الأنثى الـ لا مرئيّة – ملاحظات من تونس
تحرير الترجمة: مايا زبداوي
screen_shot_2021-09-06_at_10.07.59_pm.png
هذه الملاحظات هي جزء من مشروع أطول، مشروع صداقة تفتّح منذ عقد من الزمن. التقينا في عامنا النهائي بالمعهد الثانوي، جلسنا بجانب بعضنا الآخر في حصة الفلسفة حيث بسّط لنا أستاذنا تعقيدات نظريات الدولة. صادف ذلك العام أيضًا الثورة التونسية وباشرنا منذ ذلك الحين في الكتابة، التفكير والتخطيط معًا، ونحن نتخيّل سويةً العوالم التي أمكن بناؤها في راديكالية اللحظة الثورية الخاطفة للأنفاس. منذ العقد الذي مضى في ذلك الحين، كتبنا لبعضنا الآخر، تبادلنا القصص القصيرة، وبدأنا مجلّة أدبية. المحادثة أدناه هي جزء من مجموعة العمل التي شكّلت صداقة؛ إنه جزء من الدليل الورقي والآثار المكتوبة التي تتحدّث عن العلائقية.1 كما تذكّرنا ماريام كابا، إحدى المناضلات السود المعاصرات: "أن كل شيء جدير بالاهتمام يحدث بشكل جماعي"، فقد مزجنا أفكارنا معًا ومع الآخرين خلال عقد من الزمان، وأدركنا ضرورة زعزعة الأُطر الإستعمارية والأبوية المزروعة فينا. تتبّعنا بنحو جماعي كلّ ما كان مُمكنًا في الماضي وما يُمكن أن يكون في المستقبل. إن فعل الحياكة يغيّر من معالم الأنماط الموجودة، عندما بدأنا في الكتابة لبعضنا الآخر، أدركنا أن أنماط اللامرئية التي تحدّثنا عنها يمكن فهمها عبر النقاش بقدر ما يمكن فهمها بصريًا. إن الأساليب المختلفة التي انتهجناها ساعدتنا على الغوص في الأبعاد المتراكمة المحيطة بفهم القوة وعمق تشعّباتها. ومع ذلك، فإن فعل الحياكة الفكرية تلك يستحيل أن يكون نقيّاً أو أن يغفر لنا. إنه فاسد ومتولّد عن الإحباطات المتكررة والمتراكمة النابعة من إدراكنا بأن تخيّلاتنا النسوية لم تُترجَم بعد، وكيف أن النظام الأبوي بعد عقد من الثورة لا يزال يتكلّم بصوت أعلى من أي شخص آخر ويتفاعل مع نفسه إلى ما لا نهاية، بينما يتقوقع البقية في الزوايا. تبدأ هذه المحادثة بأصوات الرجال الصاخبين الذين يحتلّون المساحة، ولا تدّعي التوصل إلى حلول، إلّا أنها ستنتهي حتمًا ببناء الصداقات – الصداقة الأنثوية الراديكالية كمقاربة، وهيكل للتنظيم والمقاومة والتضامن.
فيلم
دار وشارع (Home & Street) إخراج وتصوير: ميريام عمري وملاك الأكحل
هذا الفيلم القصير المعنون "دار وشارع"، يستكشف اختفاء المرأة وغيابها في مدينة تونس. في شهر رمضان مع اقتراب غروب الشمس تختفي النساء من الشوارع. هنّ في المنزل، يطبخن ويحضّرن الإفطار. في المقابل، تملأ أجساد الذكور الشوارع، يمشون، يشترون الخبز، يمارسون الرياضة، بمفردهم، مع أطفالهم أو في مجموعات، أو مجرد التسكّع في المقاهي، منتظرين إعادة فتحها. من خلال الدمج بين صور الرجال في الشوارع وأصوات النساء في المطبخ، نستكشف العلاقات بين الأماكن العامة والخاصة وكيف يتمّ ربطها بالديناميات الجندرية، التي تتبلور في المكان، المنزل على النقيض من الشارع، وبالتحديد في فترة معيّنة هي شهر رمضان.
العنوان "دار وشارع" تعبير تستخدمه أمّهاتنا للتعبير عن فكرة العبء المزدوج: كونهن يعملن في المنزل (بشكل مجاني) و"في الشارع" (بأجر مدفوع).
الرابط: https://vimeo.com/553696326 كلمة المرور: bayraprod21
دردشة: ميريام وملاك، كانون الثاني/ يناير وأيار/ مايو 2021
ميريام، 25 كانون الثاني/ يناير 2021
أتساءل لماذا لم نفعل هذا سابقًا. أفكّر في جميع مراسلتنا على "فايسبوك" وكيف لو قمنا بطباعتها، مثل الطريقة التي تتّبعها المحاكم الآن، حيث تتمّ طباعة صفحات كاملة من عمليات تبادل وسائل التواصل الاجتماعي من أجل "أدلّة قضائية". ما نوع المواد المتعلّقة بالأدلّة الجنائية التي تحتويها محادثاتنا من بعيد أيضًا؟ بُنيت هذه الصداقة عن بُعد حتى قبل أن يُفرض البُعد على مناحي أُخرى من حياتنا.
أتساءل عن اللغة أيضًا، اللغة الإنجليزية لمتطلّبات موعد التسليم "دادلاين". ولكن أيُّ لُغةٍ كُنّا لنستخدم في حال لم تُفرَض علينا لغةٌ بعينها للحديث عن الجندر والثورة ومساحات الصمت التي تمتصّ أي شيء نسائي؟ عن لغتها، أو بالأحرى، دعونا لا نتحدّث عن اللغات، لأن كلانا يعرف أنها متاهة ألقينا فيها بكلّ ما أرّقنا خلال العقد الماضي.
أتصوّر أن هذه الصداقة تحتفل أيضًا بعقدها الثوري.
