الهجرة في الأربعين

السيرة: 

صباح، محرّرة النسخة العربية من مجلّة "كحل" ومنسّقة الملفات، عملت في الصحافة المكتوبة في لبنان، نسوية مهتمّة بأحوال العمل وقضايا العمّال والعاملات.

شكر‬ ‫واعتراف‬: 

Translated by Yasmeen Mobayed

Translation edited by Ghiwa Sayegh

اقتباس: 
صباح أيّوب. "الهجرة في الأربعين". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 7 عدد 1 (06 سبتمبر 2021): ص. 84-87. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 18 أبريل 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/300.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (241.77 كيلوبايت)

توهّم

إرويلي قصّتك

جولروخ نفيسي

كنتُ قد اخترت المنطقة التي سأعيش فيها خارج بيروت، واستقرّيت هناك منذ خمس سنوات، اعتدتُها وأحببتها. بدأَتْ الدنيا تهدأ في داخلي بعد عراكٍ طويل، والخيارات تتوضّح والعلاقات تصفو والشجر يكثر من حولي. المنزل الصغير خلفه جنينة مع صنوبرتين والمسافة المقبولة للابتعاد عن المدينة من دون قطع العلاقة كلّياً معها، الأصدقاء والصديقات الصامدات وعلاقاتنا التي تتمتّن مع العمر ومع اشتداد المصائب، الشغل الجديد البطيء الجميل، الحبّ الذي انتشل القلب، الجسد الذي بدأ يتعافى من آثار علاقات مسمومة، وأمّي التي بدأت تحبّ حياتها أكثر فأحببتُ نفسي بعد أن رأيتها تضحك ملء قلبها…

هل هي ملامح سنّ الأربعين، النضوج والتصالح مع الذات؟ لنقُل إنني ناضلت في السنوات الأخيرة لأبني فقاعةً أعيش داخلها تتسع لي ولأمزجتي المتقلّبة ولوصفات الأطبّاء وللصديقات وضحكاتهن ودموعنا الكثيرة. فقاعة أتلقّى فيها الصدمات الشخصية وتوتّرات البلد من دون أن أنهار بالكامل وأرتطم بالأرض فأُشَلّ لسنوات لاحقة، كما جرت العادة. فقاعةٌ صالحتني مع وجودي هنا وأسكتَت منبّه الهجرة الذي كان يزنّ مع كلّ مصيبة جديدة تنفجر بوجهنا في البلد السائب.

أردتُ أن أرحل عن لبنان منذ أن أنهيت سنوات المدرسة. عام 2000 تسجّلت بجامعة في كندا ولم أذهب، 2005 "سأهاجر إلى أستراليا" خططتُ ولم أفعل، 2010 "سأُكمل دراستي في بلجيكا" – أتممتها في لبنان، 2017 سنة أولى – وأخيرة – في جامعة في فرنسا… محاولات هروب في سنوات أزمات مكثّفة متتالية ومع اشتداد صعوبات التأقلم داخل البلد "المخضوض" كلّ مرة، لكن تلك المحاولات فَشِلَت بطريقة ما. بعضها فشل بسبب ابتزاز عاطفي أبويّ ورائحة أطفال العائلة الجدد، واخرى بفضل كرهي للبرد والثلج، واخرى أنهيتها بقرار عبثيّ بعد سَكرة. وها أنا على بوابة الأربعين من عمري في بلد اللاستقرار الدائم ومن دون أي ضمانات في العمل أو الاستشفاء أو الشيخوخة. لكنّي لم أعد أقوى على خوض مسار الهجرة واختبارات الصبر وحسن النيّة وحسن السلوك الذي يُطلب من المهاجرين إمعاناً في آلامهم. منظر أوراق طلب الهجرة يسبّب لي انقباضاً في المعدة أصلاً. "ما بقي من العمر قدّ اللي فات"، شعار استسلامي الطوعي للمرحلة الجديدة من حياتي في لبنان. إستسلامٌ للقليل الكافي الذي راكمته بعد مشوار مليء بالخضّات الأمنية والسياسية والمجتمعية والمهنية والشخصية. أريد أن أستمتع بزوايا هذا البلد الجميلة الباقية وأن أترقّب الأسوأ بين أهلي، هكذا واسيتُ نفسي وبررتُ فشلي بالهروب ووجدت سبباً لبقائي في البلد وتعلّقي غير المبرّر به.

