زمن الفزّاعة

السيرة: 

إ. أيريم آز هي شاعرة وكاتبة وعالمة أنثروبولوجيا تتدرب في جامعة كولومبيا. بينما يتركز عملها الأكاديمي على تقاطعات الجسد والعمل واستخراج الموارد الطبيعية، تدور كتاباتها في جميع الأنواع حول الاسمنت، العمل الحسي من أجل البقاء. هي مؤلفة كتاب الشعر (إثنوغرافيا) في اللغة التركية، sade yaşadığımız [عيشنا المطلق] (ملاحظات المحرر/ة، 2020). تعيش وتعمل في اسطنبول ونيويورك.

اقتباس: 
إ. أيريم آز. "زمن الفزّاعة". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 6 عدد 3 (18 ديسمبر 2020): ص. 391-393. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 21 ديسمبر 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/270.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (391.01 كيلوبايت)

theod1_copy.jpg

نجمة تنثر جلدها

تيو لوك

*حازت هذه القصة على جائزة المقاومة عبر الخيال في المسابقة الـ 15 لكاوس للمثليين والمثليات (KAOS GL) للقصص القصيرة من النساء إلى النساء، في أيار/مايو 2020. وكُتبت اصلًا باللغة التركية.

 

نسير من دون أن نحاول تسمية ألوان الغروب. بمقدورنا فقط أن نؤكّد جمالها الخالص مستعينات بنظرات متبادلة. سيظهر حوض سباحة فارغ على الطريق، هكذا بشكل مباغت. نركض نحو الحوض، ومن ثم نبطئ الخطى إذ نقترب منه، ثم ننزل إليه بحذر شديد. لم نكن ننوي الوصول إلى نهاية حزينة. نحن هنا لنعيش. على الأقل هذا ما نشعر به الآن. لا نقوى على قوله لبعضنا، ليس بعد. لا ماء في الحوض. نملؤه بينما نسبح ونتضاجع. وبينما كنّا نملؤه بالمتعة، لم يتمكّن عابر السبيل من رؤيتنا. لم يكن لديهم الشجاعة للقدوم وإقلاق ما لا يمكنهم رؤيته.

ستتراقص الشمس دائمًأ مع الريح، ذهابًا وإيابًا، لكنها لن تغيب لأيام. ملأنا الحوض متعة بعد وقت عجزنا عن حسبانه. سنتركه للذين/اللواتي سيكتشوفنه بعد رحيلنا. لم نحزن لأننا عرفنا كيف نتذوّقه. باستطاعة المرء تجنّب الرحيل إلى أن يأتي الموت. سنبدأ بالمشي بعضلات ضعيفة وجسم مبلّل. سعادة الحياة تذكّرنا بحتمية موت أمّهاتنا. كانت لكلتينا أشياء نريد أن نقولها لهنّ قبل أن نقولها لبعضنا. سأزور تربة (مدفن) امرأتين قبل أن أتكلّم مع أمّي. في الفترات البزنطية، رُجمتا حتى الموت لأنّهما كانتا مغرومتين. يعتقد زوّار تربتهما أنهما أختان. صلّيتُ لهما وطلبت لنفسي القوة. كنت أستمع إلى هذه القصة في مسرحية بالأمس. أعتقد أن حبّهما والرجم كانا حقيقين. لن أسأل "غوغل" إذا ما كانت عظامهما بجانب بعضها البعض.

بعد المشي لفترة قصيرة، تتوقّفين فجأة وتنظرين في عينيّ نظرة اهتمام وخوف. لوكنت تعلمين أنني قبل أن أراك كنت قد حلبت أجبالًا من السموم من نفسي بدم بارد. علم الجينات يتحدث الآن: الحياة القصيرة لابن خالتي ذي الست سنوات، الذي قتلته أمّه بواسطة خرطوم مطاطي رفيع بينما كانت تحمّمه، الخوف الذي كبر مع أبي وهو يختبئ تحت الكنبة ليحتمي من ضرب أبيه المتديّن، الغيرة التي لا زال يشعر بها حيال طفولة أمّي السعيدة، والكثير من الماضي اللا-محكي والحاضر الذي جندرني. هذه ليست نجاة. بإرادتي غدوت الفضيحة، الطفرة، والنقصان. أتساءل إذا بقي لك ما تهتمين به وترعيه. "أنا محظوظة وسعيدة جدّا"، قلت، "كم غريب ورائع أنك تحبيني". إني أتقلّص بينما تتكلّمين، وأنعجن فيك قطعة تلو الأخرى. لفترة طويلة، لن نلاحظ كيف ننعجن بخفة في بعضنا البعض. تعلّمت ألّا أخاف من خلال الأيام الكثيرة التي عرفت فيها أن الشمس لم تشرق أبدًا ولم تغِب. لن أخاف.

في اللحظة التي كادت أن تبكيني من خفّتها، بدأنا نركض من جديد. انضمّ إلينا الآخرون. نحن 5 على الأقل، لكن لا يمكننا أن نكون متأكدين. قد يكنّ نساءً أو قد لا يكنّ أسماكاً ولا طيورا، وقد يكنّ كلّ ذلك وواحدًا. وبينما كنّا نركض معًا، كانت ثقتنا ببعضنا تترسخ أكثر فأكثر. كنّا نحاول أن نصل إلى مكان ما في الوقت المطلوب، لم أكن أعرف أين. انقطع نفَسي تقريبًا، فقفصي الصدري صغير جدًا. نظرتُ إليك لبرهة، كنت أيضًا حمراء ومتعرّقة. الأرض من حولنا كانت قاحلة، ولكنّي متأكدة أنّي رأيت أشجاراً خضراء عملاقة. أستطيع شمّ التراب المحترق من شمس الصيف. ارتادني شعور طاغي، من رائحة الأخضر الليموني المنبعث من الأشجار التي مررنا بجانبها. لا زلت أشمها. سأتمنى أن تقدري على ذلك أيضًا.

عرفت نحو من كنّا نركض في اللحظة التي رأيتها فيها. رأس هامد تحت شجرة أكاسيا تشبه تلك التي تربّيت تحتها. كان شعرها الرمادي الطويل مغبرًا وموبرًا. سنركع أمامها، نبتلع الهواء. نجلس الآن قرب رأسها، الجزء الوحيد من جسمها غير المدفون تحت التراب. كانت عيناها مغمضتان لوقت لا يمكن حسبانه. لكزت برفق خدّها الأيسر بإصبعي، لم تتحرك. ماذا لو لم تفتح عينيها؟ ماذا لو فات الأوان. أردنا أن تأتي إلينا. سأربّت خدّيها، مزيلة طبقات الغبار المتراكم فوقهما، لأوقظها.

بضع محاولات بعد وستفتح عينيها ببطئ، مع وجه حامض. تحيك حاجبيها. تململ وجهها المتجهّم لتسعل. ستفهم، ستفهم أخيرًا أننا وجدناها، قلت لنفسي. شعرت بعينيّ تتوهجان من شدّة ابتسامي. "ماذا تفعلين؟" تصرخ بي فجأة "أغربي عن وجهي". سأنظر إليك مصدومة، لن تكوني متفاجئة. أسمع نفسي أقول لها "نحن الآن هنا، سنخرجك من التراب. لا بدّ أنك تشعرين بالحيرة، حاولي أن تهدأي" كان جوابها مختصرًا ومحبطًا "توبة أستغفرالله!" أنظر إلى الآخرين الذين يركضون معنا، لكنهم يبدون غير متأثرين/ات بردّ فعلها كما يبدو عليك. إما أنه لم يكن لديك فكرة عمّا يجري، أو أنك كنت هنا من قبل، وهذه المرّة ركضت فقط من أجلي. لن أعرف أبدًا.

قالت وهي متجهّمة قليلًا "ماذا تفعلين هنا؟ إرحلي حبًا بالله! أردت أن أُدفَن، حضّرت ذلك بنفسي، وأنوي البقاء هنا!" أنا الآن مرغمة على الفهم. "جسدك الضئيل لا يمكن أن يتصوّر كم قلّل ذلك من عنائي!" كانت تخاطبني. أنا وجسدي النحيل المرتبك. سأفهم في نهاية المطاف. كان إحباطها يتلاشى. حينها رأيت تعاطفًا محذّرًا على وجهها. عرفت أنه بشأن المستقبل. "عزيزتي أنا أستمتع بتقاعدي حتى آخر رمق. مَن أنت لتخرجيني من التراب؟ أنا الفزّاعة، الجذر المومس لهذه الأرض. أنا هنا لأذكّرك أن تحيي! أفضّل ألا تستنفذي ما تبقّى من فرحي، بعدما أصبحت حرّة من كلّ الرجال! بحق الله، إذهبي وعيشي حياتك ولا تعبثي بحياتي!" قبل أن أتدارك نفسي، أغلقت عينينها. أمّا عيناي فانفتحتا. أنت هنا معي. لم تغِب الشمس. علينا أن نبدأ بالسير من جديد. بعد وقت طويل، يترائى لنا حوض فارغ آخر حيث لن يرانا أحد.

ملحوظات: