تواريخ طروسيّة: محادثات واقعيّة ومتخيَّلة عن الكويريّة والأمّهات والذاكرة في مصر

السيرة: 

هند م. هي كاتبة ومترجمة كويرية مصرية. تهوى القطط والقراءة والاسترخاء والأحاديث التي تدور حول الهشاشة والرقة من بين أشياءأخرى. هند هو اسم مستعار.

اقتباس: 
هند م.. "تواريخ طروسيّة: محادثات واقعيّة ومتخيَّلة عن الكويريّة والأمّهات والذاكرة في مصر". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 6 عدد 3 (16 ديسمبر 2020): ص. 311-323. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 25 أبريل 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/node/259.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (656.98 كيلوبايت)
ترجمة: 

باحثة ومترجمة واستشارية. يتركّز عملها البحثي في الثقافة والفنون وهي متخصّصة في الفنون العربيّة المعاصرة. يشمل عملها البحثي مجالات عدّة منها العمالة الثقافيّة والفنيّة المجندرة. عملت سابقًا كمديرة مساعدة في مركز بيروت للفن وشاركت في تقييم عدد من المعارض الفنيّة. هي أيضًا مؤسّسة مشاركة في "الأركيلوغ" منصّة إلكترونيّة للترجمة والنشر بشكل جماعيّ.

theob1.jpg

 صديقتي م بصحبة الحبّ الذي تستحق قرب البركة

ثيو لوك

مُهدى إلى سارة حجازي.
لم نلتقِ، ولكن ذكراكِ ووجودكِ محفوران في وجداني ووجدان كثيرين لا حصر لهم. أتمنّى أن تكوني قد وجدتِ الوطن أخيرًا.

 

زرعت هذا الشارع بخطاي، شارعي، مرّات لا تُعدّ. صفّا الأشجار على الجانبين يلقيان ظلالًا مستطيلة على امتداد الأسفلت. هو شارعي ولكنّه بلا اسم، أو بلا اسم يُذكر فأنا لا أستطيع البوح بمكان سكني. لا الشارع ولا الحي ولا المدينة. وهذا يضايقني. فالأسماء مهمّة بالنسبة لي لأنها ترسّخ وجودي في سياقات مكانيّة وزمانيّة تمتدّ خارج الفقاعة التي أعيش فيها. ولكّن حماية هذه الفقاعة الآن هو أولويّتي.

باستثناء بعض الوقائع البارزة التي شكّلت القاهرة مسرحًا لها مثل قضيّة "كوين بوت" وحفلة "مشروع ليلى" في العام 2017 (المعروفة أيضًا بقضيّة علم الرينبو)، فإن التاريخ الكويري في مصر لا يُكتب سوى في العتمة: في زوايا المقاهي الساكنة أو في الحفلات الخاصة أو على حلبات الرقص الصاخبة – قصص تقبع خلف الأبواب الموصدة. وليس هذا مستغربًا في ظلّ نظام ديكتاتوري عسكري يحتقر الكويريّة علنًا. لذا، ونظرًا للضرورة وللحاجة الملحّة للحماية من أجل الاستمرار في العيش، فإنّ عليّ أن أستغني عن رواية التفاصيل التي تجعلنا نحن وعن ذكر الأسماء التي ينادينا بها أحبّاؤنا على سبيل الألفة والتحبّب والحميميّة. هنا يتّحد الواقع مع الخيال في سبيل كتابة تاريخ غير محدَّد المعالم نابع من امتزاج الخوف بالأمل.

لقد ابتكرت الروائيّة الأميركيّة السوداء توني موريسون مفهوم "جبر الذاكرة" للدلالة على أداة سرديّة تستند إلى الذاكرة كبديل عن التاريخ المدوَّن الذي لا يعوَّل عليه في النفاذ إلى الخصوصيّة الثقافيّة التي تنشدها. ويستدعي جبر الذاكرة "الاستحضار والتذكّر بمعنى إعادة تجميع أعضاء جسم وعائلة وسكّان الماضي" (2019).1

أتوقّف لبرهة وآخذ نفسًا عميقًا وأنا أهمّ بالدخول إلى باحة الاستقبال الباردة في مدخل بنايتي. أعود إلى مفهوم موريسون عن جبر الذاكرة لأعيد بناء أحد مشاهد الماضي الذي حدث في هذه الباحة بالذات: كان الطقس أشدّ حرارة ورطوبة ممّا هو اليوم. أدفع بوّابة الحديد المزدوجة الضخمة وأسحب شريكتي نادين* خلفي. أسمع صرير الباب وهو يقفل خلفنا فألقي نظرة فاحصة على المكان كالمعتاد قبل أن أسترق قبلة. تقبّلني هي، شفتاها تتريّثان فوق شفتيّ. أبتسم في عتمة المدخل الآمنة. ولكنّ هذه نصف الحقيقة، كما هو باقي الأحداث في هذا النص.

عندما نصل إلى الطابق العلوي، تفتح نادين لي الباب. أمسك بالقطّة وهي تهمّ بالتسلّل إلى الخارج. أعيد سلسلة الأفكار التي راودتني في تلك الباحة – القديم منها والجديد والمتخيَّل – فيما تغلي نادين الماء لصنع لشاي.

