تاريخ من تواريخ بيروت

تحذير‬ ‫المحتوى: 

تحذير عن‬ ‫المحتوى‬‫!

محتوى جنسي صريج، لغة حادة، تصوير للعنف.
مناسب لجماهير ناضجة.

السيرة: 

X

x هي مدرّسة مقيمة في نيويورك

اقتباس: 
X. "تاريخ من تواريخ بيروت". كحل: مجلّة لأبحاث الجسد والجندر مجلّد 3 عدد 2 (2017): ص. 183-193. (تمّ الاطلاع عليه أخيرا في تاريخ 29 مارس 2024). متوفّر على: https://kohljournal.press/ar/beirut-a-history.
مشاركة: 

انسخ\ي والصق\ي الرابط اللكتروني ادناه:

انسخ\ي والصق\ي شفرة التضمين ادناه:

Copy and paste this code to your website.
PDF icon تحميل المقال (PDF) (395.79 كيلوبايت)

 

“تكون الرّغبة لا منسيّة فقط عندما تصل إلى شيء يمكنها أن تتعلّق. ويجب أن يكون مشهد هذا التطلع في علاقة تكرار مع مشهد آخر. التكرار هو ما يتيح لك التّعرف، حتّى دون وعي، على رغبتك كصفة لك. إنّ الطّابع الرّسميّ للرّغبة- اندفاعها للتّجسد والتّكرار – يفتحها للقلق والخيال والانضباط.” (بيرلانت 20)

“يأخذ جسدنا شكل هذا التّكرار. نحن نعلق في بعض هذه الخطوط كأثر لهذا العمل.” (أحمد، علم الظواهر الكّويريّة 58)

“إن قدرة الكائن الحزين على التّعبير عن خسائر متعددة في آن واحد تعبّر عن مرونته كدليل، مما لا يعطيه صفة تعدّد الأوجه فقط، بل صفة شبيهة بالتّوثيق أيضا. هذا التكثيف للمعنى يسمح لنا بأن نفهم الموضوع المفقود في تحوّله المستمرّ مكانيا وزمانيا على حد سواء، واعتماده لوجهات نظر ومعاني جديدة، وعواقب اجتماعية وسياسية جديدة، طوال الطريق.” (إنغ وكازانجي 5)

كثير من التفكير في الرغبة هو جزء لا يتجزأ من الكتابة على الجنسانيّة، والحبّ، والجندر، أو الإيروتيكيّة. في كتابة هذه السطور، موضوع الرّغبة بشريّ، ونوعيّة الرّغبة جنسيّة، ورهان الرّغبة هي المتعة الجنسية. ولكن إذا أردنا أن نتناول فهم برلنت وأحمد للرّغبة في أنّ طابعها المميّز يُعرف فقط من خلال تكرارها وتعدادها وتعلّقها، وإذا فهمنا الرغبة كمجال تمّ بناؤه اجتماعيا وتاريخيا، فمن المؤكّد أنّ بإمكاننا تصوّر علاقة أكثر اتّساعا بين الرّغبة والجنس والجنسانيّة. ففي نهاية الأمر، الجنس هو اسم نعطيه إلى الفعل الجسديّ حيث تحصل أشكال متعددة من التّبادل، أحدها هو المتعة. فهل يمكن للمرء أن يفكّر، إذن، في رغبة جنسية ليست في انتظار متعة جنسية؟ هل يمكننا أن نفكر في هذه الأشكال من الرغبة خارج خطاب الإصابة في وقت يُنظر فيه إلى تحقيق المتعة الجنسيّة (خاصة لدى الإناث) على أنّها غير أخلاقيّة – وهو خير يقسم العالم إلى طوبوغرافيا محرّرة وأخرى مقموعة؟ ماذا لو لم يكن موضوع الرغبة شخصا في حدّ ذاته، بل هو شيء يملكه الشخص، عاطفة أو ذكرى التي يمكن للمرء أن يُوجّه نفسه نحوها خلال الصّلة الجنسيّة؟ وقد كتبت لورين بيرلانت أنّه “نيابة عنك، في محاولة لإطلاق سراحك من التّخلّي إلى الايروتيكيّة الذّاتيّة – أو، على نحو أدق، إلى إعادة ايروتيكيّتك الذّاتيّة إلى المؤانسة الاجتماعيّة – تُسيء رغبتك التّعرّف على موضوع معيّن من شأنه أن يعيدك إلى شيء تشعر/ين به كثغرة فيك.” (76)

هناك العديد من الثّغرات في حياة شخصٍ ما. هذه الثّقوب، أو الثّغرات التّي يختبرها الشّخص والتّي بحاجة إلى الملء أو المعالجة، ليست فقط جنسيّة أو رومانسية أو آخذة للحبّ كمنحى. في الواقع، قد تكون الرغبة الأساسية (أو الثّقب الذّي يُختبر كحاجة إلى الملء، كشيء موجود) موجّهة نحو شيء لا يحتويه جسد إنسان على الإطلاق: يمكنها أن تكون رغبة في تاريخ، في انتساب إلى مكان ووقت، في الكثافة. قد تكون رغبة في السلطة أو المعرفة. في الواقع، قد لا يكون الجنس ممتعًا فعليّا على الإطلاق، ولكنّ ذلك لا يعني أنّه يخلو من الرّغبة. وعلاوة على ذلك، لا ينبغي أن يكون الجنس الخالي من اللّذّة تعبيرا عن رغبة “محبطة” (كرغبة مُضاعفة وعائدة إلى نفسها)، ممارسة لوعي كاذب (ما يسمّى غالبا بـ”الاختفاء في الخزانة” أو رهاب المثلية المبطّن)، أو كرغبة تُعتبر غير صريحة، بأثر رجعيّ. هذه التصريحات تمثّل تقطيرا لكلّ من الرغبة واللّذة إلى سجلّاتهما الجنسية، والتّي ربّما تكون ضرورية لإنتاج “حقيقة” الجنسانيّة (فوكو 1984). ولكن هناك رغبات لا تتراكم وتنتج توجّها متجدّدا نحو الأجساد المجندرة – وهو التوجه الذي نسميه “الجنسانيّة” – حتّى لو كانت غالبا ما تجد طريقها من خلال الجنس. في حين أنها قد لا تنتج الجنسانيّة، بإمكان ممارسات الرغبة هذه أن تُنتج التّوجهات – نحو المواضيع والخطابات والتواريخ والعواطف، نحو الآخرين/الأخريات والنفس.