وعليه سنتكلّم عن النساء عام 2020. إنني أتصارع مع فكرة "البنية التحتية الأنثوية غير المرئية"، والطرق التي تحتفظ بها الأنثى (وليس النساء؟) / تتموضع الإناث ضمن المساحات المفروضة من قِبل الوضع الراهن وتلك التي تحوي الاحتجاجات والمكامن الثورية في الوقت عينه. أفكّر في الأمّهات على أنهنّ حراس النظام الأبوي، أولئك اللاتي يستحضرن "شخصية الأب" كظل يلوح في الأفق في أوقات الأزمات. لكني أعتقد أيضًا أن الأمهات هنّ مواضيع ثورية، بمعنى أنه في السياق الذي نتحدث فيه، فإن الأمهات (وحتى الأخوات) هنّ من يدرن العمل، ويدرن الأسرة. تعمل النساء حتى يتمكّن الرجال من الاحتجاج. إنه أمر مبسط للغاية ولكن هناك عقدًا وخيوطًا وأسمنتًا مصنوعًا من أجساد أنثوية تحمل عبء الاحتمالات، الثورية، الوضع الراهن والثورة المضادّة. لكلّ درب بُنية مُشيَّدة على لامرئية الفعل الأنثوي.
ما أحاول أن أقترحه أو أن أعدل عنه من خلال استخدام لفظة الأُنثى، هو ثنائية المرأة مقابل الرجل، وهي ثنائية تُخفي خلفها العديد من الأجساد بالعنف المطلق، وتعمل على محو التجارب الجندرية المتنوعة على الأرض. أفكّر أيضًا من حيث الترجمة وقصور القابلية للترجمة، على سبيل المثال فإن لفظة (فام) بالفرنسية والتي تعني إمرأة، تستحضر الى الذهن كلمة (فام) بالإنجليزية والتي تعني المرأة المثلية التي تتبنّى الدور الأُنثوي في سياق علاقاتها. أي أن كلمة إمرأة باللغة الفرنسية تستحضر باللغة الإنجليزية مفهومًا أدائيًا، يحمل في طياته دلالات تمرّدية تارةً ومنصاعةٍ تارةً أُخرى لمفهوم الأنوثة. ولذلك أستخدم لفظة الأنثى لأعبّر عن استهجاني من لفظة (لا فام) ودلالاتها المُشار إليها آنفًا. فهذه الأخيرة استُخدمت في تونس من قِبل التيار النسوي القومي ومشروعه الذي يولّد تصورًا أُحاديًا لـ"المرأة/ فام التونسية" على أنها موضوع اجتماعي مُضمنٌ لدى السلطة الأبوية. من خلال استخدام مصطلح الأنثى، يمكن للمرء أن يحاول إظهار التمثيلات الاجتماعية وأشكال السيطرة الجسدية التي تُهندسها السلطة بمكر ودهاء. ولأن للألفاظ سلطة راسخة غير قابلة للتغيير، فإن استخدام الصفة يبدو أكثر لينًا واتساعًا لتعاريف جديدة كثيرة.
إذن ماذا يحدث عندما تُبعَد أجساد النساء عن الأنظار؟ عندما نحاول "تفتيت" "الذكورة" والشباب المحطّم لأجل فهم حركة احتجاج ما، عادةً وللسخرية نفترض أن الذكورة محصورة فقط في أجساد الذكور أو مرادفات لفئة جندرية ثابتة تسمّى "الذكر". أفضّل التفكير بأن النظام الأبوي يحوم في الهواء وأن العيش في الفضاء الأبوي يعني أن يُغرس في داخلك بشكل ما، حتى عندما وإن كان المرء كويريًا أو محاطًا بـ"الإناث". سيكون من الخطير الاعتقاد بأن فصل المرء عن المعياريّة الغيريّة والأجساد المُطابقة جندريًا هو في الواقع هروب من النظام الأبوي.
ما أجده مروعًا أيضًا هو التفكير في أن أي شيء ثوري يمكن أن يحدث خارج إطار مساءلة الأنظمة التي ترتكز على لامرئية الإناث، والتي تنتج على حد سواء ضرورة وجود بنية تحتية أنثوية ووجود شروط لإسكاتها. من المثير أن إنتاجية القوّة العاملة في الدولة القومية التونسية يُنظَر إليها من باب إشراك الأنثى في العملية بحدّ ذاتها.2 فالدولة القومية بحاجة إلى جسد أنثوي للعمل، ومثال أُنثوي3 تبلوِر على أساسه أيديولوجية الدولة. تباعًا، يُخلق انتظام متكاملٌ يأخذ على عاتقه تغييب الإناث (يبدأ بتحكّم المؤسسة الشرطية بأجساد الإناث، ويصل إلى خطاب – التحاليل اليسارية). ومن الواضح أن الحلّ لا يكمن في الاعتراف بأن النساء هنّ العنصر الرئيسي للأسرة الآن وترك كل شيء للرأسمالية لمواصلة العمل. ولكن كيف يُحافظون على تلك التناقضات ويجعلونها مُمكنة؟ والأهم من ذلك، لماذا ترفض المقاومة التي انتصبت ضد السلطة مقاومة السلطة الأبوية، وكأن ذلك لم يكن ميثاقًا للسلطة نفسها؟ لماذا تتخذ المقاومة من "الرجل" عملة عالمية لها، بينما عندما تقاوم المرأة، فهي شيء أكثر خصوصية (وغرابة)، أي يُنظَر إليها على أنها شأن نسويٌّ أو جندريٌّ، ولكن بالتأكيد ليست ذات صلة اجتماعية أو حتى عاجلة.
تريدون/ تردنّ التحدّث عن الإغلاق العام والمساحات والأجساد الأنثوية ضمن المساحات العامّة، أليس كذلك؟
ملاك، الثلاثاء 28 كانون الثاني/ يناير 2021
هناك أيام يعود فيها الأمل إلى حيّز الوجود، ويتدفق معها الفوران، الإثارة والرغبة في دفع مجرى الأحداث إلى أبعد من ذلك، ومن ثم، للاعتراف في أعماقنا، أن هذه الحياة التي نعيشها مغلقة جداً، صغيرة جداً. لذا، ليس من الجيد أن نكون منغلقين على ما نسمّيه بدون أوهام "فقاعتنا". أريد ، ولكني أحتاج أيضًا، هذا المستقبل الأكثر انفتاحًا، حيث تنهار الجدران. لأنني أشعر بالعفن في هذه الفقاعة. بعد أن خنقني غضب الهزائم والأوسمة الموزّعة بشكل سيء، نسيت أن آمل، وأن أتذكر أنه في بعض الأيام، خلال هذه السنوات العشر الماضية، كانت هناك أشياء ممكنة، وآفاق يمكن إدراكها، ومساحة فُتحت على مصراعيها لنا ولإثارة حماسنا. هذا الصباح، كنّا قد استيقظنا للتو وأرسلنا بعضنا لبعض رسائل صوتية للاعتراف بأن الهزيمة ربما بدأت تسمّم أدمغتنا، تقطع الهواء عن أفكارنا، إلى درجة أن سؤال "من قال ذلك؟" يهمّ أكثر من "ما قيل؟" ولكن ها نحن ذا، ونحن نقول ذلك، وهو أفضل بكلّ تأكيد؛ نحن نتنفس بشكل أفضل بالفعل. أشعر أنني محظوظة جدًا لأنني قادرة على قول ذلك لشخص ما دون التخوّف من إطلاق الأحكام. تكتب، "لقد ألقينا بكل حالة انعدام أمن ممكنة في العقد الماضي". وأعتقد أننا فعلنا ذلك، أحدنا للآخر. أحيانًا حتى دون وعي، نؤذي الآخر، ولكن أيضًا، بدون خوف، يطمئننا اليقين اللطيف بأنه سيكون هناك دائمًا شخص ما ينتظرنا. وقد حان الوقت لأن تُصان هذه الروابط، وأن تُنقش في الكلمات بلغة أو بأخرى، لا يهمّ.
أكثر ما يدهشني في هذه القصة بأسرها التي نعيشها الآن هو الصمت. أطنان من الصمت الهائل والثقيل، مثل الأسمنت الطازج الذي له شاغل واحد فقط، هدف واحد فقط، لإخماد كلّ ما يغطّيه. طبعا، ما يُسمّى بـ"المهمّشين" الذين لا يوجَدون إلا من خلال وسائل الإعلام الصغيرة في أسوأ الأحوال، والتحليلات الاجتماعية السطحية في أحسن الأحوال. كم عدد استطلاعات الرأي ومجموعات التركيز التي تسعى إلى ترجمة تطلّعات ويأس "الآخرين". في بعض الأحيان، تجبرنا الأفلام الوثائقية، التي حققت نجاحًا وبروزًا إلى حدّ ما أو أقلّ، على التشكيك في مكاننا. لقياس سماكة الجدران التي تفصل بين جزئنا من العالم. لكن هناك دائما شخص مفقود. يتعيّن علينا أن نتعلّم أن نقولها أيضًا: لقد سئمت من الرجال. لقد سئمت من القراءة عن الرجال، من رؤية الرجال، من التفكير في الرجال، ومن منحهم وقتي وانتباهي. لعقود من الزمن، تمّ التهام مساحتي تمامًا من قبل الرجال، من خلال أفكارهم، من خلال نرجسيتهم المملّة. لذلك لم أكن أدرك حتى وقت متأخر جدًا أنه كان غائبًا بالنسبة لي لأنني حُرمت من النساء وأصواتهن وكلماتهن ومخاوفهن وضحكاتهن. لم يعد لدي وقت للاستماع إلى الرجال، ولم يعد لدي وقت لتجنّب الرجال. لقد نسوا جيدًا أننا موجودات، وأننا هنا، وأننا نحمل على عاتقنا حياتهم، وأننا نتذكّر أين تركوا بيجاماتهم عندما ارتدوا ملابسهم هذا الصباح.
لدي أمل إذن، لكنني لن أتفاوض على الأمل والصمت. ليس على حسابي، ولا على حساب النساء الأخريات. ليس لدي وقت لأهاجم عالم الاجتماع – المتشبّع بالحقائق الثابتة – عندما ينسى أبسط مهامه الأساسية: أن يضع نفسه في موضعه، وأن يتذكر أنه يتحدث عن رفاقه من البشر. ليس لدي الوقت بعد الآن لأن لا أوبّخ من لا يعترف بي، بينما يُهدَر وقتي في عدّ نُظرائه من الرجال. ليس لدي وقت لألتزم الصمت، ونسيان أمر المرأة، ونسيان ما يعطونه وما يخفونه. لا أتحلّى بالصبر للحفاظ على جدران حجرنا وعدم تجاوز الحدود. لا أريد التراجع. أريد أن أغزو المساحات جالبةً معي كافة أشكال حاجاتنا.
ملاك، الأول من شباط/ فبراير 2021
كنت أفكّر في الأفلام الوثائقية في وقت سابق، تلك التي تُظهر فقط الرجال من المُهمّشين، وتذكّرت صوري. في نهاية كلّ إقامة لنا في قليبية، كان والدي يمنح مصروف جيب لشقيقاته العاطلات عن العمل. كان ينادي عليهنّ بأسمائهنّ الأولى، "هيّا يا سُميّة!" "هيّا يا فاطمة!" ويعطيهنّ بعض المال. ثم نرحل. اعتادت والدتي، لسنوات، أن تقول لي، "لا تكوني مثلهنّ، لا تضعي نفسك أبدًا في موقف تحتاجين فيه إلى رجل. اشتغلي، ذاكري، إنجحي". عندما كانت أختي مكتئبة ولم تخرج على الإطلاق، كانت والدتي تصيح؛ "أنت مشابهة لعمّتيك" أو"تريدين أن تكوني مثل عمّتك".
وأدركت أنني لم أفكّر قط في تلك المشاهد بين والدي وشقيقتيه المفلستين. طقوس السلطة. الرجل يوزّع، نصف سعيد بسلطته، ونصف غير سعيد بوضع أخواته. أتساءل كيف شعروا في كلّ مرّة. ليس لدي أدنى فكرة؛ لم أتساءل أبداً. إلى أي مدى كان من المهين أو الطبيعي أن يتسلّموا هذه الأموال؟ هل اشتكوا يومًا من قيمة الأموال؟ هل نسي والدي يومًا [اعطاءهما] وكان عليهما تذكيره؟ كيف كان الأمر بالنسبة لهما كل تلك السنوات؟ كيف كان الحال عندما حصلَتا على أوراق نقدية لتنظيف منزل عمّي؟ هل شعرت وكأنه راتب لهما؟ صدَقة؟ ما هو شعورها عندما تجلب له جواربه المتّسخة ليتمّ غسلها كل أسبوع؟ كل تلك السنوات من الرعاية، التنقّل وغسل الجوارب المتّسخة، بينما يتألّق الأخوة الذكور في بدلاتهم الأنيقة. الظلم خانق، لكنّه كسر ظهر الأخت فقط.
تجري هذه المشاهد داخل جدران البيوت، مستندة إلى الجدار الأبوي الهائل، مما يجعل كلّ هذه الإهانات محلّ عدم تساؤل. إنه مجرد شيء تُظهره الفتيات مثلي حتى لا ينتهي بهن الأمر بنفس الطريقة.
