سردية مُقاوِمة للعنف الجنسي والتحرّش في مصر: حِراك من وإلى النساء
أودّ أن أشكر زميلاتي/ زملائي وصديقاتي/ أصدقائي اللاتي/ الذين شاركن/ شاركوا في حلقة الكتابة التي نظّمتها مجلّة "كحل"، لتأمّلاتهن/ تأمّلاتهم ودعمهن/ دعمهم. هذا العمل لم يكن له أن يتمّ بدونهن/ بدونهم.
photo_1.jpg
البيانو، والعنف والهيمنة
"أنا إتعرّضت للتحرش!"
أنا تعرّضت للتحرش
أنا تعرّضت للتحرش مثلي مثل أكثر من ٩٠ بالمئة من البنات والسيّدات في مصر. كانت أول مرّة أصطدم فيها بوقع الجريمة وكمالها من قِبل الجميع. فهي الجريمة المثالية… يوجد ضحايا، لكن لا يوجد مذنبون. اليوم أوجّه أصابع الاتهام للمجتمع والدولة. كنت طفلة أحبّ الموسيقى وألعب على البيانو من سنّ الرابعة وكان لي مدرّسون عدّة على مرّ هذه السنوات، أفضلهم هاجر مع موجة الهجرة إلى كندا في أوائل التسعينات وأخرى تزوجت ثم أنجبت، ما جعل استكمال الدروس مستحيلا. فبدأتُ الذهاب إلى معهد الموسيقى في الزمالك حيث قُسّمت الدروس إلى قسم نظريّ أيام الجمعة والسبت وقسم عمليّ لمدة نصف ساعة مع المدرّس وحدنا في غرفة فيها بيانو. كان المدرّس أعرجاً وله شنب وهذا كلّ ما أذكره من شكله. وضع يده على فخدي: "أنتِ تعزفين كويس جداً، مثل الكبار". فرحتُ من هذا الإطراء لكن يده ظلّت على فخدي حتى دخل إلى الغرفة فرّاش (عامل) ينقل معلومة من شخص آخر. قال لي المدرّس بعدها إن هناك مكتبة بالجوار يجب أن نذهب إليها لتصوير النوتة للواجب المنزلي. ذهبت معه عبر الشارع لكن قبل أن ندخل العمارة كانت هناك ماكينة تصوير في كشك أمامي فسألته لو ممكن نقوم بالتصوير هنا، لكنّه قال لي إن "الكشك ده غالي". لم أوافق وقلت له إنني لن أذهب معه وإنه يمكنه الذهاب وحده لتصوير الأوراق. عندما جاءت أمي لتقلّني أخبرتها ما حدث فقالت لي إنني لن أذهب هناك مرة أخرى. وكان هذا كل ما تمّ بخصوص هذا المتحرّش. كرهتُ البيانو وكرهتُ كلّ ما يرمز إليه من واقع نعيشه لكن لا نتحدّث عنه. البيانو رمز القمع والعنف والهيمنة ورمز لصوتٍ مكتومٍ لآلة وُجدت لتتكلّم. كان الأول وليس الأخير، تلاه التحرش اللفظي في الشوارع ولمسات مدرّب التجديف الكهل لصدور الفتيات… إلخ.
العزلة الناتجة عن الفيروس المستجد كوفيد-19 جعلت أصواتنا الداخلية تتكلّم وتحدّثنا عن كلّ ما غضضنا عنه البصر "كأنّه مش موجود... كأنّه ماحصلش". عندما رأيت النساء والفتيات يتقدّمن باعترافات على صفحات التواصل الاجتماعي ضد أحمد بسام زكي أو جريمة الفيرموت وغيرهم على المدونة، كان واضحاً من التفاعلات ومن خلال ردّ الدولة والمجتمع على هذه الاعترافات من تعرّض لتحرش أو اغتصاب، أنّ الجريمة هي الرائد والمهيمن. والآن بعد أن نجا كلّ الفاعلين بفعلتهم، هل كان لكلّ الحشد حول قضية التحرش غرض؟ ماذا بعد؟خلال العام الماضي في مصر، شاركت العديد من النساء شهاداتهن حول التحرّش والعنف الجنسي على منصات موجودة على شبكات التواصل الاجتماعي، من ضمنها المدوّنة "دفتر حكايات" و"أسولت بوليس" (شرطة الاعتداء). ترتّبت على هذه الشهادات سلسلة من الآثار، حيثُ شَكَّلَت مشاعر الاشمئزاز والامتعاض والقهر صدى لمن أُلحِق بهنّ الأذى من قِبَل كلّ عابر سبيل وكل صوت صامت. وَصْف تكاتف الدولة المصرية والمجتمع والدين بـ"الجريمة الكاملة" ليس مبالغة، حيث أنهم يُسكِتون ويتجاهلون كلّ محنة يومية مرتبطة بكون الفرد يُصنَّف اجتماعيًا كـ"امرأة". في صيف 2020، سلّطت الحملات الإلكترونية لمناهضة العنف الجنسي ضد النساء الضوء على مجموعة من قضايا الاعتداء الجنسي والاغتصاب البارزة. ومع ذلك، يبدو أن الاتفاق الضمني الثلاثي، ما بين الدولة والمجتمع والثقافة، لا يسير في نفس الاتجاه. أصدرت النيابة العامة تصريحاتها، وألقت القبض على المعتدين، ثم أطلقت سراحهم في نهاية المطاف.