كنت في العشرين عندما بدأت ألاحظ أن أنماطي في الجنس والحب تدور في المقام الأول حول النّساء. في التكرار، بدأت رغباتي في أخذ شكل معيّن – وبدت الرغبة تتعلّق بشكل أفضل وأكثر ثبونا بالفتيات الأخريات، لإعادة صياغة ما قالته سارة أحمد (“التوجّهات” 563). كنت قد وقعت بالفعل في حبّ امرأة وتعلّمت كيفية ممارسة الجنس مع جسد أنثى. فقط عندما حدث ذلك مرّة أخرى (ومرة أخرى) شعرت أن شيئا ما بدأ في الاستقرار، وكان ذلك مرعبا. شعرتُ كما لو أنّني في خطر تمزّق زمنيّ، أنّ الأيام من ذلك الحين ستكون خروجا جذريّا عن تلك الأيّام السّابقة. لم يعد بإمكاني التّعرف على المستقبل أو على نفسي فيه. عندما بدأت في تقاسم هذه المعلومات مع من حولي – أنّ رغبتي في الحميميّة والجنس أصبحت أصعب، أضيق، وأكثر صرامة، تزامن الأمر مع بدئي في استخدام كلمة “مثليّة” كعنصر في هذا التكرار القهري. كانت نصائحهم/نّ التّي لم أطلبها موحّدة في بساطتها: “غادري.”

قلت لأختي ذات ليلة بينما كنا نشاهد التلفزيون في منامتينا. بعد أن أكّدت لي أن جنسانيّتي ليست مشكلة بالنسبة لها (حقّا)، قالت: بثقة شديدة: “يجب ألّا تبقي هنا.” في تلك اللّحظة كرهتها. قبل ستّ سنوات فقط، كرّرت والدتي هذه النصيحة، معكوسة، عندما أخبرتها أخيرا ما أنا عليه: “ابقي في أمريكا. المكان أفضل هناك. أيّ نوع من الحياة يمكنك عيشها هنا؟ “في سنّ العشرين، أدّى وضعي لنفسي تحت علامة “مثليّة” إلى اختلاف لا يطاق. كلّما صرت أكبر سنّا وأكثر كويريّة، أدرك أكثر أن معظم هذه النصائح، على الرغم من حسن نيّتها، تعلّقت بأولئك/تلك الذّين/اللّواتي أعطوني/نني إيّاها أكثر من تعلّقها بي. كان غيابي أقلّ تمزّقا لأسرتي من وجودي الجسديّ كابنة أو أخت انحرفت عن المسار الغيريّ (أحمد، علم الظواهر الكويريّة 20).

كان ذلك منطقيّا. كان لديّ جواز سفر أمريكي – كانت لديّ حرية الحركة. الحياة المتخيّلة لـ”مثليّة” في بيروت عام 2000 لم تكن إيجابية تماما. قبل استخدام كلمة “مثليّة،” كان أصدقاء/صديقاتي وأفراد الأسرة يعرفون عاداتي ورغباتي الاستهلاكيّة والمتعدّدة. ربما كنت مندهشة بسذاجة: في ذهني، كنت أذكر نمطا من التّعلّقات العاطفية والجنسية التي أبرزت تجاربي مع الأشخاص ذوات أجساد إناث، ولكنّ ذلك لم يكن مستقرّا ولم يكن من السّهل التنبؤ به. لم يكن ذلك شيئا لم تعرفه أختي من قبل، على سبيل المثال. بدا لي عندها أنّهم/نّ أعطوا/ين الكثير من السّلطة للتسمية.

كان ذلك أسهل مما كنت أعتقد، أن أعيش مع رغبات غير مستقرة في بيروت. شعرت في أواخر التسعينات أنّني أعيش في وقت مستعار، وكان لديّ المال وحرية الحركة التي يتطلبها هذا الاقتراض في مدينة من العالم الثالث بعد الحرب. كنت فتاة جميلة أعجب بها الرجال وأعجبت هي بإعجابهم بها – لقد استمتعت باللّعب مع الرغبة. استعملتها كبلسم. طالما واصل الرّجال الاعتراف بي، شعرت بثقة أكبر في تفاعلاتي مع النساء. جزء منّي آمل على ما أظنّ في أنّ اعترافهم بي سيستمرّ – أنّ رغبتهم فيّ ستبقيني مربوطة بعالم مألوف جدّا ومريح وطلقٍ. حياة عاديّة جدّا. اليوم، أدرّس طلّابي/طالباتي أنّ هذا العالم يسمّى “امتياز الغيرية،” أو “الغيريّة الإجبارية.”