"إنّه لشيء محبط"، أواصل حديثي وأنا أنحني لأهرش أذن قطّتي. "انعدام التخصيص وندرة الأسماء في الأعمال الكويريّة العربيّة. أعلم أن الأمان يأتي بالدرجة الأولى، ولكنّني كنت أتمنّى لو لم أكن مضطرّة إلى اللجوء إلى الخيال لملء الفراغات، أتفهمينني؟"

"لماذا تتكلّمين عن الخيال وكأنّه أمر ثانويّ؟"، تسأل نادين. "أذكر أنّني قرأت كتابًا لكاثي ويكس.. لا يحضرني العنوان في هذه اللحظة. لا مهلًا! نعم، عنوانه "The Problem with Work" (المشكلة في العمل). فيه كانت تتحدّث عن أهميّة "التجاوز" أو بمعنى آخر الخيال في مقاربة العلاقة بين التاريخانيّة والراهنويّة والمستقبلانيّة".

"لا أقول إنّه غير مهمّ. هل تعرفين كيف يطالب الناس بالصورة كدليل على وقوع حدث ما؟ أحيانًا أشعر أنّني بحاجة إلى شيء من التوثيق كدليل، أتفهمينني؟"

"يخيّل إليّ أنّك تتحدثين عن التاريخ والتوثيق بالمعنى التقليدي، شيء ملموس.."

"نعم! شيء يستطيع أطفالي أن يرجعوا إليه ويطّلعوا عليه، أتفهمينني؟ هذا إن أنجبتهم!" أضحك.

"أتفهّم هذه المطالبة في أن نمتلك دليلاً حسّيًّا على وجودنا نحن كأشخاص كويريّين.. نتحدّث عن الكويريّة هنا، صح؟"

"ما أثار هذه المحادثة هو تخيّلنا نتبادل القبل في الباحة في الأسفل. لا يمكننا فعل ذلك. ستكون مخاطرة كبيرة. وهذا ما جعلني أفكّر في الكويريّة كشيء خفي وغير مرئي. إنها هنا، موجودة، ولكنّها بعيدة عن العين وعصيّة على اللمس أو الشمّ".

"الشمّ؟"

"تعرفين مقصدي".

"نعم، أفكّر في ذلك أحيانًا. هو أشبه بالصدمة التي اعترتني عندما علمت بوفاة تلك البروفسورة الأكبر سنًّا، ومن ثمّ علمت أن لها شريكة، امرأة. وكأنّ لا وجود للنساء الكويريّات الأكبر سنًّا. وكأنّ الكويريّة أمر يافع وصغير وغير ناضج. وكأنّها مجرّد مرحلة ستخرجين منها عندما تبلغين الثلاثين أو الأربعين"، تضحك نادين.

"هذا بالضبط ما أعنيه. أشعر أحيانًا أن شيئًا لم يحدث إن لم أنشره على وسائل التواصل الاجتماعي".

"ولكنّني لا أشير إلى التوثيق بالمعنى الماديّ. أقصد شيئًا أشبه بالتوثيق بمعنى الوجود، لا على طريقة المجاهرة والتباهي. تعرفينني أنا شخص هادئ".

"مثليّة هادئة". نضحك.

"نعم، مثليّة هادئة، أعني التوثيق بمعنى أن نحيا في النور. أن نجاهر بوجودنا. لا بالمعنى التقليدي للخروج من الخزانة. فقط أن يكون لدينا الخيار في ألّا نمارس الرقابة الذاتيّة أو نخفي بعض المعلومات عن أنفسنا".

"يذكّرني هذا بحفلة مشروع ليلى الشهيرة التي حضرناها في العام 2017. ما يدعوني للتساؤل، ما مدى أهميّة التاريخ الكويري بالنسبة إليكِ؟ أعني مثلًا "كوين بوت" أو "مشروع ليلى" أو مداهمات "قضية الحمّام". هل تشعرين بأنها تخصّك؟ أنّها تمثّلك أو لا؟"

"في الغالب، أشعر بالانفصال عن الأحداث حتّى تلك التي شهدتها بعيني أو التي أخبرني عنها أصدقاء ومعارف ممّن كانوا حاضرين خلال وقوعها".

"لماذا؟"

"لا أعرف كيف أكوّن علاقة الخصوصيّة مع هذه الأحداث. ثمّة شعور بالانفصال عن هذا الخط الزمني، إذ أجدني أقدَر على التعرّف على المشاعر التي اعترتني في لحظة ما. تاريخ خوفي على سبيل المثال. إن طريقتي في تتبّع تاريخي الشخصي ككويريّة تعيش في مصر تختلف كلّ الاختلاف عن السرديّات الكبيرة. ولعلّ ذلك يرجع إلى أسباب ودوافع تخصّني. وأشعر بأنّ علاقة الآخرين مع تلك الأحداث، أعني الناشطين/ات ممّن هم/ن على اتّصال مباشر مع التطوّرات على الأرض مثلًا، قد تختلف عنّي. وقد أكون مهتمّة بالاستماع إلى القصص عن الحياة ما قبل حادثة "كوين بوت" أو ما قبل مداهمات الحمّام ولكنّني لا أشعر أنّها تعنيني مباشرة. الأمر أشبه بأنّ يحدّثني شخص ما عن أحداث الثورة في القاهرة. وأنا لست من القاهرة ولم أكن من ساكنيها أيّام الثورة".