في ضوء وضعنا الحالي كمواطنات درجة ثانية وقدرتنا المحدودة والمُتحكَّم بها بالفعل، على التواجد في المساحات العامّة، كيف تؤطّر التعبئة النسائية ضد التحرّش الجنسي العنف الجماعي المُمارَس من قِبَل الدولة والمجتمع والثقافة ضد النساء في مصر؟
وفّرت منصات "أسولت بوليس" و"دفتر حكايات"1 و"اتكلم/ي"،2 من ضمن منصات أخرى، مساحة للنساء في مصر. هذه المساحة الرقمية تمكِّن الناجيات من فضح مرتكبي العنف و/ أو الاعتداء الجنسي بأشكال مختلفة. ومن خلال القيام بذلك، فإنها تسمح للنساء بالتفوّه بمظالمهن وتوثّق بالتوازي هذه المظالم بعيدًا عن هجمات الهيمنة الأبوية والتقاليد الاجتماعية والدينية إلى حدّ كبير.
الشهادات كأرشيفات وسرديات وسرديات مُقاوِمة
"دفتر حكايات" أو "المدونة" هي مدونّة تنشر شهادات ناجيات من العنف الجنسي مع ضمان المجهولية التامة. دَعَم رئيس الوزراء أهمية المجهولية، من خلال تمرير قانون يعضد من حماية هوية الناجيات في حزيران/ يونيو 2020، مما يعطينا مؤشرًا لسبب عدم لجوء الناجيات من الاعتداء الجنسي للدولة بشهاداتهن. لا يُعتبَر هذا القانون علامة فارقة أو مقياساً للتقدّم فيما يخصّ الاعتداء الجنسي في مصر، وذلك بسبب المعايير المزدوجة التي تمارسها الدولة بشكل ممنهج – ما سنتعرّض له في باقي المقال. تستخدم صفحة الإنستجرام "أسولت بوليس"3 (شرطة الاعتداء) هذه المجهولية أيضًا. انطلقت "أسولت بوليس" سنة 2020، لفضح أحمد بسام زكي (ABZ)، وهو عضو سابق في مجتمع الجامعة الأميركية بالقاهرة ومعتدٍ متسلسل. تتبع صفحات ومدوّنات أخرى، مثل "اتكلمي" (Speak Up)، نفس النهج في إتاحة مساحة مع ضمان المجهولية أثناء فضح المعتدين جنسيًا.
أصبحت هذه الصفحات أكثر بروزًا وتداولًا على نطاق واسع في السنوات الأخيرة (2020-21)، ووراءها مَن يدرنها ويجعلن استمراريتها ممكنة. وبالرغم من وجود صفحات شبيهة في بلاد أخرى، فإن هذه الصفحات تتحدّث العربية وتتناسب مع السياق المصري. ونتج عن تعبئة النساء من خلالها، تغييرات ومكاسب كثيرة لنضالات النساء ضد الدولة والمجتمع والثقافة.4
أولًا، تُشكّل الشهادات المُشارَكة على منصات مختلفة أرشيفاً، أو لأكون أكثر دقّة، أرشيفاً مُقاوِماً لأفعال العنف المُمارَسة ضد النساء. يعمل هذا الأرشيف بطريقة في متناول الجميع، وبعيدًا عن تفحصّ ثالوث الدولة – المجتمع – الثقافة. هناك صدى لإتاحة هذا الأرشيف المُقاوِم وتوثيق القضايا فيما أشار إليه كلّ من دوناتيلّا ديلا بورتا وماريو دياني كشكل من أشكال الإدراك من خلال البوح بالقصص (ديلا بورتا ودياني، 2006). خلقت قصص الناجيات من العنف الجنسي مجتمعًا من النساء، يجمعهن كونهن ناجيات في مصر، وتُوحّدهن مَظلَمة مشتركة، تعرّضن لها في مساحات يحتلّها الرجال.