ما زلت أظھر نفسي في بعض الأحیان بھذه الطریقة – شادّة عیني غيري إلى عینيّ في غرفة مزدحمة – لامسة الذراعین والیدین أثناء المحادثة – محرّكة جسدي بطرق تتطلب الانتباه. ما زلت استمتع باللعب مع الرغبة، مفاجآتها وانتكاساتها. في بعض الأحيان، تكون الممارسة بسيطة جدّا إلى درجة أنّها تضحكني: أرتدي فستانا، أضع بعض الماكياج، وأنتظر لأرى ما سيحدث. تُثيرني رغبة الذكور فيّ – تجربتي الجنسية مع الرجال دائما ما بدت لي نرجسيّة واسترجازيّة. أجسادهم لا تمتعني. فهي رغبة في أن يرغبني الذّكور، وليست رغبة في الرّجال. أغتنم من هذه اللقاءات نُسخا بديلة من نفسي، وقوّة إمكانية الجنس، وصورتهم عن امرأة جذابة. وأغتنم منها، ربّما، أداء جندريّا. هذه الرغبات ليست تكرارية، كما أنها لا تتمتع بحياة اجتماعية (فهي لا تعيش بسهولة كامتياز الغيريّة). وهي لا تلتصق أو تتكثّف على شكل جنسانيّة (كميل نحو تجسيد للجندر). منحرفة عن توقع المتعة أو الحقائق التي من المفترض أن المتعة الجنسية تكشفها، تتكاثر إمكانيات التبادل واللعب في مجال الرغبة. هنا، الرغبة لا تتمتّع بالاستقلال السّيادي، تماما كالجسد الراغب. بدلا من ذلك، في هذا الإطار، تمثّل الرغبة مجالا اجتماعيّا كثيفا، فهي ليست عاطفة، إحساس، أو حاجة تخرج من شخص وتعلّق نفسها بآخر(ين/ات). في هذا المجال الاجتماعي من الرّغبة (أنا لا أسمّي الرغبات “الغيريّة” أو “المثليّة”)، تكون رغبة الذكور والرّغبة الغيريّة مواقع امتياز. أمّا الميول الكويريّة فهي مجرّد “ميول” – توجّهات نحو الآخرين/يات ضمن هذا المجال الاجتماعي الذكوري من الرغبة (أحمد 2006؛ بتلر 1990؛ لورد 1978). إعلانات الرغبة تعتمد على هذا المجال الأوسع للوضوح. إن الرغبة – المعتمدة على الآخرين/ات والتّي تتشكّل من خلال أشكال أخرى من العلاقة (مثل الطبقة، العرق، أو في لبنان، الطائفة) – لا تكون أبدا وحدها، على الرّغم من أنّها قد تشعرنا بالوحدة في كثير من الأحيان.

اقترحت جوديث بتلر، جامعة بين ما بعد البنيوية والتحليل النفسي للرغبة، أن الحزن الغيري يظهر من منع الرغبات المثليّة – وهو منع ينتج ويلاحق الغيريّة الجنسيّة (89). وبطرق مماثلة، أشارت إلى أن الحزن المثليّ يمثّل فائضا لا يمكن احتوائه ضمن المثلية الجنسية. ولكن إذا كانت “قدرة الموضوع الحزين على التعبير عن خسائر متعددة في آن واحد تشير إلى مرونته كدليل” (إنغ و كازانجيان 5)، فإن الخسارة التي تنطوي عليها الجنسانيّة ليست جنسيّة، أو ربّما ليست ذكلك في المقام الأول. يكون للرغبة، باعتبارها مجالا يتم تشكيله من خلال الأجساد والمواضيع والعواطف المجندرة والطبقيّة والمصنفة والعنصرية والمجنسنة كما هو الحال دائما في تعلّقها بعضها بالبعض، موقع – التصاق في الزمان والمكان – لا يمكن اقتلاعه. ماذا لو كان لنا أن نؤكد التواريخ والسياقات التاريخية والسياسية والخلفيّات المنتجة لمجال معيّن من الرغبة؟ إذا كانت الخسائر والملذات المترتبة على الابتعاد عن “إحياء الغيرية الجنسية” (أحمد 2004؛ فريمان 2010) تنكسر عبر الفوارق التاريخية والعنصرية والجندريّة والإختلافات الطّبقيّة، وإذا لم تكن الغيريّة نفسها في كل مكان في كل وقت، فلماذا نفترض أن حالة الاحتمال بالنسبة للذاتية الكويرية هي الابتعاد المتكرّر؟ في لبنان، على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي التّحول نحو رغبة الذكور، أو تشجيع النّفس على ذلك، في كثير من الأحيان إلى توفير العملة اللازمة في الفضاء الاجتماعي والسياسي الغيري المفرّق على أساس الجندر والذّكوريّ. ما هو نوع الجسد الذي يتم إنتاجه عندما يدفع شخص نفسه إلى توجهات رغبة جنسية غيريّة، وليس للمتعة أو الحقيقة أو كممارسة وعي كاذب، بل، لجعل الحياة الكويريّة صالحة للعيش؟ إن التّوقّف عند هذا الاختلاف التاريخي والإثنوغرافي هو لاسترعاء الانتباه إلى الطبيعة غير المعلومة لجزء كبير من نظرية الكويريّة.

ذات ليلة في عام 2005، تلقيت مكالمة هاتفية تقول لي أنّ “خطيبي” قد تمّ اعتقاله بسبب تصرّفات خليعة في المجال العامّ في منطقة ثريّة في بيروت. لم أكن أبدا مخطوبة أو متزوّجة من أي شخص، ولكنني كنت أعرف، بشكل غريزي تقريبا، أن خطيبي تلك الليلة كان صديقي الأقرب وأنّ الفاحشة التّي مارسها في الفضاء العامّ تتعلّق بالجنس بين الذكور. كنت أعرف أنني مضطرّة إلى الذّهاب إلى السّجن – وكنت أعرف كيفية إظهار نفسي. في تنورة قصيرة، مع شقّ صدر بارز، وكعب، ومع أثر سحنة الطبقة العليا المتعجرف، جعلت نفسي متاحة لاستجواب من قبل ضابط الأمن الداخلي عن خطيبي وعن علاقتنا. جعلت نفسي متاحة لرغبته. لقد استدرت إليه بنشاط وبوعي عندما أشاد بذلك – ربّما كنت دعيت نفسي إلى ذلك. لقد قمت بآداء له، وشعرت بالقوّة والثّقة لدى قيامي بذلك. كان ذلك يعني أنّ صديقي (رجل) بإمكانه أن يمتلك المرأة التّي أرادها الضابط ولم يمكن له ذلك لأنّه من عالم اجتماعي واقتصادي مختلف. كان جسدي، جندري، وطبقتي الاجتماعية والاقتصادية، وترحيبي برغبة الذكور مع الحفاظ على تصرّف “مقبول” (أي غير متوفّر جدّا أو “سهل”) في كلّ ذلك – آداءات موجّهة إلى سُمك وخطورة وتعدّد الرّغبة. كنت أضع نفسي وخطيبي في مجال الرغبة حيث كانت الميول نحو الطائفة والعرق والطبقة والوضع الاجتماعي مستعصية على الفكّ من الميول الجنسيّة والجندريّة.

وقد أتاحت هذه الموقعيّة، أو هذا التحول نحو الرغبة الجنسيّة الغيريّة، روايات بديلة عن الجنس بين الرّجال، وشكّكت في ما “رآه” ضباط الشرطة في تلك السيارة المتوقّفة والذّي أطلقوا عليه اسم الجنس) بوفينيلي، 2006). ربما لم يكن ذلك ممارسة الجنس المثلي، وإنما ممارسة مكثّفة من الايروتيكيّة المثليّة. وقُدّم وصف جديد: هذان الرّجلان لم يكونا مثليّين بسبب إمتاع أحدهما للآخر. كانا مجرّد رجلين مثارين بحديثهما عن النّساء وعن مدى كبر قضيبيهما. في الواقع، في تلك الليلة، بدا أنّني والضّباط أصرّينا على عدم ثبات الرغبة – على أنّ الأفعال الجنسية لا تعبر بالضرورة عن حقيقة عميقة الجذور حول هوّية الشخص. وفي حين أن الفعل الذّي رآه ضبّاط الشرطة لم يتغير (رجلان كلّ منهما ممسك بقضيب الآخر)، فإنّ شكوكا تكوّنت في علاقة بما شاهدوه. قد لا يبدو الوصف الجديد للـ”الايروتيكيّة المثليّة” بدلا من “المثليّة الجنسيّة” مقنعًا، ولكنّه لم يكن من الضروري أن يكون كذلك. فقد أتاح الحركة الكافية – ما يكفي من الإمكانيات – لأن تتولى امتيازات الطبقة مهامها. كما قال لي أحد الضباط، ربما من أجل إقناعي بخطوبتي لشخص تمّ العثور عليه مع سرواله حول فخذيه، “رجل مثل هذا الرّجل، كنت متأكّدا أنّ في الأمر خطأ ما.”

كنت وخطيبي في تلك الليلة نعرف أحدنا الآخر بشكل وثيق منذ كنّا مراهقين. كنّا مُرتاحين على حدّ سواء في استخدامنا لكلمة “مثليّ/ة” كاختزال لتوجّهات رغباتنا الجنسية، وقد وصلنا إلى هذه الفئة اللّزجة معًا إلى حدّ كبير، جنبا إلى جنب مع المشهد الاجتماعي المؤكّد على الكثافة الجسدية والعاطفية والنفسية – ذلك المشهد الذّي ظهر بعد الحرب الأهلية في بيروت. لتعميم هذا البيان في سياق أوسع: كان لبنان محصورا في حرب أهلية تخللتها الغزوات العسكرية والاحتلالات من 1975 إلى 1990. وبحلول الوقت الذي كان من حولي يقولون فيه كلمة “ما بعد الحرب،” كنت في الثّانية عشرة من العمر. أكثر صغرا من أن أتذكّر الكثير من التفاصيل، ولكن أيضا أصغر سنّا من أن أتذكّر المرحلة “السّابقة.” عندما انتهت الحرب، انتهت معها المحادثة العامّة حول هذا الموضوع. لقد استيقظنا ذات يوم، وقيل لنا أنّه تم التوقيع على الاتفاق وأنّ هناك “سلام.”

في التّسعينات، كانت الحانات موجودة في كل مكان، ولم يكن أحد يتحقّق من بطاقات الهوّية، وكان كلّ شيء ممكنا. كان المساء قد يبدأ في Pacifico أو Monkey Rose أو Smugglers Inn أو BO18، خاصة بالنسبة لأولئك/تلك منّا الذين/اللّواتي امتلكوا/ن مصروف جيب وشعروا/ن بالرّاحة في الذّهاب إلى أماكن النخبة الاستهلاكيّة، وكان المساء قد ينتهي حول موقد نار، في استقبال الصباح في مكان ما على ضفاف جبيل – وهي منطقة كانت ممنوعة قبل بضع سنوات لأنها كانت على “الجانب الآخر” خلال الحرب الأهلية. كان هناك أيضا Acid وOrange Mechanic وBabylon وما غيرها. بالنّسبة لي ولأصدقائي، على الرغم من ذلك، كانAcid  في الغالب ملهانا المفضّل – وهو النادي الذّي غالبا ما يوصف كأول بار مثليّ في لبنان وأوّل نادي مثليّ علنا ​​في الشرق الأوسط العربي. في Acid، كان كلّ شيء وجميع الأشخاص معروضين/ات وكانت الاحتمالات تبدو لا متناهية. كان ذلك قبل إزالة الإدارة لأبواب الحمّام وقبل وضعها لحرّاس أمن هناك لضبط الروابط غير المشروعة، سواء الجنسيّة أو المعنيّة بالمخدرات، التي جعلت تلك الغرف العاطنة برائحة البول غرفا لنا. كنّا هناك، راقصين/ات وجميلين/ات وشبابا/شابّات نتألق من بريق الصّمغ اللّامع ومن أجساد الذكور والإناث التي تضغط على بعضها البعض دون أنماط معينة. كانت تلك هي النقطة: كنّا هناك. بطبيعة الحال، أنا الآن أعلم أنّنا كنّا مختلفين/ات: أهلنا أعطونا المال والحرية. لم يسألوا أين كنّا، وكان النّوم خارج المنزل مُتاحا. كنا جميعا مطابقين/ات للجندر. وكان يمكننا أن نمنح الشرطة سرديّة بديلة لدى اقتراننا في ثنائيّات غيريّة عندما تحصل غارة من أجل جمع رشاوى صاحب النادي التّي ربما كانت متأخرة في ذلك الشهر. في تلك الأماكن، لعبنا مع الرغبة.