"عندما قرأت ورقة سحر عامر البحثيّة عن المثليّات في القرون الوسطى وعن قصّة الهِندَين، قلت لنفسي، طيب، هذا شيء من الموروث يمكنني أن أعتبره تاريخي. هذا ما أعنيه عندما أقول إنّه يخصّني. تاريخ غير "مستورَد" من الغرب. شيء أقرب إلى عربيّتي أو إلى هذه المنطقة. إذًا فعندما أتكلّم عن الخصوصيّة فإن المقصود شيء يمكنني أن أتماهى أكثر معه. وطبعًا هذا بالإضافة إلى التاريخ الشخصيّ لكل فرد. فأنا هنا أتكلّم عن التاريخ الجماعي الذي نمرّره ونورّثه إلى الأجيال اللاحقة"، قلت.

"أجد صعوبة في إدراك ماهيّة التاريخ في هذا السياق. يخيّل إليّ أنّه مليئ بالفجوات ومجزّأ وغير موجود. فإمّا أن نتّخذ التاريخ الكويري في مصر كتسلسل من الأحداث المرتبطة بالملاحقات الأمنيّة لأفراد مجتمعنا أو أن نوجد تاريخًا مبنيًّا على قراءة ما بين السطور وفرض تحليلات كويريّة لبعض الأحداث. هنالك الكثير من الأحداث المفقودة، ما يكبّل علاقتي مع هذا التاريخ. فهو غير محسوس. يتسلّل من بين أصابعنا وكأنه لم يكن. إن رحلتُ غدًا لن يكون هناك أي سجلّ يدلّ على وجودي كشخص كويري"، تضيف نادين وهي تسكب الماء المغلي فوق أكياس الشاي وتناولني الفنجان.

وتتابع: "لا أقول إن التوثيق ضروري بل إن هناك الكثير من الأمور التي نجهلها بسبب حرصنا على محو آثارنا واتّباع تدابير الحماية خوفًا على أنفسنا من الملاحقة. أعلم أنّنا في طور التحوّل. هناك من يكتبون أشياء لم تكن متاحة قبل عشر سنوات، بل قبل ثلاث سنوات. وهنالك موجة من التوثيق لما يحدث. ولكنّني أشعر أنّني قد تجاوزت هذه اللحظة. التوثيق لم يكن متاحًا عندما كنّا بأمسّ الحاجة إليه".

"أفهم ما تقولين ولكنّني لا زلت أشعر بالحاجة إلى التوثيق أحيانًا. كأن يكون لدينا دليل أو أرشيف. شيء يمكننا الرجوع إليه بطريقة ما. وسيلة لتعيين كويريّة في سياق من الزمان والمكان. بالتأكيد لا أتصّوره أرشيفًا من الأراشيف التقليديّة المكلّفة من الدولة، بل هو أشبه بتلك الورقة التي أرسلتِها لي والتي تتحدّث عن فوضويّة الأرشيفات الكويريّة".

"لا أذكر".

"مهلًا، سأبحث عنها". أُخرج كومبيوتري المحمول من حقيبتي. يطنّ إيذانًا بالعودة التدريجيّة إلى الحياة. أنقّل نظري سريعًا بين الملفّات المتناثرة على سطح المكتب المكتظّ حّتى أجده. عنوانه: " The ‘Stuff ‘of Archives: Mess, Migration, and Queer Lives "("مادّة" الأرشيف: الفوضى والهجرة والحيوات الكويريّة) لمارتن ف. مانالنسان الرابع. أرى أنّني قد ظلّلت النص كاملًا". أضحك.

"العنوان مألوف. ما هي المقاطع التي ظلّلتِها؟"

"قلت لك، كلّ النص تقريبًا! لكن مهلًا، سأقرأ لك هذا المقطع، أعتقد أنّه على صلة بما كنت أريد قوله:

"إنّ الأرشيف النموذجي هو ذاك الذي يتولّى تنظيم فوضى الذاكرة. ولكن ما الذي يحدث عندما يصبح اللاتنظيم والفوضى عناصر مكوّنة للفضاء الأرشيفي؟ ما الذي يحدث عندما تُستبدَل الفهارس الممنهجة بتدابير مرتجَلة ومؤقّتة تتأرجح على شفير الأناركيّة فترسّخ الأخيرة "اللانظام"؟ أي قيمة تُلحَق بالأشخاص والأشياء القابعة في الفوضى واللانظام وما السبيل إلى إعادة تأطيرهم بصورة ديناميكيّة تتيح التفكير بشكل أعمّ بالأفعال والتطلّعات والمواقف السياسيّة؟" (102-103)

إذًا يتحدّث الكاتب في هذه الورقة عن كويريّة مفهوم الأرشيف. وتتمحور هذه الورقة البحثيّة بالأساس حول تحديد موضع لأرشيف المهاجرين/ات الكويريّين/ات، لكنّني أرى متّسعًا لتطبيق الكثير من هذه الأفكار على مقياس أشمل. ولعلّها تنطبق أيضًا على سياقنا نحن. خذي هذا المقطع مثلًا:

 "تتردّد أصداء مهمّة الإفساد والتشويش هذه في أنواع الدراسات الكويريّة التي تشدّد على إعادة المركزة والإقرار بالممارسات والمواقف والظروف المنحرفة عن المسار الاعتيادي أو المقاوِمة له والمتعارِضة معه. وبعيدًا عن تمجيد هذا الانحراف أو التعارض، فإنّ هدفي هو تحديد مواضع الابتئاس والتنافر والشغب كتجارب ضروريّة ونابعة من صميم الواقع الكويري المُعاش لا كفعل بطولي لأشخاص استثنائيّين". (97-98)

"نعم، تعجبني هذه الفكرة. فحيواتنا شديدة الفوضى، ألا تعتقدين ذلك؟" تسألني نادين ضاحكة. "لا أعرف كيف يمكن تصوّر هكذا نوع من الأرشيف، ولكنّني أحبّ فكرة التشويش على "الاعتياديّة". كلّما عمّت الفوضى كلّما كان التاريخ أكثر تفتّتًا كلّما كان ذلك أفضل".

يرنّ جرس الباب فتندفع نحوه القطّتان.

"آه! نسيت أنّنا في انتظار بعض الزوّار"، قلت وأنا احاول أن أهشّ القطّتين بعيدًا عن باب المدخل. إنّها سارة*. بعد السلام والأحضان تنضمّ إلينا في المطبخ. أنهض لأعدّ لها الشاي فيما تتناول نادين علبة من الكعك المحلّى من على المنضدة. نتحدّث عن الأحوال. تقع عينا سارة على الوثيقة المفتوحة على شاشة الكومبيوتر.

"أووو. ماذا تقرآن؟"، تسأل.

"هه. أوشكت على الانتهاء. كنت أقرأ بعضًا لنادين. كنّا نتحدّث عن التاريخ الكويري والتوثيق وكويريّة الأرشيف".

"يا سلام. نقاش عميق. أمر مضحك. لا لا أقصد أنّه مضحك. لقد كنت أتحدّث إلى شقيقتي عن حادثة إطلاق النار في أورلندو ذاك النهار".

"في أي سياق؟"، تسأل نادين.

"أظنّ أنّه جاء في معر ض الحديث عن أمّي وردّة فعلها تجاه ما حدث. كانت مستفزّة جدًّا. فقد كان جوابها نعم، لقد أطلقوا النار على ملهىً ليليّ. قلت لها، أجل وقد مات الكثير من الناس. فقالت: "لا بأس فجميعهم مثليّون". شعرت بالاستياء الشديد، وقد أدركَت ذلك فاستدركت وقالت إنّها كانت تمازحني، فكان جوابي أن الموضوع لا يحتمل المزاح. طبعًا أفهم موقف أمّي وحس الدعابة لديها ولكن الموضوع حسّاس جدًّا بالنسبة إليّ"، تتنهّد سارة.

"أفهمك. أعتقد أن الكثيرين/ات منّا قد تعرضوا/ن للاستفزاز في ذلك اليوم. أذكر أننّي كنت أخبر معالجي النفسي كيف أن الحدث بدا بالنسبة إليّ وكأن جانبين مهمّين من شخصيّتي يتصارعان في العلن، كويريّتي وديني. أظنّ أنني رحت أبكي في لحظة ما فسألتني أمّي عن السبب ولكنّني عجزت عن إخبارها. هي تعلم أنني كويريّة وتعرف عن نادين ولكنّها لا تزال في حال من النكران"، أقول.

"أنا كذلك."، تقول سارة. "هي لا تريدني أن أعلن لها عن كويريّتي. لا تريد أن تتعامل مع الموضوع. تعرف ولكنّها لا تريد أن تعرف. لطالما أدّت شقيقتي دور الوسيط بيننا، تسألها عنّي، عمّا إذا كنت أنوي الزواج على الإطلاق. ولم أعلن عن كويريّتي لشقيقتي هي الأخرى، ولكنّها تعرف وتحاول قدر الإمكان تجنّب السؤال. تجيبها شقيقتي، "لا أدري، اسأليها". وهي تعرف أيضًا أن أمّي لن تسألني".

يرنّ جرس الباب مجدّدًا، فتدخل ضيفتانا الأخيرتان مروة* وتارا*. سلامات وأحضان. المزيد من الماء في الغلّاية. مزيد من الفناجين. نتنقل إلى غرفة المعيشة حيث يوجد متّسع لنا جميعًا. ساعة إلى المغرب. تتسلّل أشعّة النور الذهبيّة عبر ثقوب الستائر المصنوعة من الكروشيه، فتلقي ظلالًا تشبه المعيّنات على وجوهنا وأجسامنا.

نطلعهما على موضوع حديثنا فتتذمّر تارا. لم تكلّم والدتها منذ أشهر عدّة.

"أتمنّى لو كان في وسعي الاعتراف لأمّي بأنّي شاملة الميول الجنسيّة وعابرة"، تتوقّف برهة لتسدل شعرها المعقود على شكل ذيل حصان. "ولكنّني لا أظن أنّني سأتمكّن من ذلك قبل أن أعبر تمامًا. عندها سيتحتّم عليها أن تتعامل مع الواقع".

"يا ليت.. لا أدري"، صمتتُ قليلًا لأرتّب أفكاري وأجرع ما تبقى من الشاي في فنجاني. "تعلمن أن شقيقتي الصغرى تزوّجت مؤخّرًا. أحبّها وأعتبرها واحدة من أعزّ صديقاتي. ولكنّني شعرت ببعض الغيرة. لقد عاونتها أمّي في إعداد كل التفاصيل، وأحضر الجميع الهدايا لمنزلهما. أعلم أنّ كلامي فيه بعض من الأنانيّة ولكنّني كنت أتمنّى لو أنّني، لو أنّنا"، أتابع وأنا ألتفت إلى نادين، "لو أنّنا استطعنا أن نحتفل بالطريقة عينها. كان علينا أن نقوم بكلّ شيء بمفردنا. من المحزن والمحبط ألّا يكون في وسعي اللجوء إلى والدتي للمساعدة كلّما احتجت إلى ذلك"، أقول.

تقول مروة: "صحيح. لقد منعني والداي تقريبًا من الدخول في علاقات عاطفيّة لذا لا أستطيع أن ألجأ إليهما. فعلت ذلك مرّة واحدة، المرّة الأولى وكنت حينها على علاقة برجل وكانت كارثيًّة".

"أنا أيضًا"، تردّد سارة. "طوال الوقت. لطالما شعرت بهذا الحائل بيني وبين والديّ. لم يكن في وسعي أن أطلب المساعدة لأنّني كنت واثقة من أنّني سأقع في المحظور. عندما كنت صغيرة جدًّا كنت أطرح الكثير من الأسئلة المحيّرة، وكان والداي يرفضان بشكل قاطع الإجابة عن تساؤلاتي. لننهي هذه السيرة، إلينا بالكذبة، فلننظّف كلّ شيء ولنزِل كل أثر الآن، ولنتوقّف عن الكلام. هكذا تحوّلت إلى شخص خجول وانطوائيّ. وقد تعمّدت ألّا أستعين بوالدتي في الكثير من المواقف خوفًا من أن أستثير ردّة فعل معاكسة لا أحسن التعامل معها والتجأت إلى شقيقتي".

"أنا أيضًا. في إمكاني أن أصارح شقيقتي إلى حدّ ما، ولكن ما أصعب أن تضطرّي إلى مواجهة المجتمع في غياب الدعم العائلي"، تقول تارا، "ولا سيّما عندما تكونين عابرة وشاملة الميول. لكان الوضع مختلفًا لو لم أكن كذلك بالأخصّ مع علاج الهرمونات. عندما بدأ حجم ثديي يزداد قليلًا، أو عندما أنهيت جلسات إزالة الشعر بالليزر. ولا ننسى المخاوف الصحيّة المتّصلة بالعلاج الهرموني. إنّها مرحلة مرهقة على الصعيدين الجسدي والعاطفي. وغياب الأهل يفاقم من وطأة هذه المصاعب. يُشعرني بأنّني وحيدة في مواجهة المجتمع، لا سيّما وأنا أحاول العبور وتجنّب أذاه في الوقت عينه. كم هي مرعبة هذه التجربة وأنتِ بمفردِك. حتّى عندما نتواصل. لقد توقّفت عن التواصل اليومي معهم لأنّني صرت أشعر بالزيف والرياء".

"أعتقد أنّني قد تعوّدت على عدم الإفصاح عن كويريّتي وعن علاقتي بوالدتي،" تقول نادين. "لقد بات حذف المعلومات والتفاصيل جزءًا من شخصيّتي. أتحدّث عن بعض التفاصيل، لكن أخفى المسائل الأكبر. ربّما لم أشعر بأنّني أخفي أمرًا عنها لأنّ علاقتنا لم تكن مقرّبة قطّ. لا شيء مشترك بيننا، ولكنّني أشعر أن الوضع قد بدأ يتغيّر قليلًا مع تقدّم العمر. فالأمر يختلف عندما تبلغين الثلاثين أو الأربعين. لا شكّ أن استكشاف الذات واستقلاليّة العيش بمفردِك أو مع صديقاتِك يندرجان في إطار الإنجازات عند سنّ معيّن، ولكن بعد ذلك تشتدّ وطأة الكتمان. وتساهم نظرة الناس إليكِ في استفحال هذا الشعور. أذكر مثلًا عندما قالت لي زوجة أخي أنّني أعاني من الصدمة من علاقة والديّ ببعضهما البعض وأن هذه الصدمة هي سبب عزوفي عن الزواج. والداي مطلّقان. ونعم لديّ تحفّظات على مؤسّسة الزواج وإنّما لا أرفض الالتزام. وهكذا قوبلت بالعديد من الفرضيّات عندما اصطحبت هند باعتبارها "صديقتي" إلى عشاء عائلي، وقد تساءل الجميع لم قد أحضر صديقتي معي؟ صرت أتعب أكثر فأكثر من الكذب وإخفاء التفاصيل وتحريف الحقائق. تلك التفاصيل التافهة كأن يسألكِ شخص عن سبب شعوركِ بالضيق فتعجزين عن إخباره بأنّكِ قد تخاصمتِ مع شريكتِك. وحتّى لو كنتُ قادرة على ذلك، فكما قلت سابقًا علاقتي بوالدتي سطحيّة ولا تحتمل هذا النوع من الإفصاح".

"أتعلمن ما المضحك؟ لا أقصد مضحك بمعنى مضحك"، أبتسم وأنا أنظر إلى سارة. "كنت أتصفّح كتاب Zami  لأودري لورد أمس، وكعادتي قفزت بضعة فصول حتّى وصلت إلى الخاتمة، وفيها قرأت سطرًا لا يزال عالقًا في رأسي ويحرّك مخّيلتي. مهلًا لأحضر الكتاب". أعود في يدي الكتاب، أقلّب صفحاته حتّى النهاية. "ها هو: تقول: هناك [تتحدّث عن موطن أمّها] يقولون إنّ الرغبة بمضاجعة النساء الأخريات هو غريزة تجري في عروق الأمّ. (256). صرت أفكّر. أغلب أمّهاتنا إمّا لا يعلمن بحقيقة كويريّتنا أو ينكرنها، ولكن ماذا لو أنّنا ورثناها عنهن؟"

"كويريّتنا؟"، تسأل نادين.