استلقيتُ على الكرسي الطويل في فيء الصنوبرتين ولا شيء في المدى المنظور غير سحابة بعيدة وقمّة جبل صنين العظيم. أحبّ فقاعتي وأريد أن أكبر فيها، هكذا بهدوء. أحسستُ لبرهة أنني أمسك ببعض خيوط حياتي بعد 39 سنة من محاولات النجاة والتفتيش على مخابئ الطمأنينة وسط مهرجان التوتر الدائم.

جاءت "انتفاضة تشرين"، وهي، رغم كلّ شيء، أجمل ما عشته في هذا البلد منذ تحرير الجنوب عام 2000 وعودة زياد الرحباني إلى المسرح عام 2012. ما كلّ هذا الحبّ في داخلي للبلد وللناس ولاختلافاتنا؟ لماذا أبتسم لمجهولين في الطريق وأريد أن أجلس معهم وأكلّمهم؟ غصّة دائمة في الحلق ودموع مكبوتة وسط الحشود وفي كلّ مرّة أقرأ الشعارات الغاضبة على الجدران بصوت عالٍ. لكن زخم الشارع انتهى من دون تحقيق الكثير، عدتُ إلى فقاعتي مسرعة.

ثم مُنينا بوباء انعزالي فجالستُ وحدتي مجدداً. اكتشفت حينها أن لا مشكلة عندي بالوحدة ما دامت داخل فقاعتي. إنها عوامل الأربعين الهادئة الموزونة أكيد! قلتُ في نفسي.

... ثم انفجرت بيروت في الرابع من آب، كبرتُ خمسين سنة في يوم. طارت فقاعتي وارتطمتُ بالقاع ضربة واحدة. أنا امرأة حزينة في التسعين من عمرها، تصفن طوال اليوم وتحدّق في اللاشيء، نفَسها ضيّق وتعبّر بكلام قليل أشبه بهمهمة.

كانت الحياة تحوّلت سريعاً إلى مخزن توتّرات مفتوح، معارك أسبوعية مع موظفي المصرف، هلع يومي من ارتفاع الأسعار ومن سهولة التلاعب بقوتنا ودوائنا، معاش أمّي التقاعدي لم يعد يكفي، لستُ مضمونة صحّياً، "خزِّني أكياس طحين" يقول الصوت الآتي من الهاتف، "خضّات أمنية قريباً في الشارع" تقول رسائل الواتساب غروب، أختي صُرفت من عملها، "يجب أن أُبلغكِ بتسعيرة إيجار البيت الجديدة" تدوّي رسالة صاحب المنزل والجنينة والصنوبرتين. وتيرة التوتر تزداد في الشارع وفي السوبرماركت وفي الصيدليات وداخل المنازل وفي طوابير الانتظار وعلى أبواب المستشفيات...

وجوم في كلّ مكان. يسألني أحدهم في اجتماع عمل "كيف حالك؟" فأنهار بالبكاء ويتوقّف الاجتماع لبرهة، تُرسَل لي قلوب الكترونية وأسمع غصّات الزميلات وراء شاشاتهن. تركيزي صفر كما الإنتاجية تلحقهما المبادرة والرغبة بفعل أي أمر. شللٌ نفسيّ وعمليّ لا يقوى عليه شيء. هل بِتُ حساسةً زيادة؟ هل أنا مكتئبة؟ أم أننا بلغنا الحدّ الأقصى للتحمّل كجيل ما بعد الحرب الأهلية وكل الحروب والمعارك التي تلتها؟ أين ثبات الأربعين وفرفشتها؟