الرجال، في الأفلام الوثائقية، ثاروا بسببه، إنها ليست الطريقة التي خططوا للعيش بها. كانت لديهم أحلام. رغبات هائلة. وهناك غضب لدى البعض لرؤية أحلامهم تضيع بعيداً عنهم. هل هذا الغضب موجود عند النساء؟ لدي انطباع بأن النساء مقدّر عليهن، ببطء ولكن بثبات، التخلّي عن أحلامهنّ، والتزام الصمت، والقيام بما لديهنّ من أعمال. حتى تنفجر، حتى ينفجرن، حتى يُصبحن غاضبات من ترك كل شيء في الداخل. وحينها، لن يستوقفهنّ أحدًا ولن يُنعتن بالمجنونات.
مريم، 2 شباط/ فبراير 2021
بريد إلكتروني ثاني،
أقرأ كلماتك، مرّة ثم مرّتين ثم عدّة مرّات أخرى، وفي كلّ مرّة أُنهي الفقرات تنقطع أنفاسي، ليس بطريقة مجازية بل لأن حلقي ينقبض أثناء عملية القراءة. بحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى الفقرة التالية، طلب جسدي فعليًا المزيد من الأكسجين. من الواضح أن كتابتك الجميلة هي سبب ذلك، وأنا سعيد (لم أستطع العثور على كلمة أفضل على الرغم من أن الفرح هو طيف من الكثافة التي لا يمكن لهذه اللغات الاستعمارية الخاصة بنا أن تصوّرها بالكامل. الفرح، في تعدده، في تناقضاته، في وجوده الجسدي، حلق مغلق أو أذرع مفتوحة، ليست شيئًا يمكن للفرنسية والإنجليزية سبر أغواره للبدء في وصفه). لكن إغلاق حلقي أعادني إلى الأجساد وإلى الواقع المركّب والمكبّل للجسد الأنثوي. أصف الجسد الأنثوي على أنه مركّب ومُكبَّل في آن، لأن في الوصف تعبير عن حالة الخنق الجسدية والإقصاء المجازي في الوقت عينه، إضافة إلى أن ذاك الوصف يفسّر لفظة الضميمة في بعدها الانطوائي. النساء مخلوقات مستأنسة، محصورة في مساحات (المنزل، الشارع أثناء النهار ولكن ليس خلال الليل، المصنع، قاعات الدراسة في الجامعة). أن تكون/ي جسدًا مُركبًا ومُكبَّلاً يعني أيضًا إنكار حريات المرء الجسدية. هناك مساحة صغيرة لتحريك الذراعين والساقين بطرق غريبة في مساحة مغلقة. هذا يذكّرني بالاحتجاج الأخير وكيف غضب رجال الشرطة، لأن بعض النساء رَمَين مساحيق التجميل على دروعهن البلاستيكية. كانت الخطوة نصف سخيفة ولكن ربما كانت مثيرة للإهتمام أيضًا (ما زلت لا أعرف بالضبط كيف). على سبيل المثال، رأيت منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي من الجانب الآخر سيّئة السمعة، تقول إن هؤلاء ليسوا نساء حقيقيات (ّلأن شعرهن قصير!) على الرغم من أنهنّ ادعين بأنهنّ يستخدمن أحمر الشفاه، والأهم من ذلك، "كيف يجرؤن على السخرية من رجال الأمّة؟". ماذا يعني احتلال الكينونة الأنثوية بوجه الثنائيات الجندرية؟ ماذا يعني ادّعاء "الأنثى" وفي نفس الوقت تعطيل التعريفات المفروضة لما يجب أن تعنيه الهوية الأنثوية؟
لذلك، لا بُدّ أن نضيف على الصمت صفة الضميمة المُركّبة والمكبّلة تلك. أنت تكتب عن الأسمنت الجديد للجدران وأنا أفكّر في الجدران، الإطباقات، هياكل الأسمنت والحواجز والأسوار الخشبية... إنّه لمن المُهمّ الالتفات إلى تعدد أشكال الإطباقات تلك/ الجدران، لأننا عادةً ما نركّز فقط على الجدران السميكة والقاسية والقبيحة منها لنصفّق بعدها لـ"تحرّر المرأة"، و"المساواة"، و"الحقوق". إلّا أنه عندما يتعلق الأمر بالجدران الإسمنتية السميكة، تلك المُتعلقة بالسلطة القضائية أو القانون أو الأعمال المكتبية، قلّما يُصار إلى تفكيكها (فإذا ما أُزيلت طوبتين فقط، يدّعون أنهم خلقوا مُتنفّسًا وعليه سيُبقون على الجدار). أي أن ما يقومون به ليس سوى تغطيتها أو استبدالها بجدران أكثر خُبثًا. جدران الصمت، جدران الادعاء، جدران غير مرئية، جدران لا يخال لك أنها جدران، تبدو كأبواب تفتح أي شيء أو شِباك تلتفّ حول أجساد النساء. في خضمّ العمل المنهك لكسر الجدران، تتشكّل أُخرى لأننا نضع جُلَّ طاقاتنا على هدم جدار أو طوبةٍ بعينها، فاسحين المجال لتشكُّل هياكل قمع أُخرى من حولنا. مثال على ذلك هي مسألة النظام التمثيلي، وهو هيكل قمعٍ نُركّز عليه، فترانا نُناضل لأجل صون مقاعد للنساء في البرلمانات، وأدوار في إنتاج الأفلام، ومواقع بارزة في الاحتجاجات، ومناصب في المؤسسات الرأسمالية، نُنادي لملئ تلك الأماكن بالنساء وندّعي بأننا حققنا الحرية! ولكن الواقع هو أن تلك المُطالبات بعينها ليست سوى مناورةً، لتُنسينا الحواجز والأصفاد الأكثر خُبثًا في أنماط قمعها.
ما هي أنماط الجهد التي نحتاجها للتطرّق إلى مختلف أشكال جدران الإطباقات والقمع وإحداث فجوات فيها؟ جهود جماعيةُ التكوين وبنيويةٌ وساخطة على واقعها بالتأكيد. سُخطٌ راسخٌ وعميق. أعلم أنك قلق بشأن الغضب والاستياء والطرق التي تحوّلنا بها إلى مخلوقات مُزدرية. إلا أنني أظن أن الغضب بحد ذاته ليس مُتاحًا للجميع. أفكّر في عمّتيك وعمتي المتوفاة. بعد رحيلها، قالت عائلتي: لعّل وفاتها نعمةٌ، لأنها لم تكن تمتلك إرادة المواجهة. لم تكن يومًا مُقاتلة ساخطةً على واقعها. إنه لأمر مروّع حتى التفكير في ذلك. ما أدراهم بالغضب في داخلها، الذي يمرّ عبر جسدها ، لكنه غير مرئي للآخرين؟ كم هو من الصعب على النساء حتى الإعراب عن الغضب، ورفض إبقاء غضبهن محبوسًا. كم هو من الصعب على النساء أن ينفجرن غضبًا أمام العالم كُلّه حتى وإن بفظاظةٍ وعلى نحو غير "أنثويّ".
الآن أفكّر في العمّات وأريد أن أكتب عنهنّ. يا له من شيء غريب أن تكون عمّة. أريد أن أفكّر في العمّات العوانس على سبيل المثال. أريد أن أفكّر بالفروقات بين العمّات من جهة والخالات من جهة أُخرى، وهُنّ في موقعين مُختلفين تمامًا. دعنا نكتب فقط عن العمّات/ الخالات.
الآن بعد أن أفكّر في العمّات أفكّر في الأسى أيضًا. فالأسى وقود أيضًا.
حدادًا على فقدان حاضر نتوق إليه، غير مُكبّل، يوفّر للناس متطلّبات الصحة الوطنية
حدادًا على فقدان هذا الوميض الصغير لمستقبل مختلف رأيناه قبل عقد من الزمان
ألا يوجد عودة إلى الوراء بمجرد تجربة الاحتمالات البديلة التي يمكن استحضارها، حتى لو كانت وهمية من بعض النواحي، حتى لو كان العمل الذي تتطلّبه يتجاوز جسمك وجسم العديد من النساء الأخريات؟ أم أن الحزن والحداد يلغيان الغضب ويتيحان الخضوع؟
لقد هُزِمنا وخسرنا الكثير، لكنني أفكّر أيضًا في معاركنا الشخصية، من أجل التضامن والكويرية والوجود في المساحات الانتقالية التي نختارها، لنفقد الناس ونحتفظ بآخرين ونعتنق النضالات الآتية والتي لا بُدّ أن تأتي. تلك أيضًا نوع من أنواع الانتصارات. وزارة الداخلية لا تزال قائمة، إلا أن الرجال يتجوّلون بحرية مُستذكرين كيف كانوا يسيرون مطأطئي الرأس في نفس هذه الشوارع منذ عقدٍ من الزمان. إنه إنجاز صغير جدًا، ولكن لا جدال في أن المعركة لأجل جسدٍ منتصبٍ وهامةٍ مرفوعة، تستحقّ أن تُخاض. لكن دعونا لا نحتفل بهذا الإنجاز، فجدران القمع عادةً ما تتوارى عن الأنظار في وهج أضواء الاحتفالات. دعونا نكتفي باستذكار الماضي، واستيعاب الحاضر، والنظر إلى المستقبل الآتي وذاك الذي لا بُدَّ وأن نبنيه.
الآن أفكّر في الدوّار المروري، يا له من مخطط معماري قبيح. فهذه الهندسة مُخصصة للسيارات، ويستحيل عبورها على الأقدام أو بالدراجة أو مع مجموعةٍ من الناس يُمسكون بأيدي بعضهم الآخر. لذلك يضعون تمثالًا أو بعضًا من الزهور على دوّار مروري لستر قُبحه. يُذكّرنا الدوّار المروري بأننا لا نستطيع أن نسكن في أماكن ولكن فقط نستدير حولها ونمرّ عبرها. لا يمكن أن توجد الأجسام بالقرب من الدوار المروري، بدلاً من ذلك، يجب أن تكون مغطّى ومختبئًا داخل سيارة. الدوّار المروري عبارة عن إطباق مكانيٌّ على حُرية العبور.
ملاك، 9 شباط/ فبراير 2021
لا أعرف ما إذا كنت قد أخبرتك أنه قبل بضعة أسابيع، همس رجل عجوز بشيء ما أثناء مروره في أحد شوارع وسط المدينة، ودون أن أفكّر كثيرًا في ذلك لحقت به. لم أكن متأكدة مما إذا كان يضايقني، لم أسمع ما قاله تمامًا، لكنني كنت خلفه على هاتفي، وتعقّبته. عندما رأيت أنّه كان يتجه نحوي، بدا مُربكًا بعض الشيء، أدركت أنه قد تحرّش بي بالفعل، لذا اندمجت في اللعبة وتابعته عن قصد هذه المرّة، بشكل متعمَّد، على بعد خطوتين، ما زلتُ أتكلّم بهاتفي. واصل في الدوران أكثر فأكثر، وبعد حوالي ثلاثين ثانية من متابعته، عَبَرَ نحو الرصيف الآخر. لقد أحببت تلك اللحظة، أحببتها كما لم أفكّر من قبل. لأنني شعرت بخوفه، بذعره. وكان من الجيد وضعه في تلك الحالة. شعرتُ بالقوة. إذن، نعم، هناك انتصارات، انتصارات على أنفسنا، على مخاوفنا، ولأجل أنفسنا أيضًا. الانتصار هو أن تتمكّن من العيش لأجل نفسك، وأن تتمكّن من الشفاء.
لكننا ما زلنا نفتقر إلى الكثير من الانتصارات. أريد أن أتغلّب على الوحدة، أنا وأنت، كنّا نحاول، نتخبّط، ونبني. لسنوات. ولكن أريد المزيد؛ أريد أن أكون في مجتمعات حقيقية، وأنشئ مع الآخرين، مجموعات كبيرة تضمّ كلّ من اعتُبروا أغيارًا. إنني مُتيقّنة من معرفتكم بمقدار ثقل الوحدة. كلانا مُدركٌ لماهية الصداقات، لأن كلانا واجه الوحدةَ بمُختلف أنواعها، وكلانا شعر بفيض القوة ودفء الاعتناق الموجود في الصداقات. ولكن هل مُنحت عمّاتنا الفرصة التي أُتيحت لنا؟ عندما ماتت عمّتي المطلّقة والوحيدة، قُلنا، "لم تكن تريد حقًا أن تواصل الحياة منذ تقاعدها، لم يكن لديها ما تفعله". السهولة التي يتمّ بها إلقاء النساء في القبور، في النسيان العام والخاص. كانت امرأة مطلّقة وليس لديها أطفال، لذلك كانت حياتها خارج العمل المأجور بلا قيمة. النساء في بيوتهن، غير مرئيات؛ لا يخرجن في الليل، يخرجن فقط في الصباح، للتجوّل في مراكز الشرطة والمحاكم، ثم يمكننا أن ننسى أنهنّ موجودات، وأنهنّ يشاركن.
تتشابك الأفكار في رأسي، هناك الكثير دائمًا. علينا أن نتعلّم إتمام ما نبدأ به :).
مريم، 1 أيار/ مايو 2021
يأتي هذا النص بعد انقطاع، ربما يكون طويلًا نوعًا ما. ما الذي كنّا نفعله منذ الاحتجاجات؟ أين ذهبت الاحتجاجات والسياسة؟ لا يمكننا الحديث عن اليأس بعد الآن. ما لدينا الآن هو أكثر خبثًا، أطول، نوع من الهزيمة الباطنية، تسمّم الهواء والماء. أكثر ديمومة أيضاً. أفكّر في تونس بعد عقد من الزمن وكلّ ما أراه هو التشاؤم، الأراضي المخصخصة وانقطاع التيار الكهربائي والخراب. الهزيمة فعلياً هي عندما لا يمكنك التكهّن حتى بآفاق مضيئة. عندما نفقد المستقبل، نكون على الأرجح قد خسرنا كلّ ما يمُكن له أن يكون، بل كلّ شيء.
ما زلت أريد أن أكتب لك بالرغم من ذلك. مع الشعور بالذنب ربما. ذنب الفقاعة التي نحتلّها بلا توقّف لمدة عقد من الزمن أو مدى الحياة حتى الآن. فقاعة الإنتاج الفنّي، نصوص شعرية للأصدقاء، مسجّلات صوتية تلتقط أصوات الطيور. فقاعة تتوسطها الكاميرا، الكلمات الإبداعية، التمعّن بالتفاصيل وغيرها. هذه الأيام. أينما أذهب، أتذكّر الفقاعة. عندما ألقي نظرة على الراديو، "كيف تطبخين لزوجك في شهر رمضان؟"، "هل للمرأة أن تضع الماسكارا وهي صائمة؟"، لم أكن أعرف حتى عن قواعد المكياج. الآن يبدو وكأنّ وضع كُحل العين فعل مقاومة. أدخل البنك المركزي أشمّ رائحة شيئين ممنوعين هذا الشهر: العطور والقهوة. أجد ذلك سخيفًا ومثيرًا للغضب، كيف يُقنعوننا بأن المعركة مُقتصرة على إيجاد المأكل والمشرب والحداثة والتقاليد الثقافية والدين. هذا هو السبب في أننا نتراجع إلى الفقاعة. لأن هذه أحاديث لا معنى لها ولا حتى قيّمة بعد الآن. سآكل فقط وأشرب داخل المبنى، داخل المنزل مع الأصدقاء وأتظاهر بأن البقية غير موجودين. ربما نفقد شيئًا ما على الرغم من ذلك. لا أعرف ما هو بالضبط. أو ربما تصبح جدران الفقاعة صلبة. مثل الجدران السابقة التي تحدّثنا عنها، عن اللامرئية والصمت والانصهار...
كلّ شيء يصبح أداءً مقاومًا. أنظر إليكِ في الشارع الساعة 6 مساءً ولا تطهين للزوج أو الأخ أو الأب. دائمًا ما يكون العنف مرئيًا أكثر في الشوارع. تخيّل جسد أنثى قبل ساعة من انتهاء الصوم. في الشوارع لا يوجد سوى رجال. أولًا يشترون الخبز وبعدها يُخرجون الأطفال من المطبخ حتى تتمكّن "الزوجة" من الطهي. نصف ساعة قبل الإفطار. السادسة والنصف مساء هذه المرة وفي وسط مدينة تونس لم يتبقَّ سوى رجال شرطة وجحافل صغيرة من الشباب والمراهقين والشباب يتجوّلون بدافع الملل. رأيت بعض النساء: إحداهن كانت تجري لجلب الماء، والأخرى كانت تحمل معجون طماطم لتُعدّ طبخةً سريعة. ليس كل شخص يطبخ بالرغم من ذلك. أفكّر في جميع أفراد العانسات، اللواتي يشعرن بالملل على الشرفة، سيجارة في اليد، ويتنهدن وهُنّ يُراقبن المشهد في الشارع ولكن وهنّ مهمومات. في ذلك اليوم من الشهر تزداد وطأة تلك التفاصيل الفارغة على حاضرنا، وذلك بفعل الأعراس والبرامج التلفزيونية التي تذكّرنا برحلة البحث عن الزوج وواجب ممارسة الطهي. إنها واقعةٌ سنوية تزداد فيها الفجوة بيننا نحن الإناث والعانسات من جهة، وبين المجتمع، في تلك الفترة الزمنية نتذكّر كم أننا مجرّدين من الكثير من الأشياء.
ملاك، 13 أيار/ مايو 2021
أنا أعرف ما تعنيه. عن الهزيمة. لكن كما تعلمون، هذا المشروع الذي نقوم به في ذكرى عهد بن علي يذكّرني بشيء: لم نتمكّن من رؤية أنفسنا نخرج منه. لم يرَ أحد نهاية الأمر ولم نتخيّل هذه النهاية للحظة واحدة. لذلك أنا لا أقول إن هناك سببًا للأمل، بل أقول ببساطة إن أحدًا لم يقل كلمته الأخيرة. ثمة أفكار لا بُدّ وأن تُبنى، ونضالات لا بُدّ وأن تُخاض.
بالحديث عن الفقاعة، كم مرّة تحدّثنا عن الفقاعة؟ لا أدّعي بأني أُغيّر رأيي، لكنّي أرى فقاعات أخرى غير فقاعاتي، الجميع في فقاعة. إنّ أحد تأثير الفقاعات لهي العزلة التي تجعلنا نعتقد بأنها محصورةٌ بنا. وفقاعتنا لديها ميزة كونها بشعة وبذيئة للغاية بحيث يصعب تجاهلها: فهي لا تتحدث حتى بنفس اللغة التي يتحدث بها من حولها.
لكن كلّ تلك العائلات التي تجتمع في أمسيات رمضان، والتي تتحدث فقط عن السرقات وانعدام الأمن والزواج والأطفال، ألا تعتقد أنهم يعيشون أيضًا في فقاعة؟ عندما ذهبت من أجل عملي، إلى نقاش موضوعي في الحانة (مجموعات التركيز) سمعته مرات عديدة، "من قبل، لم يكن هناك عنف، لم يكن هناك انعدام للأمن، لم يكن هناك إرهاب. لم يظهر إلا بعد سقوط بن علي". وشعرت بالرغبة في الضحك عليهم وعلى فقاعتهم الحالية وحنينهم إلى الفقاعة الماضية. كنّا جيّدين للغاية عندما لم نكن نعرف أيّ شيء، عندما لم يتمّ إخبارنا بأيّ شيء، عندما بدا أنّ الجميع مشغولون بنفس المصير: أن نأكل، نهضم ونموت.
الفقاعات منتشرة في كلّ مكان، موجودة في كلّ مكان. أعتقد بصدق أنه لا يمكن لأحد أن يدّعي أنه لا يعيش في فقاعة. أن تكون مدركًا للأشياء كما هي. ألا يقبع هؤلاء الباحثون الذكور الذين يتحدثون فقط عن المبحوثين من ذكورٍ آخرين، في فقاعة تفوح منها النرجسية الذكورية، وأولئك كُثُر، إنهم الذين يقولون "هذا هو الواقع" كضربة أخيرة لحججهم، مُلمّحين لك أنك إنسان مغلوب على أمرك وغير مُرتبط بالواقع. كما لو أنهم يتبرّكون من جمود "الواقع" كلّ صباح مُعرّين ذواتهم أمام ثقله أي "الواقع".
الجميع موجود، والجميع محبوسون. وفي معظم الأوقات، في هذه الفقاعات، يكون لوجودنا مكان هامشي، لأن أنماط الوجود هذه غير مرحّبٍ بها. هذا ليس شيئًا جيدًا، لكنني أعتقد أن محاربة الفقاعات أمرٌ مهم، لنتوقّف عن التقوقع حول ذواتنا، ولننظر إلى مُحدداتنا بكونها حالةٌ سياسيةٌ لا بُدّ وأن نبتعد عنها وإن قليلاً.
ملاك، 23 حزيران/ يونيو 2021
لست بارعةً في كتابة الخاتمات. لكن وإن كان لا بُدّ من الختام، فسأنصح بشيء من القراءة، كتلك التي نقوم بها يوميًا. لطالما شعرت أن الكتب هي أسلوب جيد لنجد مسارنا.
انتهيت أمس من قراءة كتاب "في أثر عنايات الزيات" للشاعرة والباحثة المصرية إيمان مرسال. هذا وصف مرسال لبحثها عن آثار الكاتبة عنايات الزيات. عنايات، التي كتبت رواية واحدة فقط، نُشرت بعد وفاتها، منذ أن انتحرت وهي في عُمر 27 عامًا وذلك عام 1963. نبحر معها عبر الصعوبات الإدارية، والكلمات غير المُعلنة لأقاربها، البهجة العظيمة في الاكتشافات الصغيرة. ثم في النهاية، يتحوّل الكتاب إلى صخب. بعد كل الصبر الذي صبّته في اقتفاء الآثار والفهم والبحث (ويمكن للمرء أن يشعر بالعرق والقيلولات الصيفية الباهتة في كتاباتها)، انتهى بها الأمر إلى السماح لنا برؤية غضبها مما تصفه بأنه "عدمية الأرشيف"، هذه اللامبالاة الساحقة من السلطات، والإهمال الذي يطرأ على تاريخ المرء، بالإضافة إلى الطريقة التي يحتلّ بها الأحياء كل المساحات، وحرق المُذكّرات المكتوبة بقصد الهرب من العار، والحديث عن الموتى وفقًا لمعايير جامدة، تحجيم الموتى بدفعهم نحو اللامرئي والنسيان. لكن ليست العائلة وحدها من يقوم بهذه الأفعال بل أحيانًا يقوم بذلك الحبيب/ الحبيبة، فيُسرعون نحو القضاء على أرشيف الخليل للهروب من العار.
طوال هذا الوقت، كنت أنا وأنت نحاول سرد هذا النقص، هذا الاختفاء العنيد للنساء ولقصصهن ونضالاتهن وأجسادهن، هذا التحجيم الذي ما انفك يُفرَض عليهنّ. ونحن نحارب التغييب، لكن هل نعرف حقًا كيف نفعل ذلك؟ تستنكر مرسال في كتابها الباحثين الذين يكتفون بالشهادة الشفوية، والذين يرفضون الأرشيف وصعوبات إيجاده. وفكّرت في هؤلاء النساء القلائل اللواتي قابلتهنّ شفهياً، والذين تمّ حشدهنّ في الثمانينيات، والذين تعلّموا ببطء أن يُطلقوا على أنفسهن صفة نسويّات. وأعربن جميعاً عن أسفهنّ لفقدان أرشيفهنّ وعدم الاهتمام به. سألتني إحداهن، "لماذا ينحصر الاهتمام بالأراشيف على الباحثين الغربيين؟" ولم أستطع الإجابة. لم أذهب للبحث عن الأرشيف. لم يكن لدي الوقت وربما كان الجو حارًا أيضًا. لكن يجب أن نفعل شيئًا به على أي حال. إنه ثمين للغاية، مثل تلك الكتب التي كتبتها النساء والتي تجدها في المكتبات في الشارع، والتي لا يمكن العثور عليها تمامًا. هكذا تقاطع درب عنايات الزيات مع إيمان مرسال.
لذلك علينا أن نجد طرقًا للقيام بذلك، للتغلّب على الكسل والهدر المُمأسس للوقت، للتغلّب على الحياة اليومية، واللحظية التي يصعب تلقّفها، ثم أخيرًا التغلّب على عقلنا المحدود... لكن هذه قصة أخرى لنكتبها.
مريم، 29 حزيران/ يونيو 2021
عندما بدأنا هذا التبادل كنّا نتذكر العقد الماضي، عن الثورة وخيبة الأمل من تونس في ظل الانغلاق السياسي والانهيار الاقتصادي والأزمة الصحّية. كنّا نفكّر أيضًا في صداقتنا المُنغرسة في الحركية الزمنية للثورة.4 ومع ذلك، في خضمّ الحديث عن التغييب، ما زلتُ أفكّر في أننا افترضنا هذه الصداقة دون فكّ تعقيداتها الجامعة، ما جعل بنيتها أكثر وضوحًا. ما أُنوّه إليه هو ضرورة طرح التساؤلات حيال العلاقات التي تُساهم في زيادة مرئية بعضنا الآخر أو العكس. ما الذي يشكّل صداقة أنثوية ثورية؟ كيف تأثّرت بُنية حركيّاتنا الزمنية وتلك العائدة إلى المواضيع الجندرية منذ العام 2011؟
حاولنا في هذا النص ترجمة ما نعنيه بلفظة "أنثى". نحن نقول "أنثى" أما الدولة فتنادينا بـ"الإناث"، باستخدام "أل" التعريف وكأننا بُنيةٌ واحدةٌ مُتماثلة التكوين تستطيع السلطة صقلها. أستخدم لفظة "أنثى" بهدف التفكّر بمرئية الأجساد الأنثوية (وليس أجساد النساء فقط)، وأنماط وجودها ضمن المساحات، وكيف يُنظَر إلى حركتها ضمن أُطر المقاربات المجتمعية السائدة لما يعنيه أن تكون أنثويًا. كيف نضع تجربة الجسد المُجندر اللامرئي في واجهة المساحات المرئية؟ أفكّر في أننا نصوّر دوّاراً مرورياً، وكيف أن هذا الفعل دفعنا إلى ملاحظة الإطباق المُمارس على أجسادنا ضمن المساحات العامة وفي وضح النهار. وأتينا لفهم تلك المساحات التي يتسكع فيها الرجال ولا تكون فيها النساء سوى عابرات سبيل. أفكّر في الفيلم القصير وفي الإملاءات التي يفرضها الزمن المُهيمن على وجود النساء في الشوارع، لكن هذه المرة ليس في رمضان فقط وليس عند الغروب.
أُدرك تباعًا أن اللامرئية التي تحيط بالفرد الأنثوي لا تقتصر فقط على غيابه عن الساحة الثورية أو على سياسات احتوائه ونسيانه المستمرة، بل إنها (لامرئية الفرد) مسألةٌ مساحيةٌ وبصرية ومادية.5
تنهين بالأرشيف وأريد أن أنهي هذا بالأرشيف أيضًا. تحتوي هذه المحادثة على العديد من الأرشيف، نصوص وأصوات وصور أرسلناها لبعضنا الآخر على مدار عقد من الزمان. الموضوع الأنثوي الثوري في تونس لديه أطول أرشيف، تمّ التلاعب به وعرضه من أجل أداء دولة قومية "صديقة للأنثى". يشكّل وجود وغياب تسجيل الكاميرا أداة أرشيفية أيضًا. ومع ذلك، فإنّ كلّ هذا الأرشيف، في غير محلّه وفي أجزاء صغيرة، لنا ولهم بالكاد تشكّل قصاصات لكشف مستويات مختلفة من اللامرئية. كيف نربط هذه الأراشيف متباينة الحجم ببعضها الآخر على نحو يساعدنا على زعزعة سياسة اللامرئية؟ كيف نزعزع اللامرئية دون أن نموضع مفهوم المرئية على أنه مجرد نظير معاكس ومُبيّن لها؟ هناك العديد من الخروقات والشقوق والتصدّعات التي تتجاوز ثنائية المرئية واللامرئية والتي لا بُدّ أن نُناضل ضدّها خلال العقد القادم...
- 1. حركة تهدف الى التحرر من العبودية والغاء الرق وتجارة الرقيق (المُترجم).
- 2. وفي سياق تفسير معنى الجملة في النصين الأصلي والمُترجم، ننوه إلى أن الكاتبة تتكلم عن التناقض الذي يُمليه النظام الاقتصادي الرأسمالي التونسي الذي يقضي بالاعتراف بالمرأة على أنها شريك في نمط العلاقات الاستغلالي ولكن يدأب على إبقائها في حيز اللامرئي اجتماعيًا وثقافيًا (مديرة الترجمة).
- 3. ويُفهم من النص حاجة الدولة القومية لبناء نموذج معياري يكون الركيزة الرمزية التي تُبنى حولها أيديولوجية الدولة القومية الأبوية الحاكمة وما ينضوي تحتها من علاقات اجتماعية (مديرة الترجمة).
- 4. أستخدِم المصطلح المركّب "الحركية الزمنية" كترجمة تفسيرية وتفكيكية لمصطلح temporalities بالإنجليزية، وهو مفهومٌ يسعى إلى تبيان العلاقات القائمة ما بين جُملةٍ من الفاعلين من جهة، وبينهم وبين الزمن من جهةٍ أُخرى. يُستخدم هذا المصطلح في الأدبيات الكويرية والهجرة واللاجئين بمقصد إعادة تعريف الزمن خارج إطار معايير المُنتظمات المهيمنة (مديرة الترجمة).
- 5. بل لقد جعلني أدرك كيف أن الاختفاء الذي بدأنا به، الأنثى باعتبارها الموضوع الثوري المفقود الذي يتم اكتشافه دائمًا ليتم اختياره أو نسيانه في الفضاء الأول، هي أيضا مكانية، بصرية ومادية (المترجم).
Adnan, Etel. 1993. Of Cities and Women. Post-Apollo Press.
Ahmed, Sara. 2017. Living a feminist life. Duke University Press.
Bardawil, Fadi A. 2020. Revolution and Disenchantment: Arab Marxism and the Binds of Emancipation. Duke University Press.
Dakhli, Leyla, Amin Allal, Kmar Bendana, Mohamed Slim Ben Youssef, Youssef El Chazli, Elena Chiti, Simon Dubois, et al. 2020. L'esprit de la révolte: archives et actualité des Révolutions Arabes. Seuil
Hartman, Saidiya. 2008. “Venus in Two Acts.” Small Axe: A Caribbean Journal of Criticism 12 (2): 1–14.
Kaba, Mariame in conversation with Eve L. Ewing. 2019. Everything Worthwhile Is Done With Other People. Adi Magazine. Available at: https://adimagazine.com/articles/mariame-kaba-everything-worthwhile-is-done-with-other-people/
Marsal Eman. 2019. In the Footsteps of Enayat Al-Zayyat. Egypt: Al Kotob Khan Library.
Mikdashi, Maya. 2012. “How Not to Study Gender in the Middle East.” Jadaliyya Mag. Available at: https://www.jadaliyya.com/Details/25434