"نعم، أعني منهنّ أو من فرد آخر في العائلة. لست هنا في صدد الحديث عن ثنائيّة الطبيعة والتنشئة، ولكن هل أنا الوحيدة التي تطرح هذا النوع من التساؤلات؟ أبحث عن دلائل في تاريخي العائلي لأعرف من أكون؟ أعتقد أن سؤالي هو من أين أتينا بكويريّتنا؟"

"هممم، سؤال مثير"، تبادرني مروة. "في رأيي أن الأمر معقّد إذ يُخيَّل إليّ أحيانًا أنّه لو قُدِّر لكلا والديّ أن يستكشفا نفسيهما لكانا في مكان ما على طيف الكويريّة".

"فعلًا، في مرّة كنت أخبر صديقتي قصّة عن أمّي فكان جوابها، ربّما والدتك كويريّة"، تقول نادين.

"أمر مثير بالفعل. فلطالما شعرت أنّ كويريّتي تنحدر من نسب أموميّ وثيق يعود بحسب معرفتي إلى جدّتي لأمّي. سمعت أنّها كانت قويّة الشخصيّة. لا أقول إن ذلك يدلّ على أيّ شيء ولكنّني أعلم أنّها كانت ترفض المعايير الجندريّة. كما أن دورها وعلاقتها بجدّي لم يكونا متوافقين مع المعياريّة الغيريّة. ولا أقول إنّها كانت مثليّة أو كانت لتكون مثليّة ولكنّني فكّرت في هذا الاحتمال كثيرًا. إن كان هنالك من ورثت عنه هذا الشيء فسيكون هي. والدتي وخالتي أيضًا إلى حدّ ما. وابنة خالتي"، تتابع مروة مستغرقة في التفكير.

"بعيدًا عن التصنيف التقليدي الغربي للجنسانيّة، لا شكّ أن الكويريّة كانت دائمًا موجودة وإن تعدّدت أشكالها وتمظهراتها عبر السنين. عند مرحلة معيّنة كانت أمّي تخبرني أن كويريّتي التي ظننتها جزءًا من اضطراب الوسواس القهري لديّ هي أمر عادي. كما أذكر أنّه كان ثمّة التباس أو غموض حول علاقة جدّتي بصديقاتها المقرّبات، هذا النوع من الالتباس الذي يمكن أن يوصف بالكويريّة من المنظور السائد اليوم".

 "بإمكاني أن أميّز بعض السمات الكويريّة لدى والدي والتي أعتقد أنّني ورثتها عنه"، تقول مروة، "كأن يجدني بعض الناس منعزلة وغريبة الأطوار. ارتديت في فترة من حياتي طرازًا ملحوظًا من الأزياء الكويريّة. وفي مرّة وبينما كنت أستعرض صور والدي الفوتوغرافيّة، لاحظت أن هندامه كويري أيضًا. كان يحرص وصديقَه على ارتداء الزي نفسه. صديقُه المقرَّب مثليّ.."

"تعتقدين أنّه مثليّ؟" تسأل تارا.

"لا، بل هو مثليّ. لم يجاهر بمثليّته ولكنّني أعلم، من مصادر. كانا يرتديان أزياء غريبة: بنطلون أبيض ضيّق يتّسع تدريجيًّا من عند الركبة وشارب وقمصان مبرقشة، قمصان رائعة. ليته يرتدي هذا النوع من الأزياء اليوم. هذا في نظري ضرب من الكويريّة".

"قصّة والدك مثيرة للاهتمام فهي تذكّرني بكيف أنسب جنسانيّتي إلى أبي، أقصد زوج أمّي. لطالما كان بمثابة الخروف الضال. نشأت في كنف هذا الرجل الذي بدا لي متبتّلًا. كنت دائمًا أراه كطفل كبير الحجم. مرِح وفكاهي على عكس أمّي الصارمة والمسيطرة على زمام الأمور. لقد كان دبدوبًا كبيرًا بلا ميول جنسيّة. لا أعلم إن كان لذلك صلة بلاجنسانيّتي ولكنّه أذن لي بلا شكّ بألّا أشعر بالحاجة للجنس أو بالغرابة لعدم امتلاكي هذه الرغبة"، تقول سارة.

"يا لها من فكرة. أن نرث سمةً عن أم أو أب غير بيولوجيّين"، أقول.

تضيف سارة: "بالفعل. لعلّ وجوده في حياتي قد ساهم في تطبيع فكرة اللاجنسيّة لدى من يُتوقَّع منه أن يكون ذا ميول جنسيّة. رجل أميركي يقيم في مصر ويتحدّث في كلّ شيء علانية. ولكنّه كان في حياتي بمثابة شخص بلا جنس. كان يلقي النكات الجنسيّة، ولكن كما قلت".

"لا أدري"، تقول نادين. "عندما طرَحت تلك الصديقة فرضيّة أن تكون أمّي كويريّة، أصابني بعض النفور من الفكرة كما لو أنّها ناجمة عن شعور ما بالقنوط. الرغبة الملحّة في اختلاق تاريخ غير موجود. لعلّه شعور بالأنفة والترفّع. أو ربّما لا حاجة عندي إلى التاريخ أو القصص المؤيِّدة. وربّما لأنّني كنت في السابق أبحث عن الكويريّة في اللامنطوق والممحي. السعي لإيجاد أثر للكويريّة في كلّ شيء. لا أريد التأييد عن طريق القصص المختلَقة".

أقول: "ولكنّ القصص الكويريّة مفقودة بفعل عمليّات المحو والقمع المتواصلة، لذا يندفع البعض بحثًا عن الإشارات الكويريّة ما بين السطور".

توافق نادين: "طبعًا من دون شكّ، ولكنّ المسألة في حالتي نابعة من الغضب. من الحاجة للاستقلال. أو لعلّها نابعة من شعور بالمرارة. لا أبالي حتّى بقصص المشاهير أمثال أم كلثوم والشائعات حول كويريّتها. فأنا لست بحاجة إلى هذه القصص من قبيل الدعم والتأييد. وربّما أخشى النزعة إلى التمجيد، أن يأتي شخص بعد عشر سنوات ليسقط على قصّتي تصوّرات رومانسيّة تخدم غاياته الخاصّة".

"أتفهّم الخوف من دون شك"، أجيب. تمرّ لحظة من الصمت نجلس خلالها معًا نمضغ البسكويت الذي أصبح بائتًا.

"تعجبني فكرة توارث الأشياء والخصال عن أمّهاتنا أو أهلنا. فوالدتي لا تعلم بشأني ولكنّها طيّبة القلب وأعتقد أنّني قد ورثت هذا عنها. ماما حنونة وأنا كذلك. لا أقول هذا من باب التباهي وإنّما أقصد أنّني لا أؤذي أحدًا، على عكس أبي. فأنا لا زلت أعاني من انعدام الثقة بالآخرين جرّاء الصدمة التي سبّبها لي. لا أعتمد على أحد وقد استغرقت الكثير من الوقت لبناء دائرتي الصغيرة من الأصدقاء المقرّبين. كان أبي رجلًا قاسيًا جدًّا وقد تسبّب لي بصدمة بالغة. كان يعمد إلى نزع أقفال الحمّام وحشر المناديل الورقيّة في إطار الباب كي لا أمكث فيه طويلًا. وكنت ملزمة بالعودة إلى المنزل في ساعة محدّدة وكان يجبرني على الظهور بمظهر رجالي"، تقول تارا.

 أقول: "هذا ما يدعوني إلى التفكير... لقد عانيتِ كثيرًا ولكنّك تعملين جاهدة كي لا تشبهي أباكِ. أفكّر في كيفيّة تعاملنا مع الصدمات المختلفة وكيف نرث عن آبائنا وأهلنا صدماتهم العالقة وكيف يسعى العديد منّا لكسر هذه الدائرة، التخلّي عن أنماط السلوك المؤذية والتعافي من الصدمات"، أقول.

تضحك سارة. "بالتأكيد. أنظرن إلى علاقتي بوالدتي. أمّي كاذبة قهريّة بسبب عدم رغبتها في إيذاء مشاعر الآخرين. أدرك أنّني أفعل الشيء نفسه في بعض الأحيان وأسعى في كلّ مرّة إلى التغلّب على هذا النوع من السلوك، إلى التخلّي عن هذه الخصلة فيّ وفي والدتي على حد سواء. وفي الوقت عينه، أسعى إلى التصالح مع فكرة أن مهمّة التغلّب على العادات السيّئة قد تستغرق عمرًا كاملًا".

"صحيح، وأذكر أيضًا أنّنا تحدّثنا مرّة عن كيف يلجأ الأهل إلى "تحريف الذاكرة"، أتذكرين يا سارة؟" أسألها وأنا ألتفت إليها.

"نعم"، تضحك.

"ما معنى ذلك؟" تسأل تارا.

تبادر سارة: "الأمر أشبه بأسلوب والدتي في إعادة بناء الأحداث أو تسلسلها لتنقّيها من أي أثر للصدمة أو الألم، تمامًا كما تتعامل مع ذكرياتها عن لحظة ولادتي. عندما ولدتُ أنا، خرج كتفي أوّلًا فما كان من أمّي إلّا أن لكمت الطبيب من شدّة الألم! إذًا لم تكن التجربة ورديّة ورائعة كما يحلو لها أن تتذكّرها وتتحدّث عنها". ننفجر جميعنا بالضحك.

"والدتي طبيبة نسائيّة، ولطالما اعتقدت أنّ الولادة في نظرها هي من اللحظات السحريّة التي يمكن للمرء أن يشهدها. لم تعبّر يومًا عن هذا الشعور، ولكن هكذا يخيّل إليّ"، تقول مروة.

أجيب: "لا شكّ أن الأمر يختلف من شخص إلى آخر، لعلّها فعلًا لحظة سحريّة بالنسبة إلى والدتِك. ولكن على الصعيد الآخر لا زلت أعتقد أن مفهوم تحريف الذاكرة يستدعي بعض التأمّل. أتساءل مثلًا عن مدى تأثيره وفاعليّته. تحضرني دائمًا تلك القصّة عن.."