أنظر في المرآة، أرى وجه المرأة التسعينية الشاردة وأسمع همهمتها. لم أنفجر بالبكاء بعد، نوبات وجع رأس فقط تشبه نوبات أمّي التي لم تتوقف منذ أن ولدت. بِتنا نشبه أهلنا لا في أنواع المرض وانحناءات الجسم وموقع التجاعيد فقط، بل فرَضَ البلد أن نلبس، نحن من هم في الثلاثين والأربعين من عمرنا، روح أجيال الستّين والسبعين. نشبههم في "تروماتهم" واضطراباتهم وطرق عيشهم غير الطبيعية المتماهية مع القلق. اكتسبنا مباشرةً خلال الـ 2020 عاداتهم التي فرضتها الحروب في تخزين كميات تفوق حاجتنا من الخبز والمياه والمعلّبات وهمّ إعادة تخزينها كلّما نفذت. نشبههم في فترات الصفن الطويلة والتلعثم لدى سؤالنا كيف الحال؟ نشبههم في فقدان الطموح وغياب الهمّة لتحقيق الأحلام البسيطة، نشبههم بنظرات العجز والعوَز القاسية. نشبههم بشنط السفر الموضبة دائماً والحقيبة التي تحتوي كلّ الأوراق الثبوتية المتأهبة للهروب إما الى ملجأ أو إلى مهجر.

كلّها مشاهد رأيتها وعشتها وأنا أكبر في بلدٍ انتظرنا فيه الآتي السيّئ دائماً. هذه الوجوه أعرفها جيداً، وجوه أهلي التي لم أرها تضحك فعلياً إلا في شرائط فيديو مصوّرة قبل أن أولد. هذا القلق أعرفه أيضاً تربّيت بين جدرانه وجاهدتُ للخروج من متاهاته طوال 39 سنة، وحين نجحت في ذلك لبرهة، صفعني نفس البلد لنفس الأسباب وبنفس العنف.

لذا، قرار الهجرة هذه المرّة هو أشبه بالركلة الأخيرة التي تُسَوّى فيها الضحية أرضاً بعد أن أُشبِعتْ ضرباً. لا ليس شعوراً بالذنب ما أحسّه بل شعور مقيت بالإكراه. أرحل غصباً عنّي، سعياً لاسترجاع اتزان نفسيّ وعقليّ ما بعيداً عمّا وعمّن أحبّ (يا لكآبة وحماقة هذه الجملة!) مجبرة على استرجاع إنتاجيّتي لكي لا أخسر عملي ومهنتي ونفسي. أريد أن أنظر في المرآة وأرى وجهي مجدداً، أريد أن أعيش أربعينياتي كما أحبّ وكما تستحق ذاتي المتعبة. أرحل مكرهة ومستسلمة للعجز، العجز الذي أردانا سريعاً نحنُ من اقتُلعت عيوننا من فرط الأمل قبل عام فقط.

سأبلغ الأربعين بعد أسبوع من سفري إلى البلد الجديد. هل سيسعفني جسدي ويتقبّل اختلاف الهواء والطقس والمياه والضجيج؟ هل سأتجرّأ على نمط حياة جديد؟ على الثقة بأناس جدد؟ على أطبّاء لا يعرفون عللي وأنواع حساسياتي؟ على شوارع جديدة ومنازل لا أعرف روائحها وأماكن ليس لي فيها أي ذكريات؟ العودة إلى الصفر في كلّ شيء، الآن تحديداً، تبدو موجعة ومنهكة سلفاً.

ماذا عن نفسيَ التي كنتُ بدأت أفكّ شيفرتها، كيف ستستقبل محفّزات توتر إضافية مع الغربة؟ مع من سأتابع العلاج؟ لمن سأترك الصنوبرتين والياسمينة المريضة في الجنينة؟ هل ستتمكّن أمي من زيارتي؟ متى؟ ماذا لو هجم اكتئاب الانسلاخ والفَقد؟ كيف أصل إلى أذرع صديقاتي وأحضنهنّ لأطمئنّ؟

… ها أنا أفتّش في الدِش على المحطات اللبنانية، التي أكرهها، بعد وصولي مباشرة إلى المدينة الجديدة، وأزرع الزعتر على طاولة المطبخ وأثبّت زيت الزيتون في وسطها، أنفجر باكية على صوت فيروز، ولا أريد أن أتخلّى عن لهجتي فأتلعثم بالكلام كلّ مرة. غصّة تنتصب في الحلق كلّما قال لي غرباء: "لبنان الجميل الله يقوّمه بالسلامة".

فعلتُها هذه المرّة وهربتُ فعلاً، أنا على أرض غريبة في الأربعين من عمري. أنظر في المرآة، أرى وجهي، من دون ملامح.

 

ملحوظات: