نمنمات ساحرة: حديث عبر الزمن
theoa2_copy.jpg
2 كانون الأول/دسمبر، 2020، باريس
غوى:
حبيباتي/أحبائي، كيف أخاطبكنّ/م بغير ذلك؟ لا أعرف..
قبل عام بالتحديد، كنّا نصنع السحر معاً ونراه يتكشّف بين أيدينا. أمّا الآن، فأجلس خلف مكتبي في باريس، أعُدّ الصدمات التي ترافقني منذها، وأستحضر قوتنا الجماعية عبر وجودنا الزمني. تموّجات عبر الزمان والمكان هي تلك القشعريرة التي تشبّ في بدني عندما أستعيد كلماتكم/ن معي.
خلال لقائنا الأخير، حين كنّا دائرةً التئمت بإرادتنا، سألتكنّ ثلاثة أسئلة: لماذا تردن/تريدون توثيق/أرشفة المكان؟ ما الذي تغيّر بالنسبة إليكن/م؟ ماذا تعني لكن/م النسوية الكويرية الآن؟ سأحاول أن أجيبكن/م، الآن، من زمان ومكان مختلفين.
أريد أرشفة هذا الفضاء لأنّه كيف يمكننا البقاء، إن لم يكن من خلال ذكريات لقاءاتنا. احتفظت الصدمة بما اعتقدت أنّه ذكريات الفرح الرهين، لذلك وضعتُ تلك الذكريات في لائحة ليصبح التسلل بين تشققاتها ممكنًا متى أردنا. لم تعبر ذكريات الورشة دفعة واحدة. هكذا بالتحديد تعمل أنظمة القمع ضدنا: تجرّدنا من التجارب التي تترك فينا التغيير الأكبر. ما عشناه معًا لم يكن فرحًا؛ كان قوة، قادتنا إلى فرح جماعي. ولهذا، أريد أرشفتنا لأنني أريد أن أتذكركن/م / أتذكرنا كفعل مقاومة.
ممارستي للتذكّر باعتباره أرشيفًا لم تتغير قط. لكن ما حدث أنّه بشكلٍ ما، ورغم كل شيء، تمكّنا من كتابة نفسنا وإعادتها إلى سرديّاتنا. عندما أفكّر بالنسوية الكويرية، أفكّر فيكن/م، اللواتي/الذين تجعلونها حقيقة واقعيّة (وتثابرن/ون على ذلك) في سياقات اقتصادية وسياسية وتاريخية ومعرفية منهوبة ومحتلّة ومحكومة من قبل الأنظمة الاستبدادية. أنتن/م/نحن تجسيد النسوية الكويرية. وأنا، أريد المزيد، المزيد منكن/ن، منّا، معًا، في هذا العالم.
أحملكنّ/م معي، كطرس بين الخاصرة والقلب.
3 كانون الأول/دسمبر، 2019، بيروت
سارونا:
أكثر ما يثير حماسي بشكلٍ خاص في كون ورشة العمل هذه مسجّلة ولن تُنسى وستتمّ أرشفتها هو أنّنا في لحظة أشمل ونحن لحظة أشمل. نحن في بيروت وفي مرحلة ما بعد الثورة. يمكننا سماعها وشمّها والعودة إليها لبرهة. ورشة العمل هذه، لم أكن أستوعب بشكلٍ كامل أنها تحصل لأنني لم أعتقد يومًا أن هذا قد يحصل. في كلّ يوم كنت متواجدة هنا، جعلني هذا المكان أدرك كيف يمكن أن يحصل المستحيل. نحن أشخاص متعدّدون من خلفيات مختلفة كلّيًا، أمضينا أكثر من سبع ساعات يوميًا في الغرفة ذاتها لمدة خمسة أيام وتعرّفنا على بعضنا البعض، فباتت حياة كلّ واحدٍ منّا مرتبطة بحياة الآخر. على الرغم من تعدّد المسارات لاختبارنا وإدراكنا وتجسيدنا للكويرية، هذه الارتباطات دلّت على الطرق المختلفة التي تحقّق أفعال تحدّي للدولة وضد القوى التي تعمل ضدنا وحتى ضد تمكّننا من التواجد هنا. كنت طالبة في مدرسة ثانوية صهيونية بيضاء للطبقة الغنيّة وكنت العربية الوحيدة هناك ومن عائلة من الطبقة العاملة بامتياز. كيف يمكنك الوجود في مساحات غير مصمَّمة لك؟ بلحظاتها العادية والعظيمة، هذه اللحظات قد تكون تذكيرًا دائمًا بما يمكن لتلك المساحات فعله بكم نفسيًا وجسديًا وعاطفيًا. معظم حياتي، لم أسمع عن ناس مثلنا إلّا من أفواه آخرين ليسوا منّا. ووصفنا من قبل الآخرين من دون أن نأتي بهذا الوصف، وهو لا يرى إلا استهلاكنا، وفي اعتقادي أن هذا هو السبب المهمّ للغاية الذي دفع بمجلة "كحل" وبنا إلى التجمّع واللقاء. ما الذي تغيّر بالنسبة لي؟ أعتقد أن المسألة الفعلية هي في ما لم يتغيّر وفي ما لم يتحوّل وفي ما لم يتمّ تقييمه بعد. كانت هذه الأيام الخمس واحدة من أكثر الفترات المفيدة والمثيرة للاهتمام في حياتي، إذ لم نترك موضوعًا إلا وأثرناه. وهذا يعود سببه لكمّ الجهد والوقت الذي بذله كلّ شخص فينا في هذا المكان وأيضًا لبعضنا البعض، معبّرين/ات عن المخاوف حول كيفية العمل بشكلٍ أفضل. هذا النوع من الضعف، ووضع الثقة في عملنا هو العنصر الأهمّ في عملنا هذا. دأبتُ على تدوين الملاحظات حول التجسيدات وحميميتها ونقاط الضعف وحالات القلق بشأن عدم تجسيد ما نظن أنه يجب أن نجسد. ذكرت الدعوة لورشة العمل على موقع مجلة "كحل" الإلكتروني مسألة الابتعاد عن مفاصل الهيمنة والإنتاج الأكاديمي للمعرفة. أظن أن هذه جميلة جدًا، ولكن كيف يمكنني القيام بذلك؟ لكننا قمنا بذلك، لذلك أعتقد أنه يجب توثيقه ليس لقراءته بل لأنفسنا لكي يعرف الناس الذين مرّوا بما مررنا به أنّ هذه الأمور قد تحدث أيضًا. وأنّها صارت وستستمرّ بالحدوث. لذلك، أقول وسأكون جريئة في ذلك، قمنا بإنتاج مفاهيم نسوية كويرية في هذا المكان. فقد مرّت بنوع من الثقة التي بنيناها نحن والخطوات اللازمة لكيفية القيام بأمور لبعضنا البعض، ولكن الأهم تعلّم كيفية دعم الذين/اللواتي يتعرّضون/ن لأنواع مختلفة من القمع، التي قد لا أتعرّض لها بسبب مظهري الخارجي وبسبب طريقة كلامي وبسبب الجنسيات التي أحملها. بعض الأمور التي حفظتها من ورشة العمل – القدرة على إدراك الملموس، هذه الرغبة بالحصول على شيء من تجربتنا والمحافظة عليه، بأن نشهد على الأمل والموت والخيال والأمور التي نراها لا نستطيع الوصول إليها، وألّا نكون كفاية لأمر ما. لذلك ربط ذلك بتلك اللحظات التي تعرّفت فيها على أفكار نسوية، التي غالبًا ما تمّ تقديمها على أنّها هذه الغرفة التي تدخلونها بعد قراءة "بيل هوكس". تدخلون تلك الغربة وتهزّون برأسكم/ن وتقفلون الباب وترمون المفتاح وتنتهي المسألة هنا. الفكر النسوي هنا. ولكن هذا المكان جسّد فعليًا ما يمكن للأفكار والمساحات النسوية الكويرية أن تحوي وأن تفعل، وهو أن تتساءلوا وتدفعوا وتغذّوا وتكبروا باستمرار في علاقاتنا والفوضى والانزلاق. ما أريد أن أحمل بعد مغادرة هذه المساحة هو الدعوة المفتوحة لكم/ن جميعًا لأنني أريدنا أن نستمرّ في هذه المسيرة معًا. سنكتشف ما شكّل هذه المسيرة بالنسبة لنا والوجهة التي نسير نحوها وما ينتج عن هذه الوجهة وشكل هذه الوجهة، حين نكون في أماكن متعدّدة في آنٍ واحد. ولكن، في الـ "آن الواحد" الكثيرة الخاصة بنا، نحن في محطات زمنية مختلفة كثيرة – إما في الـ "آن" الموروث وإما في المستقبل المتخيّل المتعدّد. وهذا يقودني في النهاية إلى لحظة تعني لي الكثير، محطة في التفكير أثارها كلّ من جاها وكوثر، وهي متعلقة بكيفية تحكّمنا بهذا الزخم، وكيف نمضي قدمًا إلى أبعد من هذه الفقاعات اللّماعة الحميمية الصغيرة من الثورات التي بدأناها هنا.
أحمد:
صعُب عليّ كثيرًا تحديد تموضعي السياسي ضمن المساحات النسوية والكويرية التي أتواجد فيها، إن كانت هنا أو في القاهرة، والتفكير في احتمالات النظر إليها. في أحيانٍ كثيرة أجد نفسي شاردون في اتجاه آخر. بالنسبة للمساحات غير النسوية والأشخاص المعياريين، لا يؤخذ ذلك حتى بعين الاعتبار بالنسبة لي لأن الحديث بعيد جدًا وأشعر أنني مرتاحون أكثر. ولكن في معظم المساحات النسوية، أشعر أنني في حالة واعي فائق بشأن عبوري، بحيث قد يكون منتجًا أحيانًا ومقيّدًا لي في أحيانٍ أخرى، بمجرّد أن يشعرني ذلك بأنه يتوجب عليّ تصغير نفسي. لديّ هذا الوعي بأنه تمّ تحديدي كذكر عند الولادة، وبمجرد أن يراني أحد يفهم أو يعتبرني رجلاً. وهذا يجعلني أرغب، في أي لحظة كانت، ألّا ينظر إليّ أنني أملك سمات ذكورية فائضة أو أبدو "رجلاً" بشكل فائض أو أن أحتلّ مساحة كبيرة أو الجلوس ورجلاي مفتوحتان كثيرًا أو أي شيء آخر. حتى القيام بأمرٍ بسيط مثل التعارف ومشاركة الضمائر قد يُشعرني أنني مستثنى بشكلٍ أكبر. وينتج عن ذلك اعتبارات كثيرة مثل "هل أن عابر/عابرة بما فيه الكفاية؟" "هل أشرّف العابرين/العابرات الذين أعرفهم أو الأفكار السياسية العابرة التي أريد أن أكون جزءًا منها؟" أنا الآن في هذه المحطة من مساري حيث لا أريد التدرّب على قصص صدماتي وتجاربي لأسهّل عملية قراءتي، ولكنني أفهم سبب أهمية هذه القصص بالنسبة للآخرين لكي يفهموا ويشاركوا في تلك الأحاديث. ولكننا لا نبدأ من المكان ذاته أشعر أنه لا يمكنني المشاركة في أحاديث لهذه الدرجة لأن ذلك يستوجب الكثير من المقدمات والشروحات قبل أن أستطيع البدء بالتحدث عن أنواع الأسئلة التي تراودني. وبصراحة يفرحني ويساعدني كثيرًا أن أتحدّث مع شخص عابر آخر عن قضايا العبور والتفكير عن العبور بمنظور فكري وبنيوي. ولكنها ليست أحاديث تسنح لي الفرصة كثيرًا أن أقوم بها، حتى في المساحات النسوية الكويرية مثل هذه. ما زال لديّ نوع من الأمل تجاه مساحة ما تتسع لأفكاري السياسية – ولا تكتفي بتقبّلها بل تغوص فيها على هذا المستوى. حتى حين تكون أصوات العابرين/العابرات محور الحديث، ألمس إشارات كثيرة تدلّ على كره ضمّي للنساء والمثلية، تأتي على شكل تناولٍ حذرٍ ومهذّبٍ لقضايا العبور. أفهم خلفيّتها وأفهم أن الناس لا تريد إهانة أو استثناء أحد. أسعدني كلّ من بذل هنا جهده لإشعاري بأنني غير مستثنيين، ولكنني ما زلت ألمس صعوبة في محاولة صياغة هذه الأسئلة. وليس لديّ أجوبة واضحة، ولكن هذه عملية أقوم من خلالها بشكلٍ صامت وفردي وأحيانًا ضمن أحاديث مع بعضٍ منكم/ن على مستوى أكثر حميمية، بمصالحتها معي. لسوء الحظ، لم أتمكّن من الشعور أنني موجودون في هذه المساحة في وقت مبكر، وآمل أن يكون ذلك أمرًا يمكنني تطويره وأن نتمكّن من التحدّث بشأنه أكثر – وليس فقط إشراك العابرين والعابرات بل أيضًا كيفية ولماذا نشرك عابرين وعابرات. هذه هي مداخلتي التي عجزت عن التعبير عنها لبضعة أيام. أنا أفكّر فقط بالمساحة المتاحة لي في القاهرة مع أصدقائي من مجتمع الميم، وغالبية النساء والعابرين والعابرات من مجتمع الميم. بالنسبة لي، المسألة مرتبطة بمستوى الحميمية وليس بمستوى التقبّل.