كانت هناك أيضا حفلات منزلية. هناك، عُرضت المخدرات – متوالية ومصفوفة وجميلة وجالسة على صواني فضية – بنفس الطريقة التّي استخدمها أولياؤنا في عرض السّجائر في الصواني على الضيوف. ولفترة من الزمن، كانت تكلفة جرعة الهيروين أقل من تكلفة البيرة في حانة، وكان الجميع يعتقدون/ن أن الإبر هي ما كان سيئا حقا، وأنّها كانت الخط الأحمر غير المعلّم الذّي يفصلنا عنـ”هم/نّ.” في هذه الحفلات، كان هناك الكثير من الموسيقى والمهابة والتوقع. وكان الإحساس كلّ ما يهمّ. كان ذلك سلوك نموذجيّا في سن الجامعة، ولكن مع قوّة المراهقين/ات الذين/اللّواتي أمضوا/ين الكثير من الحياة مع الأسرة في الممرات أو مواقف السيارات تحت الأرض مختبئين/ات من القنابل أو القناصين أو المداهمات، دون فهم تامّ للرّعب في وجوه الأولياء ولكن مع الشعور به. معرفته.

من الصّعب أن نوضّح لمن لم يـ/تكن هناك. الليالي التي أخذتنا في جميع أنحاء البلاد بحثا عن مخدّر معيّن، حفلات نهاية الأسبوع حيث تشكلت المجموعات الجنسية وأعيد تشكيلها دون أنماط واضحة. كان هناك الكثير من الرقص، الكثير من الجدل، الكثير من تقاسم التواريخ الشخصية والاضطرابات، والكثير من الحب. كان بإمكان أيّ شخص أن يجد نفسه أو نفسها ي/تميل نحو آخر/أخرى، ولم يكن أحد منا يخجل من تلك الميول. ولم نفترض أن أنشطتنا الليلية ستكشف لنا شيئا في صباح اليوم التالي. لم نكن مهتمين/ات بأبراق وعي ذاتيّ. كنّا نتصرف بكثافة لا يمكن تفسيرها من خلال وصف مذهب المتعة، وتعاطي المخدرات، والصدمات النفسية، أو التجريب الجنسي. في الواقع، أنا لا أتذكر في أيّ وقت مضى وجود محادثة معذّبة عن الجنسانيّة – إن كانت جنسانيّتي أو جنسانيّة الآخرين/الأخريات – خلال تلك السنوات. وكانت معظم محادثاتنا – تلك التي بقيت معي – عن تجاربنا في الحرب والدمار والسرعة الغاضبة في إعادة الإعمار – وهي عملية كانت تمحو الكثيرين/ات من معالم حياتنا. لم تكن هناك مناقشة عامّة عن الحرب. بدا كأنّ الجميع كانوا/كنّ يائسين/ات لنسيان ما يزيد عن 000 150 قتيل/ة و 000 300 مشوّه/ة، والمقابر الجماعية والمذابح، ونقاط التفتيش، والتّرسيم المادّي للبلد إلى أماكن عسكرية ملتزمة بتدمير الآخر.

في هذه الحفلات، في تلك التزاوجات، تعلّمنا عن البلاد وخطّينا تاريخا معًا: تعرفت على ما كانت عليه طفولة حبيبتي الأولى في الكاسليك، ولأول مرة، تعاطفت مع شخص يعيش على “الجانب الآخر” من حرب. اخبرتني عن أسبوع كان كلّ ما لدى عائلتها لتأكله هو الشوكولاتة، وشاركتها مشهد قتال أبي مع ابن عمه على ثلاثة أرغفة من الخبز كان من المفترض أن تُطعم عائلتين. أخبرتني عن ليلة عندما اقتحمت القوات اللبنانية شقّتها وبقيت طوال الليل في شرب الكحول متطلّعة إلى أخذ “ضريبة” من والدتها – وقلت لها كيف كنت أتخيّل إطلاق النّار من مدفع رشّاش عند مدخل شقّتي في محاولة لأن أغفو. كنت صحبة صديقي الأقرب، نفس العلاقة التّي تمّ إنتاجها على أنّها “خطوبة” ذات ليلة بعد سنوات، نقوم بالانتشاء على المخدّرات، ولعب الموسيقى، ونزع ملابسنا، وتبادل القصص عن المهارات الهندسية التّي تعلّمناها وقت الحرب، هو في الضاحية وأنا في غرب بيروت. مهما يبدو الأمر ساذجا الآن، صدمت في ذلك الوقت أنّها كانت نفس المهارات. تحدثنا عن جميع الألعاب التّي لعبناها في ملاجئ مؤقتة اختبأنا فيها من القنابل، وعن الجثث التي رأيناها وشممناها، وشاركت معه كيف لم أتمكن من التعود على الروتين بعد مرور سنوات على انتهاء الحرب. في بعض الأحيان، كنّا نقبّل أحدنا الآخر، وكنت أريد أن أشعر ببشرته ورائحة أنفاسه – كانت تمنحني الرّاحة مع السّكون، مع فهم أنّنا كنّا على قيد الحياة وأنّ الماضي قد حدث فعلا. كنّا قد بدأنا في استخدام كلمة مثليّ/ة معًا، ولكنّ ذلك لم يوقفنا. كانت هناك رغبة: كنّا نريد ونحتاج إلى شيء ما أحدنا من الآخر.

لقد بقيت مجموعة أصدقائي/صديقاتي الأساسية دون تغيير – أحيانا نقضي أيّاما نُذكّر بعضنا البعض بأنّ كلّ هذه التواريخ قد حصلت فعلا، وأنّه عندما كنّا في سن المراهقة كنا مقتنعين/ات بأن الحياة لا يمكن أن تحتوينا، وأنّ رغباتنا واندفاعاتنا واضطراراتنا وميولنا كانت أكثر كبرا وإلحاحا من العالم الذّي منحنا إيّاه.

اليوم، بعد ما يقرب من عقدين من الزمن، وصل معظم الأشخاص من هذه المجموعة إلى فئات. نحن الآن راشدون/ات مهنيّون/ات أكثر أو أقل تأقلمًا. نحن مثليون/ات، نحن غيريّون/ات، نحن متزوجون/ات ولدينا أطفال، نحن عزّاب/عازبات، نحن في علاقات أحاديّة، البعض منا لا يزال يبحث، والبعض الآخر قرّر أن الرغبة لا ينبغي أن تلتزم بشخص واحد فقط. ولكن عندما نجتمع معًا، فإننا نتبع رحلاتنا من هناك إلى هنا. نحن نتكلّم عن الماضي كشيء تحريريّ وإبداعيّ، مليء بالخطوات المتناقضة والأسئلة المفتوحة. نحن نضحك من أنفسنا على المدى الذّي يبدو فيه التنبؤ بتصرّفاتنا سهلا، ونضحك من أنفسنا على طابعها العاديّ، الصّغير.

“رهاب المثلية” مفهوم في بيروت اليوم (وخاصة في مناطق معينة من بيروت) – وهو جزء من معجم حقّق بصعوبة من خلال النّضال والمآسي. هذه التسمية تجمّع العدائيّة التّي يمكن أن تُفهم أيضا على أنها مجندرة أو عنصرية أو اقتصادية. فعلى سبيل المثال، إنّ “رهاب المثلية” هي العبارة الأكثر استخداما لوصف حوادث الاعتداء والمعاملة الوحشيّة التي تتعرض إليها الطبقة العاملة أو العمّال المهاجرون المعرقنون في ممارستهم سلوكا جنسيا بين الذّكور. ولعلّ هذا ليس مفاجئا بالنظر إلى يوميّة العنف (الجنسي والجسدي والنفسي) الموجّه ضد اليد العاملة المهاجرة (بما في ذلك “العمالة المنزلية”) أو اللاجئين/ات. مع وصف “رهاب المثلية،” يتم تمييز وتوجيه اعتياديّة تركيبات العنف هذه من خلال مجموعات حقوق المثليين/ات والمنظمات والخطابات التي يتمّ تأطيرها بشكل مختلف عن تلك التّي تعمل على العنف الجنسي والعنصري بين الشّعوب العرقيّة والطّبقيّة المهمّشة.

وكوصف لفعل دفع متعمّد، يتطلّب رهاب المثلية جسدا مثليّا كعلامة أو موقع رئيسي لحدوث العدوان والعنف، وينتج هذا الجسد. هو يتطلّب عالما من الرّغبات الثابتة، وفهم الرغبة نفسها كشيء راسخ في جسد مجندر. ويتطلب الخطاب المتعلق برهاب المثلية، المرتبط أيضا بالصراعات على حقوق المثليين/ات، ماضيا وأرشيف إصابات ورغبات محبطة يصير بالإمكان الآن تسميتها وتعويضها (روب 1999). وقد استكشفت هيذر لوف هذا التأثير على أنه “الشعور رجعيّا” (2007). تكتب لوف أن البحث عن حيوات كويريّة وتواريخها ينبثق من الرغبة في التاريخية التي لا يمكن فصلها عن العنف والمأساة، خاصّة لأن توقعات العنف والمأساة تستمرّ في بناء الحياة الكويريّة (32). ومع ذلك، فإن هذه التوقعات تشكل أشكالا عديدة من الحياة المجسّدة عبر الخطوط الوطنية والعرقية والطبقيّة. على سبيل المثال، يمكن للمرء أن يتصور بسهولة استبدال “الحياة الفلسطينية” بالـ”الحياة الكويريّة” في جملة لوف. على خلاف ذلك، أن تعيش مع توقع السلامة أو السعادة، هو مثال لا يمكن تحقيقه في معظم أنحاء العالم (بيرلانت 2012؛ هالبرستام 2005).

إن العيش في لبنان – البلد الذي تخلّلته الحروب الأهلية والغزوات العسكرية – هو أيضا العيش تحسّبا للعنف والمأساة. إن عدم استقرار الحياة الكويرية ليس استثنائيّا في هذا المجال الاجتماعي-السياسي: بل هو إضافيّ (مكداشي وبوار 2016). الطائفية هي الخطاب الذي يستخدم غالبا لوصف تاريخ العنف هذا. إنّ الطبيعة المهيمنة لخطاب الطائفية تسطّح الكثير من الطبيعة المعقّدة والمتناقضة للعنف في لبنان – وتفترض أن الطائفية نفسها عابرة للتّاريخ. (مقدسي 2000). وبطرق مماثلة لرهاب المثلية، تُفهم الطائفية كعنف موجّه ضدّ هويّة مجسّدة – إذ أنّ شخص ما يُقتل أو يُجرح بسبب من هو/هي. مثل تسمية “رهاب المثلية” لوصف عنف متعدّد الأوجه، يتمّ إنتاج الجثّة ،وهي الطائفة، من خلال الاعتراف بقتلها كفعل “طائفيّ.” كلّ من نشطاء/ناشطات حقوق المثليّين/ات ومناهضة الطائفية يستخدمون رهاب المثلية والطّائفيّة لوصف الانتهاكات السابقة والإصابات – إذ أنّ ترسيخا ماضويّا يدفعنا إلى إمكانية مستقبل جديد. ولأنّ العنف في الحرب الأهلية قد تمّ وصفه بالطائفي، فإن النشطاء/ناشطات المناهضين/ات للطائفية يرغبون/يرغبن في العلمانية باعتبار أنّ من شأنها أن تحقّق السلام. ولأن العنف المعرقن والمجندر والمرتكز على التّصنيف الطّبقيّ تمّت الاشارة إليه بخفية على أنّه “رهاب المثليّة،” فإن نشطاء/ناشطات حقوق المثليين/ات يرغبون/يرغبن في وقت مستقبليّ مختلف عن الماضي، وقت حيث يمكنهم/نّ أن يكونوا/يكنّ ما هم/نّ عليه دائما.

إن تذويب التّاريخ في الطائفية أو في رهاب المثلية يمنع وصفا بديلا للعنف والمستقبلات السياسيّة المحتملة لتلك التوصيفات. وبفعله ذلك يمكنه أن يُنتج توجّها حزينا نحو الأرشيف، نحو ما يسمّيه فوكو “المعرفة العصيان” – تواريخ لا يمكن احتواؤها في الطائفية أو رهاب المثلية. وربّما يكون التوجّه الحزين نحو الأرشيف في صارع مع “التّفاعل المستمرّ مع الخسارة وبقاياها. هذا التفاعل يولد مواقع للذاكرة والتاريخ، لإعادة كتابة الماضي وكذلك إعادة تصور المستقبل” (إنغ وكازانجي 4). في حين أن التوجه الحزين نحو أرشيف قد يُنتج إشارات مختلفة أو أوصافا جديدة لوصف أفعال سابقة، فإن هذه الأوصاف لا تزال مجرّد عصيان ولا ترتفع إلى مستوى “الخطاب.” ربّما يكون الأرشيف، فعل التّوجيه من خلال الباحث/ة، في حدّ ذاته حزينا.

إن استخدام الطائفية أو رهاب المثلية كصفات ماضويّة يمكنه أن يساعدنا، كأطراف مستثمرين/ات في التغيير السياسي، على فهم عالمنا. فهو يوفّر منطقا أو نمطا غير محدّد ولكن مذهلًا للعنف الذي يتّصف ببناء العالم وكسره في آن. ويَعِدُ بأن أجسادنا الطائفية والغيريّة والمثليّة لها سابقة تاريخية ومحلية ومكانية – وأنّنا نُصلح من خطأ تاريخيّ من خلال العمل في مواجهة الطائفية أو رهاب المثلية المعاصرين، وأنّنا نكرّم الموتى، وربما نستعيدهم/نّ. ولكن “الطائفية” أو “رهاب المثلية” ليسا وصفين سلبيّين، فهما يتدخّلان بنشاط في العالم، ويعلنان ويؤدّيان وجود جسد معلّم (من خلال الطائفة والجنس) ومنتهك.

منذ سنوات، جلست مع من كانت حبيبتي في ذلك الوقت على الكورنيش. كنّا جالستين إحدانا في مقابلة الأخرى، نتحدّث حول أكواب من القهوة. مرّ رجل حذونا وصاح كلمة “مثليّة” بصوت عال، باللغة الإنجليزية. صرخت فيه حبيبتي الأصغر منّي سنّا (بكثير)، لكنّني شعرت بأنّني حرّة تماما من ذاك القيد. كان النّاس يشتمونني من قبل (“سحاقيّة مسترجلة” بدا كأنّه المصطلح المفضل)، ولكن فقط في الولايات المتحدة، وليس في لبنان أبدا. في تلك اللحظة، أردت أن أختبئ – شعرت كما لو أنّ اتفاقًا سرّيًا بيني والمدينة، بين ماضيّ وحاضري، قد كُسر. في شوارع بيروت، كنت أسمّى بدينة وحمقاء وعاهرة – ولكنّ التّسميات لم ترتبط أبدا بأيّ نوع مضايقة خارجة عن التحرّش الجنسيّ )الغيري(. ومع ذلك، كنت في أواخر العشرينات من عمري، وقد تمّت إهانتي علنًا بأنّي “مثليّة” للمرّة الأولى في بيروت حيث جلست أمام حبيبتي نشرب فنجان قهوة.

لقد شاركت في العديد من الممارسات التي يمكن أن تفهم على أنّها “جنس في الأماكن العامة” في لبنان. لقد “اهتممت” بحبيب همس رغباته لي خلال صرّ معدن مقصورة الاعتراف. كان يرتدي أثواب الكهنة التّي تركت على المذبح، وسِرْتُ من جانبي من مقصورة الاعتراف نحوه. كان منتصف الليل تقريبا وكنّا في الكنيسة في حريصا. كانت تلك المرّة الأولى التّي أذهب فيها إلى كنيسة مارونية، وكانت المرة الأولى التي أذهب فيها إلى تلك المنطقة، معقل فصائل الحرب الأهلية التّي نشأتُ على كرهها والخوف منها. في تلك الليلة، كان خوفي وإثارتي من أن ينتبه لي أحد ما كان بسبب التّعدي الذّي قمت به على الطائفة والتاريخ والحرب أكثر ممّا كان بسبب الدين أو الجنس أو الفضاء كـ”كنيسة.” شعرت بالقوّة والتّحدّي في مقصورة الاعتراف تلك، ولكنّ ما اختبرته لم يكن تنفيسًا جنسيًّا.

لقد ضاجعت رجالا وراء ركح مسرح المدينة، بيكاديلي، ومسرح جامعتي. في المباني المهجورة المزمع هدمها، في مراكز التسوق الجديدة التي لا روح فيها والتي تم بناؤها في مطلع العقد، على أسطح المباني المملوءة بالغرباء والمثقوبة بالرّصاصات، كانت تلك المساحات حيث تعلّمت عن جسدي. كنت قد مارست الجنس مع حبيبة في موقف للسيارات في مطعم وجبات سريعة معروف بالقرب من موقع مجزرة مشهورة جنّدت “جانبها” ضدّ “جانبي،” على أرض صلبة من مخيّم مفتوح تحت نجوم تحرّكت بسرعة شديدة حتّى شعرتُ أنني كنت أحلّق، في عدد من المقاعد الخلفيّة لسيّارات تطير على الطرق السريعة في جميع أنحاء البلاد أكبر من أن أتذكّره، وبطبيعة الحال، في البحر في تلك الأيام الصيفيّة الساخنة في لبنان. في إحدى الليالي، أخبرني رجل كيف توفي والده أثناء فترة النقاهة في أحد المستشفيات، كضرر جانبيّ من انفجار عبوة ناسفة في طابق المستشفى في محاولة اغتيال فاشلة استهدفت رجل ميليشيا كان يمرّ بالنّقاهة هناك أيضا. كنّا نسير على الكورنيش بعد منتصف الليل، في حالة سكر وانتشاء وسعادة في كوننا معًا. قدته إلى ممرّ سكّة حديديّة، ضغطت جسدي عليه، وأرشدت يده تحت تنورتي وإلى داخلي.