"عن ذاك الشاب الذي ضُبِط وهو يمارس الجنس مع صديقه؟"، تقاطعني نادين بابتسامة.

"ههه، نعم! أردّدها كثيرًا فدائمًا ما تدهشني سطوة الإنكار. كان صديق لأحد أصدقائي في منزل حبيبه فيما كان والدا هذا الأخير مسافرين في رحلة. تعود الأمّ إلى المنزل على غفلة لتحضر شيئًا كانت قد نسيته هناك فتباغتهما وهما يمارسان الجنس. يهرع الحبيب إلى مغادرة الشقّة ويخيّم صمت طويل على الأمّ. وبعد فترة من السكوت تقول الأمّ لابنها: لا تحضر الفتيات إلى البيت مرّة ثانية".

"يا سلام!"، تقول مروة.

 أضيف: "سؤالي هو كيف يمكن لهذا أن يحدث، أن يقوم المرء بمحو أي تفصيلة لا تعجبه من الذاكرة. شيء مذهل. وبالأخصّ الأمّهات. لا أقصد التعميم ولكنّني أجد أنّ الأمّ المصريّة تستحقّ جائزة على براعتها في الإنكار". يضحك الجميع.

"ولكنّني أظنّ أن التعميم مباح في هذه الحال"، تضحك سارة.

تنسحب مروة للردّ على مكالمة هاتفيّة وعلى إثرها تهبّ تارا واقفة فتتبعها سارة. كلاهما على موعد مع دوام العمل في الصباح الباكر. وداعات ووعود بلقاء قريب تخرج من بعدها مروة لتعلن أنّها أيضًا مضطرّة للعودة إلى المنزل. برهة قليلة ونصبح وحدنا في المنزل، نادين وأنا والقطّتان. تتركني نادين مع أفكاري فيما تذهب لتستعدّ للنوم. أغلق عينيّ وأعود إلى حيث كنت لحظة العصر، في القاعة الباردة في مدخل البناية.

عندما أفكّر بالتاريخ أو بالجسد بوصفه تاريخًا أستحضر فكرة الطروس. تلك الأسطح الصخريّة المتعرّجة التي أعيد استخدامها للتدوين مرارًا وتكرارًا قبل اختراع الورق. أتخيّل أجسادنا كتواريخ حيّة نابضة ومتحرّكة تخطّها الأحداث والكلمات والعلاقات الواقعيّة والمتَخيَّلة. وها أنا أكتب هذا النص من ذاك الفضاء الخلالي على شفير الواقع والمتَخيَّل: حوار متخيَّل بين خمس نساء مصريّات كويريّات استنادًا إلى محادثات فرديّة عن الألم والأمّهات والكويريّة والصدمة العابرة للأجيال.

من الناحية اللوجستيّة، لم يكن ممكنًا ترتيب هذه المحادثة الجماعيّة وجهًا لوجه. أوّلًا، لأن بعض بطلاتها لا يعرفن البعض الآخر في الحقيقة. وثانيًأ، نظرًا لعمق الموضوع وتحفّظ العديد منّا نحن الكويريّين والكويريّات في مصر على مشاركة تواريخنا الشخصيّة وتجاربنا مع الكويريّة، فقد ارتأيت أن أجمّع الشهادات الشخصيّة كلًّا على حدة ومن ثم أن أدمجها في صيغة حوار متَخيَّل يجمعنا نحن الخمسة بمعرفة المشاركات وبموافقتهنّ. وبالرغم من أنّني كنت أنوي في البداية أن أعمل على ترتيب تسلسل الأفكار والمواضيع في هذه المحادثة، إلّا أنّني تعلّمت أثناء كتابة هذا النص أن لا حاجة بالضرورة لترتيب الفوضى. فالكويريّة فعل واعِ وهذه محاولتي المتواضعة للمساهمة في خلق أرشيف مصري كويري.

 

*جميع الأسماء الواردة هي أسماء مستعارة لحماية خصوصيّة الأشخاص الذين واللواتي أُجريت معهم/ن المقابلات في سياق إعداد هذا النص.

 

  • 1. تستخدم موريسون كلمتيrecollect وremember وفتفصّص كلًّا من التركيبين إلى البادئة re- وكلمتيcollect (بمعنى الجمع) وmember (بمعنى الوصل) لتصل إلى الترادف بين فعل إعادة التذكّر وإعادة التجميع. وقد ارتأينا استخدام تعبير "الجبر" ليعكس هذا المعنى في الترجمة العربيّة. (المترجمة)
ملحوظات: 
المراجع: 

Amer, Sahar. (2009). Medieval Arab lesbians and lesbian-like women. Journal of the History of Sexuality, 18(2), 215-236.

Lorde, Audre. (1983, c1982) Zami, a new spelling of my name. Trumansburg, N.Y.: Crossing Press.

 Manalansan, Martin F. (2014). The “Stuff” of Archives: Mess, Migration, and Queer Lives. Radical History Review, 2014(120), 94-107.

Morrison, Toni. (2019). 'I wanted to carve out a world both culture specific and race free': an essay by Toni Morrison. The Guardian, 8 Aug 2019. https://www.theguardian.com/books/2019/aug/08/toni-morrison-rememory-essay

Weeks, Kathi. (2011). The Problem with Work: Feminism, Marxism, Antiwork Politics, and Postwork Imaginaries. (1 ed.). Durham: Duke University Press.