الأشباح التي تطاردنا: مخلّفات الاستعمار ومناهضة الاستعمار والتضامن النسوي في توثيق يوميّاتنا
نخوض في هذه الورقة البحثية، تجربة توثيق يوميّاتنا، من المواقع المحدّدة لنا في العلاقة الاستعمارية المتسلّطة بين الهند وكشمير. نظراً لكوننا نسويات يستثمرن في فهم تعقيدات سياقاتنا وفي بناء أشكال من التضامن المناهض للاستعمار، فإننا نسترجع تجاربنا المكانية والزمانية والحسّية لعامَي 2019 و2020، ونوثّقها في جانبها الخام. شهدتْ هاتان السنتان تصعيداً سياسياً فادحاً في كشمير والهند، لكنهما شهدتا أيضاً صعودًا لتشكّلات سياسية جذرية تقاوم الاستعمار داخل وخارج حدود الدولة القومية. هكذا أصبحت عمليتنا التعاونية لتجميع الأرشيفات اليومية؛ من لقاءات عادية، وتأمّلات شخصية، ومحادثات، وروايات بصرية وحسّية؛ ملتقى نسوياً. استناداً إلى المواقف المرتابة الخاصة بكلّ منّا، والتي تمكّننا من اكتشاف قلّة الانخراط الدائم والتضامني بين كشمير والهند، والتي تبدو متفاوتة كالخوف والانكسار والسخط والإنهاك، نجد في أرشيفنا لحظات من الجلاء. هي أيضاً لحظات تحدّد مواجهاتنا مع أشباح الاستعمار، وشكلها الدائم المتغيّر، والهواجس التي تنتجها. هي مواقع نجدها مولّدة لعملية نسج أشكال الترابط في نضالاتنا ونطاق الإشتباك وإحداث التغيير. بشكل عام، نحاجج بأن الانخراط المستدام في الأرشفة والقراءة الشاملة والكتابة المشتركة، هو وسيلة للتفكير النقدي وصياغة التضامن الانعكاسي.
Waqt chu gawah
سيشهد الزمان
-أغنية "بيلّا تشاو" النسخة الكشميرية للفنانة زنان ونان، 2020
"الشبح ليس مجرد شخص ميت أو مفقود، بل إنه شخصية اجتماعية، ويمكن للتعمّق في أحواله أن يدلّ إلى الموضع المكثّف، حيث التاريخ والذاتية يصنعان الحياة الاجتماعية"
-ايفري غوردون (2008 ص. 8).
مقدّمة
يرمز عام 2020، بالنسبة لمعظمنا، إلى التشرّد، وذلك بدرجات اجتماعية وسياسية متفاوتة. غير أنّ تحديده بكونه فاصلًا زمنياً متميّزاً بسبب كوفيد-19 سينمُّ عن نظرة سطحية، أو في أحسن الأحوال، عن قراءة جزئية تحجب تاريخاً أطول من التهميش العنفي والاستعمار في الأزمنة الحديثة. أثناء التقسيم في 1947، عندما انبثقت الهند وباكستان كدولتين قوميتين وسط حمّام من الدماء والهجرات الجماعية، ضُمَّت كشمير إلى الهند جورا، مما أطال معاناة المنطقة والتي استمرّت قرونا لكن مع محتلّ آخر (واني، 2020). لم يحكم الكشميريون كشمير طوال الـ 430 سنة الأخيرة (هلدر، 2019). نظراً لأن كشمير عالقة، بدون منفذ على البحر،1 بين مستعمرتين سابقتين محتدمتي العلاقات، ومع هدف جامد لمشاوراتها ورغباتها السياسية، تزامن تهاوي كشمير نحو الوباء مع تاريخها المنحوت حديثاً. ستة أشهر قبل وصول الوباء إلى كشمير، جرّدت الحكومة الهندية المنطقة من سيادتها على إقليمها، وأقرّت مجموعة متنوعة من قوانين سلب الحقوق، وفرضت الإغلاق الكامل وحظر الاتصالات. كشمير التي نجت من الموجة الأولى من كوفيد-19، تتحمّل العبء السياسي لـ "القانون وحفظ النظام": مناورة استعمارية لفرض هالة من القداسة على الإغلاق والمتاريس وأعمال التفتيش وحظر التجوّل، وذلك لقمع المقاومة الكشميرية باسم الأمن القومي (شميم، 2020). كذلك، تحمّلت عواقب مطالبة كشمير التاريخية بتقرير المصير – والعقاب الذي فرضته الدولة الاستعمارية لسبب محدد هو أن شعب كشمير لديه مثل هذه التطلعات. لذلك ، تمّت عسكرة الوباء وتلقّيه في ظل العبء السياسي والاقتصادي والعاطفي لإغلاق 2019، وللثلاثة وسبعين عاما التي سبقته. تعاملت كشمير مع واقع معقّد وعنيف (بهات وموجلو، 2020)، ومنهِك في 2020، مزوّدة فقط بـ 93 جهاز تنفّس لشعب من الملايين، "تحت حراسة" 0.7 مليون جندي هندي (JKCCS، 2018) وأشباح 2019.
إلى جانب تنشيط سياسات الاستيطان والقهر العسكري في كشمير، أصدرت الحكومة الهندية في نهاية 2019، "قانون تعديل المواطنة" التمييزي الذي يستحدث معيارية الهوية الدينية لمنح الجنسية الهندية للمهاجرين غير المسجّلين، من دول أفغانستان وباكستان وبنغلاديش المجاورة. جميع المهاجرين واللاجئين المسلمين من هذه الدول حُرِموا من الإجراء المُعَجَّل للحصول على الجنسية، مما أشعل احتجاجات صاخبة في البلاد وعلى مستوى يتجاوز الحدود الوطنية ضد القانون و"السجل الوطني للمواطنين" المقترح. يضع هذا الأخير شروطا تعسفية على المواطنين الهنود الحاليين لإثبات جنسيتهم، فالسجل والقانون يحملان إمكانية سلب ملايين المسلمين حقوقهم (راو، 2020). عمليات الإقصاء البديهية هذه، مضافة إلى الاضطهاد المنهجي ضد المسلمين والقمع القائم على الكاست2 في الهند، ولّدت تحالفات سياسية جديدة وراديكالية تتقاطع مع الطبقة والكاست والدين والوضعية القانونية للإقامة. ومن الأمثلة على ذلك دعوات، من قبل قائد جيش بهيم تشاندراشيخار آزاد، لوحدة الداليت والمسلمين، كما ولإظهار هذه الوحدة (كبير، 2019). في الأشهر التالية، قادت النساء المسلمات اعتصاما في شاهين باغ في دلهي، كما أشعلت المظاهرات الطلابية حركات مماثلة من آلاف المتظاهرين والمتظاهرات في جميع أنحاء الهند. ولكن عملت المؤسسات الفاشية من قادة الحزب الحاكم إلى التحريض على حملة تطهير بحق المسلمين في العاصمة دلهي أسفرت عن مقتل 53 شخصا (The Wire، 2020).
خبراتنا المكانية والمتموضعة سياسياً، كامرأة كشميرية مسلمة (سامية) وامرأة هندية ذات امتيازات منبثقة عن نظام الكاست، من الهند الوسطى (نيحاريكا)، تربطنا بشبكة معقدة من العلاقات الاستعمارية غير المتكافئة بين كشمير وقهرها العسكري. وأكثر تحديداً، إننا نختبر عواقب تاريخنا وواقعنا الاجتماعي والسياسي في مواقع مختلفة: إحدانا تنتمي إلى (بحجة الولادة، حالة التمتع بالمواطنة) الدولة القومية المستعمِرة، والأخرى تستعمرها القوة الاستعمارية (مصنّفة على أساس العرق كشميرية مسلمة ومضمومة قسراً إلى الدولة القومية). هكذا، نواجه هذا الواقع في سياقات متفاوتة: عواقب مرئية للإلحاق البنيوي لأجسادنا المُقرّر تصنيفها من قبل الدولة القومية الاستعمارية التي تسلّط أساليبها العنفية علينا وإن كان بشكل مختلف؛ والعواقب غير المرئية: غير ملموسة وحميمة وعاطفية، وربما لا يمكن التعبير عنها. ومع ذلك، فمن خلال هذه الاختلافات نريد أن نفهم ما يمكن أن يعنيه أن نؤرشِف نضالاتنا المتفاوتة – التي لا تزال مترابطة في تكوينها – في تجزيئاتها وفوضاها والحضور الاستعماري الذي يتمظهر في يومياتنا ويشكّلها بطرق مختلفة. نتخذ من اختلافاتنا نقطة انطلاق لتتبّع تكوينها؛ والبحث عن ترابطاتها، وعن المخلّفات الاستعمارية، وتصدّياتنا العاطفية "المشتركة" و"المتمايزة" لها.
لا نزال نصارع من أجل تحديد حقائقنا المشتركة والمتمايزة وكيفية نحتها لهوياتنا. حتى في انسيابيتها، نحن ندرك أن هذه الهويات هي دائمة التشابك مع أوجه التفاوت في علاقات السلطة، والتاريخ الاستعماري الشامل لشبه القارة الهندية، جنباً إلى جنب مع العلاقة التاريخية الحميمة في تواصلنا الثقافي واللغوي (آصف، 2020). إجمالا، تفلت هذه التعقيدات من الاستيعاب الحاسم والمُحكَم. وسط هذه التقلّبات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية والحميمية (الهشّة)، ما هي الطرق التي يفتحها فعل الأرشفة اليومية؟ ما هي انعكاساتها على الرغبة وكذلك الضرورة النسوية لعبور الحدود (أنزالدوا، 1999) وعلى بناء تضامن يتواءم وسياقنا؟ أو كما تسأل مِهتا (2020): "كيف نحقق التضامن من خلال العمل السياسي المتمثّل في الحلم والتخيُّل والإبداع والرعاية ونحن نحضن بعضنا الآخر؟ كيف نتصوّر طُرقًا جديدة لم يسبق لها مثيل لكي نكون معا؟"
عن الأرشفة وكيف ظهرت كأسلوب لتوثيق الأدلّة
الأحداث التي وقعت في الهند وكشمير خلال وبعد 2019، ليست معزولة عن الحقائق الاستعمارية وأشكال الحرمان التاريخية التي فُرضت على شعوبها. مع ذلك، وبسبب مواقعنا – فورية عمليات الإقصاء هذه والاستجابة التي تطلّبتها – فقد كان لهذه الأحداث أيضاً تأثيرٌ ملحوظٌ على أجسادنا وحيواتنا. لقد شكّلت الطرق التي نفهم بها استعمار الدولة الهندية وتصدّينا له. وكما تعكس أرشيفاتنا، تجلّت هذه التأثيرات في حيواتنا عاطفياً وجسدياً. ومع ذلك، أوجدت أيضاً مساحة للحظات من التضامن تحدّد بنية تصدّياتنا: خيارات وسلوكيات وتطلّعات سياسية؛ ما أعقب ذلك من رغبات وآمال وشوق. نفهم هذه اللحظات على أنها تلك التي لا يمكننا بشكل جماعي وشخصي الارتحال عنها، تماما كما لا يمكن عزل هذه الأحداث عن خلفياتها التاريخية. ومع ذلك، كانت الفرص موجودة، ولا تزال، لأشكال مختلفة من التصدّيات (النسوية).
من نواحٍ عِدّة، يُستمدّ جوهر منهجيتنا من تأثير هذه الأحداث علينا وعلى أصدقائنا وعائلاتنا ومجتمعاتنا، من خلال مشاهدتنا لأشكال من المقاومة الجماعية / الفردية: التحرّك الذي قادته النساء في شاهين باغ ألهم تشكيلات سياسية في الهند وخارجها. المعرفة التي تمّ إنتاجها ونشرها خلال التحرّك، ونموّ مجتمع الناشطين والناشطات، فضلاً عن استخدام وسائل الإعلام العامة كأدوات احتجاجية، ساهمت في الإثراء العميق لممارساتنا. في هذه الأثناء، ظهرت الأرشفة كوسيلة للتصدي الشامل في العديد من أماكن الاحتجاج وبشكل عابر للوسائط.
تشمل الأمثلة مكتبة فاطمة شيخ سافيتري باي فول في شاهين باغ، ومكتبة شهيد بهجت سينغ على حدود داكا سينغو، والموقع الرئيسي لاحتجاج المزارعين/ات، وانتشار مجموعات القراءة النقدية، والصفوف الجامعية المنعقدة في مكان الاحتجاج، وسلسلة من المحاضرات العامة. في المقابل، في كشمير، بعد تقليص خدمات الإنترنت في آب/أغسطس 2019، نظّم كشميريون مظاهرات عامة وحاشدة في جميع أنحاء العالم مع آلاف المتضامنين/ات. أنشأ الكشميريون المقيمون خارج كشمير مجموعات تضامنية على وسائل التواصل الاجتماعي؛ مجموعات عمل للناشطين/ات والمحامين/ات والطلاب والطالبات لتقديم العرائض ودعم المجتمع الكشميري، وإنتاج المعرفة حول التاريخ الاستعماري الطويل لكشمير وعنف الدولة. تمّ نشر المعلومات من خلال المناقشات والندوات على الإنترنت، والاعتصامات والحملات والاحتجاجات والمسيرات. مجموعات ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي، مثل "ادعم كشمير" و"مع كشمير" و"زنان ونان" و"مجموعة التضامن مع كشمير" و"غرفة القراءة عن كشمير"، لعبت دوراً محورياً في إنشاء أطر التضامن العابر للحدود مع الكشميريين/ات.
بصفتنا نسويات شابّات يتشاركن خلفيات تاريخية استعمارية ومواجهة أشباحها، نعتبر التشكُّلات السياسية الراديكالية وسائل للتفكير النقدي وإنتاج المعرفة في إصرارها على القراءة والكتابة والأرشفة والدراسة الجماعية. إنها تسمح لنا بتخيُّل وإعادة تخيُّل احتمالات تمظهُر التضامن على المستوى المصغّر والهويات العابرة للحدود، والتوجهات النسوية المناهضة للرأسمالية والاستعمار. تجدر الإشارة إلى أنه رغم أننا نستلهم منها، فإن أرشيفاتنا ليست خواطر منفردة ولكنها مُطوَّرة على مدار هذه السنوات وهي مرتبطة بالأحداث/التصدّيات المباشرة وتلك التي سبقتها ولحقتها. نقدّم هذه الأرشيفات في شكلها الخام، ونبحث فيها عن نطاق لكينونات تضامنية. على الرغم من أن هذه الورقة البحثية جزء لا يتجزأ من العملية التي نخوضها، إلا أنها ليست هدفًا بذاتها أو لغرض الأرشفة. ما نعرضه هو جزء زمني من الأرشيفات للدعوة إلى الممارسة المستدامة للأرشفة والقراءة المتقاطعة، والكتابة التشاركية كجزء من سياساتنا النسوية التي لا تقدّم أي ضمانات ولكنها تتقدّم من خلال مسيراتنا الجماعية (ناجار، 2019). بالنسبة لنا إذن، تستمر هذه الممارسة أبعد من هذه الورقة البحثية، وتتجاوز الأحداث المحددة المعروضة هنا أو كيفية استمرارها في ملاحقتنا.
الأرشفة اليومية عبارة عن اختبار
2019
س: طوال حياتي، أخبرت نفسي أنّ "تحويل الألم إلى أداة قوية" من أجل "تحقيق العدالة"، يمكن أن يكون طريقتي "للمساهمة" في العالم. تعلّقت بمثل هذه المساعي ربما لأنها كانت العزاء الوحيد لحالتي المباشرة، لقد أعطتني تفسيراً منطقياً لظروفي بأدلّة دامغة. عندما كنت فتاة صغيرة، اعتقدت أنني سأصبح الدليل الكشميري على "انتصار الخير على الشرّ".
يؤمن العديد من الأطفال في كشمير بمثل هذه الثورات، ويكبرون لِيعون أن تحقيق هذه الطموحات يتطلّب أكثر من التفاني الذاتي، وأن أجساد البشر هشّة، وأنّ الألم يمكن أن يتحول إلى "قوّة". في هذا السياق، لم يكن 2019 أسوأ ما حدث لكشمير، كما يجادل العديد من الخبراء، لكنه كان بالتأكيد أسوأ ما شهده الكثير من الكشميريين حتى الآن في حياتهم. في الواقع، قدّم هذا دليلا على مدى سهولة أن تتحطّم عوالم الناس. لقد أجريت مرة محادثة واحدة مع امرأة تزعم بأنها وطنية، سألتني عن سبب كون "الكشميريين إرهابيين". لم أردّ على أسئلتها: "ماذا تقصدين أنكم ستفوزون في النهاية؟ هل دُمِّرت الحضارات واختفت بالقوة؟ أين هم هؤلاء الناس الآن؟ ماتوا كلهم وكذلك ماتت إنقلاباتهم. الجبروت على حق. جتنا جلدي سيخوج أوتنا أتشا هاي تيوماري ليي".
بعد 5 آب/أغسطس، على غرار العديد من الأصدقاء الكشميريين، أمضيت أربعة أشهر في غرفة واحدة، غارقة في الرعب الذي حلّ على موطني ، كشمير – كان الرعب مادّياً أيضاً. وجد طريقه إلى تدويناتي اليومية وكتاباتي، وأبعد "الأصدقاء الهنود المقرّبين"، وغيّر مسارات مهنية، وجعلني أتيقّن من أنني مسافرة أقلّ مما كنت أعتقد. كنت أحمل كشمير في كل مكان. في أيلول/سبتمبر 2019، في عيد ميلادي، رتّب أصدقائي حفلة لإسعادي. في مثل هذه الظروف، يصعب الشرح للناس أنه لا يوجد مكان لفكرة الابتهاج. الاحتفال بعيد ميلاد رفاهية لا طائل منها؛ نحن لا نمتلكها حتى في خلال أوقات "الاستقرار". أتعاطف مع الناس في كشمير الذين لم يكونوا يوماً في وضع يسمح لهم الاكتفاء بأفراح صغيرة. على وسائل التواصل الاجتماعي، بدا فعل القول للناس عن "حقيقة كشمير" مبتذل وعديم الجدوى. غالبا ما تُعرض مآسينا بلا مبرر. إذا كان بإمكان الناس أن يتعاطفوا حقاً، لكانوا قد تكلّموا. فهم الاضطهاد/ المعاناة لا يتطلّب عبقرية. لا يزال التفكير في الأصدقاء الهنود الذين أفلتوا من هذه الحوارات يترك مرارة في نفسي.
بعد مرور أربعة أشهر، في كانون الثاني/يناير، قرّرت الابتعاد. لم أتمكّن من إنقاذ كشمير، على الأقل ليس على الفور، وصحتي في حالة يُرثى لها، لا أمتلك سوى خزان غضب لم أتمكّن من إدارته، فقررت أن أخوض 2020 بشكل مختلف.
ن: تمحور عام 2019 حول الصدمة وإعادة تخيّل الأماكن.
في نيسان/أبريل، توفي والدي في أول خمسينياته بسكتة قلبية. كان الأمر مروّعاً – لأن موت أحد الوالدين كان يفوق أي شيء كنت أتصوّر حدوثه في السنوات الأربع للدكتوراه – ومحطِّم لأن أشياء كثيرة بقيت دون حلّ؛ الصدمة والألم الباطنيّان يلفّان جسدي بذنب من دون سبب. غالباً ما يعودان لمطاردتي في كوابيسي. أروي هذا لأن موته أجبرني على الانخراط المستمر ضمن المساحات التي نتعايش فيها – كيف أن بعض المساحات التي قيل لنا يجب أن تكون مألوفة، تظلّ غريبة ومنفصلة وعنيفة طوال الوقت، حتى يقع حدث ما يقلب كلّ شيء. والجهد العاطفي والرعاية والإرهاق، التي تدخل في إعادة بناء هذه المساحات بحسابات ثورية. ثورية تحديداً لأن ذلك لم يكن مسموحاً به. ثورية لأن البقاء على قيد الحياة سيكون مستحيلاً خلافاً لذلك.
في الخامس من آب/أغسطس، وضعت الهند كشمير تحت حصار مجدداً، ما فهمه العديد من الكشميريين على أنّه ضمّ كامل لوطنهم من قبل الدولة الهندية والذي بدأ في عام 1947. كان آب/أغسطس 1947 الشهر الذي أصبحت فيه الهند حرّة/ آزاد/ سوادهين من الاستعمار البريطاني. أن نستمرّ في تذكير أنفسنا، نحن من يتمتّع بالامتيازات ضمن نظام الكاست، ينبّهنا إلى أن ولادة "أمّتنا" كانت دائماً مقرونة بالتورّط في قلّة الأمانة السياسية وبنكث الوعود، وجثث سكان هذه الأرض. هذا الحبل السري غير المقطوع مع الاستعمار قد سمّم الآن "المستعمرة السابقة" بأكملها بالتفوّق الهندوسي، والعنف ضد المسلمين، والعنف المبني على نظام الكاست، والكراهية العميقة تجاه النساء والأقليات الجنسية والجندرية. لقد عادت الأشباح لتطاردنا؛ ربما لم تتركنا أبداً. لكن وجودها لم يعد طيفياً. في حالة حصار كشمير، رأيتها تتخذ أشكالًا من الغصب والعنف الاستعماري. وكلّها مستحضرة على أنها دولة هندوتفا الذكورية المعسكرة، والتي هي الآن الهند. كان هذا بمثابة صدمة مكانية حسّية. غير مفاجئة ولكن صادمة، على الرغم من ذلك.
في الأشهر التالية، التزمت كشمير الصمت. كان بعض الكشميريين الذين يعيشون خارج كشمير يؤرخون بجهد مضن، الاحتلال العسكري الهندي وعدم شرعية هذا الحصار الأخير. كان الهنود أيضا صامتون في معظمهم، لكن صمتنا كان نابعاً عن امتيازات ومظاهر ليبرالية زائفة. كشمير حرّة، ولكن فقط لرفع حظر الاتصالات. كشمير محاصرة، ولكن فقط من قبل الحكومة الحالية اليمينية المتطرفة. هذه التحفّظات هي إحدى أعراض الإنكار التاريخي لاستعمار الهند لكشمير. بالنسبة لمعظم الهنود، المسلمون الكشميريون هم في نهاية المطاف "إرهابيون"، وبالتالي يمكن القضاء عليهم. شارك بعضنا هنا في لندن في مظاهرات تضامنية. ازدادت الأعداد بشكل طفيف مع تمرير قوانين الجنسية التمييزية في الهند. في نهاية المطاف، كانت الصدمة الآن أقرب إلى الوطن، وأكثر إلحاحاً وتهديداً.
كانون الأول/ديسمبر كان مليئاً بالاحتجاجات. كان أيضاً شهراً من العنف. شهدنا نساء مسلمات يقدن اعتصام شاهين باغ، ومظاهرات بقيادة الطلاب لا سيما في الجامعة الإسلامية، وعنف الشرطة الذي تلاها، والمذبحة المعادية للمسلمين في دلهي. لم يحدث قط في ذاكرتي الحيّة أن قامت الهند بمثل هذه الاحتجاجات المنتشرة في كل أنحاء البلاد. لم ينته كل شيء بعد. كانت أيامي ولياليّ مليئة بمزيج من القلق المكبِّل، ونشر المعلومات، والنقاشات والصفوف الجامعية المنعقدة في إطار الاعتصام، وصناعة مواد الاحتجاج، والحوارات مع معارف "غير مُسيَّسين" وآخرين مهتمّين بالهند.
لا تلتهم الفاشية الجسد ببساطة أو تعيد صنع الفضاء. إنها أيضاً تتطفّل على وقتنا؛ تُبطئ، تؤخّر، تجمّد الوقت والوجود، تجعلنا نشعر باللامبالاة، وبأننا نسير نحو الهلاك. بأن لا شيء يحدث، ولا أحد يسمع (وغالبا لا أحد يفعل). تزدهر على الانهزامية. إنها طفيلية. لذا، وبفعل صغير في إعادة ترتيب منزلي، استقبله بشعر ثوري للشاعر باش، وملصقات احتجاجية وبطاقات بريدية تعلن: المقاومة والتثقيف والتحريض والتنظيم. في منزلي الآن انقلاب (على الأقل من الناحية المكانية) مدوّن على جدرانه. لم ينته كل شيء. ليس بعد على الأقل. لكن ماذا بعد؟
كانون الثاني/يناير – شباط/فبراير 2020
س: رحلتُ عن كشمير وعن دلهي، لأن كلّ هذه المدن ذكرتني بمدى حدّية تحديد هويتي لحياتي. أتعمّد مغادرة المدن من حين لآخر، وأدركتُ أن جسدي موجود في وضعية دفاعية. أسمح لجسدي بذلك، لأن هذا أقصى ما يمكنني الابتعاد من خلاله عن الواقع: حالة الإنكار. في كانون الثاني/يناير، انتقلتُ إلى مدينة هندية جديدة للعمل؛ في أقصى الجنوب لم يكن هناك كثير من الزخم في الافتخار برئيس الوزراء البهاراتي الحقيقي. المسلمون يبدون مرتاحين. يتسوّقون في جميع الأماكن ويزورون المقاهي ويتواجدون في المكاتب ولديهم العديد من الأصدقاء الهندوس. يستأذنون للصلاة ولا أحد يجفل. نساء يرتدين العباءة يصادقن نساء يلبسن السراويل. في السرّ، أسأل زميلة مسلمة أن تؤكد ملاحظاتي؛ فتقول "على السطح، كل شيء يبدو هادئاً، لكن لون الزعفران يتخمّر. مثلما كان يتخمّر لسنوات عديدة في دلهي وأوتار براديش. لا تعرفين أبداً متى تتغيّر الأمور". أرفض رؤية ذلك. عليّ أن أدّعي، من أجل صحّة قلبي، أنني بأمان. أستمتع بقضاء الوقت مع هذه المرأة. إنها شغوفة بمبادرات الرعاية الاجتماعية في ولايتها وهي على دراية جيدة بالمشاكل على أرض الواقع. نقضي ساعات معاً كل يوم، لكنها لا تسأل أبداً عن كشمير. هي تعرف أنني لست هندوسية. أخبرتني ذات يوم أن دولتها بحاجة إلى زعيم أعلى، غير أناني، يتمتع بقداسة هندوسية حقيقية. تبتسم وتقول "مدينتنا أيضاً ستتغير قريباً".
في الليل، أقرأ الشعر الذي كتبته في كشمير، مكتوب بتعثُّر، ولكنه وسيلة سهلة للانتقال الفوري إلى موطني. أغمض عينيّ وأرى شجرة الجوز تتمايل مع الريح، في بعض الليالي أسمع أزيز رصاص، أرى الكوابيس أو الأحلام. جيدة أم سيئة، في الليل أنا دائماً في كشمير.
آذار 2020
س: أذكر أن أندروتي روي تكلّمت بشكل واضح في كتابها "إله الأشياء الصغيرة" في نسخته الأولى، أنّه من الأسهل التحدّث والإشارة إلى المآسي الكبيرة، لأن الوصول إلى الأشياء الصغيرة في الحياة يكاد يستعصي علينا، كما وأنها بطريقة أو بأُخرى مؤلمة. ولكن حتى الأشياء الصغيرة بإمكانها أن تظهر وتغيّر مجمل مسار الحياة.
فقدَتْ والدتي أباها في عمليةٍ جراحيةٍ غير لائقة عندما كانت طفلةً رضيعة. غيّر موت والدها حياة كلٍّ منها ومن شقيقاتها. عاشوا حالة فقر واستدانوا المال لإتمام دراستهم وتعليمهم، لقد شكّلت الصدمة كلّ مناحي حيواتهنّ. فقَدَ والدي أُمّه في ليلةٍ ثلجية بسبب ورمٍ لم يُعالَج بشكل صحيح. نقلوا جثتها 50 كيلومترًا من سرينغار إلى سوبور في السيارة مستخدمين المجارف لإزالة الثلج كلّ دقيقتين. إلى جانب ثقل وعواقب الطموحات الاستعمارية للمحتلّين، جميع القصص الكشميرية مليئة بالمعاناة من الفقر وضعف الرعاية الصحية ونظام التعليم السيء، كلّها عناصر تلعب دورًا في مأساوية تلك القصص. "الصراع" سمة مُلازمةٌ لـ"نوعية الحياة"، ولكن في الأيام عندما يبدو تقرير المصير حلمًا بعيد المنال، تكاد تبدو "نوعية الحياة" قابلة للمتابعة. تابعت "التنمية الاجتماعية" لأني لم أشأ لطفل صغير آخر في كشمير أن يفقد أحد والديه. لا يمكنك أن تقول لطفل إن عليه الانتظار حتى يزول الصراع من كشمير حتى يعيش والداه. إلى متى سيبقى الكشميريون في الظلام؟ الأجيال التي ستتخرّج من المدارس العام المقبل، ستكون قد أمضت بضع سنوات في المدرسة طوال حيواتهم. إنها خسارةٌ لا يمكن تعويضها. من الخارج يشاهد الناس الصور الكُلّية للحياة في كشمير: حظر التجوال والموت والدماء والشعارات والحجارة. لا يرون كيف تتأثر كلّ حياة على حِدى بأكثر الطرق أيلامًا وفق التقديرات الصغيرة منها والكبيرة. إنهم لا يرون الجُزئية في المآسي الحميمة، وفي عملية إزالة الدماء. إنهم لا يرون معاناتنا لننام ليلًا، لا يرون كيف يتحوّل الشباب الكشميري الذكي إلى شباب فاقد لأي دافع للحياة. إنهم لا يرون أجيالا تعيش هذا الواقع الجماعي. ما لا يرونه أيضاً، كيف أن الكشميريين يفتقرون إلى الرعاية الصحية والتعليمية الأساسية وإلى الحياة بسبب الحرب.
"إذا ما أخرجنا الصدمة عن سياقها الزمني، تبدو الصدمة وكأنها شخصية فردية أو سمة عائلية مُتوارثة أو ثقافةٌ على مستوى شعبٍ بأكمله". (ميناكيم 2017)
أول ما أفعله بعد بدء الجائحة كان إعلاني: بأني أحاول فهم مدى كآبة فرص النجاة في كشمير. أقلّ من 100 جهاز تنفّس اصطناعي لمليون نسمة، يقبعون تحت مراقبة فوهات البنادق الهندية في كلّ مكان. في مدينةٍ غريبة، أعمل في الرعاية الصحية للأمومة والطفولة. طوال خمسة أيام أسبوعياً، وثماني ساعات يومياً، أرهق عقلي دون هوادة للمساعدة على تحسين حيواة الناس. مع ذلك لا يمكنني مقارنة كشمير بأماكن أُخرى، لأن الكشميريين غير متساوين سياسيًا ومؤسسيًا، الأدلّة كثيرة وتسهل قراءتها. وطني بين يديّ دولةٍ متوحشة، وسط جائحة وأنا عاقدة العزم وأمتلك المهارات لكن دون سلطة تخوّلني فعل أيّ شيء حيال الأمر. أنتحب على قراراتي ليلاً. ما هي الأفعال التي ما كنت لأفعلها إذا ما كانت كشمير بيد الكشميريين؟ أفكّر وألجأ إلى قصص الكشميريين الآخرين الذين يواصلون المحاولة. بالرغم من محاولاتي لتحويل "ألمي إلى قوة"، لا يسعني فعل شيء سوى الصلاة لكشمير.
ن: أسافر إلى الهند لأجل العمل الميداني المتعلّق برسالة الدكتوراه التي أكتبها. بدت موجة كوفيد 19 مُحتواة عندما هبطت طيارتي في الهند. لكن وبعد بضعة أيام من لمّ شملي مع والدتي التي تعيش في مدهيا برديش، فُرضت سلسلةٌ من عمليات الإغلاق الصارمة. كانت نشرات الأخبار مليئةٌ بصور لعمّال مهاجرين يأملون بالوصول إلى قراهم، بينما تضرب الشرطة بلا رحمة أو هوادة أولئك الذين يخرقون الإغلاق ويُحقّرون الرجال بمعاملتهم كالأطفال – في العادة يكونون من الطبقات الاجتماعية الدنيا من خلال معاقبتهم بإجبارهم على القيام بتمارين المعدة. أسمع الجيران من الطبقة الوسطى يسخرون منهم من على شرفاتهم قائلين: "ما الذي قد تفعله الشرطة غير ذلك؟ إنهم يستحقّون!" لطالما تساءلت وفق أية ظروف قد تُعّد ممارسة العنف أمراً مستساغاً بالنسبة لأمّةٍ ما.
بعد بضعة أيام، يطلب رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي من الهنود قرع الأواني والمقالي في استعراض لإظهار الامتنان للعمّال الأساسيين. وبما أن الحماس لا يعرف حدودًا، يظهر الناس على شرفاتهم وأسطح منازلهم يقرعون الأواني والمقالي بقوةٍ عارمة. يتنافس الجميع على إصدار الصوت الأعلى تعبيرًا عن الاحترام. تتماشى السياسة في الهند يدًا بيد مع الخشوع المُسلَّم به والمعضلة الإلهية. أنظر أنا وشقيقي من على الشرفة إلى بعض الجيران الذين يقرعون أوانيهم بشدةٍ هائلة. تضحك والدتي وتقاطعنا قائلة، "أعتقد أن هذا تأثير إعادة توجيه الرسالة القصيرة القائلة إن اهتزازات القواقع وأجراس الصلاة فعّالة في القضاء على فايروس كورونا". ضحكنا ثلاثتنا بصوت مرتفع. بعد بضع دقائق، جلب شقيقي غيتاره إلى الشرفة لينضم في العزف إلى أغنية "بيلا تشاو"، الأغنية الإيطالية المناهضة للفاشية التي وضعتها بصوت مرتفع على هاتفي المحمول. بعد ساعة، كنت أتفحص تطبيق تويتر وقد حمّل صحافي كشميري وصديق لي فيديو عن مدينة سري نكر الصامتة. لا لملهاة القدور والمقالي. بالتأكيد، ثمة استفتاء في الأفق. ضحكت في سرّي.
تحدث هذه المسرحيات الهزلية بينما يسير المهاجرون مئات الكيلومترات، بعضهم حُفاة وآخرون دون طعام أو ماء، يأخذون قسطًا من الراحة في مواطنهم الأصلية. يموت الكثيرون في الطريق بسبب الإرهاق والجوع. في نفس الأثناء، تمتلئ وسائل التواصل الاجتماعي بتذمّر أهل المدن، من الطبقة الوسطى، من عمليات الإغلاق وما يترتّب عليهم من أعمال منزلية. الصمت المُطبق يلفّ كشمير الخاضعة إلى إغلاقات عسكرية متداخلة ومضاعفة أشبه بلعبة الماتريوشكا الروسية.
نيسان – أيار – حزيران 2020
س: في شباط عام 2020، زُرت مدينة معبدٍ هندوسيّ قديم مع مجموعةٍ من الأصدقاء. عند كلّ محطة، مذكورٌ عند كلّ معبدٍ وكلّ تمثال "عدوانية ووحشية" السلاطين المسلمين الذين نهبوا أرض الهندوس الغنية. الطقس خانق وحار وأشعر أني مراقبة. تركنا البلدة كأصدقاء، بالرغم من ذلك في البلدة أصبحنا فجأة مسلمين وهندوس. في مرحلةٍ ما، امتعض الهندوس غير القاطنين في المنطقة من تعليق مرشدهم السياحي عندما قال: "هذا ما فعلوه بنا، بيد أن الآية انقلبت الآن". ما أنفك أنظر إلى نفسي متساءلةً ما إذا كنت أبدو كمسلمة، وما الذي قد يحدث في حال عرفوا بميولي السياسية.
في ظل الجائحة، عالقةٌ في شقتي، لا يسعني الهرب من هويتي. محاطة بأربعة جدران مليئة بملصقات عن كشمير، ورفٌ مليئ بكتب عن كشمير، القلق يسيطر على تفكيري، وما من وسيلة للهروب. يرسل الأصدقاء تعاطفهم مع حكومة الوحدة التي تبذل قصارى جهدها للحفاظ على الهند من الجائحة. سُئلت عن رأيي حول جاماتيس في منطقة نظام الدين التي "قادت الوباء في الهند". عليّ أن أكون لطيفة وأُذكّر نفسي مقدار الحنق الذي قد يتملّكني. في غرفتي أحترق ألماً وأنهار في يأسي، وأجمع الأدلة حول زيف فيديوهات "جهاد الكورونا عبر البصق بهدف نشر فيروس الكورونا". أمام الناس الذين احتاجوا إلى رؤية الدليل فإنني أرتعش. القلق بشأن بيانات المهاجرين أثقل من القلق بشأن المهاجرين أنفسهم. الناتج المحلي الإجمالي أكثر أهمية من الأرواح التي تحرّك هذا الناتج المحلي الإجمالي. يُظهر الأغنياء طاعتهم من خلال الالتزام بالإقفال، بينما يتسكع الفقراء الجهلة بحثاً عن الطعام في ظل الجائحة. "ما الذي بوسع رئيس الوزراء فعله؟ إنه أمرٌ غير مسبوق، إنها جائحة. انظروا إلى ما حدث في إيطاليا".
في المستعمرة ذات الأغلبية المسلمة التي أعيش فيها، يُعدّ التصفيق وضرب الأواني اختبارًا آخر للواقع. إنها تطنّ في أذنيّ مثل جرس الإنذار. مشروع نايا بهارات أقرب مما أعتقد. هنالك الآن موسيقى صاخبة له. لا أنفكّ أُذكّر نفسي بأنه لايجدر بي أن أربط قرع الأواني بهشاشة مجتمعي في هذه البلاد. ما هو مجتمعي على أي حال؟ المسلمون؟ المسلمون الكشميريون؟ النساء الكشميريات المسلمات؟ النساء الكشميريات المسلمات النسويات؟ نسوية هاربة من السياسة العامة، الكشميرية مسلمة المولد العالقة في الهند في ظل جائحة في "مستعمرة مسلمة هندية تضرب الأواني" والتي تريد تحسين الرعاية الصحية في كشمير وتريد أيضاً النضال ضد القهر السياسي؟ كيف أمكن لحكومة يمينية (بلد؟) أن يؤذي كلّ جزء منّا، كلّ جزء منّي؟ أي نوع من المستشارين وعلماء السلوك لديهم؟ كيف لهم أن يعرفوا أوجاع قلبي أكثر مما يعرف الله؟ لا بدّ وأن أُقاوم الألم، لأنهم يسعون تحديداً وراء إيلامي.
ن: كان من المقرّر أن أسافر إلى كشمير لإجراء بحثي في نهاية شهر آذار. غير أن سلسلة من الإغلاقات وتعليق السفر وإغلاق الحدود، غيّرت كلّ جداولي الزمنية. مع ذلك، فقد بدأتُ التواصل مع الأصدقاء والمعارف الذين وافقوا بسخاء على التحدّث معي بالرغم من الشكوك. أمضيت أشهر الصيف تلك في التحدّث إليهم مطولاً وفي توثيق كلّ ما يجري هناك، إضافةً إلى توثيق الخبرات والمشاعر الحسّية. بعض المقتطفات من مذكراتي الميدانية والملاحظات التي تمّ إجراؤها خلال المقابلات التي تنقل عمق الاحتلال الاستعماري:
تموز – آب – أيلول 2020
س: في دلهي ذات مرّة، رفض طبيب علاج أخي، الذي كان مريًضا بشدّة، وذلك بعد أن علم بأننا كشميريين. غرقت أمي في حالة من القلق اللامتناهي: "في تلك المدينة وفي وسط الجائحة، من يعالجك إذا أصبت بالفيروس؟" أوافقها تمامًا، بغضّ النظر عن كون هذه المدينة تتمتّع بنظام رعاية صحية أكثر تقدّمًا من ذاك الذي في كشمير، إلّا أن موتي تحت وطأة جائحة عسكرية في موطني – كشمير، يكاد يكون مستحيلا أمام طبيعته المحدقة في مدينة مضطهدينا التقدمية هذه. المدينة ليست تقدمية بالنسبة لي. إن تقدميتها عائدة إلى مواطنيها فقط. فأنا أحمل معي اضطهاد كشمير. هكذا باتت مسألة العودة إلى الوطن قرارًا يشوبه الكثير من الحذر.
في المنزل، تمطرني والدتي بالورود الزهرية. عيوننا دامعة، لكن لا يمكننا أن نعانق بعضنا الآخر بعد. يبدو أن الوقت يضيع، وأنا مستميت لإنقاذ ما أستطيع. أصوّر كشمير وكأنّ المكان برمّته لحظة عابرة. أشرح سلوكي لكلّ سائل وأبقى قاصرًا عن التعبير عن يأسي. كشمير تتغيّر بسرعة، متحوّلة لشيء آخر وهي تفقد أرضها وشعبها. عليّ أن أجمع كلّ ما تبقّى قبل أن يختفي. أصنع معشبة من أوراق الشجر والزهور بأنواعها. أسجّل أصوات الحصى والمطر واندفاع جيلوم (jhelum). أسجّل حديث والديّ عن ذكرياتهما المفضّلة وأسوأ مخاوفهما. أصوّر أبقار كشمير والبائع الوحيد الذي يصرخ في الصباح وقطعان الأغنام التي تمرّ بصمت في الليل. ما لا أسجّله عن سبق إصرار هو أصوات إطلاق النار في الليل. فتلك باقية. في الليلة الأولى التي أمضيتها في المنزل، قيل لي إن إطلاق النار أصبح أكثر تواترًا الآن، لا سيما في الليل، والأرجح أن الهدف من ورائه هو "الحفاظ على حالة من الخوف": "يم شي خوف ثوان بركارار".
هكذا تغدو الجائحة خلفية أخرى لمشهدية حيواتنا، تتقدّم تارة إلى واجهة المشهد، فتبعث الذعر، وتعود لتتراجع الى موقعها في الخلفية. يا لغرابة الموت في كشمير، ظاهريّ واعتياديّ..
تشرين الأول 2020
س: تعاني والدتي من ألم حادّ في بطنها. أظهرت الفحوصات وجود ورم غير طبيعي على مبيضيها. يتردد الأطباء في تقديم الإجابات ويحيلونها إلى أطباء قدامى. يوصي الأطباء بإجراء عملية طارئة. في الأشهر التي سبقت تشرين الأول، كان هاجسنا الوحيد هو التأكد من أن يحظى الكبار في السنّ بالحد الأدنى من الاحتكاك مع العالم من حولهم. الآن، بات علينا إجراء عدد من الفحوصات وعملية وانتظار نتائج الزرع على أمل أن يكون الورم حميداً وسط هذه الجائحة. دفعتني جراحة والدتي للالتفات إلى مسألتين: أوّلا، هشاشة النظام الصحّي الكشميري (ماذا كنّا لنفعل في حال كانت شؤون كشمير الصحية خاضعة لسيادتها). ثانيا، التعايش الكائن بين الحميمية والسخط. أهمس في قرارة نفسي، إنّي أحبّ والدتي، وأكره أن أراها تقاسي هذا الوجع المضني. أدرك أنها تشتاق إلى عائلتها وشبابها وحريتها. ولكنها تقسو عليّ أحيانًا. أحاول إقناع نفسي أنّ ذلك لا ينبع من شخصها بل من حالتها ومن طفولتها، من كشمير ومن النزاع ومن استحقاق أن تكون أمّاً وزوجة وأختًا ومعلّمة. تزيدها مآسيها مرارةً كما تزيدني مآسيَّ غضبًا.
بعض الصور من مذكرات س.
آب 2020
ن: هذه أطول فترة مكثتُ فيها في ولايتي الأم كشخص راشد. تعتبر ولايتي جزءًا من الحزام اليميني في الهند. لاحظتُ العديد من التغييرات عبر المدن في هذه الأرجاء خلال زياراتي القصيرة الممتدة على مدار العقد الماضي. استحكام شاخات الـ آر إس إس (أي الفروع المحلية لـ راشتريا سوايامسيفاك سانج، والتي تشكّل المرجع الأيديولوجي للحزب الحاكم في الهند) على الملاعب المحلّية التي كانت مجرد ملاعب قبل بضع سنوات والتجنيد الجماعي للسكان من خلال مجموعات واتس آب وحملات التضليل التي تشهّر بالمسلمين واضعة إياهم في موقع المسؤول عن مآسي البلاد، إضافة إلى اتهام كلّ المعارضين بالتآمر على حزب بهاراتيا جاناتا! ثمة شيء لاحظته منذ بضع سنوات ولا يزال يطاردني. أحد الأقارب البعيدين هو عضو بارز في إحدى مجموعات هندوتفا. على درّاجة العائلة، رأيت شعارًا للشرطة وتساءلت، مَن من أفراد الأسرة انضمّ إلى الشرطة؟ لا أحد. حصلوا عليها بحكم موقعه السياسي، الذي يفتخرون به. والخلاصة، الدولة الهندية هي هندوتفا – وهندوتفا هي الدولة الهندية.
رُفعت إجراءات الإغلاق في المدينة جزئيًا، لكن إعلانات التجنيد التابعة لتلك المنظمات، حاملة الأعلام ذات رسمة الزعفران ظاهرة في كلّ مكان تقريبًا. في مثل هذا الوقت من العام الماضي، فرضت الدولة الهندية حصارًا على كشمير. انتهزت الدولة الوضع القائم في ظلّ الوباء للتسريع من سياسات الاستيطان. كانت تصلنا إشعارات حظر التجوال من كشمير. لقد راسلت صديقة لي أسألها عن الأحوال هناك، فأجابت، "الحال نفسه، أسلاك شائكة ونقاط تفتيش وما إلى ذلك". دأبت الدولة الهندية على اختيار ذكرى عام على الحصار – يوم الخامس من آب، لوضع حجر الأساس لمعبد رام المثير للجدل في ولاية أوتار براديش الواقعة شمال الهند. يعجز لساني عن الكلام، إلا أني موجودة ها هنا بعدما كنت أقاسي التجربة الأليمة في عقر دارها.
بالأمس، بينما كنت أتبضّع، جاء عضو في منظمة هندوسية انعزالية بانت شارتها بوضوح شديد على ملابسه ودراجته، للتحدث مع صبي في الصف الثامن كان يبيع الخضار إلى جانب والدته. لقد تضرّرت هذه العائلة بشكل خاص من الوباء، لذلك اخترتُ الشراء منهم – عوضاً عن غيرهم ممن لديهم متاجر بقالة كبيرة تعرض بخاخات مطهرة فاخرة للأطعمة. يفتخر الرجل بعزمه الذهاب إلى المعبد في تلك الليلة، ويسرع بعيدًا. سألت تلميذ المدرسة عما إذا كان الأمر يتعلق بأيوديا. أومأ برأسه قائلاً إن الرجل سيغادر الليلة ويصل في الصباح الباكر. أضاف الصبي بمرح، "لولا كورونا، كنت لأذهب إلى آلبومي (الأرض) بدوري، لحفر التربة من أجل النيف ستابنا (وضع حجر الأساس). أما الآن، فسأكتفي بالألعاب النارية". شيء ما صدمني في تلك اللحظة. شعرت أن فكرة الديمقراطية المحتضرة لفظت أنفاسها الأخيرة في جوارح جسدي. جسدي، تمظهر آخر لديمقراطية محتضرة! الديمقراطية المحتضرة تجعل وجودها محسوسًا على نحو متقطّع. ليالي القلق وأيام من التصفّح المحموم لوسائل التواصل الاجتماعي، وانهيارات نفسية في اللحظات التي تنعدم فيها القدرة على السيطرة على الرعب المستحكم بالحاضر. لمن تكون الديمقراطية؟
كيف تكتب تأبيناً لأمّة ميتة؟
أُضيئَت المدينة في ذلك المساء (تحت وطأة الوباء)، كما اعتادت عادة احتفالا بعيد ديوالي، لكن هذه المرة جاء ذلك بداعي انتصار التفوّق الديني. أضاء الجيران الألعاب النارية وعزفوا الموسيقى الدينية بصخب وأشعلوا القناديل والمصابيح.
عمّتي المقيمة في مدينة أخرى، جاهرت بفخرها على حالتها على الواتسآب وهي تلوّح براية الزعفران بينما أشعل أكثر من ألف مصباح في المجتمع المسوّر الذي تعيش في وسطه والذي ينتمي سكانه بسوادهم الأعظم إلى طائفة نخبوية. إنها العمّة نفسها التي أصبحت رسائلها الصباحية على الـ واتس آب مليئة بـ "المجد للإله راما" وأحلام عقيدة "الهند غير المقسمة". لقد سجّلت بتأنٍّ ما يجري في ذلك اليوم لكي لا ننساه. أفتقدُ والدي في مثل هذه الأوقات. ربما كانت تجارب نشأته في الفقر وفشله في تحمّل المسؤوليات المفروضة والمختارة، هي التي جعلته يشكّ في المشاريع التي تدّعي التفوّق الديني واليقينية وامتلاك الحقيقة المطلقة. وها أنا أحمل شكوكه وأبحث عن بعض مظاهر الطاقة التعويضية. أتساءل ماذا كان ليقول لعمّتي أو للجيران المتحمّسين. أو ربما كان ليكتفي بأن يتذمّر من الواقع قليلا ويشرب أحزانه. في المقابل، كلّ ما كان في حيلتي هو رفع وشاحي التراثي (دوباتا) أسود اللون على الشرفة. أعتقد أن فعل الإحتجاج لديّ ما هو إلا محاولة منّي لأتجنّب الغرق أكثر. ولكن كم من الوقت تبقّى لنغرق جميعاً؟ هل أباشر بالعدّ التنازلي؟ هل يجدر بي التفكير بذلك؟
وصلتُ الى وادي كشمير بعد بضعة أيام. نجلس حول النار لنواجه برودة الليالي في الجبال. بعد صمت وجيز، تكلّم صديقٌ عزيز سائلًا: كيف يمكن لجمعٍ من غير الأحرار، منحنا الحريّة؟
بعض التأمّلات
في سياق ممارستنا للكتابة والقراءة المشتركة والتي تضمّنت محادثات مطوّلة وسلسلة من الرسائل الصوتية والنصّية والتأمّلات والعديد من المسودات والحواشي والنقد العام المتبادل لتجارب بعضنا الآخر، استطعنا تحديد العديد من اللحظات الحياتية التي أسرتنا – كالمحادثات اليومية في السوق أو اللقاءات مع الأصدقاء أو الشعور المستمر بالنزوح.
بدأنا نفهم خبراتنا المتعلّقة بالمطاردة ضمن اللغة المفاهيمية بقلم أفيري غوردون، والتي تصبح فيها المطاردة معرفةً جسدية تتطلب "وجوب القيام بفعل ما" (2008، xvi-ii). من خلال قيامنا بذلك وكجزء من رحلتنا الجماعية، فإننا وبصورة متزامنة نجسّد موقف جنون العظمة والتعويض (مُتبعين إيف سيجويك، 1997). من خلال الكتابة والقراءة والترحال المشتركة، أتاح لنا الموقف تطوير ممارسة تفسّر التفاعل التوليدي ما بين جنون العظمة وأشكال القراءة التعويضية، دون الإشارة إلى الأولى بكونها مرضاً أو تثمين الأخيرة، لتطوير ممارسة من القراءة والكتابة والتوثيق النسوي. نقترح أنّ هكذا ممارسة تنبع من مواقفنا المتباينة من جنون العظمة (مثال، تحديد المساحات الغائبة لبناء التضامن في سياقاتنا المحلية ورغبتنا في بنائها) وتسعى إلى إعادة بناء والتمسك بالطاقات التعويضية المنغمسة خلافاً لذلك في عالم عنيف، على وجه الخصوص في أزمنة العزل الجسدي التي يُكابدها الكثيرون منّا.
مقاربتنا اليومية للأرشفة تغدو مكانًا للقاء نسوي حيث نسعى للغوص في عمق وتعقيدات المعرفة "غير المرئية"، وفي "الأشياء الكامنة وراء الأشياء" (جوردون، 2008 ص. 164). سيقودنا ذلك إلى تتبع الآثار المادية والعاطفية لكلّ لقاء طاردنا مع من لقوا حتفهم، وللحياة الآخرة. بالنسبة لجوردون، "الشبح ليس مجرد شخص ميت أو مفقود، بل إنه شخصية اجتماعية يمكن أن يؤدي التحقيق في ملابسات وجودها إلى تلك المساحة المتسعة التي تتولّد من التاريخ والذاتية اللتين فيها، الحياة الاجتماعية" (المرجع نفسه ص. 8). كما يتوضح لنا في أرشيفاتنا، أنه لم تكن الأشباح بالضرورة غائبة أو معمول على لامرئيتها أو موجودة فقط بفعل الغياب المحض. بل الواقع هو أننا لا نتتبّعها إلا من خلال حواسنا الجسدية المثقَلة والمثقِلة بدورها بالهواجس المعلنة وتلك المضمرة في الأعماق. إنها هواجس تتشكل معالمها بتعقيدات سياقاتنا الحاضرة وعلاقتنا ببعضنا الآخر. فما هي الآفاق التي تولدها هذه التعقيدات؟
المطاردة المكانية
يبيّن أرشيفنا إلى أننا في زمن من التفكك المكاني، بحيث أننا نحدد مشاعرنا من خلال التمعّن في وتيرة التحوّلات الاجتماعية والسياسية ضمن سياقاتنا الخاصة. يثير التفكك المكاني ذلك والهواجس المتمخضة عنه إلى ردود أفعال مختلفة. س، تسجّل تجارب حسية في كشمير – النهر والحصى والريح – خوفًا من أن أي من هذه العناصر ستبقى على حالها. أما ن، تسجل الغثاثة السلوكية التي تخلق وتُديم الفاشية في سياق الحياة اليومية، علمًا بأن تلك السلوكيات ليست عابرة أوحميدة كما تدّعي. هكذا، يمثّل فعل التسجيل بالنسبة لنا شهادة على أعمال الدولة وعلى التواطؤ اليومي لمواطنيها.
على الرغم من وجودنا في "منازلنا"، هناك نفحة من التشرّد. نشعر أن شيئًا ما ليس على ما يرام، ونتفاعل مع تلك اللحظات على نحو أعمق قليلاً. هذا يجعلنا ندرك أن هواجسنا قد تختلف إلا أنها غير مرتبطة مكانيًا. هذه لحظات يجعل فيه المدّ الإستعماريّ وجوده محسوسًا. يدفعنا الشعور بالوهن إلى البحث عن الروابط التي من شأنها الحفاظ على تماسكنا وربطنا بعضنا بالآخر. إنها ممارسة مدفوعة بالريبة وهاجس التعويض عن المسلوب، إلا أنها أيضًا ممارسة تعزز صمودنا. ندرك لحظات الانزعاج و/ أو المشاعر السلبية – الخزي والغضب والاكتئاب وحاجة لأن نحاسب بعضنا الآخر (والتي يمكن أن تترجم على أنها إخفاقات شخصية) ليست مشاعر غير مرغوب فيها ولكنها توليدية، أي أنها (تلك اللحظات وأحاسيسها) بالتحديد ما يجمعنا معًا ضمن المجتمع. معًا، نفهم الترابط بين نضالاتنا التي نحتاج إلى خوضها بشكل جماعي، لكن ليس بكل حالاتها – ليس طوال الوقت: ففي نهاية المطاف، تلك روابط وليست إسقاطات. لكننا ندرك أننا بحاجة إلى خوضها معًا باعتبارنا فاعلين ذوي هوية جندرية – نقاوم دولة قائمة على الذكورية والتفوّق الديني. إن إدراكنا لكافة هذه المسائل، يسمح لنا بفهم المحددات التي تؤطر النشطاء العاملين ضمن حدود الدولة القومية، والتي عادة ما تستلب3 إن لم تكن تقصي النضالات المناهضة للدولة القومية. حركة حق تقرير المصير في كشمير هي مثال على تلك الإشكالية. تلك النشاطية تميّع من سياسات الجماهير من خلال الإكتفاء بالمطالبة باستعادة الإنترنت، أو انتقاد انتهاكات حقوق الإنسان، دون وضعها في سياق المطالب السياسية الأعم.
في سياق محادثاتنا المستمرة – التي تسبق وتستمر أثناء مباشرتنا في تجميع أرشيفاتنا، نتحدث عن ذاك النشاز. هذا الإحساس المشترك بالنشاز/ التناقض4 يجمعنا بهدف الخوض في السياسات النسوية على نحو مختلف، فنعتبر فعل التفكير والكتابة والقراءة والأرشفة أجزاءً من ممارساتنا السياسية المشتبكة.5 يتيح لنا ذلك تحديد طرق الوجود التضامنية واللحظات العابرة للحدود – فهي تعطينا لمحة عن التعقيدات التي في عوالم بعضنا الآخر، كما تغذّي رغبتنا في تكوين روابط لا تقتصر على تطابق سياسي جامد ولا ملجومة بمآخذ جمّة.على المستوى التحليلي وعند قراءة أرشيفاتنا معًا، نحدد الأعمال اليومية لهذه الدولة (ما بعد) الاستعمارية ونفهم منهجية أفعالها. تقدّم هذه الأفكار، تصوّرات جماعية لما ينتظرنا في الأفق.
المُطاردة الزمانية
الصدمات والتفكك المكاني مفاهيم زمنية. إنها تُعقّد تجربة الوقت عن طريق إبطائه أو تسريعه أو تجميده. في العملية الجماعية التي نخوض غمارها، ندرك أن الأحداث السياسية التي تطاردنا ليست مفاجئة أو حتى خارجة عن المألوف، بل هي حصاد سنوات من التكوين. ومع ذلك، شيءٌ ما في سرعتها وتأثيراتها العميقة علينا، يجعلها صادمة. نتعمّق في هذه الأحداث وتأثيراتها المادية لفهم كيفية تأطيرها لتجربتنا مع الزمن. لماذا تصدمنا إذن؟ معًا، ندرك أن المخططات الاستعمارية والفاشية تسعى إلى تقديم نموذج أحادي التكوين للزمن: "ستشهد كشمير عملية إنمائية. نحن نُصوّب الأخطاء التاريخية ونتّجه تباعًا نحو أيام المجد، آتشي دين أينجي (أيام الخير قادمة)". كما أنهم يتحكّمون بإحساسنا بالوقت من خلال افتراس تجاربنا. تتوضّح هذه المسألة مثلا في تفاعلات س التي تستغرق ساعات طويلة على وسائل التواصل الاجتماعي، وتستمر في التأثير حتى بعد انتهائها.على النقيض من الزمنية أحادية التكوين تلك التي تسعى الدولة إلى فرضها، فإن إحساسنا الجماعي بالتناقضات لهو تجربة زمنية ذات إرث عتيق، تتحدى بالضبط هذا التصوّر أحادي البعد. تلزمنا تلك التجربة بأن نحفظ هذا الإحساس بالتناقضات من حولنا والتعامل مع الإمكانات التي قد تنبع عنها. نتروّى، نعطي لتجربتنا ما تحتاجه من وقت ونقرر القيام بذلك بشكل جماعي، من خلال عمليات مكثّفة من الكتابة المشتركة والقراءات المتقاطعة والأرشفة. يستلزم ذلك تأريخًا دقيقًا للأحداث السياسية التي زلزلتنا: سرعة الاستعمار الاستيطاني في كشمير، نتيجة تاريخ استعماري قديم أسس للطبقية والطائفية الدينية والإثنية،6 وهي أنظمة جعلت العمّال المهاجرين يمشون حفاة القدمين لمئات الكيلومترات، فقط ليتمّ رشّهم بالمبيدات الجرثومية. ننوّه ضمنيًا إلى سياسة الرفض التي تشجب السرديات الزمنية الحائمة حول مفاهيم التقدم والتنمية، وتعتنق حالة عدم اليقين والاضطراب. بشكل عام، هذا يعني أن مثل هذه اللحظات التي ينتابنا فيها هاجس استعادة ما سُلب منا، وهي ليست حاضرة دائمًا في انتظارمن ينقّب عنها، لا بدّ من أن نحافظ على استدامتها في أرشيفاتنا وقراءتنا وممارستنا للوجود.
تغيير أشكال الأشباح (الأطياف)
ليس فعل عبور الحدود نحو إيجاد إمكانيات لتضامن نسوي عملية ترفّع عن الواقع. إننا لا ندّعي أننا بعملية تجسيدنا للممارسة المرتابة والتعويضية المتمثلة بالأرشفة، ستُمكّننا من التخلي عن علاقات القوة التي تشكّل كينونتنا وما حولها من تشابكات فوضوية (تريسال، 2020). كما أننا لا ندّعي أن في هذه الممارسة "شفاء" لارتباكنا أو حتى قوة كامنة تخفّف من وطأة وقائعنا المستعمرة على اعتبار أنها ما تزال نابعةً من نفس الموقع وطبيعة القوة والامتياز. كما أننا لا ندعي أن ثمّة إمكانيةً لحشد ممارسة تعويضية لندّعي بأننا أقلّ تآمراً أو "أكثر عطاءً" (فيغمان، 2013) أو "أقل سوءاً". مما لا شك فيه أن ذلك يقف ضد أخلاقيات الممارسة النسوية للنقد الذاتي، تلك التي نرجو اعتناقها. عوضاً عن ذلك فإننا نستجوب تلك الخواطر من باب "سياقاتنا الخاصة" وليس من منطلق "ما وراءها". في هذا المعنى فإننا نجلس وسط انزعاجاتنا وندعم بعضنا الآخر لتخطّيها، على أمل جسر الأواصر حيث لا علاقات توجد إلا الواهن منها.
إننا ندرك أن عملية إخضاعنا لا تقتصر على الأوجه البنيوية للأجندات الاستعمارية. فخبراتنا اليومية مجبولة بأشكال مختلفة من شتّى الهواجس وبقايا ذكرياتها وآثارها. قد تكون تلك ومضات من ذاكرة أحداث عنف درامي وقعت في الماضي أو توقعات لأحداث قد تجري في المستقبل. كما أننا ورثنا بعضاً من هواجس عوائلنا: فقدان أفراد من العائلة بسبب سوء العناية الطبية أو بسبب تواطؤ معارفنا الذين ينتمون إلى المشروع الفاشي. بعضٌ من الذين فقدناهم تركوا وراءهم بصمات مادية – القتلى، وإطلاق النار الليلي، والمخيمات المنتشرة على تلّة شنكاراشاريا في سرنغار، والوجود العسكري، والدماء المسفوكة في الشوارع، وقرع الأواني. إنها تولّد نشازاً إدراكياً ومشاعرياً في داخلنا وتستمر بالتأثير في حيواتنا. إنها تجد مساحةً لها في تأمّلاتنا الخاصة، وفي الأرشيفات هذه وفي حواراتنا وفي كتاباتنا والكيفية التي ننخرط فيها مع العالم. على الرغم من كآبتها، إلّا أن هواجسنا تسمح لنا بالتكلّم مع أحدنا الآخر. نتشاركها مع بعضنا الآخر على أمل اقتفاء ترابطاتها. نفصلها، ونتعقّب آثارها والكيفية التي يتضمّن أحدها الآخر ونتخيّل السبل التي تمكنّ كُلاً منها خدمة الآخر. هذا "الفعل"/ "ألعمل" يتحوّل إلى لحظة تضامن نريد التشبّث بها. مما لا شك فيه أن الأشباح التي تسكن هواجسنا، تقرّبنا من بعضنا.
ملاحظات ختامية
جرى تصنيع المخيّلة لدى العامة في الهند وكشمير لتصوير عامي 2019 و 2020 على أنهما عامان بارزان في تاريخ مختلف الأقاليم. إننا نفهم هذين العامين بضوء مجريات الأحداث خلالهما، ولكن أكثر، من خلال عنفية الاستجابات وكيفية تأثيرها على عوالمنا. بالرغم من أن هذه الأحداث والاستجابات والتأثيرات تباينت بالنسبة لكلٍّ منّا فهي متورطة في ظرفياتنا، لكنها تشابكت مع ماضينا الاستعماري وشكّلت حياتنا بوضوح. لأننا نبقى مشغولين بكوننا شهوداً على هذه الأحداث، لا يبقى لنا سوى القليل من الفضاء العاطفي في حيواتنا لمعالجة أفكارنا ومشاعرنا ومظالمنا، أو الحاجة إلى التضامنات الخلّاقة العابرة للحدود. في هذا السياق، فإن أرشيفاتنا – ومُلاحظاتنا الميدانية ويومياتنا وحواراتنا وقراءاتنا التشاركية – تظهر كطريقة في توثيق الأحداث الاستعمارية والاجترارات التي بعثت الحركة في هذه السنوات. في هذا النص نبحث تحديداً في هذه الملاحظات الحميمة التي نتشاركها ونناقشها ونتقصاها. إننا وعن سبق الإصرار نموضع أنفسنا ضمن التيار – في الصُلب المادي والسياسي للمُجريات الحاضرة وذلك بهدف تعقّب صلته بأحداث ماضينا – المستبطنة. في هذا المخاض نقدّم مخزناً منسياً من استجاباتنا الحميمة: إنها مطارداتٌ وهواجس مفروضةٌ علينا من قِبل أشباح استعمار أوطاننا، ومن خلال الهواجس نبني (عوضاً عن مجرد الاستكشاف) مكان التقاء حيث تترجم قرائاتنا وكتاباتنا إلى علائقيات حميمة.
بينما نعقد العزم على موضعة المعرفة "اللامرئية"، "والأشياء الكامنة وراء الأشياء"، لا ندّعي بأننا نجدها دوماً أو أن هذا المسعى هو خارطة طريق نسوية نهائية نحو التضامن. قد نجد قليلاً من "التصالح مع الذات" (إن كان ذلك موجوداً). ولكن مسعانا الأعظم يكمن في المراقبة والمواجهة والحوار. نطمح إلى فهم استجاباتنا وسردياتنا التاريخية المختلفة وذلك بهدف خلق المعنى وبناء شيء من التحكّم والمقاومة يساعداننا على هيكلة هواجسنا. والأهم من ذلك كلّه أننا نصبوا في رحلتنا هذه لبناء أواصر الرفاقية فيما بيننا. عبر ممارستنا للقراءة والكتابة، فإننا نبحر في تهجئتنا الخاطئة لمعضلاتنا السياقية والمكانية لتخيّل طُرق جديدة تجمعنا معاً وتتجسد من خلالها تحوّلات مادية. هذا النص هو محاولةٌ لبلورة هذه العلاقة. نهدف إلى الاستمرار في بناء الجسور وتخطّي الحدود بهدف مواجهة ماضينا الاستعماري خطوة بخطوة في كلّ الأوقات. بوجه دولةٍ قمعيةٍ واسعة النفوذ، متجذّرة الوجود ومحتكرة الشرعية، لا بُدّ من بناءٍ تضامنيٍّ حميميٍّ عابرٍ للقومية يخلق مساحات نقد ذاتي تهدف إلى تغذية وصون الحركات المناضلة ضد الاستعمار.
- 1. أو دولةٌ حبيسة (مديرة الترجمة).
- 2. الطائفة\ الشريحة الإجتماعية أو الإثنية أو الدينية (مديرة الترجمة).
- 3. وهنا تأتي اللفظة في سياق التنويه للعلاقة التناحرية ما بين نهج النضال القومي ونهج النضال النقيض لبُنية الأنظمة القومية (مديرة الترجمة).
- 4. تعريب/إعادة صياغة لتوضيح المجازالمستخدم في النص الأصلي (مديرة الترجمة).
- 5. ترجمة للمصطلح praxis(مديرة الترجمة).
- 6. أو المشار إليه بـ "نظام الكاست" في بادئ النص (مديرة الترجمة).
Anzaldúa, G., 1999. Borderlands / La Frontera: The New Mestiza. San Francisco, CA: Aunt Lute Books.
Asif, M., 2020. The Loss of Hindustan. Harvard University Press.
Bhat, B. and Mugloo, S., 2020. Kashmir’s Displaced Struggle to Survive Amid COVID-19. [online] The Diplomat. Available at: <https://thediplomat.com/2020/05/kashmirs-displaced-struggle-to-survive-a... [Accessed 11 February 2021].
Gordon, A., 2008. Ghostly Matters. Minneapolis: University of Minnesota Press.
Halder, T., 2019. Kashmir’s struggle did not start in 1947 and will not end today. [online] Aljazeera.com. Available at: <https://www.aljazeera.com/opinions/2019/8/15/kashmirs-struggle-did-not-s... [Accessed 11 February 2021].
JKCCS, 2018. Annual Human Right Review 2018. [online] Srinagar. Available at: <https://jkccs.net/wp-content/uploads/2018/12/Annual-Report-2018.pdf> [Accessed 11 February 2021].
Kabir, A., 2019. Chandrashekhar’s azadi with swag: The fabulous mystique of the Bhim Army chief. [online] Scroll.in. Available at: <https://scroll.in/article/947721/chandrashekhars-azadi-with-swag-the-fab... [Accessed 11 February 2021].
Mehta, A., 2020. Embodied Archives of Institutional Violence and Anti-Racist Occupation – Reading Julietta Singh’s ‘No Archive Will Restore You’ in the University. [online] feminist review. Available at: <https://femrev.wordpress.com/2020/08/28/embodied-archives-of-institution...
Menakem, R., 2017. My Grandmothers Hands: Racialized Trauma and the Pathway to Mending Our Hearts and Bodies. Central Recovery Press.
Nagar, R., 2019. Hungry Translations: Relearning the World through Radical Vulnerability. (1 ed.). Champaign: University of Illinois Press.
Rao, R., 2020. Nationalisms by, against and beyond the Indian state. [online] Radical Philosophy. Available at: <https://www.radicalphilosophy.com/commentary/nationalisms-by-against-and...
Roy, A. 1997. The God of Small Things. Penguin Random House.
Sedgwick, E., 1997. Paranoid Reading and Reparative Reading; or, You’re So Paranoid, You Probably Think This Introduction is About You. Novel Gazing: Queer Readings in Fiction. Duke University Press.
The Wire. 2020. Delhi Riots Death Toll at 53, Here Are the Names of the Victims. [online] Available at: <https://thewire.in/communalism/delhi-riots-identities-deceased-confirmed> [Accessed 11 February 2021].
Trisal, N., 2020. “The Kashmirization of India”: Comparison, Solidarity, and “Paranoid” Reading. [online] Association for Political and Legal Anthropology. Available at: <https://politicalandlegalanthro.org/2020/08/14/the-kashmirization-of-ind...
Shamim, F., 2020. Culture of Institutionalised Impunity and Violence in Indian Occupied Kashmir (IOK). [online] Ssii.com.pk. Available at: <https://ssii.com.pk/wp-content/uploads/2020/01/Culture-of-Institutionali... [Accessed 11 February 2021].
Wani, R., 2020. Why Kashmir Faces the Greatest Existential Battle in Past 500 Years. [online] Storiesasia.org. Available at: <https://www.storiesasia.org/why-kashmir-faces-the-greatest-existential-b... [Accessed 11 February 2021].
Wiegman, R., 2013. 2013 Duke Feminist Theory Workshop Keynote Robyn Wiegman. Available at: <https://www.youtube.com/watch?v=JwPHNTO3ZBM&ab_channel=DukeWomenStudies> [Accessed 11 February 2021].