ثانيًا، خَلْق السردية المُقاوِمة يزيح اللوم من على عاتق الناجيات، بينما يوصِم المعتدين. لم تفضح الشهادات بعض الرجال وحسب، بل خلقت أيضًا هذا الشكل من السردية المُقاوِمة، التي تصدّق وتعترف بالناجيات بدلًا من وصمهن بتشكيلة من الأسباب المبتذلة والمُستَخدَمة دائمًا من قِبَل الثالوث الخسيس (من ضمن هذه الأسباب ملابسهن أو سلوكهن أو وجودهن في الحياة من الأصل). تضع السردية المُقاوِمة المسؤولية على عاتق المعتدين، ممّا يرسي أوّل أساس لحراك فعّال وتغيير مستمرّ.
وأخيرًا، استئنافًا لتحليل ديلا بورتا ودياني فيما يتعلق بالتعبئة والفعل الجماعي في حالة العنف الجنسي في مصر، فلقد طرحت الشهادات مظالم النساء المتعددة المرتبطة بأجسادهن وأشكال العنف المختلفة الممارسة عليهن. أصبحت قصص الناجيات أصواتًا معثوراً عليها لأجيال من الناجيات اللاتي لم يستطعن الحديث بسبب الخوف والوصم والوِحدة. عندما أتاحت هذه الصفحات مساحة آمنة، كنّا بأَمَسّ الحاجة إليها، حتى تُسمَع أصوات النساء وحتى لا يتحمّلن أيّة تبعات للبوح بشكل فردي.. اكتشفنا أنّنا كثيرات! تفشل استراتيجية العزل من خلال العثور على التجربة الجماعية: تجربتنا، نحن، الناجيات من جميع أشكال العنف الجنسي. أصبحنا جماعة، نجتمع ونتحرّك في مساحتنا الخاصة، للتفوّه بمظالمنا بشكل مستقلّ بعيدًا عن أي جهة مؤسسية قد تتداخل مع الثالوث الخسيس. إذن لماذا وكيف يمكننا الحفاظ على هذه المساحات المستعادة وتنميتها؟
القضايا والهيمنة والنظام القضائي
التمتعّ بمساحة أمرٌ عظيم! امتلاك مساحة وصوت أمرٌ أعظم! أمّا إحراز تغيير في الدولة والمجتمع والثقافة، كنتيجة للتفوّه بالمظالم، وبدون أي شكل من أشكال التمييز، فهو مسألة أخرى تمامًا. فكما أشارت ليلى أبو لغد في عملها، لا ينبغي اعتبار النظام القضائي مرجعًا قياسيًا لتحرّر النساء (ليلى أبو لغد، 1998)، بل بالأحرى ينبغي اعتباره ميسّرًا. في الحقيقة، يمارس ثالوث الدولة-المجتمع-الثقافة تهميشًا ويطبّق معاييرًا مزدوجة عندما يتعلق الأمر بحقوق النساء، أو عندما يتعلق الأمر حتى بأرشفة وتوثيق العنف ضد النساء.
أُشيرَ لأحمد بسام زكي أول مرة في 2018، على مجموعة "تقييم أساتذة الجامعة الأميركية" (Rate AUC Professors) على "فيسبوك"، حينها تقدّمت الكثير من النساء بشهاداتهن عن تعرّضهن للتحرّش الجنسي من قِبَله. جاءت آلاف التعليقات وشهادات أخرى من نساء ورجال، تحرّش بهم/ن أحمد بسام زكي جنسيًا، كردّ فعل على المنشور. ومع ذلك، في 2020، مُسِحَ المنشور، وسافر أحمد بسام زكي لأسبانيا ليدرس في جامعة مرموقة، قبل عودته لمصر. أنشأت نادين أشرف "أسولت بوليس" (شرطة الاعتداء) لتوثيق وتجميع شهادات الناجيات والناجين من عنف أحمد بسام زكي، ومع طفو قضايا أخرى إلى السطح، أصبحت المنصّة أكثر تداولًا وأهميةَ. أُلقي القبض على أحمد بسام زكي بعد أسبوع واحد من إنشاء صفحة "أسولت بوليس" (شرطة الاعتداء)، وفضحه من خلالها. في نيسان/ إبريل 2021، أي بعد شهور من محاكمته، حُكم عليه بالحبس ثمان سنوات، لإدانته بالاعتداء الجنسي. لقد استغرق الناجيات والناجين سنوات، حتى يتمكنّ/ون نفسيًا ولوجيستيًا من التقدّم بشكواهن/م، بشكل مجهول وبدون التعريف بأنفسهن/م. تحمّلت الناجيات/ين والناشطات اللاتي تحرّكن معهن/م، عبء المجهود المبذول من أجل خلق ضغط على النائب العام ليأخذ موقفًا، وهذا يَسهّل تتبّعه على صفحتهن على منصات التواصل الاجتماعي. ومن الجدير بالذكر أن أحمد بسام زكي هو جزء من مجتمع النخبة المهيمنة، وكذلك هم ضحاياه/ الناجيات من عنفه.
بالتوازي مع قضية أحمد بسام زكي، حازت قضية الاغتصاب الجماعي، التي أصبحت معروفة باسم "قضية الفيرمونت"، على انتباه الإعلام. في 2014، اغتصب أربعة رجال امرأةً في فندق "فيرمونت نايل سيتي". في 2020، أُلقي القبض على المجرمين أثناء محاولتهم الهروب إلى لبنان، وأُحيلت القضية إلى النائب العام. بالرغم من وجود مقطع مصوّر و39 شاهدًا – قُبض على إثنين منهم أثناء حضورهم للإدلاء بشهاداتهم – فقد أُطلِق سراح كلّ المتّهمين بعد تسعة أشهر من المحاكمة، بسبب "عدم كفاية الأدلّة". حَفَرَ المغتصبون الحروف الأولى من أسمائهم على جسد الناجية، وعلى ما يبدو، ووفقًا لأكثر من شهادة، فقد كانوا فخورين بما قاموا به. هم من مرّروا المقطع المُصَوَّر بهدف التنافس مع مجموعة أخرى من عصابات الاغتصاب الجماعي. هل تمرير هذا النوع من المعلومات يعكس نهج المجتمع والدولة والثقافة في التعامل مع العنف الجنسي ضد النساء؟ كيف يعلم المجرمون أنهم سوف ينجون بفعلتهم؟ مغتصبو الفيرمونت معروفون الآن بالإسم لدى الجميع، بالرغم من قرار إطلاق سراحهم. مما يدعم أكثر فأكثر ما أثارته أبو لغد حول قصور النظام القضائي كمرجع قياسي لحقوق النساء وحرياتهن.
النظام القضائي في مصر ليس للجميع، ولا يتعاطى بنفس الطريقة مع الجميع. في 2020، تحدّثتُ مع بيتا، محامٍ يعمل/ تعمل مع لاجئين أفريقيين ومع منظمات تدافع عن حقوقهم في مصر. تواصلتُ معهم لأغراض بحثية مرتبطة بالاعتداء الجنسي والعنصرية ضد السود في مصر، وأقمنا العديد من المحادثات غير الرسمية. قال بيتا إن النساء اللاجئات لا يذهبن لما هو أبعد من التقدّم ببلاغات في أقسام الشرطة بسبب الخوف من ترحيلهن. بالإضافة لذلك، فإنهن لا يمتلكن المقدرات المالية اللازمة لتكوين قضية مُحكَمَة تُسعِفهن في مراحل التقاضي المختلفة. كذلك، القادرات على الوصول لـ"أسولت بوليس" والمنصات الأخرى، هنّ حصرًا مِمَّن لديهن القدرة على الوصول للإنترنت، وعلى استخدام التقنية بشكل فعّال؛ ولذلك، يُهمَّش قطاع واسع من "غير المواطنات" في هذه المساحات. حاجج/ت بيتا بأن قضايا العنف الجنسي والاغتصاب ليست موثّقة ولا يتمّ الحديث عنها، ولكنها عادةً ما تقع تحت تصنيفين رئيسيين: الناجيات من الاعتداء الجنسي في إطار العلاقات العائلية، أي من تعرّضن للاعتداء من قِبَل أحد أفراد الأسرة/ العائلة، ومن تعرّضن للاعتداء والاستغلال من قِبَل رؤسائهن في العمل بسبب الوصمة المحيطة بـ "النساء السوداوات" في مصر. إذا كانت هناك أيّة فرصة لبقاء حراك النساء ضد العنف الجنسي الجماعي في مصر، فمن المرفوض التخلّي عن أي أحد. وفي الوقت الراهن، يتطلّب هذا الحراك إيجاد استراتيجية للوصول إلى الناس ولتطوير مساحات أخرى غير مُهيمَن عليها من قِبَل طبقة أو جنس أو عرق أو دين أو توجّه سياسي محددين.
تُعتَبَر الأشكال "القانونية" للعنف الجنسي ضد النساء، نقطة أخرى ذات صلة بالنظام القضائي المصري. تتنوّع هذه الأشكال، بدءًا من تشويه الأعضاء الجنسية للنساء (ختان الإناث) – والذي حُظِر وجُرِّم سنة 2008، وشُدِّدت عقوبته القانونية في 2021 – وصولًا إلى كشوف العذرية والاغتصاب الزوجي. ينتج عن تجريم ختان الإناث استمرارية وزيادة في ممارسته سرًا في ظروف أكثر خطورة على النساء، الأمر الذي يفسَّر بافتقار هذه الممارسات للشرعية وانعدام آليات الحماية وجملة التهديدات التي تترتّب على أحكام قانون (بطرس، 2018). تُبلور ماجدة بطرس هذا "التهكّم القانوني" فيما له علاقة بالعنف الجنسي في مصر، مما يشرح بدوره شكل الحراك الحالي القائم على الفضح وتمرير المعلومات بدلًا من اللجوء للإجراءات القانونية في المقام الأول (المصدر السابق، ص.397). مازالت كشوف العذرية والاغتصاب الزوجي مُسَوَّغين في القانون المصري ومن قِبَل الدولة، بالإضافة إلى أنّ الاغتصاب الزوجي مدعوم من قِبَل المجتمع والخطابات والثقافة الدينية. كشوف العذرية هي ممارسة قانونية رائجة، تقوم بها الدولة نفسها. في 2011، تعرّضت المتظاهرات في مصر لكشوف عذرية، في حضور أعضاء من أحد الأجهزة الأمنية (سواء من الجيش أو الشرطة) وأيضًا في حضور أطبّاء. في 2020، أُلقي القبض على أربع نساء،5 بسبب نشرهنّ مقاطع مصوّرة على "تيك توك" واتُهِمن بالاعتداء على "قيم الأسرة المصرية". وأثناء حبسهن احتياطيًا،6 أُجبِرن على الخضوع لكشوف عذرية كأحد إجراءات التحقيق معهن.
عند تأمّل عدم القدرة على تحديد العنف الكامن في هذه الممارسة المُتَّبعة من قِبَل الدولة، يصبح انعدام العدالة في أي "عدالة" تنجزها الدولة في قضايا العنف الجنسي الأخرى بادية للعيان. مما يوضح أيضًا معاييرها المزدوجة والمبنية على طبيعة مَن يمارس العنف.
ختامًا، أصبحت الحجج من قبيل "ليس هناك اغتصاب في الزواج" و"الملائكة ستلعنهنّ الليل بطوله [أي النساء اللاتي يمتنعن عن ممارسة الجنس مع أزواجهن]" و"الاغتصاب اغتصاب، لماذا نُطلق عليه اغتصاب زوجي؟!" من بين الحجج الأكثر شهرة – والأوسع تداولًا في الآونة الأخيرة – حول الاغتصاب الزوجي. تلخّص هذه الحُجج مشكلة عدم تجريم الاغتصاب الزوجي لمبرّرات دينية ومقدّسة، تتضمن أيضًا هذه المبرّرات شعار "البيوت أسرار" الأزلي، والمقصود به أنّ ما يحدث في المنزل ينبغي أن يبقى هناك! يتساءل مستخدمو هذا الشعار مستنكرين: لماذا نستدعي النظام القضائي المصري والدولة فيما يحدث داخل غرف النوم الخاصة؟ ومع ذلك، فإنهم يرون أيضًا أنه يحق للنظام القضائي أن يطلب من فريق طبّي انتهاك النساء جنسيًا من خلال إخضاعهن لـبعض الـ "كشوف" كممارسة قانونية؛ ويحقّ لأسر المتزوجين حديثًا انتظار ممارسة الجنس ليروا دليلًا على عذرية النساء ما قبل الزواج (من خلال رؤية بقع الدماء الناتجة عن فضّ غشاء البكارة على الملاءة) كممارسة اجتماعية مُعتادة، ويحقّ لشيخ ما التفوّه جهرًا بأنّ المتزوّجات اللواتي يمتنعن عن أزواجهن "يستحققن الضرب". بالتالي، ليس هناك خطب ما في تدخّل المجتمع بين زوج وزوجة عندما تكون أحقّية ممارسة العنف و/ أو العنف الجنسي (الاغتصاب) هي موضوع التدخّل، حيثُ أن التطفّل هو ممارسة شائعة لدى الثالوث الخسيس.
كيف لا نعلق بين: "ماذا كانت ترتدي؟" و"ليس جميع الرجال [معتدين]!"
ينبغي أن يكون هناك مكانًا مخصصًا في الجحيم لكلّ من يستخدم هاتين الجملتين. بالتأكيد، لا يمارس جميع الرجال الإمتاع الذاتي في وسائل المواصلات العامة، مثلما فعل الطبيب عبد الرحمن مهدي، الذي عُرِف بـ "متحرش الميكروباص". في 2020، جلس مهدي في ميكروباص بجانب امرأة، وبدأ بممارسة الإمتاع الذاتي؛ وهي صوّرته وتقدّمت ببلاغ ضده. ونتيجةً لذلك، حُكِم عليه بسنة سجن مع إيقاف التنفيذ. مع ذلك، دافع عنه الكثير من الناس، من ضمنهم زملائه من الأطباء، وحاولوا تقديم معلومات مزوّرة حول صحته العقلية وعدم قدرته على "التحكّم بنفسه" لأسباب طبيّة، بينما أشادوا به وبأخلاقه. لم يكترثوا بأنه صُوِّر، وبأن آخرين قد شهدوا أفعاله، أو بأن سائله المنوي كان على قميصه: فانطلاقًا من مبدأ "ليس جميع الرجال"، لا ينبغي إذن أن تكون العقوبة صارمة أو "بإمكانه الاعتذار للفتاة".
أحيانًا الاعتذار لا يكفي، مثلما نجد في قضية الفتاة ذات السبع سنوات التي اقتادها شخص بالغ إلى مدخل إحدى البنايات في المعادي، في مصر، وحاول التحرّش بها. أوقفت امرأة تعمل في مكتب بالجوار محمد جودت، الذي صُوِّر بكاميرات المراقبة، وأُلقى القبض عليه لاحقًا. حُكِم عليه بعشر سنوات سجن، وفقًا لصفحة "اتكلم/ي" (سبيك أب) على إنستجرام. ولكن هل أنّ عقوبة كتلك ستوفّر حماية من العنف الجنسي وستمنع التهديد الدائم به، أم إنها، بدلًا من ذلك، تُستَخدَم لإعطاء شرعية للدولة المصرية؟ قال جودت، أثناء محاكمته، إنّه "أدّى فريضة الحج"، مما يعني أنه في مرتبة أعلى دينيًا وبالتالي ينبغي أن يتمتّع ببعض من التساهل أو الإعفاء! للأسف، اعتقد بعض الناس أنه يستحقّ معاملة خاصة: كان هناك العديد من المنشورات والتعليقات المتعاطفة معه على منصات التواصل الاجتماعي، وقد وصل بالبعض الأمر إلى القول بأن "الفتاة معتادة على ذلك… إنها من الشارع… جميعهن يقمن بذلك". هذه التعليقات تعطي لمحة عن محدودية الأثر الناتج عن تدخّل الدولة، إذا لم يرافقه الاعتراف الاجتماعي بضرورة المحاسبة والعدالة باعتبارها عناصر مفقودة، كما تعطي لمحة عن أهمية التعبئة المستمرة ضد العنف و/أو الاعتداء الجنسي في الإشارة لتلك المحدودية.
أثناء حوارنا عبر الإنترنت عن فيلمها القصير "ظلّ القاهرة"،7 قالت المخرجة المصرية، تارا شحاتة: "تعرّضت الممثلة ذات الإثنى عشر عامًا للتحرّش في الشارع أثناء التصوير". في هذا الفيلم، تقرّر البطلة ذات الإثنى عشر عامًا فعل شيء حيال التحرّش، فتبدأ في ارتداء ملابس الأبطال الخارقين لمحاربة المتحرّشين من خلال رش أعينهم برذاذ. شرحت تارا ضخامة مشكلة التحرّش في مصر، بينما تحكي قصة تحرّش أحد عابري السبيل بالممثلة، في إشارة إلى المدى الذي تُستخدم فيه ملابس الناجيات لوصمهن. تشكّل هيمنة المغالطات الثقافية وما يتبعها من خطابات، جزءًا من الحدود التي يحاول الحراك النسوي الحالي التغلّب عليها والطعن فيها. ويكتسب أحيانًا دعمًا من الدولة و/ أو من السلطات الدينية في إبراز على مَن تقع المسؤولية عند الحديث عن التحرّش والاعتداء الجنسي. يُستَخَدم دعم الدولة والمؤسسات الدينية الانتقائي (أو المعايير المزدوجة)، والذي يقدّمونه فقط عندما يتناسب مع أجندتهم الخاصة، كمُسَكِّن، بينما يخدعون الرأي العام ويعرّضون هذا الدعم باعتباره داعِ للاحتفاء. يؤكد هذا الدعم "المشروط" وجود معايير مزدوجة لدى المجتمع أيضًا، ويعزز من وجودها. على سبيل المثال، صرّح الأزهر، وهو أعلى سلطة دينية إسلامية، بدعمه للناجيات من التحرّش الجنسي والاعتداء، وسلّط الضوء على أنّ ملابس النساء ليست لها علاقة بجريمة التحرّش.
لتقديم المزيد من الأمثلة على المغالطات الثقافية التي تهيمن عند الحديث عن العنف ضد النساء و/ أو الاعتداء الجنسي في مصر، وبدون الخوض في أغلب أعمال عادل إمام السينمائية، أودّ التعرّض لأغنية تميم يونس "سالمونيلا". نُشِرَت الأغنية في 2019، وتتحدّث عن رجل يتودّد لامرأة، فترفضه. نتيجةً لذلك، يتمنّى أن تصاب بالسالمونيلا، وهي بكتيريا غازية ومميتة أحيانًا، ليُلقّنها درسًا بسبب رفضها له وقولها "لا". انتقدت الكثير من النساء كلمات الأغنية على الإنترنت، ولكن كان من الصعب على آخرين رؤية المشكلة في تحريض الأغنية على العنف ضد النساء أو ضد النساء اللاتي يقلن "لا". وبالرغم من المطالبة بحذف الأغنية، لم تُحذَف، واستمرّت نجومية يونس وقبوله كعضو في المجتمع الإعلامي، وواصل الكثير من المؤثرين (الإنفلوونسرز) أو مدوّني الفيديو عملهم معه. أصبح هذا القبول، وهيمنة الثقافة التي تدعم التحرّش والعنف، أكثر إشكالية عندما أفصحت طليقة يونس عن تعرّضها للاغتصاب الزوجي من قِبَله أثناء زواجهما. تمّت مشاركة شهادتها على نطاق واسع على منصات التواصل الاجتماعي. موضوع يونس "وسالمونيلا" ليس إلا مثالًا، وتوضح جريمته الجنسية المرتكبة بحق زوجته في ذلك الوقت، أن الدعم العام لهذه الأفكار لا يمكن فصله عن الممارسة.
طريقة أخرى كي لا تعلق بين "ماذا كانت ترتدي؟" و"ليس جميع الرجال" هي عدم الوجود من الأصل. العديد من قضايا التحرّش الجنسي اليومية في مصر لا توثَّق و/ أو لا تأخذ مسارًا قانونيًا، وتُطَبَّع اجتماعيًا وثقافيًا. مازالت الشهادات على الإنترنت والسرديات المُقاوِمة مقتصرة على مَن يمكنهن الوصول إليها، مما يعزز من الاحتياج للمحاسبة والمقاومة المستمرة والإرادة لما أسمته إلسا دورلين بـ"الرعاية الصعبة" (2017، ص.174). يوضح هذا المصطلح، المُستَلهَم من رواية هيلين زاهافي، الحاجة لتعزيز قوّتنا باتجاه الفعل والمبادرة بدلًا من أن يقوم آخرون برعايتنا نيابةً عنّا (المصدر السابق). يمكن للتحرّك من داخل أنظمة العنف أن يبدأ من خلال تقديم تعليم جنسي، ورفع الوعي، بالتوازي مع استعدادنا لمواجهة ما قد يصحب ذلك من عنف في مصر ضد "الفتيات العاديّات" أو المرأة المصرية "العاديّة"، على أن نشمل من ليس لديهن وجود على شبكات التواصل الاجتماعي. على حراكنا وحركتنا خلق مساحة لهن للتعبير عن أنفسهن، بأنفسهن، بطريقة آمنة، حتى لا نهمّش المهمَّشات بالفعل.
الخُلاصة
بعيدًا عن سياسات الأمل، وعن الشعور بالذنب الناتج عن اختبارنا الدائم للعجز حيال العنف الجنسي في مصر، علينا الإعتراف بأن كل ذلك يمثّل ظاهرة ونتيجة. إنه نتيجة للأسباب المتشابكة المعروضة في هذا المقال، بدءًا من السردية المُهيمنة حول العنف الجنسي في مصر وحول الناجيات منه – والتي تشمل سردية الدولة – وصولًا للهيمنة الثقافية التي ترتضي هذا العنف اجتماعيًا. تتغير السردية مع فضح المعتدين وتجهيل الناجيات، وتُخلَق سردية مُقاوِمة، في مساحات رقمية، تُتيح محتوى بالعربية والإنجليزية. توصم هذه السردية المُقاوِمة المجرمين ولا توصم الناجيات.
تتجسد المساحة الأساسية لممارسة السلطة وفرض محدّدات الحراك الحالي ضد العنف الجنسي في مصر، في المساحة المشتركة بين الدولة والمجتمع والثقافة (بما يشمل الدين). التقاطع بين هذا الثالوث يشكّل التحدّي الأساسي أمام تحقيق تغيير جوهري أكبر فيما يتعلق بالعنف الجنسي وفي كيفية مقاومته في المساحات المعنية، التي يتداخل فيها الثالوث. تحتاج الحلقات الأضعف في شبكة الدولة-المجتمع-الثقافة للتعريف بها والتشديد على وجودها، حتى تصبح هذه الجريمة الكاملة جريمة مكشوفة.
في النهاية، يكمن هامشٌ كبيرٌ مما "فُقِد في الترجمة"، بين مظالم النساء المصريات في مقاومتهن للعنف الجنسي وممارسات الدولة. فبينما تُسجَّل العديد من التطوّرات الحديثة من جانب الدولة، مازال هناك الكثير مما ينبغي القيام به حتى تتمكّن النساء من انتزاع وامتلاك مساحتهن كمواطنات قادرات على ممارسة حقوقهن. لا نرغب في أن يصبح هذا التغيير في حشد النساء طريقة أخرى لتعريف أنفسنا أمام الدولة والمجتمع والثقافة أو لأي كيانات أخرى قد تكون مهتمة بذلك.
- 1. أدرجت هنا إسم "دفتر حكايات"، لأنه الإسم الأكثر شيوعًا في الاستخدام سواء من قِبَل "المدونة" نفسها أم من قِبَل جمهورها ومستخدميها (المترجمة).
- 2. https://www.instagram.com/assaultpolice/ https://elmodawana.com/ https://www.instagram.com/speakup.00/
- 3. هنا رغبت في ترك الإسم مُعّرّب للإشارة لأن إسم المنصة كان باللغة الإنجليزية حصرًا، حيثُ أنني أرى أن في ذلك دلالة مرتبطة بالموقع الاجتماعي للقائمات على المنصة (على المستويين الطبقي والثقافي مما يؤثر في تشكيل توجهاتهم/هنّ النسوية أيضًا) (المترجمة).
- 4. الدولة المجتمع والثقافة أو ما يمكن تسميته بالثلاثية الدنيئة (الكاتبة).
- 5. تنوي/ملحوظة: قُبض على 9 نساء، على الأقل، في 2020 (وفقًا لحملة "بعد إذن الأسرة المصرية")، وفي 2021 قُبِض على 3 أخريات على الأقل (المترجمة).
- 6. من ضمنهم حنين حسام ومودة الأدهم. حُكِم عليهما بعشر سنوات وست سنوات سجن بتهمة "الإتجار بالبشر"، بعدما حصلت حنين على حكم بالبراءة وأسقِط حكم الحبس عن مودة الأدهم في قضية "قيم الأسرة المصرية" أثناء الاستئناف. بالرغم من عدم إحالة قضيتهن الأولى للمحكمة بتهمة "الإتجار بالبشر" (الكاتبة).
- 7. أجريت هذه المقابلة في سياق مؤتمر عن الإعتداء الجنسي في مصر (الكاتبة).
Abouelnaga, Shereen. 2016. Women in Revolutionary Egypt: Gender and the New Geographics of Identity. New York; Cairo: American University in Cairo Press.
Abu-Lughod, Lila. 1998. Remaking Women: Feminism and Modernity in the Middle East, edited by Lila Abu-Lughod. Cairo [Egypt]: American University in Cairo Press.
Allam, Nermin. 2018. Women and the Egyptian Revolution: Engagement and Activism during the 2011 Arab Uprisings. New York, NY; Cambridge, United Kingdom;: Cambridge University Press.
Allam, Nermin. 2019. "Smoke and Mirrors: State-Sponsored Feminism in Post-Uprising Egypt." Social Research 86 (1): 365-386.
Allam, Nermin. 2018. "Activism Amid Disappointment: Women's Groups and the Politics of Hope in Egypt." Middle East Law and Governance 10 (3): 291-316.
Boutros, Magda. 2018. “A Multidimensional View of Legal Cynicism: Perceptions of the Police Among Anti‐harassment Teams in Egypt.” Law & Society Review 52 (2): 368-400.
Della Porta, Donatella and Mario Diani. 2006. Social Movements: An Introduction. 2nd ed. Malden, MA: Blackwell Publishing.
Dorlin, E. 2017. Se défendre: une philosophie de la violence. Paris: La Découverte.
Rizzo, Helen, Anne M. Price and Katherine Meyer. “Anti-Sexual Harassment Campaign in Egypt.” Mobilization; an International Journal 17 (4): 457-475.
Shehata, Tara. 2020. The Shadow of Cairo. Omoleto. http://omeleto.com/254245/
Walsh, Declan. 2020. “The 22 year-old Behind Egypt’s Growing #MeToo Movement.” New York Times.