هند:
لستُ شخصًا طليقًا بالكلام. والأمر غير مرتبط بأيّ لغة، لا باللغة الإنكليزية ولا العربية. غالبًا ما أمزح قائلةً إن اللغة الوحيدة التي أتحدّثها بطلاقة هي لغة القلق. أُتأتئ كثيرًا؛ وأتردّد كثيرًا في الكلام. المسألة التي أغضبتني كثيرًا ذلك اليوم كانت مسألة الثورة الكويرية الشخصية، وشعرت أنني بدأت أغضب وكنت في موقع دفاعي. ولاحقًا حين توفّر لي الوقت للتفكير بردّ فعلي الأولي الذي كان متفجّراً وفجّاً إلى حدٍ كبير. أعتقد أن الأمر كان مرتبطًا بالجزء المتعلّق بالنسوية من هذه المعادلة وكَون كلمة "كوير" كمصطلح أو لأنني استخدمهما على أنهما بنفس المعنى. ولكنّ تصنيف نفسي ضمن فئة غير المعياريين/ات، كان أمراً لطالما أردت القيام به وشعرت بأنني عاجزة عن ذلك. شعرتُ أنني عاجزة عن تبنّيه لأنّه كان أمرًا بعيد المنال طوال الوقت، وأمراً شعرتُ أنني أكاد لا أستحقّه. لذلك كتبت قليلاً – ليس شعراً بل نصّاً بدرجة أقلّ من التنظيم – عن رغبتي في تصوّر مفهوم الكويرية كأمر أستطيع استيعابه. أي أمر أحفظه في قلبي. حين دخلت إلى هذه المساحة، شعرتُ أنني ربما لست جذرية بما فيه الكفاية، وأنني لا أتمتّع بأمل أو طاقة كافيين لاستخدامهما من أجل زعزعة السرديّات المسيطرة السائدة. ولكن، الأيام القليلة الماضية أتاحت لي إمكانية استعادة بعض الأمور. من هذا المنطلق، أشعر أن مساحة كويرية نسوية نتجت ليس فقط عن هذه الغرفة، بل أيضًا عمّا سيحصل بعد مغادرتها. بدأنا بالتحدّث عن حياتنا والتعرّف على بعضنا البعض. وهذا ما أشعرني أنني أحظى بدعم كنت أفتقده بسبب عقد الدونية التي جاءت معي.
مومينا:
أسوأ ما في القلق الاجتماعي هو أنكم/ن تتوقعون/ن من الآخرين القيام بما يلزم بالنيابة عنكم/ن، وهذا ليس توقّع غير عادل. وعند التواجد في مساحة كهذه تتوقعون دائمًا الحصول على اللطف بمجرد الدخول إليها ولا تعرفون ما يفترض أن يكون شكل هذا اللطف. أمس، بعد تقديم الجزء الذي كنت مسؤولة عنه في ورشة العمل هذه، أتت إليّ آية وقالت، "أنظري إلى ما قمتِ به". ثم ضحكت وغادرت. وأنا قلتُ "نعم، كان يجب أن يحدث ذلك قبل الآن بكثير". ولم يكن الأمر يقتصر على الضعف أو الدموع أو الحزن، بل يشمل أيضًا الضحك لاحقًا. كنت أبحث عن هذا النوع من الحميمية ولا أعرف لماذا أتوقّعه من المساحات الكويرية، ولا أعرف لماذا أتوقّعه من أشخاص آخرين من مجتمع الميم. هذا توقّع غير عادل إلى حدٍّ كبير لأننا جميعنا منكسرون/ات ومشوّشون/ات، لذا، فإن توقّع جهد معنوي من الآخرين بالنيابة عنّا ليس سوى تصرّفًا أخرق. لهذا السبب لم أشعر بالراحة. في الأيام القليلة الأولى، شعرتُ بالنفور لأن الأمور كانت تعرض بطريقة أكاديمية أكثر من اللازم، كما قالت هند، وفكّرت أنه لربما لم يكن ذلك المساحة المناسبة لتنظيم ورشة عمل مبتكرة، ربما أنا كنت الدخيلة كوني لست عربية، ولا أفهم السياسة الإقليمية أو اللغة العربية المتداولة التي تستخدمونها. ولكن لا شك أن أمرًا ما تغيّر أمس. بعد أن غادرنا جميعنا وأعطتني لارا إجابتها لاطّلع عليها. كنت في غرفتي أمسك بها وفكّرت "هذا ما جئت من أجله". لا أعلم إن كان هذا النوع من المساحات الكويرية النسوية هو النوع الذي أريده، أريد أكثر من ذلك، كما قالت جاها وكوثر، أريد المزيد. لا أعلم ما شكل هذا "المزيد". ولا أعرف ما أريد، ولكن ما حدث الليلة الماضية، أريد مثله المزيد. المزيد من الصراحة والمزيد من الضحك والمزيد من الضعف. وأظن المزيد من العاطفة. إلا أن ما فعله ذلك بي، هو أنه أعطاني هدفًا لما أريد كتابته. الأرشفة كانت إحدى الأسئلة، ولم أفكّر يومًا في كتابتي على أنها نوع من أنواع الأرشفة أو بعملي كنوع ومن أنواع الأرشفة، لأنني أنظر إليهما دائمًا على أنهما عملية تخيّل. لم أتخلَّ أو أحتفظ بأي شيء. أحاول إنتاج شيءٍ ما، تاريخ لست جزءاً منه، أو مجتمع لم أشعر يوماً بالانتماء له، بسبب... بسببي أنا فعلياً. ننجح في محو أنفسنا، ولكن نريد أيضًا ترك شيء وراءنا لأن التاريخ ما زال يهرب منّا. في المظاهرة شعرتُ "يا إلهي، هذا عمل، هذا شكل العمل الحقيقي". ولكن أدركت حينها أيضًا أنني لو تركتُ ذلك فقط، مجرّد قصيدة، عندها سيكون ذلك كافيًا وجمعيكم قمتم/ن بذلك. ذكّرتموني أنّه لربما القليل الذي أستطيع تقديمه قد يكون كافيًا، لذلك أنا ممتنّة للغاية. شكرًا.
لارا:
حين نتحدّث عن مساحة، نفكّر دائمًا بمساحة ماديّة، وهذا ما يحزنني. شعرتُ أنني منفصلة عن الحياة الواقعية والمدينة الفعلية، ولكن في الوقت عينه تواجدي معكم/ن جميعًا كان يستحقّ العناء. كنت مريضة في الفندق. أعجبني أن أكون جزءًا من المجموعة، تعلّمتُ الكثير عن هذه المنطقة التي لم أكن أعلم أيّ شيء عنها من قبل. أشعر بالخجل من ذلك لأننا في تركيا نركّز ونتطلّع إلى الأفكار والأخبار الغربية الأوروبية، وهذا ما يتعارض مع الحياة الواقعية. لماذا نريد الأرشفة؟ لأننا كنّا هنا. نريد أن يقرّ الجميع بأننا كنّا هنا كأشخاص حقيقيين أو كأشخاص من مجتمع الميم. لذلك، محاولة أرشفة كل ذلك يستحق العناء، ولكن لا أعتقد أن ذلك ضروري. نعرف أن الكثير من الناس مرّوا من هنا قبلنا وسيمرّ الكثيرون من هنا بعدنا أيضًا. يعجبني هذا الإحساس بالاستمرارية، لا أشعر أنه من الضروري توفّر إثبات على ذلك طوال الوقت. ما الذي تغيّر؟ أعتقد أننا نشعر أننا مرتاحون حين نقوم بنشاطات معًا. "لنتحدث عن هذه النظرية خلال الغداء أو لنتحدث عن بتلر" – كل هذه الطرق الغريبة والمدّعية الرامية لإدخال أنفسكم/ن ومكوناتكم/ن في الحديث، أكرهها. ولكن لم أشعر بذلك هنا بتاتًا لأنكم/ن لستم/ن كذلك أبدًا، لذلك أشكركم/ن. ما هي الأفكار النسوية الكويرية؟ لا أعلم. ما زالت تحيّرني، ولكن أساسها فتْح مساحات لبعضنا البعض لأن هذا ما شعرته خلال الأيام الخمس الماضية. لدينا وجهات نظر مختلفة حول ما يجب أن تكون أو ماهية الأفكار النسوية الكويرية، إلّا أن هذه المساحة التي أعرفها بأنها مساحة نسوية كويرية من دون شكّ لأنها كانت ثابتة على موقفها وحميمية ومفتوحة؛ يمكنني فيها مشاركة الكثير ولن تطلق عليّ الأحكام وتفاجأت بذلك. ساعدتني فعلاً على التخلّي عن حذري وإطلاق سراح ما في داخلي. لا أعرف اللغة العربية ولكنني قادرة على فهم بعض الكلمات المشابهة التي استخدمتموها، وهذا ما أقدّره لأنني حضرت مؤتمرات مضجرة للغاية وكرهتها كلها. لذلك أشكركم/ن لأنكم/ن لم تكونوا مثل هؤلاء الأشخاص برأيي. بدا لي أنكم/ن بذلتم/ن طاقات كبيرة لإنشاء هذا النوع من التحالفات والمساحات لكي تشعروا بالأمان. كانت محاولة مميزة جدًا لتشكيل تحالفات أو بناء نوع من أنواع التضامن.
نور:
ما زلت أفكّر وأحاول استيعاب الأمور التي شعرتها خلال ورشة العمل. أعتقد أنني جئت إلى هنا في أكثر مرحلة أنا متعبة فيها جسديًا ومعنويًا، وأغادر وأنا منهكة جسديًا لدرجة أكبر ولكن هذا لم يؤثر أبدًا على كيفية تغيّري جرّاء هذه التجربة، أو الأشخاص أو الحميميّة أو العلاقات المترابطة. أما في مسألة الأرشفة هذه، وجدت نفسي أكتب الملاحظات على تطبيق الملاحظات الخاص بي بشأن ما أشعر به، لأنني على المستوى الشخصي أميل إلى كتابة كلّ شيء عنّي. شعرت أنني أريد أرشفة ذلك، لأن ذلك ينتج عنه هذه الروابط العاطفية بين الأرشيفات الحميمة والشخصية والمتشابكة، والمُصاغة عبر كلّ نقاش من نقاشاتنا بشأن ما نشعر به وكيف توصّلنا إلى فهم وإعادة النظر بالأمور التي تهمّنا، وبين تصوّراتنا الأوسع بشأن النسوية الكويرية. أشعر أنها أنتجت شعورًا بالاستمرارية – أن نتناقش مع أحد، عوضًا عن إلقاء المحاضرات على أحد أو التحدّث مع أحد، ولم أفكّر يوماً بنفسي وبحياتي كمادة أرشيفية، كأمر أستطيع ربطه بالمفهوم الأوسع للأرشيف. لذلك هذه المساحة أتاحت بعض العلاقات وبعض المحادثات التي يجب القيام بها والتي لم تكن ممكنة في أيّ مكان آخر. شعرت فعلاً بنوع من الانتماء سهّل توضيح مدى خنق الأكاديميا البيضاء لنا. أعتقد أن هذا ما علّمتني إياه ورشة العمل، أنّه أن لا بأس إن شعرنا بالضعف وأن أفكّر بنفسي أنني مرتبطة بهذه التواريخ الأشمل. كان الشكل مبتكرًا بالنسبة لي ومن ثمّ تعلّم كلّ الأشكال التي استخدمتموها جميعكم فتحت المجال أمام طرق مختلفة لإنتاج المعرفة، حيث لا أضطرّ إلى كتابة كل شيء عن نفسي. بالإضافة إلى أمور مثل سياسات الاقتباس والطرق المختلفة لإنتاج المعرفة. وكلّما تحدّثنا أكثر كلّما ترابطنا وتشابكنا أكثر مع بعضنا البعض، وكلّما رأينا مدى ترابط كلّ شيء على المستوى الشخصي وعلى مستوى العمل الفعلي الذي كنّا نقوم به. أعتقد أننا ألهمنا بعضنا البعض.
كوثر:
لم أستطع إلّا أن أعود إلى استمارتي لأراجع ما كانت إجابتي حول ماهية الكويرية النسوية بالنسبة لي:
"خلال الأيام المؤدّية للتفكك العنيف للمدينة في الثالث من حزيران، اتخذ الذعر الأخلاقي بشأن وجود مخدرات وكحول وواقيات ذكرية في محيط المراكز العسكرية منحًا أكثر خطورة. فلجأ السودانيون/ات إلى وسائل التواصل الاجتماعي لإبعاد أنفسهم/ن وثوراتهم/ن عن هذه الأعمال المنحرفة. حتى أن بعضهم طالب السلطات بالتدخّل وتطهير منطقة الاعتصام. خلال محاضرة أقيمت سنة 1975، أشارت الراحلة طوني موريسون أن الوظيفة الحقيقية للعنصرية هي الإلهاء. في هذا السياق، يمكن فهم الإلهاء على أنه سمة كل الأنظمة القمعية. والأفكار الكويرية النسوية إقرار بتكتيكات الإلهاء الخاصة بالأنظمة القمعية، النسوية الكويرية هي رفض التعرّض للإلهاء".
إذا نظرنا إلى المرحلة التي نعيش فيها حول العالم، نرى أنها مرحلة اضطرابات وثورات وتمرّد، فالناس تنتفض لتطالب بما تريد. ونواجه الكثير من الدعوات التي "تحثّنا على عدم الالتهاء". وغالبًا ما تكون تلك الدعوة موجهة للنسويات والنساء والمهمشين والمهمشات. نُظّمت ورشة العمل هذه في مرحلة بتنا نشعر فيها أن أفكارنا السياسية باتت شكلاً من أشكال الإلهاء. لذلك، كان المجيء إلى هنا مفيدًا فعلاً، لنخبر بعضنا البعض، ولنؤكد لبعضنا البعض أننا لسنا عامل إلهاء، وأن أفكارنا السياسية ورؤانا عنصر أساسي في أي مجتمع عادل ومنصف اجتماعيًا. والمواضيع التي تناولناها – الشتات، النزوح، الوقت، المساحة، التجسّد، الخ. – تشير إلى تماسكنا من حيث الأفكار السياسية. لم نكن بحاجة لمناقشة هويات مجتمع الميم بالمقارنة مع الهويات الكويرية على سبيل المثال. جميعنا تخطّينا هذه المسائل وهذا ما ساعدنا كثيرًا. كما جئنا أيضًا مع كل مخاوفنا وهواجسنا. كلّنا بدأنا بالقول، في اليوم الأوّل، أننا منتحلي/ات صفة، وأننا لا نملك خلفيات بالمستوى الأكاديمي الملائم، وأن لدينا مخاوف بشأن هوياتنا وتموضعنا. أعجبني كثيرًا أن أحد الاستنتاجات التي اتفقنا عليها جميعًا هي أنه يجب علينا استخدام تلك المخاوف والهواجس كأداة توجهنا في عملية الكتابة وفي أفكارنا السياسية على حدٍّ سواء. وإن كان ذلك كل ما أنتجناه من ورشة العمل هذه، فهذا أكثر من كافٍ. من الأمور التي أعجبتني أيضًا كان غياب محاولات ابتكار إجابات دفاعية عن أي سؤالٍ كان. لسنا هنا لنقول إننا وجدنا الطريق الصحيح. بعضنا ما زال حائرًا وبعضنا ما زال يشعر أننا بحاجة لأكثر من ذلك، وأنا أشعر ذلك أيضًا. أريد المزيد. ورشة العمل هذه عملية طويلة لا يجب أن تنتهي هنا بالنسبة لنا.
جاها:
حين حاولت الإجابة عن السؤال المرتبط بما يدفعنا لأرشفة ورشة العمل هذه، كتبت بكل بساطة أن الدافع هو ألّا ننسى. أريد ألّا أنسى. سأغادر ورشة العمل حاملةً أشياء كثيرة مما قلتم/ن وأعرف أنها باتت جزءًا مني. سأغادر وبصحبتي ما قامت به مومينا من إعادة النظر والتفكير بشأن الكويرية والتي خلصت على أنها أمر ينمّ عن شعور أقلّ بالوحدة، ومع فكرة إنشاء تاريخ لأنفسنا ولو كان خياليًا. آمل أنه من خلال توثيق هذه المساحة بالحد الأدنى، يمكننا صون هذه الجهود. أفكّر في ما قالوه أحمد حول كيفية مساعدة النظرية له في عملية التفكيك ولكنها لم تساعده بالضرورة على تحديد الوجهة بعد ذلك. تلك الحميمية، بالنسبة لي على الأقل، تجعل من مقاربة سؤال "والآن ماذا سنفعل؟" عملية أسهل على التناول. خلال ورشة العمل، شككت في لحظات كثيرة في نفسي. في لحظات معينة أردت العودة إلى ما قلته والتفكير في كل الطرق التي لربما كان ما قلته فيه إشكاليات، لأنني ما زلت أحتفظ بكل تلك الثنائيات في رأسي. كما أوافق شعور نرمين بأن مسألة الثورة الكويرية جاءت صعبة وثقيلة عليّ. ومن نواحٍ كثيرة، شعرتُ أو كنتُ أعيش في حالة بين بين يصعب عليّ شرحها. على سبيل المثال، أعمل بطريقة ما في المجال الأكاديمي، وأحاول النظر في نظرية تفكيك الاستعمار، ولكنني لا أعرف النظرية السائدة بما فيه الكفاية لأنقدها. في حياتي الشخصية، أنا شخص كويري في علاقة عاطفية متعدّدة ولكنني متزوجة من شريكة أساسية وهذا لا يبدو كويريًا للكثير من الناس. لذلك، غالبًا ما أتساءل إن كنت كويرية بما فيه الكفاية فعلاً. كنت أخبر كوثر أنني لربما أضيف سمة كويرية إلى الزواج. لدي شعور يؤكد مجرد وجودي، ومشاركتي بشكل نقدي ومؤثر في النظريات والقصص المؤدية إلى كسر الثنائيات قليلاً والتساؤل حول كيفية جعلها جزءًا منّي. هذه المساحة مساحة كويرية نسوية لأننا نسأل أنفسنا هذا السؤال على الدوام ونقرّ باستمرار بالقلق والتوترات بين التضامن والذاتية. هذه هي النقاشات التي يجب أن نستمر بالقيام بها. ولكنها موجودة أيضًا ضمن الديمومات والنزوح والانفصال والتجزّؤ. وإذا اختزلنا العالم، أعتقد أن كلّ عنفه ناجم عن كون بناه متصلّبة للغاية، لذلك لا بدّ من اتاحة المجال لحالة البين بين. لعلّ هذا الموقع هو الموقع الذي اختارته الأفكار الكويرية النسوية لنفسها. أنا ممتنّة لكلّ واحد منكم/ن لقيامكم/ن بذلك، ولسماحكم/ن لي برؤيتكم/ن في وقت باتت فيه رؤية أحدهم/ن أمرًا ثقيلًا، حيث أننا في الحقيقة غير مرئيين/ات.
آية:
لم أعتقد يومًا أن وجود هذه المساحة أو حتى أنّ تكرارها ممكن. فبعض تجاربي المعيّنة في الحياة موجودة في ديمومتها الخاصة ومساحتها الخاصة في حيّز منفصلٍ عن الحياة اليومية. بعضها ثورات، وأخرى ورش عمل مثل هذه. إنتاج الأرشفة ناجم عن الإحساس بأن الكثير من اللحظات تكون خاطفة، حيث تهرب منّا أيضًا مساحاتنا وتتجسد مجتمعاتنا في الشتات. لذلك، نشعر بهذه الحاجة لما هو ملموس. تصالحتُ مع فكرة الحركة وفكرة التوق. منذ فترة طويلة توقفت عن مناقشة الناس – إذ يبدو لي ذلك جهدًا غير ضروري. حين تناقشون أحدهم/ن، يكون الهدف إثبات وجهة نظركم/ن. لذلك نسيت ما يعني أن نقيم نقاشًا منتجًا وليس مشاجرة، وأن نتمكن من فهم مصادر قلق بعضنا البعض وتأكيد وجود بعضنا البعض ومدى الإنتاجية التي يعكسها ذلك. أحبّ الكتابة، لذلك، فإنّ تمكّني من قراءة نصوصكم/ن ومن ثم التحدّث إليكم/ن امتياز رائع. أشعر وكأنني وجدت منجمًا للذهب. وهذا من الأشياء التي لا أريدها أن تختفي أبدًا، وهذه اللحظة من اللحظات التي أريد استعادتها حين تسوء الأمور. ما قاله أحمد عن استعادة السحر – ولا أقصد هنا إحباط أحد ولكن لا أتذكر يومًا أنني صادفت السحر. أذكر أنني أردت نفسي أو أردت رؤية الآخرين يتمتعون بهذا التوق، ولكن ضمن المساحة المجتمعية التي أنشأناها خارج حيّز الحياة اليومية، تمكنّا من الاستحواذ على بعض من ذاك السحر. ما الذي تغيّر بالنسبة لي وبالنسبة للمجموعة؟ أعتقد أننا جميعًا نشعر براحة أكبر خارج المساحة أو مثل المخادعين/المخادعات. باتت المسألة اليوم أقرب إلى "ربما لا يجب أن يتواجد أيٌ منّا هنا، أو ربما يجب أن نكون جميعنا هنا". إحدى أولى النصائح التي أُعطيت لي كانت، "أريد أن أستمع لك أكثر". فنحن نمحي أنفسنا حتى في ما ننتج. أعتقد أننا جميعًا مدرَّبون/ات على القيام بذلك، وقيامنا بالكتابة للعودة إلى سرديّاتنا كان رائعًا. أصبحنا أكثر تيقّنًا من احباطاتنا لأننا شهدناها تتقلّب يمنة ويسارًا – ومدى انزعاجنا من الأكاديميا البيضاء وحين يقول أحدهم/ن "الجميع إذًا منزعج من الأكاديميا البيضاء؟!" أنا الأصغر سنًا هنا، لذلك ربما لستُ محبطة إلى الحد الذي يشعر به الآخرون بالإحباط. أحيانًا أشعر أن الأكاديميا فيها عنصر عقابي، أي أنني اضطررت إلى دراسة أولئك الأشخاص وأنتم/ن أيضًا، فقط لأتمكن من برهنة أننا جميعًا قادرون/ات على القيام بذلك، مثل صدمة جيلنا. لذلك من الرائع أن نشهد أنفسنا نتناول مواقفنا الدفاعية لأننا نقدّم أنفسنا مع كل هؤلاء الناس البيض حين لا نقوم بذلك. أجد فكرة البنية الكويرية فكرة مثيرة للاهتمام. وّلطالما اعتبرت أن الأكاديميا واهتماماتي الفكرية منفصلان إلى حدٍ كبير عن شعري. فالمساحة حيث نكون ضعفاء/ضعيفات بما فيه الكفاية لنبكي أو لنتشارك الكتابات الشخصية جدًا ولتحويل المساحة وأيضًا البنية إلى مساحة وبنية كويرية، هي أيضًا تجسيد لنا ولترابطنا بهذه التجربة. ما تغيّر بالنسبة لي شخصيًا أو بالنسبة لنصّي هو الإحساس بوجود هدف وفرح كويري. ما الذي تعنيه الأفكار النسوية الكويرية الآن؟ لا أعلم إن كنت قادرة على الإجابة عن هذا السؤال لأنني لا أعلم ما كانت تعني لي حين جئت إلى هنا. ولكن هذه المساحة هي حتمًا ما تبدو لي هذه الأفكار. لذلك، أشكركم/ن لجعل ذلك ممكنًا ولإحداث هذا السحر.