسي لمجتمع الميم عين.

يدعونا فاخوري وأبريل (2021) إلى فهم ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر بما يتجاوز الثنائية الاختزالية للنجاح مقابل الفشل في تفكيك النظام السياسي القائم كما ويسلّطان الضوء على عدد لا يحصى من التحوّلات الرمزية والمجتمعية التي شيدتها الثورة، بما في ذلك إنشاء وإحياء المجموعات الشعبية/ القاعدية التي تسعى جاهدة لخلق مساحات ومنصات تعاونية قائمة على التضامن. وقد أدّى ذلك على سبيل المثال إلى ظهور العديد من مبادرات جمع التبرعات وتقديم الخدمات، وبعضها من مجتمع الميم عين نفسه. على سبيل المثال، نظمت سارة ملحم، التي تملك نادي "الأنا/ إيغو" للمثليين/ات في بيروت، حملات لجمع التبرعات للمتضررين من الانفجار (ان بي سي نيوز 2020) .وتدّعي ملحم أن السكان الذين كانوا في السابق كارهين للمثليين، رحّبوا الآن بدعمهم، مما أثبت لهم أن مجتمع الميم عين ليس منفصلا عن بقية السكان ولكنه منخرطٌ بعُمق في بناء المجتمع. وهذا يسمح بإنشاء شبكات للرعاية المتبادلة والتضامن.

وبذلك، يسعى هؤلاء النشطاء إلى إبقاء الثورة حيّة نحو ما هو أبعد من التعبئة في الشوارع وداخل المساحات اليومية. في الواقع، تدّعي لينة كوماتي، في حديثها إلى "المركز اللبناني لدراسات السياسة"، أن الاحتجاج في الشوارع في جميع الحركات الاجتماعية ليس سوى واحدة من الطرق العديدة للمقاومة السياسية، كما أنه (الإحتجاج) يحمل زخما محدودا لا يمكن الحفاظ عليه على مدى فترات طويلة من الزمن. ولذلك، من الاستراتيجي أن تتطور تكتيكات التعبئة إلى أشكال أخرى أيضا (LCPS 2020). إن خلق مساحات جديدة للتجمّع العام وبناء التضامن أمر بالغ الأهمية من أجل الحفاظ على وعي جماعي بالمقاومة السياسية بين السكان، حتى مع التوقف المؤقت لطابع الحراك الاحتجاجي النشط.على سبيل المثال، يمكننا الإشارة إلى دور ثقافة المقاهي في طرابلس لسد الفجوة وخلق روابط تضامن بين شباب المنطقتين المعتركتين (باب التبانة وجبل محسن) (كوسترز 2020). كما أشارت شمص (2020) إلى دور مجموعات القراءة الماركسية في بيروت في تعزيز التضامن و الرفاقية، وبالتالي الحفاظ على الحركات الاجتماعية والسياسية وإعادة إنتاجها. وهكذا خلفت ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر شعوراً مختلفا بالأمل بين الناس وأنعشت التزامهم/ن بمستقبل أفضل.

في وسط الخسارة والدمار، يصرّ هذا النص على سياسة الأمل. وهذا التركيز على الأمل والمقاومة ليس بمنأى عن الصراعات العميقة التي نواجهها والصراعات التي لم تأت بعد، بل يمثل الالتزام بـ "مستقبلية كويرية" متخيّلة (مونيوز 2009). يُحاول هذا النص تسليط الضوء على الإمكانات التي تأتي مع لحظات الأزمة و الفاجعة، ولا يرمي إلى إضفاء الطابع الرومانسي على المعاناة، أو لتمجيد التأقلم المُستمر للمواطنين وغير المواطنين في لبنان – والتي تروّج في صيغة المقولة "فاظهر مثل عنقاء الرماد من الدمار". لقد سئمنا من الصمود، لأنه ينطوي على استمرار المأساة التي يجب أن نتغلب عليها. وبدلا من ذلك، تحاول سياسة الأمل اغتنام فرص التغيير، أينما كانت، وتدفع نحو مستقبل لن يكون علينا فيه التأقلم بعد الآن. على حد تعبير سولنيت (2016): "يعتقد المتفائلون أن كل شيء سيكون على ما يرام دونما الحاجة لمشاركتهم بالعملية، أما المتشائمون فيتبنون موقفًا معاكساً و كلاهما يتملّصان من الفعل. أما سياسة الأمل فهي إيماننا بأن ما نقوم به مُهمّ ومؤثر بالرغم من أن الكيفية والتوقيت والمواضيع والفاعلون قد تبقى مرحلياً في نطاق المجهول". ولذلك فإن الأمل يقدَّم هنا كبديل للتقاعس عن العمل / الفعل بحجة التشاؤم القدري المفرط والتفاؤل الأعمى أو الإيجابية (السامّة) المعتمدة لدى جزء من السكان كآلية للتكيّف على خلفية عدم اليقين السياسي والاقتصادي. إنها ليست مجرد حالة ذهنية، أو ضمانة فارغة، إنه التزام – إنها سياسة. وقد ادعت سارة مراد (2014) أن الأمل لا يتمثل في البحث عن بدائل، بل إنه نفسه البديل. إدراكنا للمآسي التي تترافق والأزمات وإلى لا معقولية الحياة اليومية التي يقاسيها معظم السكان، يستوجب علينا البحث عن فرص للتجسيد الفعلي لأشكال متجددة من التعبير الجسدي عن "الحميميات البديلة، والتجمّعات البديلة، وعوالم الحياة البديلة".

 

  • 1. في هذه المقالة، أستخدم مصطلح "كوير" ليس كلفظة هوياتية وحسب بل للإشارة إلى سياسة راديكالية تعارض النهج النيوليبرالي والمقاربات أحادية القضية اللذان يعتمدا السياسة الدبلوماسية في السعي وراء الحصول على موافق الدولة. وبهذا المعنى، تعارض "السياسة الكويرة النيوليبرالية". يتطلب هذا النقد ربط عملية تحرير الأفراد الذين ينتمون إلى الهويات الجنسانية المغايرة بتحرير فئات أخرى مهمشة (الكاتبة).
  • 2. على سبيل المثال، في أعقاب واحدة من أكبر المظاهرات التي حدثت في 29 من أغسطس/آب في عام 2015، نظمت الحركة الوطنية الحرة تجمعا كبيرا أعرب وزير الطاقة فيه عن قلقه إزاء انقطاع التيار الكهربائي، وهي جزئية توحد المتظاهرين (الكاتبة).
  • 3. للمتخيّل الجماهيري/التخيل الجمعي – وهو نوع من الوجود المعنوي الذهني للنماذج الفكرية التي تحدد شرعية الأفكار والمفاهيم المكونة للواقع وبالتالي تؤثر على تفاعلية وجودها وتمددها وازدهارها ضمن البيئة / الواقع المادي الراهن (مديرة الترجمة).
  • 4. ترجمة مباشرة لكلمة conflict في النص الأصلي مع تحفظ على استخدامها، بحيث أن اللفظة الأدق هي "... بعد انتهاء العدوان" (مديرة الترجمة).
  • 5. وهي ترجمة مُسيقةٌ للمُصطلح (ghettoize) والذي يُستخدم لوصف سياسات عزل اجتماعية قد تصل إلى مستوى الانعزال.
  • 6. لم تعد "ميم" نشطة علنا اليوم كمجموعة دعم "منظمة" كما كانت موجودة في الفترة من 2007 إلى 2014 ، غير أن أعضاءها السابقين يشاركون حاليا في أنشطة مختلفة ويشكلون شبكة ناشطة كويرية غير رسمية (الكاتبة).
  • 7. التغريب، أو الإبعاد المُمنهج لوعي مجموعةٍ من الناس عن فضاء سياسي مُعين (مديرة الترجمة).
  • 8. ارتأينا ترجمة المُصطلح (similitude) التشابهية أو التناظرية وهي مُقاربة لبناء أواصر التضامن ترتكز فقط على تحديد التشابهات ما بين قضايا مُختلفة. من إشكاليات هذه المُقاربة هي ميلها نحو الاختزال وقصورها عن تسييق الموضوعات المطروحة (مُديرة الترجمة).
  • 9. الغيرية وهي مقاربة ماهوية فلسفية يقضي خطابها بخلق مجموعات منعزلةٍ عن بعضها الآخر (مديرة الترجمة).
ملحوظات: 
المراجع: 

AbiYaghi Marie-Noëlle, Catusse M., Younes M. 2017. “From isqat an-nizam at-ta’ifi to the Garbage Crisis Movement: Political Identities and Antisectarian Movements.” In: Lebanon Facing the Arab Uprisings, eds. Di Peri R., Meier D. 73-91. Palgrave Pivot, London.

ACAPS. 2020. “Analysis of affected areas in Greater Beirut.” [Online]. Available at: https://reliefweb.int/sites/reliefweb.int/files/resources/20200812_acaps....

AlJazeera. 2019. “Lebanon Protesters Form Human Chains Across the Country”. [Online]. Available at: https://www.aljazeera.com/news/2019/10/27/lebanon-protesters-form-human-....

Alqaisiya, Walaa. 2018. “Decolonial Queering: The Politics of Being Queer in Palestine”. Journal of Palestine Studies 47(3): 87-113. 

Armed Conflict Location & Event Data Project. 2020. “Breaking the Barriers: One Year of Demonstrations in Lebanon”. [Online]. Available at: https://www.jstor.org/stable/resrep26625.

Baumann, Hannes. 2016. “Social protest and the political economy of sectarianism in Lebanon”. Global Discourse 6(4): 634-649.

Butler, Judith and Athena Athanasiou. 2013. Dispossession: The Performative in the Political. Polity Press.

Fakhoury, Tamirace and Gemma Aubarell. 2021. “Social Movements and revolutionary episodes in the Mediterranean: The Lebanese case and its broader implications.” Idees: Revista de temes contemporanis 51. [Online]. Available at: https://revistaidees.cat/en/social-movements-and-revolutionary-episodes-....

Fawaz, Mona and Mona Harb. 2020. “Is Lebanon Becoming Another ‘Republic of the NGOs’?”. Arab Center Washington DC. [Online]. Available at: http://arabcenterdc.org/research-paper/is-lebanon-becoming-another-repub....

Geha, Carmen. 2016. “Reflections on protests in sectarian system.” The Daily Star, August 22 2016, 7.

Gemayel, Fouad. 2019. “More Than One Million Lebanese in Poverty.” Le Commerce du Levant. [Online] Available at: https://www.lecommercedulevant.com/article/29443-more-than-one-million-l....

Hamdan, Kamal. 2019. “Kamal Hamdan: The Breadcrumbs System reproduces ruling class in Lebanon.” Interviewed by Jamil Mouawad, Legal Agenda. [Online] Available at: https://english.legal-agenda.com/kamal-hamdan-the-breadcrumbs-system-rep....

Hamdan, Sarah. 2015. “Becoming Queer-Arab-Activist: The Case of Meem.” Kohl: a Journal for Body and Gender Research 1(2): 62-82.

Jad, Islah. 2003. “The ‘NGOization’ of the Arab Women’s Movements.” Al-Raida 20(100): 38-47.

Kaddoura, Sarah. 2019. “قُتِل حراكُ المخيمات، لكنّه أحيا فينا شيئاً”. Sawt Al-Niswa. [Online]. Available at: https://sawtalniswa.org/article/647. [Accessed: 11 July 2021].

Kaedbey, Deema. 2019. “آفاقٌ ثوريةٌ للعملِ الرعائي”. Sawt Al-Niswa. [Online]. Available at: https://sawtalniswa.org/article/641. [Accessed: 11 July 2021].

Karaman, Semanur. 2016. “Constructing Plural Solidarities”. International Journal on Human Rights 13(24): 195-202.

Kelliher, Diarmaid. 2014. “Lesbians and Gays Support the Miners.” History Workshop Journal 77(240-262). [Online]. Available at: https://www.jstor.org/stable/43299555.

Kostrz, Marie. 2017. “The Lebanese café where former enemies meet for coffee.” The Observers. [Online]. Available at: https://observers.france24.com/en/20170703-lebanon-ngo-cafe-tripoli-reco....

Makarem, Ghassan. 2011. “The Story of Helem.” Journal of Middle East Women’s Studies 7(3): 98-112. [Online]. Available at: https://www.jstor.org/stable/10.2979/jmiddeastwomstud.7.3.98.

Makarem, Ghassan. 2020. Personal conversation.

Massad, Joseph A. 2007. Desiring Arabs. Chicago: University of Chicago Press.

Merabet, Sofian. 2004. “Disavowed Homosexualities in Beirut.” Middle East Report 230, 30-33.

Merabet, Sofian. 2014. Queer Beirut. The University of Texas Press.

Mohamed, M. S. 2015. “Sexuality, Development and Non-Conforming Desire in the Arab World: The Case of Lebanon and Egypt.” IDS Evidence Report 158: 1-24.

Mourad, Sara. 2014. “A Politics of Hope: A Tribute to Brief Lives at a Time of Perpetual Death.” Jadaliyya. [Online]. Available at: https://www.jadaliyya.com/Details/31360.

Muñoz, José E. 2009. Cruising Utopia: The Then and There of Queer Futurity. NYU Press.

Naber, Nadine and Zeina Zaatari. 2014. “Reframing the War on Terror: Feminist and Lesbian, Gay, Bisexual, Transgender, and Queer (LGBTQ) Activism in the Context of the 2006 Israeli Invasion of Lebanon.” Cultural Dynamics 26(1): 91-111.

NBC News. 2020. “Beirut LGBTQ Community Comes Together After Deadly Blast.” [YouTube video]. Available at: https://www.youtube.com/watch?v=wJUl-xNs_BI.

Puar, Jasbir K. 2007. Terrorist Assemblages: Homonationalism in Queer Times. Duke University Press.

Sawt Al-Niswa. 2019. "من الثورة... هنا صوت النسوة". [Online]. Available at: https://sawtalniswa.org/article/631.

Sawt Al-Niswa. n.d. “Code of conduct / مدونة السلوك.” [Online]. Available at: https://sawtalniswa.org/about/coc.

Solnit, Rebecca. 2016. “Hope is the Embrace of the Unknown.” The Guardian. [Online]. Available at: https://www.theguardian.com/books/2016/jul/15/rebecca-solnit-hope-in-the....

The Lebanese Center for Policy Studies. 2020. “Why Did the October 17 Revolution Witness a Regression in Numbers?” [Online]. Available at: https://www.lcps-lebanon.org/agendaArticle.php?id=199.

Younes, Racha. 2020. ““If Not Now, When?” Queer and Trans People Reclaim their Power in Lebanon’s Revolution”. Human Rights Watch. [Online]. Available at: https://www.hrw.org/video-photos/interactive/2020/05/07/if-not-now-when-....