ومهما بدا ذلك بعيدا عن الاحتمال، لم يُمسك بي أحد أثناء كلّ ذلك.

من المغري النّظر إلى هذه التجارب السابقة ككشف عن حقائق عن الجنسانيّة أو كتتبّع للتّعثر الجنسانيّ كما ينكشف في اتّجاه معيّن – كما “تتصرّف” الجنسانيّة رغبة في أن تصبح ثابتة. حدث هذا التاريخ الجنسي المحدّد قبل أن أصبح في الحادية والعشرين، وبعد أن بدأت في استخدام كلمة “مثليّة” وقبل أن انتقل إلى الولايات المتحدة من أجل أن أكون مثليّة، كما قال لي من حولي. لقد عشت في المقام الأول في مدينة نيويورك لمدة اثني عشر عاما ولم أشارك أبدًا في سلوك يمكن وصفه بأنه “جنس في الأماكن العامّة.” لم أشعر أبدا بالرغبة في امتلاك مدينة نيويورك أو المطالبة بها كبيت لي. لم أشعر بالرغبة في أن أكون متأصّلة في المكان والزمان، أو رغبة في حميميّة تاريخية، أو ضمان الماضي كما فعلت كلّ تلك السنوات في بيروت. لم أكن أرغب مطلقا في التاريخ نفسه (فريمان 2010).

ولكن مرّة أخرى، منذ فترة قصيرة، أمسكت امرأة – ترغب فيّ، ترغب في رغبتي بها، وتتحرك في مجال الرغبة كشخص يميل إلى أجساد الذكور – بيدي في شارع الحمرا. بعد بضع خطوات، أدركت أنّها كانت المرة الأولى التي لا أتراجع فيها وأترك يدها، هناك، في مدينتي. تذكرت كيف في الثامنة عشرة، كنت حريصة جدّا على عدم لمس حبيبي في هذه الشوارع نفسها، ولكن كيف لم أكن لأفكّر مرّتين قبل معانقة عاشقة أنثى نظرا لوجود الكثير من التّفسيرات التّي بإمكاني التّلاعب بها. ولكنّ الأمر اختلف الآن. شعرت بالخوف من رهاب المثلية والتّحيّز الجنسيّ ونحن نسير جنبا إلى جنب على الطريق من الحانة (حيث لم تلمسني) إلى شقّتها (حيث خطّطنا لممارسة الجنس)، في حالة سكر ضاحكتين. قلت لها أنّ تلك هي مرّتي الأولى.

ابتسمت وقالت أنّه بالنّسبة لها كأجنبيّة، لم تكن هذه المدينة غير ذلك: مجرّد مدينة. أنّها لم تتّفق بعد مع ما تستطيع ولا تستطيع فعله في هذه الشوارع، وأن استثمارها في تلك المعرفة لا يحمل نفس الوزن الذّي يحمله بالنّسبة لي. هذه المدينة الرّاهبة للمثليّة، قالت. ضغطَتْ على أصابعي وشعرتُ باندفاع الرّغبة المريح والمألوف – كضمانة ذاتيّة.

ولكن جنبا إلى جنب مع حمرة الإثارة على وجهي والحرارة في جسدي من فعل الإمساك بيدها في مكان عامّ – كثافة ما يُعتبر الآن سلوك محفوفا بالمخاطر، شعرتُ بتناقض عميق – بالحزن.

 

ملحوظات: 
المراجع: 

Ahmed, Sara. “Orientations: Toward a Queer Phenomenology.” GLQ: A Journal of Lesbian and Gay Studies, vol. 12, no. 4, 2006, pp. 543-574. Project MUSE, muse.jhu.edu/article/202832.

Ahmed, Sara. Queer Phenomenology: Orientations, Objects, Others. Duke University Press, 2004.

Berlant, Lauren. Desire/Love. punctum books, 2012.

Butler, Judith. Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity. Routledge, 1990.

Eng, David L., and David Kazanjian. Loss: The Politics of Mourning. University of California Press, 2003.

Foucault, Michel. The History of Sexuality: An Introduction. 1984. Knopf Doubleday Publishing Group, 2012.

Freeman, Elizabeth. Time Binds: Queer Temporalities, Queer Histories. Duke University Press, 2010.

Halberstam, Jack. In a Queer Time and Place: Transgender Bodies, Subcultural Lives. NYU Press, 2005.

Lorde, Audre. “Uses of the Erotic: The Erotic as Power.” 1978. Sister Outsider: Essays and Speeches. 1984. Crossing Press, 2007, pp. 53-59.

Love, Heather. Feeling Backward: Loss and the Politics of Queer History. Harvard University Press, 2007.

Makdissi, Ussama. The Culture of Sectarianism: Community, History, and Violence in Nineteenth-Century Ottoman Lebanon. University of California Press, 2000.

Mikdashi, Maya, and Jasbir K. Puar. “Queer Theory and Permanent War.” GLQ: A Journal of Lesbian and Gay Studies, vol. 22 no. 2, 2016, pp. 215-222. Project MUSE, muse.jhu.edu/article/613189.

Povinelli, Elizabeth A. The Empire of Love: Toward a Theory of Intimacy, Genealogy, and Cranality. Duke University Press, 2006.

Rupp, Leila J. A Desired Past: A Short History of Same-Sex Love in America. University of Chicago Press, 1999.